الأربعاء، 24 أبريل 2024

ما الذي فعلته نعمت شفيق؟

 

ما الذي فعلته نعمت شفيق؟

سعدية مفرح

ما الذي يحدُث في أروقة جامعة كولومبيا الأميركية وساحاتها هذه الأيام؟... كما هي عادة الطلاب الأحرار في كلّ زمان ومكان، ينتفض طلابُ هذه الجامعة العريقة للتضامن مع غزّة في محنتها الراهنة، والمستمرة منذ "7 أكتوبر" (2023)، تنديداً بالعدوان الإسرائيلي وتبعاته القاسية. ورغم أنّ حراك طلاب جامعة كولومبيا سلمي مُعتاد في معناه، يدعو فيه الطلبة إدارة الجامعة إلى عدم التعامل مع "إسرائيل" مالياً وأكاديمياً، وفي إطار الحرّيات التي توفّرها الولايات المتحدة لرعاياها في كلّ مكان، فإنّه لم يُعجب رئيسة الجامعة، نعمت شفيق، التي لم تحتمل ما يحدُث، فحاولت غير مرّة إيقاف الحراك بوسائل غير معتادة وغير مشروعة، ما جعلها عرضة لانتقادات الطلبة والأساتذة على حد سواء، خصوصاً أّنها فعلت في السابق ما لم يجرؤ على فعله رئيس أي جامعة أميركية.

لم تكتفِ نعمت شفيق، رئيسة الجامعة المرموقة، بمحاولة قمع طلبة الجامعة الثائرين من أجل غزّة ، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، فسخّرت كلّ جهودها لخيانة القيم الأخلاقية المتعارف عليها في الصروح العلمية، إذ فصلت طلبة من الجامعة عقاباً لهم على قيادتهم التظاهرات، واستدعت الشرطة لتفريق باقي الطلبة المُحتجّين، المنتفضين ضدّ ما يفعله الصهاينة في فلسطين من جرائم غير مسبوقة، ما أدّى إلى توقيف أكثر من مائة طالب بتهمة معاداة السامية، وهي التهمة التي لفظها حتى الغرب، بعد أن اتضح أنّها مُجرّد أداة من أدوات الصهيونية للتغطية على جرائمها التاريخية المستمرة.

ويبدو أنّ نعمت شفيق، ذات الأصول العربية والثقافة الأميركية، لم تجد سوى أن تكون مَلَكيّة أكثر من الملك، وصهيونية أكثر من الصهاينة أنفسهم، ربما لظنّها أنّ ما تفعله سيحمي منصبها المُهم، أو لأنّها أرادت أن تنقل التجارب العربية التقليدية، على هذا الصعيد، إلى الفضاء الأميركي العام، فخرقت كلّ ما هو متعارف عليه في سياسات التعليم الأميركي الجامعي، الذي يوفّر للطلبة حرية بلا سقف في سبيل تهيئتهم للانخراط في النظام السياسي العام، القائم على الفكرة الديمقراطية.

لا أحد يدري أين ذهب عقل هذه الأكاديمية المرموقة علمياً، التي تتحدّث أربع لغات، وتحمل ما تحمل من شهادات، عندما قرّرت أن تكون أول رئيسة جامعة في أميركا تستدعي الشرطة لتعتقل طلبة الجامعة، بتهمة الاحتجاج السلمي على الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال الصهيوني في غزّة منذ أكثر من ستّة أشهر، خاصة أنّ ما فعلته لم يخدم فكرتها، بل من الواضح أنّ الاحتجاج الطلابي قد اتسعت رقعته منذ قرّرت قمعه، وبدأت العدوى تنتقل إلى جامعات أخرى، وبشكل يذكّر بالتظاهرات الطلابية الأميركية إبّان الحرب الأميركية الفيتنامية، قبل أكثر من خمسين عاماً. وهذا يعني أنّ شفيق خسرت أولاً، معركتها في وقف التظاهرات، ثمّ خسرت سمعتها الأكاديمية، التي تبخّرت فجأة، بعد أن أصبحت خائنة لكلّ قيم الحرية؛ المادة الخام التي تَصنع منها الجامعات أهميتها الأكاديمية، على صعيد البحث والتعبير عن الرأي. وأخيراً خسرت تاريخها الشخصي أوّل امرأة عربية تتبوّأ هذه المكانة الأكاديمية المرموقة، على رأس واحدة من أهم الجامعات في العالم. ولا أظن بعد ذلك أنّها ستحظى حتى بتقدير الصهاينة أنّفسهم، خصوصاً بعد أن جعلت، من حيث لا تريد ولا تقصد، قضيّة غزّة قضيّة معظم الطلبة في جامعات الولايات المتحدة.

ومن يدري؟... ربما تكون الشرارة التي أشعلتها هذه السيدة بداية سلسلة من النيران، ستشتعل في أماكن أخرى بالولايات المتحدة، والعالم أيضاً، في سبيل وقف العدوان الصهيوني على غزّة. ومعظم النار من مستصغر الشرر.

مع تميم البرغوثي- نفسي الفداء

 مع تميم البرغوثي - نفسي الفداء 





نفسي الفداء لكل منتصر حزين

قتل الذين يحبهم،

إذ كان يحمي الآخرين

يحمي بشبرٍ تحت أخمصه اتزان العقل

معني العدل في الدنيا علي إطلاقه

يحمي البرايا أجمعين

حتي مماليك البلاد القاعدين

والحرب واعظة تنادينا

لقد سلم المقاتل

والذين بدورهم قتلوا

نعم هذا قضاء الله لكن

ربما سلموا إذا كان الجميع مقاتلين

نفسى فداء للرجال ملثمين

إذ يطلقون سلاحهم مثل الدعاء يطير من أدني لأعلي

مثل تاريخ هنا يملي فيتلي

حاصرونا كيفما شئتم

فإن الخبز والتاريخ يصنع هاهنا تحت الحصار

نفسي فداء للشموس تسير في الأنفاق تحت الأرض من دار لدار

حيث الصباح غدا يهرب من يد ليد

بديلاً عن صباح خربته طائرات الظالمين

نفسي فداء للسماء قنابل الفسفور تملؤها كشعر الغول

ألف جديلة بيضاء نحو الأرض تسعي

والسماء تريد أن تنقض كالمبني القديم

فنرفع الأيدي لنعدل ميلها،

وتكاد أن تنهار لولا ما توفَّر من أكُفِّ الطيبين

يا أهل غزة ما عليكم بعدها

والله لولاكم لما بقيت سماء ما تظل العالمين

نفسى الفداء لعرق زيتون من البلد الأمين

أضحي يقلص ظله، كالشيخ يجمع ثوبه لو صادفته بِرْكَةٌ في الدرب

حتي لا يمر مجند من تحته

ويقول إن كسرته دبابتهم في زحفها نحو المدينة:

