الخميس، 31 مارس 2011

هوامش على دفتر النصر والتغيير


هوامش على دفتر النصر والتغيير



الورقة الأولي

ليس ما وقع "ثورة".. فالإسلام لا يعرف هذا المصطلح بمعناه الدارج في العصر الحديث، والذي كان علمًا على بعض الثورات الهائجة كالثورة الشيوعية، والثورة الفرنسية، والثورة المصرية في يوليوسنة 1952م، أو الثورات البعثية التي جمعت بين التفكير المادي والتفكير العنصري.. لكنها "حركة شعبية" للقضاء على الظلم والقهر والفساد.

إن ما وقع "تعبير شعبي" عن المصريين لمنهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي أمرهم به الله في القرآن في قوله تعالى: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَت لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَن الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
 وقد تجلت هذه الصورة الرائعة في ميدان التحرير.. فكانت الصلاة تُقام جماعة، وكان التكافل الاجتماعي ينتظم الجميع؛ مما يؤكد أن عصر القهر هو الذي أعاد الناس إلى فطرة الإسلام في التغيير.. {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم}[الرعد: 11].

الورقة الثانية

من آيات الله التي لا يجوز أن تُنسى أن يكون الانفجار الأول ضد الظلم والطغيان قد وقع في أعتى دولة تولَّى حكمها الطاغية الأعظم زين العابدين بن علي، ذلك الذي فرض السفور، ودمر الجامعة الزيتونية إحدى الجامعات الإسلامية الثلاث الكبرى في التاريخ الإسلامي -بعد الأزهر والقرويين في فاس- وحسبنا في ذلك أن عدد من كانوا فيها أيام الاستعمار الفرنسي ثلاثون ألفًا، فأصبحوا في أيام زين العابدين ثمانية من الطلاب والطالبات ومعظم الطالبات سافرات!!

فالله يظهر قدرته وسلطانه {أَلَم تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَم يخْلَق مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيهِم رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 6-14].

وعلى الجبابرة الباقين في العالمين العربي والإسلامي أن يتذكروا هذه الدروس البليغة.

الورقة الثالثة

وقد لاحظنا أن كل شخص من الحكم البائد ينحو بالانحراف على الآخرين، فكل وزير يزعُم أن الوزير السابق أو الثري فُلان "الملياردير" هو الذي كان يدعوه ويزين له الثراء الفاحش، والتحكم في البرلمان وتوجيه أعضائه بالجملة إلى ما يريده الكبار والأكبر جدًّا! وهذا يذكرنا بقوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَد خَلَت مِن قَبْلِكُم مِن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَت أُمَّةٌ لَعَنَت أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَت أُخْرَاهُم لأُولاهُم رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِم عَذَابًا ضِعْفًا مِن النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38].

الورقة الرابعة

حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.. لقد أعطتنا هذه "المحنة المنحة" درسًا لا يجوز أن ننساه، فلو أن كل إنسان يشغل موقعًا حاسب نفسه قبل أن يُحاسب، وتذكر أن هناك يومًا سيأتي يحاسبه فيه الذين يأتون بعده عن أخطائه، فضلاً عن أنه سيحاسبه الله يوم القيامة وتوزن أعماله بالعدل، حيث يقول سبحانه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ أَتَينَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].

فلو حاسب كل إنسان نفسه وقوَّمها، ورد المظالم إلى أصحابها، واستغفر الله من الذنوب التي وقع فيها، لفاز في الدنيا والآخرة؛ فمحاسبة كل إنسان نفسه درس من دروس "المحنة المنحة" التي مرت بها مصر.

الورقة الخامسة

لقد ظهر التكافل الاجتماعي في أعلى صورة، وكان ما وقع في ميدان التحرير من التكافل صورة من صور التعاون على البر والتقوى، كما كان التكافل بين القوات المسلحة والشعب صورة من صور التكامل بين الحاكم والمحكوم، وبين الجيش المسئول عن الأمن وبين الأمة، فزالت الشوائب التي كانت في النفوس، ووقع الحب بين الجميع، وكأنهم روح واحدة في جسدين ينبضان بالحياة والحب.

الورقة السادسة

الواجبات قبل الحقوق.. وقد ظهر فيها حرص كل إنسان على أداء واجبه دون النظر إلى حقوقه التي قد تأتيه عفوًا.

وهذا الشعار العظيم "الواجبات قبل الحقوق" هو الذي يجب أن يكون طريق مستقبلنا، وقد كتب العلامة المهندس الكهربائي مالك بن نبي صفحات طويلة -اعتبرها من شروط النهضة- حول هذا القانون الذي يعتبره جزءًا من نظريته، وهو أن الواجبات عنده تسبق الحقوق، وقد طبقها في مدينته التي ولد فيها "تبسة" في الشرق الجزائري، واعتبرها حقلاً لتجربة نظريته، وقاد طلاب الجامعات والمثقفين إلى أن يحملوا المكانس، وأن يعملوا معًا في تنظيف مدينته "تبسة" التي ولد فيها، وأن يزرعوا الأشجار وأن ينظموا الطرقات في الشوارع.

وكان منظرًا جميلاً أن تجد فريق عمل من المثقفين يعملون في كنس الشوارع وتجميلها لا يشعرون بالخجل ولا الاستعلاء، بل يشعرون بروح التعاون العملي، وأنه الأهم والأجدى من النصائح والوصايا الكلامية، وما وقع الخلاف بين مدرسة جمعية العلماء وعلى رأسها الشيخ عبد الحميد بن باديس زعيم النهضة الجزائرية إلا لأن الأخير سافر إلى فرنسا يطلب منها حقوق الجزائر وحريتها، فردَّ عليه مالك بن نبي: إن الحل هنا في الجزائر وليس في باريس، إن أداء واجباتنا أولى من استجداء حقوقنا.

الورقة السابعة


وكان من دروس "المحنة المنحة" ما شعرت به كثرة من المثقفين وأصحاب الوعي الحضاري والشعور الإسلامي.. من أن مصر تضع قدمها على الخطوة الأولى في الطريق الصحيح.. لقد أصبحنا نتفاءل بإمكانية أن نمشي في طريق اليابان بعد هزيمتها في 16 أغسطس 1945م، وضربها بقنابل هيروشيما ونجازاكي..

إنها لم تبك على الهزيمة الساحقة، بل انطلقت نحو المستقبل معتمدة على "الواجبات" وعلى العمل، حتى سبقت أمريكا اقتصاديًّا.. وكانت قد شرطت على أمريكا أن تظل محافظة على دينها، وعلى منهجها التربوي، وعلى لغتها اليابانية، وعلى تاريخها.. وقبلتْ أمريكا هذه الشروط مستهينة بها.. وبها انطلقت اليابان إلى النهضة.

الورقة الثامنة

ولماذا لا نمشي في طريق تركيا التي أصبحت القوة السادسة في العالم.. وماليزيا التي حققت كثيرًا من صور التقدم؟


لقد أصبحت مصر مؤهلة للتقدم على خُطا هذه الدول المتقدمة، وعلى الدفاع عن المسلمين السُّنَّة في العالم.. وعودة دورها الرائد في إفريقيا وآسيا بأزهرها العظيم وتأثيرها الكبير.
الورقة التاسعة

في بلدنا "مصر" مدينة اسمها دمياط.. هذه المدينة تشبه اليابان في جديتها في العمل.. ويلاحظ أن الطابق الأرضي من معظم البيوت في دمياط تحول إلى ورش للموبيليا.. يشترك فيها الأبناء مع الآباء.. وبهذا يحمل الأبناء خبرة الآباء، توارثًا على غرار ما عُرف في تراثنا.
الورقة العاشرة

التداول.. لقد رأى الناس بأعينهم قانون التداول والتدافع.. {وَتِلْكَ الأَيامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. إنه قانون كوني وقرآني.. والكون كتاب الله المنظور.. والقرآن كتاب الله المسطور.. وهما متكاملان.

المصدر: نقلاً عن مجلة التبيان عدد (81) - مارس 2011م.

الثلاثاء، 29 مارس 2011

متى يفلت المواطن العربى من تناوب الاحتلالين الوطنى والأجنبى؟

متى يفلت المواطن العربى من تناوب الاحتلالين الوطنى والأجنبى؟

 د. عبدالله الأشعل

عرف العالم تاريخا طويلا من الثورات أى انقطاع الصلة بين وضع ووضع جديد بطريقة فجائية فى توقيتها وإن كانت تراكمية فى تكوينها وتحضيرها.
وتنقسم الثورات الكبرى إلى ثلاثة مجموعات، المجموعة الأولى هى الثورات الاجتماعية، والمجموعة الثانية هى ثورات الاستقلال ضد الاحتلال والاستعمار والمجموعة الثالثة هى الثورات النوعية كالثورة الصناعية والثورة العلمية وغيرها مما يعد قفزات إلى الأمام فى تاريخ الإنسانية، وهى عموماً الثورات الحضارية.
وقد لوحظ أن الثورات الحضارية لم تقع إلا فى الدول الغربية:أوروبا والولايات المتحدة، أما بقية دول العالم فقد عرفت الثورات الاستقلالية. صحيح أن الثورة الانجليزية كانت صراعاً بين الشعب والملك (ثورة كرومويل)، وكانت ثورة العبيد فى روما ثورة المهمشين ضد السادة، كما كانت الثورة الفرنسية ثورة من لايملكون ضد مالكى الأرض ومن عليها من الإقطاعيين البورجوازيين، إلا أن الثورة الأمريكية كانت ثورة المستعمرة على الدولة المستعمرة أى بريطانيون بشكل عام ضد بريطانيين، ولكن كل هذه الثورات ساهمت فى إرساء مبادئ الحرية والعدالة والمساواة وكانت زخماً ضخماً للنظم الديمقراطية وتراث الغرب الديمقراطى.
ثورات أوربا الصناعية والعلمية ثم ثورة العلم مع وسائل الاتصال نقلت البشرية قروناً رغم خيرها للإنسانية كلها.
أما فى العالم الثالث فقد عانى من احتلالين: احتلال أوروبى أمريكى قامت الثورات لمقاومته ويدخل فى ذلك ثورة العشرين فى العراق فى أوائل عشرينيات القرن العشرين وثورة 1919 فى مصر، أما ثورة 1952 فكانت حركة الجيش ضد الملك وما يمثله ثم صارت ثورة اجتماعية بعد أن رأى الشعب برامجها الاجتماعية والسياسية.
ومن هذا النوع انقلابات العراق 1958، 1961، وسوريا 1949 وليبيا 1969 والسودان 1969 وغيرها من انقلابات السودان وما تلاها ، أما ثورة الجزائر وثورات الريف المغربي فكانت ضد الاستعمار الاستيطانى.
وأما الثورات ضد الحاكم الوطنى، ففى معظم الأحوال كان الحاكم العربى صنيعة أو عميلاً للغرب ، ولذلك يمكن القول عموماً إن الغرب يقود البشرية بثوراته الإيجابية، ثم يصدر للعالم العربى أسباب شقائه وهو المشروع الصهيونى، والاحتلال الأجنبى، ثم الاحتلال الوطنى الذى يتولاه أذنابه ، وحتى لو أفلت حاكم من أن يكون صنيعة فهو يقع بعد ذلك فى سلك الأذناب إلا من رحم ربك.
ولعل الاحتلال الوطنى هو الأقسى والأشد لأن الحاكم من الشعب ولكنه يعمد إلى البطش بهذا الشعب، فيستمد شرعيته من رضا الخارج ويستقوى به فى الدعم العسكرى والسياسى، حتى إذا أعلن الشعب أنه يريد قدراً من الحرية والكرامة والثورة، انقض عليه الحاكم العربى، وتصبح الساحة بعد ذلك صراعاً بين "الشرعية الدستورية" الوهمية أساسها دستور وضعه الحاكم لسند بطشه وليس قيداً عليه لصالح شعبه، وبين خارجين على القانون، وقد عانت الشعوب العربية طويلاً من هذا الاحتلال المزدوج الوطنى الذى احتلت إرادته، وبذلك يدفع الشعب من كرامته لصالح المحتل الوطنى، ومن قوته لصالح الفاسدين من رجاله، كما يدفع الوطن من مصالحه وكرامته لصالح الخارج حتى يرضى الحاكم الوطنى أسياده. ولذلك عندما يبدأ الخارج فى الضغط على الحاكم الوطنى لإجراء الاصلاحات، فليس معنى ذلك أنه يتخلى عنه، ولكنه يريد أن يطيل بالإصلاح أمد بقائه وتجنبه الانفجار.
وبالفعل، لو كان مبارك قد ترك كوة صغيرة وألهى شعبه ببعض الفتات لما تجمعت عوامل الثورة عليه، ولما تعرض قاع النظام للانكشاف عن طبقات من الفساد تنوء بها الجبال، ولو كان ابن على قد فعل ذلك أيضاً لنجا ولظل مدى الحياة، بل لو كان مبارك قد مات حتى أثناء الثورة وقبل أن يصل إلى حد قتل الشباب عمداً والرصاص الحى، لكان للأمر وجهة أخرى.
لقد بارك الغرب مبارك وابن على وغيرهما، لكنه انقلب عليهما عندما أدرك أنهما هالكان وأن عالماً جديداً غريباً لا دخل له به ولا سيطرة له عليه قد بدأ يظهر.
ولكنى أظن أن الغرب يجب أن يتغير وأن يغير نظرته إلى العرب، فقد ظهرت أجيال جديدة ساهم العلم الحديث فى ظهورها، ولم يعد ممكنا أن ينصب الغرب حاكماً خاضعاً له حتى يتمكن الحاكم من ترجمة خضوعه للغرب إلى سياسات باطشة ضد شعبه، وليعلم الغرب أن قواعد اللعبة قد تغيرت وأن الديمقراطية والرخاء للجميع والتعاون وليس الاستعباد أو الإملاء مصلحة مشتركة فلن تخرج التربة العربية بعد اليوم حاكماً فاسدا كل مؤهلاته بيع وطنه للغرب أو لإسرائيل.
آن الآوان لكى يختار المواطن العربى نظامه وحكمه بنفسه ، وأن يتحرر من الدوامة التاريخية التى بدأت باحتلال وطنه ثم ثورة الاستقلال، ثم يحل الحاكم العربى محل المحتل الأجنبى فى وصله جديدة من القهر والنهب والاسترقاق بمساندة هذا المحتل فى زمن الاستقلال الوطنى الوهمى، فإذا ثار على حاكمه عاد إليه المحتل الأجنبى من جديد تحت صور مختلفة أوضحها الآن أن المحتل الجديد قادم ليخلص الشعب من الحاكم الظالم المستبد الذى صنعه هذا المحتل الأجنبى. حدث هذا فى العراق، وبدا أنه حدث فى مصر مبارك، ثم هاهو يحدث الأن فى ليبيا، حيث جاء انقلاب القذافى ثم ثار شعبه ثم بطش بهذا الشعب، ثم هم الغرب لانقاذ الشعب الليبى من قبضة الجلاد، والثمن دائماً هو تخليص الشعب من المحتل الوطنى حتى يحل محله المحتل الأجنبى وهكذا حتى صار التاريخ العربى هو التناوب بين المحتل الأجنبى الذى يسلب إرادة الوطن، والمحتل الوطنى الذى يسلب إرادة الوطن والمواطنين، فلا يمكن أن نتصور كما أشاع البعض وروج أنه يمكن الفصل بين حرية الوطن وحرية المواطن. فمتى يتمتع الوطن والمواطن بالحرية والكرامة فى نظام ديمقراطى حقيقى ،هذا هو تحدى القرن الجديد.

الجمعة، 25 مارس 2011

الرهبانية الجديدة


الرهبانية الجديدة

بقلم د . عبدالله الحامد
من أجل الخروج من هذه الأزمة لا بدّ من الإصلاح السياسي أولا، وجلاء موقف الإسلام من الاستبداد، قبل الحديث عن برامج التعليم عامة والديني خاصة، ولكن الإصلاح السياسي لا ينجح دون حافز ديني، والحافز الديني لا يكون دون بيان أن التوحيد قسمان روحي ومدني، وأن الطواف حول قصور الأمراء الطغاة؛مخل بالتوحيد كالطواف حول قبور الأولياء، كما قال تعالى" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله"
ا– السبب الأكبر في ضعف الأمة:

الحمد لله الذي خلق الإنسان، وجعله خليفة في الأرض، وأنزل الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، الذين أقاموا حضارة الإيمان، التي حلقت بجناحي الحرية السامية والعدالة، وبهما نشروا الإسلام رحمة للعالمين، في مشارق الأرض ومغاربها وعلى من اتبعهم في هذا المنهاج، في كل زمان ومكان.
وبعد فما ضعف المسلمون، إلا عندما وقعوا في محظورين:
الأول: أنهم جزأوا الدين فآمنوا ببعضه وهو العبادات الروحية، وتركوا بعضه الآخر وهو العبادات المدنية فحرفوا الدين فوقعوا فى داء الأمم من" المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين " ( الحجر : 90-91 ) .
الثاني: ثم ضعفت في نفوسهم معاني العبادات الروحية المنشطة، فلم تعد الصلاة تنهى عن فحشاء مدنية، ولا منكر اجتماعي أو سياسي، وتحولت إلى عادات مثبطة منومة، وكان الدين مضموناً روحياً ومدنياً حركياً شاملاً، فأمسى طقوس مناسك روحية فردية جزئية سلبية، وتلك هي الرهبانية الجديدة.
وعندما جاء الإسلام تمثله المسلمون الأولون، وأدركوا أن الإيمان شطران: مناسك روحية ومسالك مدنية، فكانوا نموذجاً حضارياً فريداً، كان الدين منبع سيادتهم في الدنيا، ودليل سعادتهم في الأخرى، وأضحى حافزاً للتفوق الحضاري الذي به عمارة الدارين، دار الدنيا ودار الآخرة معاً.
بيد أن جوهر الدين انطمر عبر الأمكنة والأزمنة، وأفل كثير من مصابيحه الحضارية، فباتت أشكالاً معزولة، لا تحقق عزة في الدنيا، ولا نجاة من الهلاك في الآخرة، وتلاشت قوة الأمة ومنعتها، وصارت نهباً للطغيان الداخلي، الذي فتح شهية العدوان الخارجي.
وعبر تأويل نصوص الشريعة المحكمة، برروا الظلم والجهل والتأخر، والفقر والذل والمرض، واستغلهم الخادعون من طلاب الحطام الدنيوي، والمخدوعون من أهل الزهد الرهباني السلبي، لتبرير كل واقع فاسد، وكل حادث مهين، فبرروا كل عدوان وطغيان. وصدق الرسول الكريم: «أخوف ما أخاف على أمتي: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، والأئمة المضلين».

ب – البحث عن المخرج:

ولن تتحقق للأمة عزة ولا قوة، إلا بعرى الدين المتينة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتحريك ما ركد من مياهه، وإشعال ما خبا من مصابيحه، ليعود الدين توحيداً صحيحاً، نقياً من ظلمات الشرك الخفي والجلي، وفقهاً ملهماً للنهوض والرقي، وينبوعاً يغسل أدران أمراض العقول والنفوس والأجساد، وروحاً يولد طاقات الأمة.
ولا يتم ذلك إلا بأمرين:
الأول: فقه الدين شاملاً، بالإيمان به كله سواء أكان شعائر مناسك أم شرائط معائش.
الثاني: ولا يتم ذلك إلا بتفعيل مقاصد الدين الراكدة، والتي بقيت مصطلحاتها وحرفت مفاهمها لكي تستخدم في نشر قيم الخمول.
والخطوة الأولى أن يبادر الفقهاء المثقفون من علماء الشريعة خاصة، والعلماء والمثقفون من أهل الإصلاح عامة، الذين يدركون دورهم الريادي الطليعي إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة، وتحريك المياه الراكدة، ونصب القدوة الحسنة، وواجب على كل مثقف أن يدلي بعمله وقوله، وواجب على من يجد في قوله أو عمله نقصاً أو خطأً أن يقوم ويسدد. وبهذا وذاك نشق الطريق المسدود ونصل إلى الهدف المنشود.
ج – الصالحات المدنية مؤهل وراثة الأرض