“لا يهم، علي الأقل فإنهم لن يستظلوا بي

وتلك نبوءة

قد كان يفهمها الغزاة من القرون السابقين

هذي بلاد الشام

كيف تقوم فيها دولة ربت عدواتها مع الزيتون يا حمقي

ولكن عذركم معكم فأنتم بعدُ ما زلتم غزاة محدثين

قسماً بشيبي لن يطول بقاؤكم

فالظل يأنف أن تمروا تحته

والأرض تأنف أن تمروا فوقها

والله سماكم قديماً في بلادي «عابرين

نفسي فداء للرجال المسعفين

المنحنين علي الركام ولم يكونوا منحنين

الراكضين إلي المنازل باحثين عن الأنين

حيث الأنين علامة الأحياء يصبح نادراً

حيث الحياة تصير حقاً لا مجازاً خاتماً في التُرْبِ

تظهرُ، يرهفون السمعَ رغمَ القصفِ،

تخفي مرةً أخري وتظهرُ،

يرفعون الردمَ، لا أحدٌ هنا،

تبدو يدٌ أو ما يشابهها هناكَ،

ويخرجون الجسمَ رغم تشابه الألوانِ

بين الرمل والإنسانِ

كالذكري من النسيانِ

كالمعني من الهذيانِ

تطلع أمةٌ وكأنما هي فكرة منسيةٌ

يا دهر فلتتذكر الموتي،

هنالك سبعة في الطابق الثاني

ثمانية بباب الدار،

أربعة من الأطفال ماتت أمهم وبقوا

لأيام بلا ماء ولا مأوي

ولا صوت، ولا جدوي

فقل للموت، يا هذا استعد فإنهم

والله لن يأتوك أطفالاً، ولكن

كالشيوخ تجارباً ومرارة

حضر دفاعك فالقضاة

مضرجين بحكمهم

قدموا عليك مسائلين

وهناك وجه بينهم يأتي عليه هالة رملية،

طفل يصيح بموته قم وانفض الأنقاض عني

ولتعني، أن أقول لقاتلي الغضبان مني

إنني قد متُّ حقاً، لا مجازاً، غير أني

لم يزل لي منبر فوق الأكف وخطبة لا تنتهي

يا دولة قامت علي أجسادنا لا تطمئني

واعلمي ما تفعلين

ولتقرئي يوم القيامة واضحاً في أوجه المستشهدين

نفسى الفداء لأسرة جمع الجنود رجالها ونساءها فى غرفة

قالوا لهم، أنتم هنا في مأمن من شرنا

ومضوا،

ليأمر ضابط منهم بقصف البيت عن بعدٍ

ويأمر بعدها جرافتين بأن يُسوَي ما تبقَّي بالتراب،

لعل طفلاً لم يمت في الضربة الأولي

ويأمر بعد ذلك أن تسير مجنزرات الجيش في بطء علي جثث الجميع

يريد أن يتأكد الجندي أن القوم موتي

ربما قاموا، يحدث نفسه في الليل

يرجع مرة أخري لنفس البيت، يقصفه،

ويقنع نفسه، ماتوا، بكل طريقة ماتوا،

ويسأل نفسه، لكن ألم أقتلهمو من قبل،

من ستين عاماً، نفس هذا القتل،

نفس مراحل التنفيذ،

لست أظنهم ماتوا،

ويطلب طلعة أخري

من الطيران تنصره علي الموتي

ويرفع شارة للنصر مبتسماً إلي العدسات

منسحباً، سعيداً أن طفلاً من أولئك لم يقم من تحت أنقاض المباني

كي يكدره

ويسأل نفسه في الليل، ما زال احتمالاً قائماً أن يرجعوا

فيضيء ليلته بأنواع القنابل،

سائلا قطع الظلام عن الركام وأهله

ماذا ترين وتسمعين

فتجيبه

ألق إلا قاتلاً قلقاً، وقتلي هادئين

نفسى فداء للصغار الساهرين

عطشاًَ وجوعاً من حصار الأقربين الآكلين الشاربين

المالكين النيل والوادي وما والاهما ملك اليمين

الشائبين الصابغين رؤوسهم فمعمرين

من أين يأتيكم شعور أنكم سَتُعَمّرُون إلي الأبدْ

ثقة لعمري لم أجدها في أحدْ

عيشوا كما شئتم ليوم أو لغدْ

لكنني صدقاً أقول لكم

فقط من أجل منظركم، وهيبتكم

إذا سرتم غدا في شاشة التلفاز

سيروا صاغرين

نفسي فداء للصغار النائمين

بممر مستشفي علي برد البلاط بلا سرير، خمسةً أو ستةً متجاورين

في صوف بطانية فيها الدماء مكفنين

قل للعدو، أراك أحمق ما تزالْ،

فالآن فاوضهم علي ما شئت

واطلب منهمو وقف القتالْ

يا قائد النفر الغزاة إلي الجديلة

أو إلي العين الكحيلة

من سنين

أدري بأنك لا تخاف الطفل حياً

إنما أدعوك صدقاً، أن تخاف من الصغار الميتين


الحربُ على غزة.. المُنتصرون والمَهزومون والمتعاطفون والمُرجِفون والمَبخوسون!

 الحربُ على غزة.. المُنتصرون والمَهزومون والمتعاطفون والمُرجِفون والمَبخوسون!

أحمد عبد العزيز

لعله أطول عنوان كتبت تحته، مذ مارست الكتابة.. لكن الأمر يستحق هذا التفصيل؛ لأهميته ودلالته.. فنحن أمام حدث جلل، لم يعرف له التاريخ مثيلا؛ سبع قوى عظمى تتنادى لدعم دولة احتلال بالسلاح، بل وتشاركها مشاركة فعالة، ميدانيا، واستخباراتيا، وماليا، وإعلاميا، وسياسيا، ضد بضع آلاف من المقاومين، يصنعون أسلحتهم بأيديهم، تحت الأرض! إنها حرب عالمية من النوع الخسيس، المنحاز للباطل بلا حدود ولا قيود، ضرب مُسَعِّرُوها عرض الحائط بكل القوانين، والمواثيق، والمعاهدات، والقيم الإنسانية التي يقولون إنها مصانة بموجب كل ما سبق! فضلا عن أن هذه الأسفار كلها تقر بحق الشعب الواقع تحت الاحتلال في مقاومة المحتل، بكل الوسائل الممكنة..

المنتصرون..

أما المنتصرون فهم بالملايين، وإن اختلف إحساس كل منهم بطعم النصر.. وكيف لا وقد أقر بالهزيمة مخضرمو العدو من ساسة وعسكريين ومفكرين؟

كيف لا وأنا الذي عِشت عمري كله (تقريبا) أجواء الهزيمة، ولونها الأزرق القاتم الكالح الذي كسا زجاج النوافذ وأنوار السيارات لسنوات..

كيف لا وأنا الذي حُرمت من "حواديت" أخي الأكبر الماتعة التي كان يحكيها لي قبل النوم؛ لسفره إلى "الجبهة"، ليمكث فيها طوال سِنِيّ طفولتي (سبع سنوات كاملة)، ولم أكن أراه إلا نادرا، وقد تغيرت هيئته ورائحته، وضاق وقته، وزادت أعباؤه، وانشغل عني في أيام إجازاته القليلة..

وكيف لا، وأنا الذي اكتشفت (لاحقا) أن عبور 6 أكتوبر 73 "العظيم" كان نصرا بطعم الهزيمة! صحيح أن إخوتي الجنود عبروا مانعين حصينين متلاصقين، أحدهما مائي (قناة السويس)، والثاني رملي (خط بارليف)، غير أن معاهدة كامب ديفيد المشؤومة، جعلت من سيناء (ثلث مساحة بلادي) منزوعة السيادة والسلاح، إذ نصت المعاهدة على تقسيمها إلى أربع مناطق (أ، ب، ج، د) تبعا لنوع السلاح "المسموح به"، وعدد الجنود المصريين "المسموح لهم" بالتواجد فيها! هل هذه نتائج انتصار أم شروط هزيمة؟!