إن القيام بشطر الشريعة المدني: العدل والعمران، هو أساس بقاء الأمم والحضارات والدول، وذلك جاء في القرآن الكريم ربط وراثة الأرض بعمل الصالحات في الأرض، ولا يكون ذلك دون إقامة شرط البيعة الإسلامية الأكبر : قوامة الأمة على حكامها، لأنها هي المخولة بحفظ الشريعة، من دون ذلك لا يمكن بناء الدولة العادلة.
وكلما جاء الصلاح أو الفساد مرتبطاً بالأرض أو بوراثتها فإنما المقصود الصلاح المدني، قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض}، ومن يشكل عليه فهم كتاب الله المقروء، فليقرأ كتابه الكوني، ليدرك أن أساس بقاء الحضارات هو القيم المدنية.
إن من يتأمل تاريخ المسلمين، يدرك أن أهم سبب في انهيار الأمة، هو غياب أعراف المجتمع المدني. ومن هذا وذاك تعرف مقاصد الإسلام الكبرى ووسائل تنفيذها، في حفظ أمة الإسلام؛ أفراداً وجماعات ومجتمعاًت ودولا.
ومن يتأمل تاريخ نهوض الإفرنج، يدرك أن أهم سبب في تفوقهم، هو قوة ثلاثية المجتمع المدني، بأضلاعها الثلاثة:
الضلع الأول الأساس : منظومة القيم، كالحرية السامية والعدالة والشورى، والكرامة والمساواة، والتعددية والجدية والروح العملية إلخ.
الضلع الثاني : التجمعات الأهلية المستقلة عن الدولة، من نقابات وجمعيات وروابط، بصفتها تجسيدا لسلطة الأمة باعتبار الأمة هي (صاحبة السلطان على كل حاكم)، وهي الأدرى بمصالحها، وهي ولية أمر نفسها.
 ( شرحت ذلك في كتيب ( ثلاثية المجتمع المدني/الدار العربية للعلوم/ بيروت).
الضلع الثالث: توزيع عبء الدولة على ثلاثة أعمدة بدلا من عمود واحد، من خلال الفصل بين السلطات وقيام مجلس النواب بمحاسبة ومراقبة الحكومة، وتعزيز استقلال القضاء، بذلك تتجسد سلطة الأمة على الحاكم، التي قررها الله فى القرآن، وعبر عنها الإمام إبن تيمية بعبارته الشهيرة " الامة هي المخولة بحفظ الشرع، وليس الحاكم،(انظر تفصيل ذلك فى كتيب (البرهان فى قوامة الأمة على السلطان) .
د - أولوية نشر ثقافة المجتمع المدني:

إن معضلة الأمة الكبرى عبر العصور، هي الحكم الجبري، لأنه لابد أن يئول إلى حكم كسروي صحراوي جائر، وزادها ضراوة أن الفقهاء الغافلين والخادعين؛ ينسون أنه إخلال بالعقيدة، وأنه هو الكفر البواح، وفوق ذلك يقدمون خطابا دينيا يندمج في الاستبداد والتخلف، ويتآلف معهما، إن لم يقدموا الاستبداد على أنه الإسلام.
الاستبداد هو الذي أنتج الأزمة الحضارية التي أدت إلى انهيار الأمة الداخلي وإلى هيمنة الأجانب على شؤونها، وهذه الأزمة تمتد جذورها إلى خلل حدث منذ بضعة عشر قرناً، في التربية الاجتماعية، ومنهاج التعليم وأهدافه ووسائله.
إن كوارث الخليج منذ عام 1411هـ ( 1990م ) التي أسقطت الأقنعة الزائفة، وعرت التماثيل الفارغة، إنها إعلان عن إخفاق المنهج التربوي الذي اندمج في الطغيان، وعندما ركدت مناهج التعليم عامة والديني خاصة، فانحصر العلم في كثرة المؤلفات وتحصيل المعلومات وانفصل عن العمل.
ومن أجل الخروج من هذه الأزمة لا بدّ من الإصلاح السياسي أولا، وجلاء موقف الإسلام من الاستبداد، قبل الحديث عن برامج التعليم عامة والديني خاصة، ولكن الإصلاح السياسي لا ينجح دون حافز ديني، والحافز الديني لا يكون دون بيان أن التوحيد قسمان روحي ومدني، وأن الطواف حول قصور الأمراء الطغاة؛مخل بالتوحيد كالطواف حول قبور الأولياء، كما قال تعالى" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله"كما قاربت ذلك في كتيب"لا نجاح لإصلاح سياسي دون حافز ديني".
من أجل ذلك ينبغي العودة إلى الإسلام نقيا من غبار الاستبداد، الذي شوه وجه دين الحرية والعدل والمحبة والكرامة، فحوله إلى دين يمارس باسمه القمع والظلم والطبقية والحقد والإهانة.، ولا سبيل إلى كشف ما في الصياغة العباسية للتربية والثقافة الإسلامية، إلا برؤية (مصباح) الكتاب والسنة، في (زجاجة) التطبيق النبوي والراشدي، و(مشكاة) سنن الله السياسية والحضارية، من أجل ترتيب الأولويات، ولكي يدرك المحافظون على الصياغة العباسية للتربية والثقافة الإسلامية، -وفقنا الله وإياهم-
إن الأمة لا تعاني من نقص كمي في برامج التربية والتعليم، وإنما تعاني من فقر في الأفكار والمفاهيم.
لا يكون للإصلاح السياسي نجاح من دون تفعيل قاعدة الجهاد المدني، من أجل ذلك لا بدّ للمهتمين بالدعوة والإصلاح، من نشر ثقافة الجهاد المدني السلمي.
وأسأل الله أن يوفق الجميع إلى الصواب، وأن يجنبنا الزبد والخطل، في الفكر والقول والعمل، وأن ينفع بهذا الكتيب وأن يجعله هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وأن يقبله بفضله وإحسانه
.

الأحد، 20 مارس 2011

المساواة في الحقوق كل حكم يحابي عصبيته أو حزبه بالثروة والسلطة فوصفه بالإسلامي تزييف للشريعة


المساواة في الحقوق كل حكم يحابي عصبيته أو حزبه بالثروة والسلطة فوصفه بالإسلامي تزييف للشريعة

2010-09-23
بقلم د . عبدالله الحامد
قال لي أحد العاملين في مراكز القوى، المقربين في دواوين إحدى حكومات الجبر الجائر:لقد استعطيت لنفسي ولأولادي أرض سكنى في كل مدينة فيها بلدية، وهذا موظف من الثعالب الصغار، فما بالك بالذئاب والنمور؟. وتجد بعض الدول التي تعلن أنها تحكم الشريعة الإسلامية، تستثني أفراد الأسرة الحاكمة وحواشيهم من الطواغيت الكبار والصغار من القوانين التي تطبق على أفراد الأمة ، فإذا منحت الدولة محظوظا عاديا أرضا بمئات أمتار معدودة، منحت أفراد الأسرة الحاكمة عشرات الملايين من الأمتار، حتى ذكروا أن أحد أفراد هذه الأسر الحاكمة أخذ في قلب مدينة واحدة كبرى قطعة أرض بلغت مساحتها ثلاثة وثمانين مليوناً من الأمتار.

أ-لا عدل من دون مسطرة التساوي في الحقوق:

محور العقيدة السياسية في الإسلام أن الأمة هي ولية أمر أمرائها، لأنها هي الحفيظة على الدولة والشريعة، ومقتضى البيعة بين الأمة والحاكم، أن الحاكم في الإسلام (وكيل) عن الأمة وليس وكيلا عليها.
ومعنى ذلك أن العدل والمساواة ركنان من أركان العقيدة السياسية في الإسلام، فمن أخل بأحدهما فقد أخل بركن من أركان الإسلام العظام، عمود فسطاط الإسلام الثاني:شق العقيدة المدني والسياسي.

وإنه لعجب إن تجد الدول غير المسلمة شورية عادلة، تقيم ميزان القسطاس والمراقبة والمحاسبة، وتحيل أي موظف يتهم بالتقصير أو الاختلاس حتى لو كان رئيس الحكومة إلى محاكمة علانية، وتحاسبه حسابا عسيرا، بل وتعزل الرئيس والمدير إذا اختلس مالا يسيراً، أو حابى قريبا، وأن تجد أغلب الحكومات العربية التي تعلن تطبيق الإسلام، وعلى ظهر الواحد من أمرائها من المظالم ومخالفة قوانين حسن الإدارة؛ ما لو وزع على جميع رؤساء دول العالم، لاقتضى عزلهم جميعاً، إن لم يبرر سجنهم أعواما طوالا.
ولا تعجب بعد ذلك إذا رأيت الفقهاء في العصور الوسطى، يفضلون حكم هولاكو وتيمورلنك على حكام مسلمين، لأنهما أعدل من حكام مسلمين فسقة ، نهبوا الناس باسم الإسلام، وتحالفوا مع شيخة نفاق أو غفلة، أقعدهم رين الاستبداد عن المطالبة بشروط البيعة، ممن عناهم عبد الله بن المبارك بقوله :

وهل أفسد الدين إلا الملوك× وأحبار سوء ورهبانهـــا ؟

ومن ذلك أن تجد قانون "إذا سرق فيهم الوجيه تركوه" نافذا؛ في بلدان التي تتشدق بتطبيق الإسلام، في المحافل والإعلام، وأن تجد كل مستكبر مستثنى من القوانين التي تطبق على مستضعفين من عموم الشعب ، فله أن يجمع بين الوظيفة والعمل الحر، وله أن يتاجر سرا وجهراً، بل ولا تمر مناقصة كبيرة؛ إلا كان له خيارها ولبابها، وللضعاف شرارها وقشورها وغبارها.

وقد جعلوا أنفسهم فوق القانون، فإذا اشتكاهم أحد لم ينصف، وإذا صدر حكم ضد أحدهم لم ينفذ، وإذا خاصموا أحداً مدوا أيدهم، وأخذوا المال أو الأرض، دون إن يستطيع القانون أن يأطرهم على الحق أطرا، ولا أن يقصرهم عن الشر قصرا، لقد أصبح القانون في غالب الدول العربية، زمن الإمبريالية الأمريكية والصهيونية والإفرنجية كبيت العنكبوت، يمسك بأرجل الحشرات الصغيرة، وتمزقه الحشرات الكبيرة.

فكيف يصح وصف دولة بأنها إسلامية؛ ؟إذا كانت تطبق قانون"إذاسرق فيهم الضعيف عاقبوه، وإذا سرق فيهم الوجيه عظموه"، إذا كانت تقصر إقامة الزواجر والعقوبات على أفراد عامة الناس،إذا اخلوا بأمر روحي، كالمجاهر بترك الصوم وترك الصلاة، أو ارتكبوا محرمات مدنية فردية كشارب الخمر، والزاني والناهب والغاصب، ولاسيما إن كانوا من الفقراء والمستضعفين، ويعفى كبراء القوم من الزواجر والحدود، وكيف يحد السلطان الجائر من اغتصب امرأة أو سرق بعيرا، يكرم من اغتصب إرادة الأمة، ويعظم من سرق مالها، ويشاد بحكمة من أفسد نظام تربيتها، حتى كثرت فيها الفواحش والمجون؟.