وكيف لا وعبور 7 أكتوبر 2023 (طوفان الأقصى) قد بدد هذه الحسرات القديمة والعميقة.. لقد كان عبورا مباغتا، نوعيا، ومهينا أيضا لهذا للعدو المتغطرس، إذ حقق كل أهدافه وأكثر، في سويعات.. وكتب بالخط العريض أولى هزائم العدو الصهيوني الحقيقية المذلة والمزلزلة، رغم تنادي سبع من أعتى دول العالم وأقواها؛ لترميم سمعة هذا الكيان الغاصب وإنقاذه من الزوال، وتحقيق شبه نصر على المقاومين في غزة، على مدى سبعة أشهر، وفشلوا فشلا ذريعا مدويا، فكانت الهزيمة "حزمة هزائم"، وليست واحدة، ولا اثنتين، ولا ثلاث!

المَهزومون..

ليس أول المهزومين هو الكيان الصهيوني، فهذا "كيان وظيفي" تم "تخليقه" بشحن الملايين من اليهود العلمانيين وغيرهم إلى أرض فلسطين؛ ليقيموا عليها أكبر قاعدة عسكرية متقدمة للغرب الإمبريالي في بلاد المسلمين، بذريعة "توراتية".. ومن ثم، فأول المهزومين هم أصحاب المصلحة في وجود هذا الكيان: أمريكا، بريطانيا التي كانت عظمى، فرنسا، إيطاليا، وألمانيا "المازوشية" التي تخضع خضوعا مريضا للإرادة الصهيونية، وأما ثاني المهزومين، فهُم الصهاينة العرب الذي بات التعريف بهم إضاعة لوقت القارئ الكريم!

لقد هرول زعماء هذه الدول "الكبرى" إلى فلسطين المحتلة؛ للشد من أزر مجرم الحرب نتنياهو، وحكومة حربه.. ووضعوا كل إمكاناتهم المادية، والعسكرية، والسياسية، والإعلامية، تحت تصرفه، وغضوا الطرف عن جرائمه المُرَوِّعَة، وبرروها أسخف وأوهى ما يكون التبرير، كلما حوصروا بالأسئلة الاستنكارية من وسائل الإعلام الباحثة عن الحقيقة!

أما المتصهينون العرب، فهُم أجبن من أن يفعلوا الشيء نفسه في العلن! غير أني على يقين بأنهم قدموا للكيان الصهيوني (سرا) أكبر مما كان يحلم نتنياهو ويتوقع!

المُتعاطفون..

أما أول المتعاطفين (مع غزة) فهي دولة قطر، وقيادتها، وجزيرتها، تعاطفا تفرضه كل الأعراف، والقيَم، وحمولة ناقلة عملاقة من الإصدارات الدولية التي لم تكفِ جميعها لإدانة إسرائيل في أي من هذه الجرائم التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني من عام 1948 وحتى الساعة!

لك أن تتخيل (عزيزي القارئ) ماذا لو لم تقف قطر هذا الموقف التاريخي المشرف بحق، رغم كل ما تعرضت وتتعرض وستتعرض له من ضغوط! إنه أكبر من أن يوصف بالموقف السياسي الجريء، أو الأخلاقي النبيل، أو الإنساني الرائع، أو كل ذلك.. وأعظم ما يميزه أنه مع الحق لا مع الباطل..

لن أتحدث عن استضافة قطر لقيادة "حماس" السياسية التي امتدت سنوات، ولن أخوض في دور "الوسيط المنحاز للحق الفلسطيني" الذي لعبته قطر، وأزعج الصهاينة والغرب أيما إزعاج.. لكني أثمِّن عاليا قرارا قطريا قديما يعود إلى أوائل سبعينيات القرن الماضي، ألا وهو انسحاب قطر من مشروع "الاتحاد التساعي" الذي كان مقررا أن يضم الإمارات السبع التي تتكون منها دولة الإمارات العربية المتحدة اليوم، إلى جانب قطر والبحرين!  فلولا هذا القرار الذي كانت دوافعه محلية محضة بالتأكيد، لَمَا شهدنا (اليوم) هذا الدور القطري المساند (كليا) لغزة الذي هو من آثار الشيخ أحمد بن علي آل ثاني (مؤسس قطر) وأحسب أنه يجني (في قبره) نصيبه من كل ما تقدمه قطر لغزة، وفلسطين، والقدس، والنازحين..

ولأن القرارات تُقيَّم بنتائجها وآثارها، فإني أعتبر قرار عدم انضمام قطر إلى الاتحاد الإماراتي من أعظم القرارات، في القرن العشرين، بالنظر لما يترتب عليه اليوم من نتائج وآثار غيرت وجه المنطقة، وقريبا ستغير وجه العالم..

انظر مثلا إلى حاكم الشارقة (إحدى الإمارات السبع في اتحاد الإمارات) الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، وهو رجل عروبي صاحب خُلق ودِين، مساند ومنحاز للحق الفلسطيني.. هل يستطيع القاسمي أن يقدم مثقال ذرة من دعم أو مؤازرة لفلسطين، في وجود محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات؟ بالتأكيد لا؛ لكونه حاكم إمارة عضو في الاتحاد الإماراتي، وليس لأي سبب آخر، وكذلك كان سيكون حال قطر، لولا قرار الشيخ بن علي بالانسحاب من هذا الاتحاد الذي انحرف عن أهدافه العظيمة تحت قيادة "أبو خالد"..

المُرجِفون..

وأما المُرجفون فهم أولئك الذين يلعنون المقاومة؛ لـ"تهورها"، و"عدم تصرفها بمسؤولية"، ويغرقون الفضائيات، والعالم الافتراضي بدموع التماسيح على ضحايا غزة، وبنيتها التحتية، ومبانيها الحكومية التي نسفها العدو الصهيوني بأضعاف قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، فلم تبق مدرسة، ولا جامعة، ولا مشفى، ولا محطة مياه، ولا مركز شرطة، ولا طريق مرصوف، ولا أرض تُزرع، ولا بيت آمن.. وقبل كل ذلك وبعده، نحو مئة وخمسين ألفا، بين شهيد وجريح، ومفقود تحت الأنقاض، وأسير لدى العدو؛ تم خطفه من الشارع، أثناء بحثه بين الركام عن شيء يُسكت به جوع الصغار!

إن هؤلاء المرجفون هم النسخة المكررة من أسلافهم الذين نقرأ عن مواقفهم المُخزية قرآنا يُتلى إلى يوم القيامة.. هم ومن يلقمونهم الدراهم والدنانير والريالات والدولارات، كما يفعل "الزبائن" مع تلك الماكينات المبثوثة في الشوارع؛ لإخراج شيء من جوفها، بعد تغذيتها بالنقود!

المَبخوسون..

أول المبخوسين (وربما الوحيد) هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان!
لقد سمع هذا الرجل كلاما مسيئا كثيرا لشخصه، خلال هذه الحرب.. نعتوه بأشنع النعوت، ووصفوه بأحط الصفات؛ لأنه تحول (في الظاهر) إلى "ناشط سياسي" لا يملك سوى الكلام، فكانت مواقفه "المعلنة" دون المتوقع منه، إزاء أحداث جِسَام تركت آثارها المذهلة على غزة وأهلها والعالم.. ومن أسفٍ أن يكون بين هؤلاء نفر ليس بالقليل من المشتغلين بالسياسة والثقافة والإعلام، فضلا عن الجماهير العريضة التي تنساق (بطبيعة الحال) خلف الشائعات والعواطف!

نعم، كانت مواقف أردوغان "المعلنة" دون المتوقع، وكان أداؤه أقرب إلى أداء "الناشط السياسي"، غير أني لم أجد من يسأل نفسه في مقال أو منشور سؤال الباحث عن سببٍ موضوعي، لا سؤال اللمَّاز المستهزئ: لماذا هذا الموقف وهذا الأداء من جانب أردوغان تجاه حرب إبادة بهذا الحجم؟ هل هذا هو موقفه الحقيقي، أم أنه إظهارٌ مقصود للضعف وقلة الحيلة؛ لسبب يُقدِّره ونجهله؟ أم أن هناك أولويات داخلية فرضت نفسها عليه، في تلك الفترة، لم يكن من الحكمة تجاهلها؟ أم أنه ادخر مواقفه "الجريئة" المعهودة لقادم الأيام؟

عشرات الأسئلة يمكن أن تُطرح في هذا المقام، ويجب أن تُطرح، لا سيما أن أردوغان ليس بالشخص الجبان، ولا المنبطح، ولا الموالي للصهاينة كبعض الزعماء العرب..

فإذا تفهمنا موقف الجماهير في ضوء "علم نفس الجمهور" أو "سيكلوجية الجماهير"، فما عذر مَن يرى في نفسه موجِّها للجماهير، والرأي العام؟
يبدو أن هؤلاء لم يتعلموا شيئا من محنة مصر، وما وقع مع الرئيس مرسي، أو له.. إن هؤلاء ليس لديهم القدرة على قراءة مواقف الرجال "الحقيقية" حين تحُول الظروف عن الإفصاح عنها.. إنهم لا يفرقون بين الغث والسمين، ولا بين الخائن والأمين!

في الحروب (والسياسة عموما) ليس كل ما يُعرف يُقال، وليس كل ما يُفعل يُعلن عنه.. ربما يُعلن عنه بعد حين، وربما لا يُعرف إلا يوم القيامة، على رؤوس الأشهاد، إنصافا من الله وإكراما لصاحب هذا الفعل الذي لم يجد (في الدنيا) بُدا من إخفاء صنيعه، فعجَز عن تبييض سمعته بين الناس، وقبِلَ (محسورا) أن يوصف بصفات هو أبعد الناس عنها!

أقول (بكل ثقة) إن الطيب أردوغان رجل من هذا الصنف من الرجال، أحسبه كذلك ولا أزكيه على الله.. وستكشف الأيام، أو الصحائف المتطايرة، يوم القيامة، عما أسداه هذا الرجل لفلسطين ومقاومتها، وكذلك الرئيس مرسي (رحمه الله).

twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com

استقالة "هاليفا" في اليوم 200 من الحرب.. نظرة استراتيجية

 استقالة "هاليفا" في اليوم 200 من الحرب.. نظرة استراتيجية

ساري عرابي


استقال رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، أهارون هاليفا، متحمّلا مسؤولية شعبته عن فشلها في التنبّؤ بعملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، وقد جاءت الاستقالة سريعة بعد الضربة الإيرانية لـ"إسرائيل" في 14 نيسان/ إبريل 2024 ردّا على قصف هذه الأخيرة للقنصلية الإيرانية في دمشق في الأوّل من نيسان/ إبريل 2024، والتي أسفرت عن مقتل 16 شخصا، من بينهم محمد رضا زاهدي، القائد الكبير في "فيلق القدس"، وعدد آخر من الضباط الإيرانيين.

بعد الضربة الإيرانية، استُدعي الفشل الاستخباراتي العسكري في السابع من أكتوبر مجدّدا، وجرى الحديث تحديدا عن شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، والوحدة 8200، وهي الوحدة الأكبر في "أمان" والمسؤولة عن جمع المعلومات وتحليلها.

تكشف الاستقالة عن عجز المؤسسة الإسرائيلية عن إرجاء انقساماتها إزاء الواقع الاستراتيجي الجديد الذي أوجدته حماس بعمليتها "طوفان الأقصى" إلى ما بعد انتهاء الحرب، إلا أنّ أهمّ ما تدلّ عليه الاستقالة حالة "الانكشاف الاستراتيجي" الذي وضعت فيه عملية حماس "إسرائيل" وبنحو غير مسبوق طوال تاريخها.

تكشف الاستقالة عن عجز المؤسسة الإسرائيلية عن إرجاء انقساماتها إزاء الواقع الاستراتيجي الجديد الذي أوجدته حماس بعمليتها "طوفان الأقصى" إلى ما بعد انتهاء الحرب، إلا أنّ أهمّ ما تدلّ عليه الاستقالة حالة "الانكشاف الاستراتيجي" الذي وضعت فيه عملية حماس "إسرائيل" وبنحو غير مسبوق طوال تاريخها


لقد اعتادت "إسرائيل" على تحويل الفشل إلى فرصة، لكنّها هذه المرّة والحرب في يومها 200، لم تتمكن بعد من الخروج من المعضلة الاستراتيجية التي وجدت نفسها فيها. حتى التدمير الكامل والممنهج لقطاع غزّة، وهو ما يمكن أنّ تُرى فيه فرصة لـ"إسرائيل"، ينطوي في عمقه على نقيض كلّ المكاسب التي حققتها "إسرائيل" منذ توقيع اتفاقية أوسلو وإلى اليوم، فإمّا أن تنهي الحرب وتنسحب "إسرائيل" من القطاع بما يعني من جهة ما هزيمة واضحة، أو الاستمرار غرقا في حقائق القضية الفلسطينية المتجددة بعدما سعت في طمسها طوال العقود الماضية مستثمرة في مشروع التسوية.

يمكن الحديث في اليوم 200 من الحرب العدوانية الإسرائيلية على غرة، عن ثلاث قضايا أساسية تعانيها "إسرائيل" وبنحو غير مسبوق، وبما جعلها غير قادرة على إرجاء التلاوم وتدفيع الأثمان وتصفية الحسابات.

القضية الأولى.. هي الفشل المركب، ابتداء من الفشل بقراءة نوايا حماس، ثمّ الفشل في تحقيق سريع لأهداف الحرب، ففي اليوم 200 من الحرب الأطول في تاريخ "إسرائيل" لم تتمكن من تفكيك حماس أو القضاء عليها، ولا من استرجاع الأسرى الإسرائيليين لدى الحركة أحياء، والمعركة تدور أساسا في جغرافيا بالغة الصغر، ضدّ تنظيم صغير ومحاصر يقاتل بأسلحة خفيفة مصنعة محليّا، يفترض أن الاحتلال خطط وتدرب طويلا للقتال معه.

القضية الثانية.. أنّ هذا الفشل المركب عمّق من الانكشاف الاستراتيجي للاحتلال، فجذر هذا الانكشاف بما أظهرته عملية حماس من ضعف ذاتي إسرائيلي، ومن إمكانية الانتصار على "إسرائيل" في حال توفرت الإرادة وحسن التخطيط، وفي هذا الإطار. ينضمّ الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي الذاتي إلى الاجتراء الفلسطيني عليها، ثمّ تأتي بعد ذلك الضربة الإيرانية، التي ترى فيها بعض القراءات الإسرائيلية، أنّها ما كانت لتأتي لولا عملية "طوفان الأقصى". أمّا الفشل المركب، من طول الحرب في مواجهة تنظيم صغير وبما لا يقبل المقارنة أصلا، فهو من العناصر الإضافية للانكشاف الاستراتيجي، وبما يعمّق من المعضلة الاستراتيجية.