ب-شفاعة السوء:

ولقد استشرت (شفاعة السوء) في بعض الأقطار الإسلامية، ولا سيما العربية وسموها الواسطة، ووسموها في بعض البلاد بفيتامين (واو)، فمن استمسك بها ربح، ومن حرم منها خسر، فضاع الضعفاء والمساكين، وأصبح لفيتامين الواو أثر سحري في قضاء الحاجات، وعطلت بها قوانين العدالة والكرامة والمساواة، وأصبحت بعض الأمور لا تتيسر إلا بورقة أو هاتف من شخص بارز، ودخلت الواسطة في التعليم أيضا ، فأرفقت بأوراق الطالب لكي تكون ضمن مسوغات القبول، وقد أكد لي ذات مرة أحد عمداء معهد عال مختص بإعداد القضاة؛ أن أوراق الشفاعة ممن لا يستطاع ردهم ، أكثر من العدد المحدد أصلا للدراسة!. فلتصور مدى العدالة والإنصاف في طلاب يستشفعون بظالم لكي يولوا القضاء، ولعل مؤهلاتهم للقبول هي الواسطات!
وإذا رأى الناس شخصاً لم يوظف، قالوا لماذا؟ لأنه لا شافع له، حتى المريض أصبح يحتاج إلى واسطة، ليتسنى له العلاج. وكفى باحتياج (المريض) إلى شفاعة لكي ينال العلاج برهان على استشراء الفساد، وضيعة المستضعفين، بن براثن الجبارين.
أمر قاس فظيع جداً، أن لا يستطيع الإنسان النجاة من الموت إلا بشفيع يحجز له سريرا في مشفى السراة.

وهؤلاء الضالون الذين يستيجيزون الواسطات؛ هل يظنونها من (الشفاعة) الجائزة، في أي قانون عادل، بله أن يبيحها الإسلام؟، والشفاعة في الإسلام، لا التباس فيها، فهى نوعان: شفاعة خير وشفاعة شر، كما قال ابن تيمية في السياسة: "الشفاعة إعانة الطالب حتى تصير معه شفعا بعد أن كان وترا، فإن أعانته على بر وتقوى؛ كانت شفاعة حسنة، وإن أعانته على إثم وعدوان؛ كانت شفاعة سيئة".

فان كانت شفاعة في رد ظلم عن مظلوم ، أو إغاثة لكروب، أو في تقويم ظالم وكف إذاه، أو إبلاغا لحاجة من لا يستطيع الوصول إلى من يحل الأمور، فهي حسنة يؤجر فيها الساعي، وهي زكاة الجاه التي تحدث عن فضلها الفضلاء، وهي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فان من أبلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها؛ ثبت الله له سعيه على الصراط يوم تزل الإقدام".

وهي شفاعة الخير هي المعنية في قوله تعالى "من يشفع شفاعة حسنة؛ يكن له نصيب منها" وهي أيضا مستحبة فى درء العقوبة، وحكمة ذلك الستر على الناس، ولكن عندما تصل القضية الى (القضاء )، يصبح تجاوزه إخلالا بالمساواة ، ومدعاة إلى تجرؤ المجرمين على القانون، فإذا بلغت الحدود سلطة القضاء ، فلعن الله الشافع والمشفَع ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم وقال :"تعافوا الحدود بينكم ، فما بلغني من حد فقد وجب"، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله ، فقد حاد الله في أمره "

وشفاعة الشر مثل أن يشفع شافع لكي يوظف حبيبه وقريبه ونسيبه،وأهل بيته وقريته وصحابته وجيرانه، أو يقدم من يعرفه على من لا يعرفه، فيطرد بسببه فقير ناء مسكين، ويحرم مجهول مطحون، ولكي يستثنى الحبيب على القلب، ويطبق القانون على الثقيل، ولكي تمر معاملات الأقارب وجماعة البلد والقبيلة كالبرق، وتزحف معاملات الناس الآخرين، كالسلاحف فوق التراب، فهذه شفاعة من الكبائر، وهي ما نهى الله عنه بقوله" ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها، وكان الله على كل شيء رقيبا".

ج-الرشوة كيف تشيع في دولة توصف بالإسلامية:

ومن الأمور التي ابتليت بها كثير من المجتمعات الإسلامية، ولا سيما العربية؛ فشو الرشوة التي أصبحت مفتاحا لكل باب مغلق، ودهانا لكل عود يابس، ومخرجا من كل مأزق، وحلا لكل عقبة في القانون، وأصبحت الفضائح ترويها الألسنة والصحف الأجنبية عن بلاد إسلامية ، ولا أحد ينكر ، أو يتساءل حتى صار أهل (الرشوة) في بعض البلدان (مافيا)، تسري كالماء تحت التبن ، كأسلاك ضفيرة كهرباء السيارة ، لا أحد يراها ، لكنها كالجان والشياطين تسري في الظلام، فلا يصدر صك امتلاك أرض أو منحة زراعية أو سكنية إلا برضاها ، ولا يحصل أحد على حقه إلا بها، وأصبحت المناقصات والمشاريع والإيجارات مرتبطة بها.

بل أسهم بعض فقهاء الظلام في مشروعيتها، عندما قالوا يجوز للإنسان أن يدفع الرشوة إذا كان لن يستطيع نيل حقه إلا بها ، وشيوع هذه الفتوى عند الناس ثمرة رسوخ الاستسلام للاستبداد، بدلا من أن يقولوا يجب على الناس كافة، وعلى طلاب الحقوق خاصة، إعلان الجهاد المدني السلمي حتى الاستشهاد، لمكافحة الاستبداد، الذي هو مصدر كل خراب وفساد.

فأين هؤلاء الرؤساء والأمراء والمدراء والكتبة؛ بل أين فقهاء التخلف والرخاوة والضروررة، من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " من اقتطع حق أمريء مسلم بيمينه ، فقد اوجب الله له النار ، وحرم عليه الجنة. فقال الرجل : يا رسول الله ، وإن كان شيئاً يسيراً ؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك" ( رواه مسلم ).
وقوله عليه السلام : " من استعملناه عملا فرزقناه رزقا ، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول " ( رواه أبو داود ).
وقوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله الراشي والمرتشي ، والرائش [الواسطة] بينهما".

وقد وصف الله الفجار بأكل السحت فقال : "سماعون للكذب أكالون للسحت"، قال ابن تيمية " متى أكل ولي الأمر السحت احتاج أن يسمع الكذب من شهادة الزور وغيرها".بل إن السحت يشمل أيضا الهدية التي تعطى للموظف الذي يساعد في انجاز معاملة ، أو تسهيل أمر ، أو التوسط والشفاعة عند أحد، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " من شفع لأخيه شفاعة ، فأهدى له هدية فقبلها ، فقد أتى بابا عظيماً من أبواب الربا ".

وكلم التابعيُ مسروقٌ رحمه الله الأمير ابن زياد في مظلمة رجل ، فردها الأمير ، فأهدى الرجل مسروقا هدية فردها قائلا: سمعت ابن مسعود يقول " من رد عن مسلم مظلمة فأهدى له عليها ، قليلاً أو كثيراً ، فهو السحت، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، ما كنا نرى السحت إلا الرشوة في الحكم، قال: ذلك كفر ".

وبعض أهل الغفلة من الموظفين الذين لا يحترزون من الشبهات؛ وتسيطر عليهم الشهوات، يتساهلون في الهدايا التي يعطيهم من قضوا له حاجة، وينسون إنها فهي وإن لم تكن مباشرة في التأثير عليهم، فان لها أثر الكئوس في الرؤوس.

وتروي المأثورات الشعبية النجدية أن فلاحاً دعا قاضياً من قضاة الظلم إلى وليمة ، فلما أطعمه ذكر له خصومة مع جاره ، فقال القاضي مداعباً: لا تذكرني بتفصيل قضيتك حتى أهضم طعامك، فيجري مني في الدم والعروق، فأميل إليك!!.

وأجمع الفقهاء على أن الهدايا حرام على الحكام والقضاة والولاة، ومن قبل من ذلك شيئاً، وجب عليه أن يتوب، ولا توبة له إلا برده إلى بيت مال المسلمين، وإعلان خطئه على الملأ، وإلا كان رشوة حراماً.

وأساس هذه القاعدة حديث شريف، فقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً على الصدقة يقال له ابن اللتيبية، فلما قدم المدينة آيبا من عمله، قال : " هذا لكم ، وهذا أهدي إلي" فوقف الرسول صلى الله عليه وسلم خطيباً ، وقال : " ما بال عامل أبعثه فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي ، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه ، حتى ينظر أيهدى له أم لا ؟، والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منها شيئاً ، إلا جاء به يوم القيامة يحمله على بعير له رغاء ، أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر" ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ، ثم قال : اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت ؟"

د= استغلال النفوذ:

ومن مظاهر الحكم بغير ما أنزل الله من مساواة (استغلال النفوذ) وهو من سمات دولة الجبر والجور أموية وعباسية مملوكية وعثمانية، ولكنه ازداد استقرارا وشيوعا في الدولة العربية الحديثة، زمن الهيمنة الأمريكية والصهيونية والفرنجية، وليس رشوة مباشرة، ولا أكلا صريحا لأموال الناس ، ولكنه أكل لها بصور غير مباشرة.

و كثير من أصناف النخبة من الرؤساء والأمراء والوزراء يحصلون على منح من المال، أو إقطاعات من أراضي السكنى ، أو الزراعة أو تسهيلات في التجارة ، كالمناقصات والمشاريع ، أما بأسمائها مباشرة ، أو بأسماء أولادها وزوجاتها أو أقربائها،أو محاسيبها،أو تشارك الضعفاء الذين تستخرج باسمهم حقوقهم، وكما يقول المثل النجدي: "الشرط أربعون ، لكم عشرون ، ولنا عشرون"، وهذا سحت ، كلحم السمك الذي حرم على اليهود يوم السبت ، فحبسوه في البحر يوم السبت ، وأكلوه يوم الأحد .

ولولا الرئاسة لما أعطي الملأ من الأقوياء؛ أراضي بمئات ملايين الأمتار ، وأعطي أغلب الفقراء قليلاً ضئيلاً ، ولما قرب الكبار وأبعد الصغار، ولما أعطي أطفال الوجهاء الرضع، وحرم الشيوخ والعجائز والكهول والعائلون من الفقراء الجوع.

قال لي أحد العاملين في مراكز القوى، المقربين في دواوين إحدى حكومات الجبر الجائر:لقد استعطيت لنفسي ولأولادي أرض سكنى في كل مدينة فيها بلدية، وهذا موظف من الثعالب الصغار، فما بالك بالذئاب والنمور؟. وتجد بعض الدول التي تعلن أنها تحكم الشريعة الإسلامية، تستثني أفراد الأسرة الحاكمة وحواشيهم من الطواغيت الكبار والصغار من القوانين التي تطبق على أفراد الأمة ، فإذا منحت الدولة محظوظا عاديا أرضا بمئات أمتار معدودة، منحت أفراد الأسرة الحاكمة عشرات الملايين من الأمتار، حتى ذكروا أن أحد أفراد هذه الأسر الحاكمة أخذ في قلب مدينة واحدة كبرى قطعة أرض بلغت مساحتها ثلاثة وثمانين مليوناً من الأمتار.
ولهؤلاء امتيازات خاصة في الجوازات والسفر والجمارك والطائرات والمستشفيات والعمالة والمناقصات والوظائف، ويتقاضون –فوق ذلك-أموالا نقدا ضخمة، بينما يعيش على بعد دقائق وأمتار حولهم ألوف الأسر خاملة في مذلة وفقر وحرمان، وما أنظمة هذه الدول المعلنة عن المساواة إلا حبر على ورق، وما دعاوى تطبيقها الشريعة إلا تزييف.

والطامة الكبرى أن القضاء الذي لبس عباءة الشريعة، يبصم ويختم على هذه الصكوك، التي تبدأ بالحمد لله وحده، وتنتهي بالصلاة على من لانبي بعده، وعلى طرفى الصك شعار الحكم بما أنزل الله، وبن الصلعمة والحمدلة يعطى صاحب السمو ثمانين مليون متر في قلب العاصمة !!.
أين حكام الظلم وقضاتهم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً ، فما اخذ بعد ذلك فهو غلول".الغلول : السرقة والنهب.

و من ذلك اشتغال الملأ من الرؤساء بالتجارة، لأن السلطان إذا زاحم الناس في التجارة أهلكهم، لأمور عديدة:
منها أن الناس سيحابونه لأجل مكانه في الولاية ، فيؤدى ذلك إلى استغلاله السلطة ، فتوفر له تسهيلات في المبايعة والمؤاجرة والمضاربة و(المناقصة) كما ذكر ابن تيمية، ولذلك شاطر عمر بن الخطاب بعض الولاة، لعلمه أنهم خصوا بمحاباة ، من أجل سلطانهم ، وأن ذلك داخل تحت إطار استغلال السلطة .
ومن أجل ذلك عد ابن خلدون اشتغال السلطان بالتجارة ، مضرة بالشعب مفسدة للجباية ، وذكر من أسباب ذلك أن " السلطان قد ينتزع الكثير بأيسر ثمن، ولا يجد من ينافسه في شرائه ، فيبخس ثمنه على بائعه ، فتكسد التجارة" ويزيد ثمنه على مشتريه أيضا؛ إذا كان مبيعاً لجهة حكومية.

ومنها أن السلطان يضايق بذلك الفلاحين والتجار، لأن الناس العاديين متكافئون وفي اليسار متقاربون ، فإذا شاركهم السلطان وما له أكثر من مالهم؛ فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته ، ويدخل على نفوس الناس غم ونكد، كما ذكر ابن خلدون .
ومنها أن اشتغاله بالتجارة يشغله عن مهام وظيفته، فيصبح همه البحث عن إدرار الأموال بكافة الطرق، وينصرف عن شئون الإدارة.

ومن أجل ذلك كان الفرس في الزمن القديم؛ كما ذكر ابن خلدون يشترطون على الحاكم، أن لا يتخذ صنعة فيضر جيرانه، وأن لا يتاجر فيجلب غلاء الأسعار، وأن لا يستشير العبيد لأنهم لا يشيرون بخير ولا مصلحة .
لقد وصل الأمر في دول إسلامية تعلن شعار الإسلام إلى أن بعض النهابين الصغار إذا أرادوا انتهاب شيء من أموال الناس وأراضيهم أو مال الأمة العام ، ادخلوا أميراً أو كبيرا في شركتهم ليأكلوا باسمه، ويقاسموه المال، بل وأسوأ من ذلك أن بعض من تنتهب أموالهم وأراضيهم من عامة الناس، لا يستطيعون استردادها إلا إذا أدخلوا أميرا شريكا فيها ، يأخذ شطرها، وهكذا عادت دولة البدونة والفرعنة، في عصر عيمنة الصهينة والفرنجة، إلى ميراثها الجاهلي القديم، الذي يمنح السراة ثروات المستضعفين:
لك المرباع منها والصفايا***وحكمك والنشيطة والفضول

الاثنين، 14 مارس 2011

هل الإسلام: قلة تتحكم بالثروة والسلطة وكثرة مهمشة مدقعة : أم تلك بداية الخروج من الإسلام؟


هل الإسلام: قلة تتحكم بالثروة والسلطة وكثرة مهمشة مدقعة : أم تلك بداية الخروج من الإسلام؟

 
 
 بقلم د . عبدالله الحامد
هاهم ولاة العرب والمسلمين في عهد هيمنة الصهيونية والأمريكية والإفرنجية الإمبريالية يسرفون في صرف الأموال،ويهتمون بالترف والملذات، ويشغلون شعوبهم بما يضعف الإرادة والعزيمة، من أجل ذلك تدرجوا بالأمة إلى الهزيمة, عن ولو كانوا ولاة أيتام عند قاض عادل لعزلهم. وبسبب رين الطغيان، الذي أطاش الميزان، ازداد الطاغية هيبة كلما ازداد سرقة من أموال الأمة، واعتبر كريما رحيماً، كلما صرف من سرقاته على الضعاف دينارا.
أ=الترف من إفرازات الطغيان ومكوناته:

بين ابن خلدون رحمنا الله وإياه في نظرية أجيال الدولة الثلاثة،-وهي نظرية من مصدر روماني قديم- أن الدول تعيش في قوة ما دامت بعيدة عن الترف، الداعي إلى الكسل ، لأنه يصرف الناس من عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فينسون الخشونة ، ويبلغ بهم الترف غايته ، فيصبح الرجال في ليونة النساء والولدان، ويحرصون على مظاهر المجد ، وهم أجبن الناس ، فإذا جاء عدو مهاجم لم يقاوموا ، ويتخلخل البناء الاجتماعي لبنة من بعد أخرى حتى يسوى بالتراب .

وذكر ابن خلدون أن من مظاهر ذلك ، أن يتجاوز الناس ضرورات العيش وخشونته، إلى نوافله ورقته وزينته، وينزعون إلى رقة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والآنية ، ويتفاخرون في ذلك ، ويكون همهم التنافس في الطيب، ولبس الأنيق ، وركوب الأليف وبناء القصور، وينشغلون بكل مظاهر الأبهة من آنية وفرش ، ويؤثرون الدعة والراحة والسكون ، على النصب والجد والاجتهاد ، فيبتعدون عن صفات الخشونة والبسالة ، وينسلخون عنها شيئا فشيئاً.

ولذلك قال رحمنا الله وإياه:إن الترف مفسد للخلق ، بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفه. وكلما تفنن الناس في النعيم نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من اعتدالهم ، وإنما الغلبة كما قال ابن خلدون للأمم ذات الإقدام والبسالة، ولذلك قال الرسول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: لما بعث معاذا إلى اليمن : " إياك والتنعم، فان عباد الله ليسوا المتنعمين " (رواه أحمد والبيهقي صححه الألباني)وقال : " شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم ، يأكلون ألوان الطعام ، ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام "(رواه الطبراني وصححه الألباني).
ولكن ما لم يقله ابن خلدون هو أن شيوع الترف في قوم، يعنى شيوع الفقر في قوم آخرين، ومقتضى ذلك غلبة القلة المثرية المترفة على الكثرة المدقعة

وإنما ذم الترف –أكثر من ذم الفقر- لخمسة أسباب:

الأول: أنهم أكثر الناس حفاظا على الواقع الفاسد، لأنهم تقليديون، يكرهون كل تغيير حتى لو كان إصلاحا، كما قال تعالى""كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ "(الزخرف:23).

الثاني: أنهم ميالون إلى الشهوات، والشهوات تستدعي الاستسلام للمغريات، لأن المبادئ تستلزم التضحية بكثير من رغبات الجسد وملذاته.

الثالث: أنهم يستعبدون الناس، فهم أكثر الناس فتكا بالمساواة، فالمترفون هم صناع الاستعباد، الذي يتحولون هم به إلى عبيد للرخاوة مستسلمين لجلادهم، لأنهم لا يطيقون التضحية، لأن الترف والاستسلام يضعفان الإرادة، ويجعلان الناس حريصين على استدرار ما هم عليه من أثداء الترف والنعومة والاستكانة.

والمترفون هم منتجو نظام الطبقات، من أجل ذلك لم يتحرر الهنود من استعمار الإنجليز، حتى تحرروا –نسبيا-من نظام الطبقات المقيت الذي قسمهم إلى براهمة وشودر.وهذا ما لاحظه غستاف لوبون أيضا عندما قارن بين الهنود والإنجليز(أصحاب شركة الهند الشرقية)، قبل استقلال الهند.

الرابع: أنهم من علامات الاستكبار في الأرض، ولذلك كان المترفون أول من يحارب الأنبياء ودعاة القسط، كبرياؤهم تصم آذانهم عن سماع الحق، كما قال تعالى"وما أرسلنا من قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون"(الإسراء:34). ولذلك وصف الله المترفين في القران الكريم؛ بأنهم أعداء كل إصلاح ، وخصوم كل حق .

والمترفون ينشئون تابعين مستكينين، والتابع المدقع والمتبوع المترف أكثر الناس انزلاقا في هاوية الفواحش ، لأن إشباع بطونهم وشهوات فروجهم وإرضاء ملذاتهم ، وملء جيوبهم هو الهدف الذي يحيون لأجله ، وبذلك تتنامى فيهم الرخاوة والأنانية والأثرة، وتضعف صفات الإيثار والصدق والشهامة والاستقامة.