القضية الثالثة.. هي المعضلة الاستراتيجية، فالخيارات الإسرائيلية بالقراءة السياسية المجردة صعبة. فالانسحاب والانكفاء عن الحرب يمكن تصويره بالهزيمة الواضحة، والاستمرار فيها يعني الانتقاص من المكاسب التي حققتها "إسرائيل" طوال العقود الماضية في سبيل طمس القضية الفلسطينية وتجاوزها إلى الأبد، وتكريس نفسها قائدة لتحالف يضعها على رأس عدد من الدول العربية.

لا يمكن الاستثمار في الفشل الإسرائيلي دون وجود طرف آخر يملك الإرادة والمبادرة. فعملية "طوفان الأقصى" لم تكشف عن فشل "إسرائيلي" فحسب، بل وعن موات عربيّ عميق باعث على اليأس. وأمّا "محور المقاومة" وبالرغم من إسهامه في التأكيد على الانكشاف الإسرائيلي وإسناد غزّة، فإنّه من جهة لم يكن مؤثّرا بالقدر الكافي على مجريات الحرب في غزة وكبح عملية الإبادة الجماعية فيها، ومن جهة ثانية تبدو إرادته غارقة في الحسابات السياسية الثقيلة مما قد يفوّت هذه الفرصة التاريخية


لا يمكن فصل هذه القضايا الثلاث عن الظرف الإسرائيلي الذاتي، فتحميل المسؤولية للمستويات العسكرية والاستخباراتية يتجاوز عن كون متخذ القرار النهائي، سواء بكيفيات التعامل مع الواقع في غزة، بما في ذلك حركة حماس أو في ضرب القنصلية الإيرانية، هو المستوى السياسي، فالعامل الفني هو عنصر واحد فقط في هذه الحالة التي هي سياسية بامتياز.

لا شكّ أنّ "إسرائيل" أمام تحدّ كبير، فهي ليست في مسار واحد، أي مسار التراجع والتفكك، فثمّة مسار آخر تسابق ليكون هو المسار الغالب، أي مسار مراجعة أسباب الفشل ومحاولة تجاوزه وتحويله إلى فرصة، وهي بوصفها دولة قوية معززة بالإرادة الغربية وتملك حتى اليوم مجتمعا فيه مظاهر مبادرة واضحة وقدرا من الحيوية اللافتة، تستطيع أن تدخل في سباق ذاتيّ مع النفس.

يبقى في عناصر ضعف العامل الذاتي، أنّ غلبة الانتهازية السياسية ما تزال قائمة ممثلة في الفساد السياسي الذي يجسده نتنياهو، عقدة "إسرائيل" المستعصية منذ عقدين، ثم يبقى العقل الخلاصي الذي تمثله قوى الصهينوية الدينية التي لا تقيم وزنا للحسابات الاستراتيجية والسياسية، مما قد يجعل المراجعات الإسرائيلية قاصرة عن التكيف الصحيح مع الوقائع الجديدة، والعودة بالمراجعة فقط إلى العوامل الفنية والتقنية.

أمّا موضوعيّا.. فلا يمكن الاستثمار في الفشل الإسرائيلي دون وجود طرف آخر يملك الإرادة والمبادرة. فعملية "طوفان الأقصى" لم تكشف عن فشل "إسرائيلي" فحسب، بل وعن موات عربيّ عميق باعث على اليأس. وأمّا "محور المقاومة" وبالرغم من إسهامه في التأكيد على الانكشاف الإسرائيلي وإسناد غزّة، فإنّه من جهة لم يكن مؤثّرا بالقدر الكافي على مجريات الحرب في غزة وكبح عملية الإبادة الجماعية فيها، ومن جهة ثانية تبدو إرادته غارقة في الحسابات السياسية الثقيلة مما قد يفوّت هذه الفرصة التاريخية التي يُسابق فيها مجتمع الاحتلال وداعموه لتحويل الفشل إلى فرصة من جديد.

twitter.com/sariorabi

فيصل القاسم… وحُلمٌ له أجنحة

 فيصل القاسم… وحُلمٌ له أجنحة


 إحسان الفقية

سل أي مواطن عربي: لو أردنا أن نسمي قناة «الجزيرة» القطرية باسم أحد العاملين فيها، سيجيبك البسطاء الذين لا يلتفتون إلى الأسماء ولا يبالون بحفظها قائلين: الرجل الذي يستضيف اثنين تنشب بينهما المشاجرات. ويجيبك أي متابع مهتم، ولو كان ضئيل الثقافة: فيصل القاسم، مقدم برنامج «الاتجاه المعاكس» على قناة «الجزيرة».

الدكتور فيصل القاسم ابن سوريا، ليس فقط أحد رواد هذا الصرح الإعلامي، إنما هو أبرز من شكلوا هوية وجماهيرية هذه الشبكة الإعلامية التي أخذت مكانها على خريطة الإعلام الدولي.

على الرغم من أن القاسم أكاديمي ومنتج ومعد برامج ومؤلف وكاتب، إلا أن شهرته قرينة البرنامج الأشهر في الوطن العربي «الاتجاه المعاكس»، البرنامج الحواري الذي يعرض وجهتي نظر متعارضتين، ويتطرق لمواضيع بالغة الحساسية في السياسة والاقتصاد والقضايا الاجتماعية والدينية، ولك أن تعرب عن دهشتك إزاء برنامج تمضي مسيرته على مدى 28 عاما بالوهج نفسه، ذلك أنه نجح في جذب الجماهير من خلال استضافة شخصيات مرموقة وصلت إلى نطاق حكام الدول والزعماء وقادة الثورات، إضافة إلى أسلوبه الذي يضرم النار في النقاش، فيخرج كل ضيف ما لديه، بصرف النظر عن الصورة الحادة التي يظهر بها الحوار، لكنه نجح في الاستمرارية والتأثير رغم كل شيء. 

إعلامي شرس حاد جريء، ذلك هو ما ترسخ في الصورة الذهنية لكل المتابعين تقريبا عن فيصل القاسم، لم يترك لنا مجالا لأن نحاول التعرف على أبعاد شخصيته الأخرى، ولا ماضيه ولا تكوينه النفسي والفكري والمهني، وكأن برنامج «الاتجاه المعاكس» هو كل محتوى التعريف بهذا الرجل. 

لكن بودكاست ضيف شعيب، الذي استضاف فيه شعيب راشد، الدكتور فيصل القاسم، سبر أغوار شخصية هذا الأخير، وأجاب للجماهير عن سؤال: من يكون فيصل القاسم.

من يصدق أن هذا الإعلامي المرموق عاش هذه الطفولة البائسة، فلم يكن سوى ابن من بين تسعة لأب وأم فقيرين، تعمل الأسرة بالأجرة في أرض الغير، وعندما نتحدث هنا عن الفقر فهو المدقع، الذي لم يعبر عنه كوْن اللحم والحلوى ضيفا موسميا فحسب، بل يعبر عنه أن خرج هذا الطفل قاسم منذ نعومة أظفاره للتكسب، ليس من أجل بناء مستقبله، وإنما لسد رمق هذه الأسرة. 

هذا الصبي الذي لم يترك مهنة إلا والتحق بها، فهو يحصد ويدرس بالأجرة في أرض غيره، وهو الكهربائي، والنجار، وعامل البناء، والحداد، وعامل في رصف الأحجار، وعامل النظافة الذي ينظف الأماكن من المخلفات بالأجرة، كيف كان شعوره وهو يجلس على قارعة الطريق ينتظر أن يمر عليه أحدهم ليستأجره؟ 

وكثيرا ما كان يتجاهله أصحاب العمل، فيعود مجترا همه إلى المنزل، الذي يقابله بالعسف لفشله في التكسب. هذا الصبي الذي لم يكن يصاحبه أحد في قريته لتردي أحواله المعيشية ووقوع أسرته في ذيل قائمة الفقراء، حصل على الإعدادية أو المتوسطة بما يؤهله للتعليم الثانوي العام، لكن الفقر ألجأ أباه إلى أن يدفعه للتطوع بالجيش، وبعد أن فشل في ذلك، حاولوا إلحاقه بمدرسة الصناعة للحصول على خمسين ليرة شهريا يتقاضاها الطالب، لكنه فشل في ذلك أيضا، فلم يجدوا بدا من إلحاقه بالتعليم الثانوي. 

كانت فترة بالغة الصعوبة، فالمدرسة تبعد عشرة كيلومترات عن قريته، بالكاد كانت توفر له والدته ربع ليرة لركوب الباص ذهابا ومثلها للإياب، دون طعام، فأحيانا كان ينفق تكاليف العودة على الطعام وينتظر أي سيارة تمرّ به تقله مجانا، وأحيانا كان يخرج من المدرسة ويعمل وقتا بأحد أفران الخبز ليجني في النهاية خبزا يسد به جوعه.

هذا الفتى الذي كانوا يسخرون من لبسه وهيئته بالمدرسة، كانت أسعد فترة في حياته تعرفه في البكالوريا على ابن شيخ القرية، كان يستذكر الدروس معه في بيت الأخير، وينعم بما تضيفه به سيدة المنزل من طعام وشراب ومعاملة حسنة، وكان زميله يذهب معه أحيانا إلى بيته المصنوع من الطين ويحتوي غرفة واحدة للجميع بلا حمام، بلا مرافق، بلا أي مظهر من مظاهر الحياة المعروفة.

 كُللت هذه المعاناة بحصوله على المركز الأول في مدرسته، في زمن كانت تخرج نتائج بعض المدارس: «لم ينجح أحد»، لكنه نجح بتفوق صدم جميع من حوله. 

التحق بجامعة دمشق قسم الأدب الإنكليزي، وبالمعاناة نفسها، إذ كان يعمل طيلة الإجازة ليوفر متطلبات التعليم الجامعي وقت الدراسة، وقام بتدريس الإنكليزية لأبناء القرية وهو في عمر الثامنة عشرة من أجل التكسب لينفق على نفسه وأهله. 

كان يحلم مجرد الحلم أن يحتسي فنجانا من القهوة على مقهى أمام الجامعة، فكيف يفعل وهو الذي يقتات على العدس والبرغل، يستعير الكتب والمحاضرات المكتوبة من أصدقائه لعجزه عن شراء الكتب، يذهب إلى امتحانات الجامعة أحيانا وبطنه يئن من الجوع.

 تخرج هذا الطالب الأول على الجامعة، وعين معيدا في الجامعة، ثم جاءت بعثة على حساب الدولة إلى بريطانيا وحصل فيها على شهادة الدكتوراه. 

وهناك من خلال الدراسة، انطلقت نفسه الثورية من عقالها، وهو ابن الطبقة المسحوقة التي تعاني مساوئ الطبقية وتسلط الأغنياء وتهميش الفقراء، وأوغل في المعرفة بالعلاقة بين المثقف والسلطة وأولاه عناية كبيرة في دراسته وقراءاته.

لست بصدد إعادة سيرة القاسم، لكنني في هذا المقام أضع الظروف والملابسات والمناخ القاسي الذي ولد فيه حلم هذا الفتى بأن يكون إعلاميا.

هذا الحلم الذي نشأ معه منذ الصغر، حيث كان شغوفا بالاستماع إلى الإذاعة، يستمع إلى الراديو في شغف خلال فترة راحة العمل، بهوس غريب، وكان يراسل الإذاعات فقط ليسمع اسمه، من خلال مشاركة بحكمة أو طلب لأغنية، وذات مرة وجد في جريدة اسم محمد القاسم، ووضع فيصل بدلا من محمد، فقط ليحلم أن يكون اسمه على صفحات الجرائد.

لم يكن يعترض هذا الحلم سوى الوضع الاجتماعي الضاغط، الذي يذكره كلما استغرق في الحلم بأن الظروف أقوى من الوصول إلى حلمه، لكنه يدافع الهواجس، ويدرب نفسه وهو في سن الثالثة عشرة على تقديم نشرة الأخبار، ويسجلها على شرائط كاسيت. هذا الفتى المغمور أراد أن يصنع تأثيره بين الناس بنفسه، ويحوز اهتمام الآخرين ليلتفتوا إلى الصبي المُهمش، فأتقن العزف على الناي، حتى عرفه الناس في الأعراس والمناسبات. بدايته مع الشغف بالتلفزيون كانت مع استراقه البصر لتلك الشاشة، من خلال نافذة البيت الذي سبق بيوت القرية في حيازة هذا الاختراع العجيب، حتى أشفق عليه صاحب الدار وأدخله ليشاهد التلفزيون الذي ملأ حبه كيانه، وأحدث فيه انفجارا جديدا للحلم الإعلامي.

ظل هذا الحلم يكبر معه، واصطحبه في رحلة الدراسة في بريطانيا، لكنه لم يكن يعرف كيف سيصل إلى تحقيقه، إلى أن دعاه صديق له إلى احتفال رأس السنة في هيئة الإذاعة البريطانية ليتعرف هناك على نخبة من المذيعين العرب، فالتقاه مدير القسم العربي بها وأعجب بثقافته في الأدب الإنكليزي وأسلوب حديثه، فضمه إلى فريق عمل الإذاعة بعد فترة طويلة من الاختبارات الشاقة، أثبت فيها تفوقه، ثم اخترق مجال التلفزيون إلى أن وصل إلى «الجزيرة»، فكان الإعلامي فيصل القاسم.

إنني إذ أسرد حلم فيصل القاسم، فإن الهدف من ذلك ليس تسليط الضوء على الحياة الخاصة لشخصية شهيرة، وإنما لأبرز قضية الحلم الذي تمحورت حوله حياته، أهمية أن يكون لدى الإنسان حلم كما قال مارتن لوثر في عبارته الشهيرة «أنا لدي حلم»، بيد أن أحلام الكثيرين خاملة قعيدة لا تجاوز حد الأمنية، بينما كان حلم فيصل القاسم مُجنحا، لم تقعد به الظروف والتعلل بسوء الأحوال الاجتماعية، هو حلم كان يتحين أي فرصة ليحلق في أجوائها، يستثمر الأوضاع والأحداث، حتى لو لم تكن تجري على هواه، لكنه يستغلها للوصول إلى حلمه.

إنها دعوة للشباب الذين يبررون لأنفسهم القعود بسوء الأحوال الاجتماعية والاقتصادية وضعف الإمكانات والقدرات، فقط عليهم أن تكون لهم أحلام ذات أجنحة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عبد المجيد الزنداني.. حياة حافلة بالعلم والعمل والجهاد

 

عبد المجيد الزنداني.. حياة حافلة بالعلم والعمل والجهاد

ودع اليمنيون والأمة العربية والإسلامية يوم الإثنين 13 من شوال 1445 للهجرة، الموافق 22 أبريل 2024م علما من أعلام هذه الأمة، وكوكبا من كواكبها، وهاديا من هداتها، ورائدا من روادها، هو الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني، العالم العامل، والمجاهد والمربي، والقدوة المعلم، القرآني المحمدي الرباني، صاحب العطاءات الدعوية، والإمدادات التربوية، والجهود التعليمية، والأطوار الجهادية، والذي تكفي صفة واحدة من هذه الصفات ليدخل بها صاحبها في التاريخ، ويوضع بها بين كبار المصلحين والعلماء الربانيين، فكيف بمن جمع هذه الصفات كما لم تجتمع لأحد من قبل إلا الذين آمنوا وعلموا الصالحات وقليل ما هم.