الخامس:
 أن استشراءهم من علامات دمار الأمة والدولة، كما في قال تعالى:"حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب؛ إذاهم يجأرون"(المؤمنون:64).

ولذلك رأى (منتسيكو) الفيلسوف الفرنسي أن الترف مجلبة لفساد الدولة لأنه يصرف الناس عن حب الوطن، ويجعل النبلاء (الاستقراطين ) يجرون وراء مصالحهم فيعم البلاء.

ولأن المترفين ينتجون المستعبدين،قرر القران أن الترف كالاستكانة كلاهما يهلك الأمة، قال تعالى"إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين".

وأوجب الإسلام محاربة طبقة المترفين الفاسدين، وإلزامهم بالوقوف على حدود الاعتدال ، وتوعية طبقات المستسلمين لأن الهلاك لا يصيب المترف وحده ، بل ولا الجماعة التي هو فيها "وإذا أردنا إن نهلك قرية ، أمرنا مترفيها ففسقوا فيها".

ب=فرعون العربي استخف قومه فأطاعوه:

وهاهم ولاة العرب والمسلمين في عهد هيمنة الصهيونية والأمريكية والإفرنجية الإمبريالية يسرفون في صرف الأموال،ويهتمون بالترف والملذات، ويشغلون شعوبهم بما يضعف الإرادة والعزيمة، من أجل ذلك تدرجوا بالأمة إلى الهزيمة, عن ولو كانوا ولاة أيتام عند قاض عادل لعزلهم.

وبسبب رين الطغيان، الذي أطاش الميزان، ازداد الطاغية هيبة كلما ازداد سرقة من أموال الأمة، واعتبر كريما رحيماً، كلما صرف من سرقاته على الضعاف دينارا.

ولو سرق وصي مال سفهاء أو قصر أو أيتام، وقالوا: لحجروا عليه وقالوا:وصي سارق، أو أسرف امرؤ في تدبير ماله، لحجروا عليه وقالوا: مسرف طائش.

فكيف سكتوا أمام سلطان الطغيان، وسرقته وإسرافه أكبر وأظهر؟.

أليس هذا يخالف منهج السلف الصالح المصلح من المجاهدين بكلمة الحق أمام السلطان الصحراوي المستبد، وكم كلمة لشيخ حكيم أمام حاكم قديم تدوى على مر الزمن، نجدها من خلال الحوار بين الفقيه عبدالله بن عبدالعزيز العمري وهارون الرشيد وهما يطوفان بين الصفا والمروة :
العمري : يا هارون
هارون :نعم
العمري :ارق الصفا ( فرقاها)، فأردف العمري =ارم بطرفك
هارون:لقد فعلت
العمري:كم هم ؟
هارون:خلق لا يحصيهم إلا الله
العمري: اعلم أيها الرجل إن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم، فانظر كيف تكون
( فبكى هارون الرشيد )
العمري: وأخرى أقولها لك
هارون: قل يا عم
العمري: إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن أسرف في مال المسلمين؟.

ج=من يحجر على الخليفة؟:

كلام العمري كلام (مبدئي)صحيح، ولكن من يحجر على الخليفة؟ كيف وما (الوسيلة) لماذا نردد حكمة الفئران والقط، التي نسجتها المسكنة في كهوف الفرعنة؟: من يعلق الجرس؟، هل نردده أم ندرك أن الأمر ليس مستحيلا؟، أجل إنه أمر صعيب ولكنه ليس مستحيلا.

وهاهم الأمريكان والأوربيون؛ أطرو (الحكام )أطرا، فكيف نصل إلى ذلك؟.

الشعب يحتاج إلى قيادات من العرفاء ولا سيما من الفقهاء تتقدم موكب مسيرة الخلاص والتضحية المبصرة.

بحاجة إلى تحديد (الهدف): قوامة الأمة-ممثلة بنوابها وقضاتها وجمعياتها المدنية الأهلية-على ولاتها.

و بحاجة إلى تحديد (الوسيلة): رفع علم الجهاد السلمي.

بذلك ينشق النهر جماهير حتى يحجر المسلمون ولا سيما العرب على الحكام السفهاء، كما فعل الأوربيون والآسيويون والأفارقة الأحرار.

لقد بكى هارون دقائق، ثم مسح دموعه، وعاد إلى سيرة السفاح والمنصور، لأنه ليس ثمة تكتل مدني أهلي يقف في عرفات أو في موسم الحج: ويقول ياهارون اعتدل أو اعتزل، وإن لا فجهادك السلمي أولي من جهاد عدوان الروم.
د-سر انفجار سد مأرب:

هذا وقد ارتبط في تاريخ الأمم الرخاء بالسرف و الترف ، وارتبط السرف في جانب ، بالتقصير في جانب آخر ، وارتبط الترف بفساد الأخلاق ، وانحلال الأسر والجماعات والدول ، وارتبطت هذه الأمور بالظلم ، قال تعالى " كلا ان الإنسان ليطغى ان رآه استغنى "

من أجل ذلك فإن الأمة إذا تمادت في ترفها، تمادت في تظالمها، فتدحرجت في مهاوي السقوط، وصارت كالعربة في المنحدرة في المنحدر ، كما قال الشاعر:

إذا تم شيء بدا نقصه ترقب زوالا إذا قيل : تم

وقد تكون الأمة متهاوية من الداخل، جاهزة للسقوط، بترفها وضعفها، فإذا غزاها عدو عجل بنهايتها، وإلا تحللت بنفسها وتآكلت.

وهذا الزوال طبيعي معلوم الاسباب والنتائج،(حتم) أو(احتمال) في سنن الله الاجتماعية والسياسية المطردة، التي تدل على أن وقوع العقوبة الإلهية طبيعي تلقائي، على كل مجتمع تظالم وفجر ومارس الفواحش، لا بأسلوب العقوبات الماحقة الخارقة،التي حاقت ببعض الأمم التي قص القران أخبارها، كقوم نوح وعاد وثمود وفرعون، بل كما جرت سننه الله المطردة، في كل زمان ومكان، في الأمم والدول والحضارات، كما حدث وما هو متناقل في الأمثال والحكايات والوقائع الثابتة بين الشعوب، لأن شيوع الفجور والفواحش، يخرب البناء الاجتماعي ، ويشيع الآفات النفسية والجسدية.

ولأن أهل التظالم ، سواء أكانوا ظالمين أم ساكتين ،يشربون كأس الهوان والانحدار، ولأن أهل الطغيان يسقطون سريعاً، ولو كانت لهم قوة ومنعة وسلطان ، لأن الاستبداد جوهر كل خراب وفساد، لأن الله يسلط عليهم بمقتضى سننه الاجتماعية السياسية المطردة عدوا يغزوهم، كما عاقب بني إسرائيل لما فسدوا، فبعث عليهم ( بختنصر) فقتلهم وخرب ديارهم ، وأذلهم وسبأ ذراريهم ، قال تعالى " فبعثنا عليهم عبادا لنا ، أولي بأس شديد ، فجاسوا خلال الديار ".

وهذا ما أكده في " قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا ظهرت المعاصي في أمتي ، عمهم الله بعذاب من عنده ، فقالت أم سلمة : يا رسول أما فيهم يومئذ أناس صالحون ؟
قال : بلى ، قلت : فكيف يصنع بأولئك ؟ قال : يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان" 
(رواه أحمد وصححه الألباني ).

وعن عمر بن الخطاب قال : كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فأقبل علينا بوجهه فقال:" يا معشر المهاجرين خمس خصال أعوذ بالله ان تدركوهن : ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى اعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في اسلافهم الذين مضوا ولا نقص قوم المكيال والميزان الا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان ، وما منع قوم زكاة اموالهم الا منعوا القطر من السماء ،فلولا البهائم لم يمطروا ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم "(رواه ابن ماجه وصححه الألباني ).

قال صلى الله عليه وسلم:"اذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم اذناب البقر ، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا الى دينكم "
(رواه ابوداود وصححه الألباني).وفي هذا الحديث دليل جلي على أن الجهاد دفع عدوان أوطغيان.

وقال صلى الله عليه وسلم:" يا أيها الناس ان الله عز وجل يقول لكم : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم ، وتستنصروني فلا أنصركم ، وتسألوني فلا أعطيكم"
(حسنه الألباني)، فالأمر بالمعروفات ولا سيما المعروفات المدنية، هو صمام أمان المجتمعات كما وقع للمسلمين لما بعث الله لهم التتار، ولذلك قال الشاعر:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم

هذه العقوبات من سنن الله المطردة ، وهي آلية حتمية ، فضلا عن ما يمكن أن يصيب الناس من عقوبات حسب سنن الله الخارقة ،(للمزيد انظر للكاتب/ العدل والحرية جناحان حلق بهما الإسلام/ مركز الناقد الثقافي/ دمشق/ 1311هـ-2009م).

فكيف تتجنب الأمة الهلاك؟، أليس بتكاثر المصلحين، لا بمجرد وعاظ صالحين يبكون السلاطين؟
أليس بالبيعة الشرعية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، التي مقتضاها قوامة الأمة على ولاتها مطلبا، وبالجهاد السلمي مركبا؟. 

الجمعة، 11 مارس 2011

للسلطان الجائر وجوه شتى : سياسي واجتماعي وثقافي وقضائي

للسلطان الجائر وجوه شتى : سياسي واجتماعي وثقافي وقضائي
بقلم د . عبدالله الحامد
فلنتأمل مفهوم السلطان الجائر، وسنجد أنه ليس محصورا في النموذج السياسي الذي هو في الغالب كل مستول على السلطة عن طريق القهر والغلبة، دون شورى من المسلمين، ولا انتخاب، دون أن تتوافر فيه صفات الإمام الشرعي، كالعدالة والكفاية والمشاورة، وكل حاكم مستبد فهو جائر لأن رذيلة الاستبداد هي جرثومة كل فساد.
أ- الفحوى تشمل كل سلطان ولا تنحصر بالسلطان السياسي:

من هو السلطان الجائر المقصود بالحديث؟ أوتي الرسول صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وجوامع الكلم هي العبارات المركزة الموجزة الموحية ،التي تحتوى على معان أخرى إضافية،فوق دلالاتها الأساسية.