 انتقل إلى المملكة العربية السعودية حيث التقى كبار العلماء هناك، من بينهم: الشيخ عبد الله بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة أم درمان الإسلامية في السودان

بطاقة حياة

ولد الشيخ عبد المجيد الزنداني في 13 من ذي الحجة 1360هـ الموافق 1 كانون الثاني 1942م في قرية تسمى "الظهبي" من قرى مديرية الشعر في محافظة إب، وهي إحدى محافظات اليمن، ويرتبط أصله بمنطقة "زندان" في مديرية أرحب بمحافظة صنعاء، وإليها ينسب.

تلقى الشيخ الفقيد تعليمه الأولي في الكتاب بمسقط رأسه، وانتقل للالتحاق بالتعليم النظامي في عدن، قبل أن يتوجه إلى مصر لمتابعة دراسته الجامعية، فالتحق بكلية الصيدلة بجامعة عين شمس، ودرس فيها لمدة سنتين، إلا أنه ترك دراسته في هذا المجال نظرا لاهتمامه المتزايد بالعلوم الشرعية؛ حيث باشر تعلم العلوم الشرعية وتفاعل معها، ووفرت له الفرصة للالتقاء بالعلماء المشهورين في الأزهر الشريف، كما التقى طلابا يمنيين في مصر مثل محمد محمود الزبيري، وعبده محمد المخلافي، وقطع دراسته وعاد معهما إلى صنعاء للمشاركة في دعم قيام النظام الجمهوري وحماية مكتسبات الثورة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.

ثم انتقل إلى المملكة العربية السعودية حيث التقى كبار العلماء هناك، من بينهم: الشيخ عبد الله بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة أم درمان الإسلامية في السودان، مما زاد من سعة معرفته وعمق مداركه، بتلقيه من هذه المشارب جميعا: مصر الأزهر، وبلاد الحرمين، والسودان؛ فضلا عن اليمن.

وتولى الشيخ مناصب عديدة، منها: إدارة معهد النور العلمي في اليمن، والتدريس في بعض مؤسسات التعليم، وتولى منصب إدارة الشؤون العلمية في وزارة التربية والتعليم اليمنية، وعين رئيسا لمكتب التوجيه والإرشاد عند إنشائه في عام 1975، قبل أن يتم تعيينه في وزارة المعارف، وهو أيضا رئيس مجلس شورى حزب التجمع اليمني للإصلاح.

"منقبته الكبرى" و"حسنته العظمى" في تاريخه الدعوي والتعليمي تأسيسه لـ "جامعة الإيمان"، تلك الجامعة العريقة التي ضمت كثيرا من الكليات والتخصصات الشرعية وغير الشرعية، وحشد لها كبار علماء العالم الإسلامي لوضع مناهجها وللتدريس فيها

في ظلال الإعجاز العلمي وجامعة الإيمان

برز الشيخ الزنداني كأحد أشهر علماء الأمة في مجال الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية، فلا يكاد يذكر (الإعجاز العلمي) إلا ويذكر معه الشيخ الزنداني، حتى أصبح أحد أبرز العلماء المعاصرين الذين حاولوا البرهنة على سبق القرآن في مجال الحديث عن الاكتشافات العلمية في مجالات كثيرة كالطب، وخلق الإنسان، والجيولوجيا، وتابع حهوده في هذا المجال حتى أسس "الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة في مكة المكرمة"، وكان لجهوده في هذا المجال كبير الأثر في الدعوة إلى الله تعالى، وإقبال الكثيرين على الإسلام، وتعزيز إيمان المؤمنين، حيث كانت له اكتشافات واختراعات وعلاجات لأمراض كثيرة، وذلك من خلال نصوص القرآن والسنة، وهذا يستحق أن يفرد بدراسة عن جهود الشيخ العلمية والتطبيقية في هذا المجال.

أما "منقبته الكبرى" و"حسنته العظمى" في تاريخه الدعوي والتعليمي فهو تأسيسه لـ "جامعة الإيمان"، تلك الجامعة العريقة التي ضمت كثيرا من الكليات والتخصصات الشرعية وغير الشرعية، وحشد لها كبار علماء العالم الإسلامي لوضع مناهجها وللتدريس فيها، وأقبل عليها طلبة العلم من كل فج عميق ليشهدوا دروس العلم فيها، ومجالس التربية في أكنافها، ومحاضرات الحكمة من علمائها، وينهلوا من منابع الإيمان، وحقائق الإحسان، في بلد الحكمة والإيمان.

لقد خرجت هذه الجامعة المئات بل الآلاف من طلاب العلم في بلاد العالم الإسلامي، ابتداء من البلاد العربية، وانتهاء ببلاد شرق آسيا، حيث ضخت العديد من الخريجين حاملين المنهج المعتدل والفهم الوسطي والنور الهادي لبلادهم ومؤسساتهم، وصاروا الآن ملء السمع والبصر: أساتذة كبارا، وعلماء فضلاء، ودعاة أخيارا، ولو لم يكن للشيخ الزنداني من مناقب سوى هذه الجامعة لكفاه بذلك عملا يلقى الله تعالى به؛ فهو صدقة جارية إلى يوم الدين.

اهتمامه اللافت للنظر اهتمامه بالجهاد الأفغاني الذي كانت له فيه جولات وصولات، وحشد له الجهود، وجمع له النقود، حتى وصل به الحال إلى السفر هنالك واللقاء بالشيخ الشهيد العالم المجاهد عبد الله عزام

موقف الشيخ الزنداني من قضايا المسلمين

أشرنا قبل قليل إلى موقف الشيخ من الثورة اليمنية في الستينيات من القرن الماضي، وقد كان له موقف إيجابي كذلك من ثورة اليمن في مارس 2011م، وأعلن تأييده لها من منصة ساحة التغيير، وقال: "هذه الثورة من أفضل الجهاد؛ لقول النبي: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائ".، وأضاف: "نريد التغيير إلى ما هو أفضل، وإلى ما هو صواب، ورفعنا شعارا واضحا جليا: أن الله كلف الأمة بإقامة الحكم وتعيين الحكام، وأن الخليفة لا يكون خليفة إلا إذا كان مبايعا من الأمة"، ودعا أجهزة الأمن أن تحمي الشباب، وتقوم بدورها في الحفاظ على حياة الناس.

كما كانت للشيخ اهتمامات وفتاوى تتعلق بالمسلمين في الغرب، ومن ذلك إفتاؤه فيما سمي وقتها "زواج فريند" وقد أثارت هذه الفتوى جدلا واسعا وقتها، كتبت عنها تحقيقا فقهيا ونشر في مجلة المجتمع الكويتية.

الشيخ الزنداني مع المجاهد عبد الله عزام في أفغانستان (مواقع التواصل)

أما اهتمامه اللافت للنظر فهو اهتمامه بالجهاد الأفغاني الذي كانت له فيه جولات وصولات، وحشد له الجهود، وجمع له النقود، حتى وصل به الحال إلى السفر هنالك واللقاء بالشيخ الشهيد العالم المجاهد عبد الله عزام، وترتب على ذلك أن وضعته الولايات المتحدة الأمريكية على قوائم الإرهاب!

وأما اهتمامه بالقدس والأقصى وفلسطين فقد كان رفيقه أيامه ولياليه، وكان حبه لفلسطين لحمته وسداه، ومصبحه وممساه، فجهوده لها بارزة، وبلاؤه من أجلها مشهود، وعمله لها وجهاده في سبيلها معلوم ومعروف.

 

من كتبه الرائدة التي تركها: علم الإيمان، وطريق الإيمان، ونحو الإيمان، والتوحيد، والبينة العلمية في القرآن الكريم، وتأصيل الإعجاز العلمي

مؤلفاته ومقالاته

ترك الزنداني عددا من المؤلفات المتنوعة والمقالات المتفردة، وهي من العلم النافع بإذن الله الذي ينفع صاحبه بعد وفاته، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". [أخرجه مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة برقم (1631)].

ومن كتبه الرائدة التي تركها: "علم الإيمان"، و"طريق الإيمان"، و"نحو الإيمان"، و"التوحيد"، و"البينة العلمية في القرآن الكريم"، و"تأصيل الإعجاز العلمي"، أما كتابه "بينات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته" فقد سمح بطباعته دون مقابل مالي؛ ليكون ضمن مقررات مادة "الثقافة الإسلامية" في جامعة الخرطوم؛ وقد كان له أثر كبير على كثير من الطلاب والطالبات.

ومن مقالاته: "أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج"، "الأقمار الصناعية تشهد بنبوة محمد"، "منطقة المصب والحواجز بين البحار" .. كما كان له العشرات من الأشرطة والمحاضرات التي فصل فيها مظاهر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية.

أسس في إسطنبول جمعية للإعجاز العلمي كنت -ولا زلت- أحد أعضائها والمؤسسين لها، كما كان الشيخ مهتما بقضايا المسلمين من إسطنبول وفيها، حتى كان يلقي البيانات في مؤتمرات العلماء الصحفية المتعلقة بقضايا الأمة جميعا

هجرته من اليمن إلى إسطنبول

بعدما سيطر الحوثيون على كثير من حواضر اليمن ومدنها، واقتحموا بيت الشيخ عبد المجيد الزنداني وعاثوا فيه فسادا، وكذلك

الكاتب (يمين) والعلامة الزنداني (يسار) (الجزيرة)

يفعلون، خرج الشيخ إلى السعودية وقضى فيها خمس سنوات تقريبا، وسافر إلى تركيا، واستوطن إسطنبول، وباشر منها جهاده العلمي والفكري والدعوي، فأسس جمعية للإعجاز العلمي كنت -ولا زلت- أحد أعضائها والمؤسسين لها، كما كان الشيخ مهتما بقضايا المسلمين من إسطنبول وفيها، حتى كان يلقي البيانات في مؤتمرات العلماء الصحفية المتعلقة بقضايا الأمة جميعا، كما كان معنا في لقاء العلماء بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 9 أغسطس 2023، وكان ضمن الوفد العلمائي الذي ناصح حركة حماس في موقفها من استعادة العلاقات مع بشار الأسد وأحد الموقعين على بيانهم في يوليو 2022م، وكان بيته قبلة للعلماء والدعاة في الليل والنهار.

توفي في إسطنبول عن اثنتين وثمانين عاما، عاشها في العلم والتعليم والتربية والدعوة والجهاد، بعد أن مكث في العناية المركزة فترة من الزمن، طاردته فيها الشائعات بخبر وفاته، وكانت دعوات المسلمين والعلماء تحيط به من كل مكان

وفاته في إسطنبول

وها هو الشيخ يحط الرحال إلى الدار الآخرة، ويترجل فارسا نبيلا لم يأل جهدا في خدمة قضايا الإسلام والمسلمين، وها هو يموت مهاجرا فائزا بقول الله تعالى: ﴿ ومن یهاجر فی سبیل ٱلله یجد فی الأرض مر ٰ⁠غما كثیرا وسعة ومن یخرج من بیته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم یدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحیما﴾ [النساء ١٠٠]. وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا مات بغير مولده، قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة". [أخرجه السيوطي في الجامع الصغير بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر، رقم: "1979"، والنسائي برقم (1832)، واللفظ له].

ها هو قد توفي في إسطنبول عن اثنتين وثمانين عاما، عاشها في العلم والتعليم والتربية والدعوة والجهاد، بعد أن مكث في العناية المركزة فترة من الزمن، طاردته فيها الشائعات بخبر وفاته، وكانت دعوات المسلمين والعلماء تحيط به من كل مكان، ولكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، فلا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه.

إننا أمام رحيل الكبار لا نملك إلا أن نبدي -حقيقة لا ادعاء- كامل الرضا وتام التسليم بقضاء الله تعالى، الذي كتب الموت على كل نفس؛ حيث الأنبياء والعلماء والأولياء والمصلحون والأئمة الكبار.

رحم الله الشيخ العلامة عبد المجيد الزنداني، وأسبغ عليه سحائب رضوانه، وأكرمه بمغفرته، ورفع درجته في عليين


العلامة الزنداني على رأس الوفد العلمائي الذي زار الرئاسة التركية (الصحافة التركية)

وقد كتب شاعر الدعوة الجزائري المتألق الأستاذ محمد براح قصيدة في رثائه، هي خير ما نختم به هذا الرثاء، سماها: "في رثاء الشيخ عبد المجيد الزنداني رحمه الله .. رحيل العلم "، يقول فيها:

عز العراق وعز الشام واليمنا .. وعز مصر، وعز القدس والوطنا

في رزئنا بفقيد عاش يملؤنا .. بالنور واختار نهج المصطفى زمنا

كأنه ثلمة لاشيء يملؤها .. والموت ينثر فينا الغم والحزنا

شيخ المحجة بالبرهان يقنعنا .. كم كنت أختاره في العلم مؤتمنا

دلائل الطب والإيمان في حجج .. بدي الخفي الذي قد كان مندفنا

عبد المجيد، وما أغلاه من رجل .. حر يذب علينا الضعف والوهن

وذلل الآي في القرآن يشرحها .. وبالعلوم لقد أحيا لنا السننا

لو كل  شيء له في عصرنا ثمن .. فعلمه معجز لا يقبل الثمنا

هيهات هيهات يأتي بعده رجل .. وعاش ذاك النقي اللامع الحسنا

هي ابتسامته دوما ترافقه .. ماكان صلدا ولا صخاب أو خشنا

فمن يكفكف للغبراء دمعتها  .. والشيخ في تربة بالقبر قد سكنا

ومن لصنعاء إن لف السواد بها .. وعز تدمر في ذا الفقد  أو عدنا

يودع الشيخ مسرانا وقبلتنا .. ولم نذد عنه لم نوقف به الفتنا

والغيم في ساحه والظلم منتشر .. وفوقه يغرسون الشوك والمحنا

ويرحل الشيخ صداحا بنصرته .. لأرض غزة إن سرا وإن علنا

يقول قوموا إلى الأقصى لنرجعه .. والقدس ياقوم والمسرى يظل لنا

لو قيل من يفتدي شيخا وينقذه .. لقال كل الورى: أفدي الجليل أنا

رحم الله الشيخ العلامة عبد المجيد الزنداني، وأسبغ عليه سحائب رضوانه، وأكرمه بمغفرته، ورفع درجته في عليين، وفسح له في جنات النعيم، وعوض العلم والعلماء والأمة عنه خيرا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.