وقد أشار إلى ضرورة الانتباه الى المعاني الاضافية والثانوية غير المباشرة ابن دقيق العيد، ومن بعده كما أشار ابن القيم ، ومثل لها بأنواع منها الفحوى وقياس المخالفة، كما ذكر الشوكاني في ارشاد الفحول مثال ذلك قوله تعالى " وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا، فقياس المخالفة يقتضي قاعدة مقابلة: هى نولي بعض الصالحين بعضا، وهذا وذاك قانون من سنن الله الاجتماعية والسياسية.
فعبارة السلطان الجائر تتضمن أمرين:

الأول: السلطة التي تخضع الناس رغباً ورهباً، وكل من خافه الناس ورجوه فهو سلطان، سواء أكان سياسياً أم قضائيا أم ثقافياً أم اجتماعياً.

الثاني: الجور، وكل من حاد عن الطريق المستقيم فهو جائر، وكل جائر لا يتوقع أن يعامل الآخرين والناصحين بالعدل والإنصاف.

فلنتأمل مفهوم السلطان الجائر، وسنجد أنه ليس محصورا في النموذج السياسي الذي هو في الغالب كل مستول على السلطة عن طريق القهر والغلبة، دون شورى من المسلمين، ولا انتخاب، دون أن تتوافر فيه صفات الإمام الشرعي، كالعدالة والكفاية والمشاورة، وكل حاكم مستبد فهو جائر لأن رذيلة الاستبداد هي جرثومة كل فساد.
الحاكم الجائر كل حاكم يحكم حكماً مطلقاً، من دون صدوره عن قرارات نواب الأمة المنتخبين الذين يجسدون إرادتها، ولهم حق مراقبة الحاكم، ومحاسبته ورسم خطوط السياسة الخارجية والداخلية، وذلك هو ضمان السلطة القضائية المستقلة والمجسدة ايضا وحصر عمل الحاكم فى مجال السلطة التنفيذية.

وكل سلطان غير منتخب، ولا يخضع لشروط المنتخب فإنما هو سلطان مغتصب، وقد يتحول-تلقائيا- إلى طاغوت يلبس برقع الإسلام، تسكره السلطة فيطغى ويغتصب إرادة الأمة، ويسرق أموالها وأراضيها، ويستأثر بالإدارة، ويقتل روح الكرامة والشهامة فيها، وإن قطع عاقب سارق الشاة، ومغتصب الفتاة، وشارب الخمرة.

ب – السلطان الثقافي الجائر:

فحوى الحديث تشمل كل ذي سطوة وبأس، فقد يكون السلطان الجائر ثقافياً، كأن يكون السلطان هيئة ثقافية، تستعين بسيف السلطان وذهبه، ذات نفوذ لا يستطيع أحد معارضتها، وأن لا تعرِّض للأذى والمطاردة، تحتكر مراكز الإعلام والثقافة. وقد يكون هيئة فقهية تحتكر تفسير الدين وصياغة العقيدة، وتبتدع في أصوله وفروعه، وتلزم الآخرين برأيها، وتخالف السلطان لمآربها، كما يستغلها السلطان أيضاً لأغراضه.
وكم من النماذج عبر العصور التي نجد فيها تحالف ثنائية ( الفقهاء والأمراء ) على الاستبداد بشئون الناس. كما فى تحالف فقهاء المعتزلة مع السلطان المأمون العباسي. والتي تجلت فيها حرية الراي والتعبير والإجتهاد من خلال كلمات الحق التي قالها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ورفض من خلالها جبر السلطان الثقافي الديني، فكان جزاؤه الضرب والسجن والأذى.وكما في تحالف المتوكل مع الحنابلة، الذي نكل بالمعتزلة.

وقد تكون سلطة طائفة إسلامية تقمع المذاهب والطوائف الإسلامية ولا تسمح بغير مذهبها. وقمع الحرية السامية بدعة قديمة منذ العصر العباسي، وهي التي مهدت للدويلات الطائفية التي ظهرت بعيد العصر العباسي واستمرت حتى اليوم، قبل ظهور مفهوم (المواطنة) في الدول العربية والإسلامية.

من أجل ذلك فإن السلطان الجائر، يدخل فى مفهومه سلطة الطائفة الإسلامية القامعة،المستعينة بسيف السلطان وذهبه، التي تحتكر تفسير الدين، وتقمع المجتهدين والمخالفين، ولا تجيز لأحد أن يفتي بخلاف ما ترى. وهي بذلك تخل بأصل من أصول العقيدة هو حرية الرأي والتعبير السامية، التي جسدها الإمام أحمد بن حنبل بحقه فى الاجتهاد.

وكل مفكر أو مثقف أو طالب علم أو عامي يجهر برأي لا يخالف قطعيات الكتاب والسنة، فقد قال كلمة حق، وهو مجاهد مدني، حتى لو كانت كلمته في رأينا خطأً.

لإن قمع الحرية السامية من الباطل، وفتح النوافذ للشمس والهواء من الحق. كما في كلمات الحق التي قالها الإمام أحمد بن تيمية رحمه الله وكان جزاؤه السجن الذي طال وتكرر حتى توفاه الله فيه. عندما هاجم الجمود والركود، والوقوف على مظاهر الدين والعزوف عن مقاصده العظمى، التي ينبغي اعتمادها عند الوقائع والنوازل، كما في مسائل الطلاق. والسلطة السياسية الجائرة، تحرم حرية الرأي والتعبير والاجتماع والتجمع السامية.

من أجل ذلك فإن دعاة العدل والشورى وحقوق الإنسان؛ في العصر الإمبريالي سيجدون أن أكثر من يحامي عن الاستبداد، هم فقهاء الظلام، ومن أجل ذلك فإن الجهاد الثقافي في سبيل جلاء العقيدة السياسية في الإسلام، له أولوية مطلقة.

ج ـ سلطان القضاء الجائر :

والسلطة القضائية –غير المستقلة-إنما هي إدارة تابعة السلطة السياسية، و هي تابع مستكين أقسى وأمر على المجددين المصلحين المجاهدين من غيرها، ومن أجل ذلك فإن كشف حشرات الفساد فيها؛ إنماهو جهاد مدني أكبر، ولا سيما السلطة القضائية، التي تقمع حرية الرأي والتعبير باسم الدين، لأنها تضرب بسيفين معاً: سيف الدين، وما فيه من فتاوى بالكفر والانحراف والزندقة، والفتنة والبدعة، وسيف السلطان وما فيه من أحكام بالقتل على الردة والبغي والحرابة والفتنة، وقد عانى من هذه السلطة كثير من النوابغ والمفكرين الإسلاميين، كأحمد بن حنبل وابن تيمية وابن القيِّم، وابن رشد الحفيد وابن حزم، ومحمد عبده والأفغاني.

إن السلطان السياسي الجائر، سواء أكان فى القديم أو الحديث له ثلاثة أسلحة :
الأول السلاح الإعلامي ، من خلال تزييف الثقافة ، وقمع الوعي عبر الصحف والمساجد والكتب ، وسائر وسائل الإعلام
الثاني : القمع البوليسي عبر الهراوة واليد الفولاذية.
الثالث: القمع القضائي، الذي يضع على اليد الفولاذية ، قفازا من حرير ، مكتوب عليه كلمات العدالة والشريعة والحق.

د – عن السلطان الاجتماعي الجائر:

وهناك ما هو أخف قسوة من السلطة السياسية والثقافية والقضائية وهو السلطة الجائرة الاجتماعية، فالعادات الاجتماعية المتخلفة، أطغى وأقوى من السلطة السياسية، وخرافات وترهات العوام، أخطر على المجددين والمصلحين من ظلم الحكام، لأنها عوائد اجتماعية، رانت واستقرت في العقول، فأصبح إنكارها مغامرة تقود إلى المجهول.

إن المجدد والمصلح والداعية ، يخالف الحكام ، فيكتسب تأييدا شعبيا ، ولكنه عندما يحارب التخلف الاجتماعي؛ قد تجتمع عليه أنواع المؤذيات من كل جانب، عبر العزل الاجتماعي ، والعزل السياسي معا ،
إن كل جور أو خلل سياسي، إنما هو ناتج عن خلل اجتماعي، وأن كل خلل اجتماعي، يحتمي بخطاب ثقافي، يؤطر التخلف ويرسخ الاختلال، وأن كل خلل سياسي، إنما هو حاصل تراكم الخلل الثقافي والاجتماعي معاً.
إن التخلف كالتقدم، مثلث ذو ثلاثة أضلاع: ضلع سياسي وآخر ثقافي وثالث اجتماعي، فالسطان الجائر، هو سلطان قامع، سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً.


الخميس، 10 مارس 2011

لماذا اعتبر الإسلام الإصلاح السياسي السلمي جهادا ؟


لماذا اعتبر الإسلام الإصلاح السياسي السلمي جهادا ؟

بقلم د . عبدالله الحامد
إن من ضعف الفقه في الدين أن تجد عامة المتدينين والمتخصصين بعلوم الشريعة، يقومون بفصل فظيع بين ركني الشريعة الروحي الخاص والمدني العام، فقد يقيمون الدنيا ويقعدونها، من أجل موضوع غيبي اجتهادي، ليست المعركة فيه بين حق وباطل، إنما هي بين راجح ومرجوح، كصراعهم في مسألة القرآن مخلوق أم غير مخلوق، ويتركون شطر الشريعة المدني، وكأنه خارج إطار الشريعة، وهم بذلك يمارسون رهبانية صريحة، وهم علمانيون أكثر من العلمانيين أنفسهم.

أ – غفلة المنتسبين للشريعة عن جانبها المدني:

من يتأمل النصوص الشرعية، في (زجاجة) التطبيق النبوي والراشدي، و(مشكاة) سنن الله السياسية والحضارية،يدرك أن الشريعة الإسلامية، لا يمكن أن توصل الناس إلى سعادة الدنيا والآخرة معاً، آفراداً وجماعات ومجتمعاتها إلا إذا قامت على محورين متوازنين:
المحور الروحي: شعائر المناسك كإقامة الصلاة والصوم والحج، وجوهره الصلاة.
والمحور المدني: إقامة الدولة الشورية العادلة، وما فيها من معائش ومساكن ومراكب، ونحوها من ما يحقق (الرقي المدني)، وجوهره العدالة.
وكثير من المتدينين لا يلاحظون إن فريضة الأمر بالمعروف ليس مقصورة على شعائر المناسك، كإشادة القباب على القبور، وترك الصلاة والصوم. فليس من السنة أن يحصر المحتسب جهده في إنكار المنكرات على شق التوحيد الروحي: المناسك، ويتشدد في ذلك حتى يغلو ويتنطع ـ لا سيما ـ وهي حقوق لله مبناها على الظاهر، وعلى الستر ودرء العقوبة بالشبهة، وعلى العفو من الله والمغفرة، والله لا يعاقب عليها إلا بعد إقامة الحجة، كما صرح القرآن فى قوله تعالى:{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}، وهي من ما لا تترتب عليه عقوبة دنيوية، وهي من ما لا تختل به حياة الأمة والدولة.
وفي مقابل هذا التشدد تساهل شنيع فظيع، في إقامة شطر الشريعة الدين المدني، الذي به تحرس العدالة الاجتماعية، ولا قوام للأمة دون عدل ومساواة وحرية سامية وكرامة، وأخلاق قوة اجتماعية ومعرفية وعملية. ولا عدالة من دون شورى، ولا شورى من دون تجمعات أهلية، ولا تجمعات من دون حريات مدنية.
إن من ضعف الفقه في الدين أن تجد عامة المتدينين والمتخصصين بعلوم الشريعة، يقومون بفصل فظيع بين ركني الشريعة الروحي الخاص والمدني العام، فقد يقيمون الدنيا ويقعدونها، من أجل موضوع غيبي اجتهادي، ليست المعركة فيه بين حق وباطل، إنما هي بين راجح ومرجوح، كصراعهم في مسألة القرآن مخلوق أم غير مخلوق، ويتركون شطر الشريعة المدني، وكأنه خارج إطار الشريعة، وهم بذلك يمارسون رهبانية صريحة، وهم علمانيون أكثر من العلمانيين أنفسهم.
فتلاعب السلطان بأموال الأمة، وإنفاقها على الشهوات والمحاسيب، أمر يؤدي إلى انهيار الاقتصاد، وتحول الأمة من أمة غنية، إلى فقيرة مستجدية، تفرض عليها الدول ما تفرض، وذلك أمر يؤدي إلى الفقر، وكاد الفقر يكون كفراً، من أجل ذلك يتبين أن حفظ مال الأمة أحد فروض الدين العظام.
والاستبداد بالإدارة والقيادة، وما فيه من رشوة ومحسوبية، وتولية غير الأكفياء، أمر يؤدي إلى الفساد الإداري يؤدي إلى انهيار الدولة بالفوضى والشقاق، من أجل ذلك كان صلاح الإدارة أحد فروض الدين العظام، ولا صلاح للقضاء إلا باستقلاله التام عن السلطة التنفيذية، وبإعداد ثقافة قضائية، تمكن القضاة من حلول المشكلات. من أجل ذلك صار استقلال القضاء أحد فروض الدين العظام.
وشيوع منهاج التربية الرخوة ، في مجال التعليم والإعلام، ليس أقل ضرراً من ما قبله، وفيه ضياع العقول والأعراض، من أجل ذلك صار صلاح التربية والتعليم خاصة والتربية الإجتماعية عامة، أحد فروض الدين العظام.
ب – لماذا ركز الرسول الجهاد على الشق المدني السياسي؟

ومن أجل ذلك جاءت كلمة الجهاد مركزة على شطر الشريعة المدني. وواضح من الأحاديث الشريفة هذا التركيز، ومن الأدلة على ذلك:
أن النبي صلى الله عليه وسلم فى حديث الجهاد المدني " خير الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " ( رواه أبو داوود والترمذي وابن ماجة والنسائي وأحمد وصححه الألباني ) وصف النبي الإمام بالجور الذي يجب جهاده، والجائر يقابل العادل، وهما صفتان مدنيتان.
ولا جرم أن لكل عامل صفة بارزة، فالصفة البارزة في إمام المسجد هي فقه الصلاة والورع، والصفة البارزة في سائق السيارة، هي مهارة القيادة وحدة البصر.

والصفة البارزة في الحاكم هي العدالة أو الجور، فلم يصفه النبي بالفسق ولا بالفجور ولا بترك الصلاة أو الصيام ونحوها من شعائر الدين الروحية بل وصفه بالجور، وهذا يشير إلى أن الحاكم مهما صام وصلَّى، وبنى المساجد، وطبع المصاحف، لا تغفر هذه الأمور تهاونه في وظيفته الأساسية: وهي إقامة فريضتي العدالة .
ولذلك جاء وصف الكلمة في بعض الروايات (بالعدل)، والعدل في هذه الرواية، يخصص ما ورد في الروايات الأخرى (بكلمة حق) أو(كلمة خير)، لأن الحاكم في غالب الأمور لن يقتل من أمره بالصلاة أو بالعفة ونحوها، لأن غالب الحكام يتظاهرون أمام الناس بكافة محاسن الأخلاق، ويستطيعون أن يخفوا كل الموبقات المدنية من زنا وشرب خمور والروحية من ترك صيام وترك صيام، إلا مسألتي العدالة، ولأنهما ليست مسألة شخصية، يغلق عليها الإنسان داره، بل هي في كل شارع وحي ومدينة.

ج – الغفلة عن مقاصد الشريعة أفظع البدع:

وما أصيبت الأمة في كيانها، إلا غفلت عن منهج فقه الكتاب والسنة، فلم تضع (مصباح) الكتاب والسنة في (زجاجة) التطبيق النبوي والراشدي، و(مشكاة) سنن الله السياسية والحضارية،فضربت الرياح المصباح فانطفأ تارة وتذبذب تارة، وأصابه الغبش تارة أخرى، عندها أوّلت النصوص الدينية الصريحة، واعتمدت على غير الصريحة، ونشرت الأحاديث الموضوعة والضعيفة التي تنامى نباتها فى ظلال كهوف الحكم الصحراوي الكسروي وتركت النصوص القطعية، فعم الجهل بشطر العقيدة المدني: الذي محوره إقامة الدولة العادلة.
فسكت الناس عن أمر الحكام بالعدالة ونهيهم عن الظلم والاستبداد، وأخذوا من الدين ما يوافق أهواءهم ويجنبهم مشقة الصبر، وظنوا أن الأمر بالعدالة والشورى من فروع الملة، بل أسقطوا مسألة الإمامة كلها من العقيدة واعتبروها من فروع الدين، ونسوا شروط إقامة الدولة العادلة، من معالم العقيدة السياسية الإسلامية المعتبرة، وأن العدالة عمود شق الشريعة المدني، كما أن الصلاة عمود شق العقيدة الروحي، وأن خيمة الإسلام لا تقوم دون توازن العمودين، فمن أخل بعمود فقد أخلَّ بالآخر، وقد أخل بمفهوم تحقيق التوحيد.
والإسلام عقد منظوم، لا يؤخذ منه جانب دون جانب، إلا في حالة الدعوة المتدرجة إليه، أما الاستمرار على ذلك فهو جهل بالشريعة، يؤدي إلى شيوع الفساد وخراب البلاد، كما قال الإمام الشاطبي، مؤكداً على أن ترك ضم أطراف الشريعة إلى بعض، هو أسباب الوقوع في الزيغ والغلط 
  • "ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها ببعض".
  • "فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة، بحسب ما تثبت به كلياتها وأجزاؤها المترتبة عليها، وعامها المترتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر بمبينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها".
  • "وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوي، فكما أن الإنسان لا يكون إنساناً؛ باليد وحدها، ولا بالرجل وحدها، ولا بالرأس وحده، ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمي بها إنساناً، وكذلك الشريعة لا يطلب منها الحاكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها، من أي دليل كان، وإن ظهر لبادئ الرأي نطق ذلك الدليل، فإنما هو توهمي لا حقيقي".
فشأن الراسخين في العلم، تصور الشريعة صورة واحدة، يخدم بعضها بعضاً، كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة متحدة. وشأن متتبعي المتشابهات أخذ دليل ما، أي دليل كان عفواً أو أخذا أوليا، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي فكان العضو الواحد لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكماً قطعياً، فمتتبعه متبعُ متشابه، ولا يتبعه إلا من قلبه زيغ، كما شهد به الله، {ومن أصدق من الله حديثاً} (النساء: 87) (الاعتصام: 312/1).
جاهل بالدين بل مبتدع بدعة كبرى؛ من قصر جهده وجهاده على العناية بقيم الإسلام الروحية الخاصة: المناسك، وترك قيم الإسلام العامة المدنية: شرائط المعاش الإدارة التي أساسها أمران: العدالة والشورى فى البيت والمدرسة والديوان.
لقد أخذ بجانب من الدين وترك الآخر. فليحذر المؤمن من أن يقع في الضلال وهو لا يدري، فيكون من الذين يضلون الناس بغير علم، وإن كانوا من الزهد والإخلاص بمكان مكين، وإن كانوا من العلم والحفظ من المكثرين، فالله قد حذرنا بأن الأمم السابقة، لم تهلك بسبب الجهل فحسب، بل إن علم الشقشقة والثرثرة والرهبنة، من أسباب الضلال  {فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم }. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الضلال نوعين وحذر منهما معا: ضلال روحي وضلال مدني.
وحذر من الضلال الروحي الأول: في ما رواه أبو هريرة 
" لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعأ بذراع " فساله الصحابة : يا رسول الله اليهود والنصارى ، قال : فمن " (رواه مسلم ) .
وحذر من الضلال المدني : فى ما رواه أبو سعيد الخدري " لتتبعن سنن من كان قبلكم ، شبرا بشبر وذراعا بذراع " فساله الصحابة : فارس والروم ؟ قال : فمن ؟ " ( رواه البخاري ) ، قال ابن حجر " حيث قال " فارس والروم " كان هناك قرينة تتعلق بالحكم بين الناس وسياسة الرعية ، وحيث قال اليهود والنصارى كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات؛ أصولها وفروعها "
وهذا الحديث من الأسس التي بنيت عليها ثنائية الروحي والمدني
(فى كتاب عمودان لفسطاط الإسلام: روحي ومدني/ دار الناقد الثقافي/ دمشق).

لأن للإسلام قدمين لن يمشي على الأرض فضلاً عن أن يسعى أو يحلق في الآفاق إذا شل أحدهما، ويعرج إذا مرض أحدهما، فلنتذكّر وعيد الله الذين حصروا الدين في جانب، وتركوا ما عداه {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة: 85].
أجل إنه خزي في الحياة الدنيا قبل الآخرة، أصاب أمتنا الإسلامية عامة والعربية خاصة: جبر وخوف جور ومرض وجهل وفقر وتفرق وذل. وذلك جزاء من أخلَّ بشطر الشريعة المدني جانب العدالة والشورى، فمن همشه في فتاواه ومؤلفاته فقد أخلَّ بثاني اثنين من أصول الدين، إنه الخزي الفظيع.