الأربعاء، 31 أغسطس 2016

عندما يقف الجنرال في تيهه السحيق.. عاريا.. مرتجفا

عندما يقف الجنرال في تيهه السحيق.. عاريا.. مرتجفا

د.بشيرموسي نافع

في لحظة حقيقة نادرة، نطق الجنرال، مستدعيا حكمة أجيال من الجنرالات الانقلابيين الذين مضوا من قبله، قائلا: «شرف المقاتل أنه لا يتآمر ضد الرئيس ولا يرتب لعزله». 

نعم، شرف المقاتل ليس أن يدافع عن تراب وطنه، مهما كان حجم التضحيات، لا أن يحرس سيادة دولته وسلامة شعبه، ولا أن يحترم الدستور والقوانين، شرف المقاتل هو شيء غير ذلك تماما، شرفه ألّا يتآمر على رئيسه ولا يعمل من أجل الانقلاب عليه. 
فأي تيه هذا الذي يخوض غماره الجنرال، أي تيه أنزل عليه هذه الحكمة الفريدة، أي تيه دفعه إلى الوقوف عاريا أمام شعبه والعالم، ليس ثمة ما يستر عوراته؟

لم يعرف الجنرال بامتياز علمي، ولا بالذكاء أو الحنكة والشجاعة، وليس ثمة ما يشير إلى أنه استوعب تاريخ بلاده كما ينبغي، ولا أهميتها ودورها وموقعها. 
التحق الجنرال بجيش بلاده في وقت لم يعد للجيش من مهمة وطنية كبرى، بعد أن انتهى زمن الحروب، وعانقت الدولة أعداءها. 
لم يخض الجنرال حربا، ولا قاد جنوده في معركة، ولم يسجل له من إنجاز عسكري مميز واحد، يرفع من قامته الصغيرة في صفوف الجنرالات من أمثاله. 
ولأن زمنه كان زمن انحدار العقل والفكر واللغة، لم يتعلم الجنرال حرفة التأمل، ولا حرفة التفكير، ولا حتى قيمة الحديث بما يليق بجنرال. 

كان جيش بلاده قد أصبح مؤسسة تجارية شبه صناعية، يخوض غمار السوق، منافسا في صناعة المواد الغذائية وأجهزة التبريد، كما في احتكار وكالات الصناعات الأجنبية.
تعلم الجنرال كيف يساوم، كيف يسمسر، كيف يعقد الصفقات، ويأخذ نصيبه من الكعكة، وما هو أكبر من نصيبه، بالحق، إن استطاع، وبالباطل، إن لم يستطع. 
وكان جيش بلاده قد أصبح مؤسسة أمنية، تنافس ما تعارفت عليه الدول كمؤسسات أمنية متخصصة، يعمل على حفظ أمن الحاكم وسلامة أسرته واستمرار سيطرته، حتى إن تطلب الأمر قمع الشعب وإهانة كرامته، ويبذل كل الجهد للتعاون مع أعداء بلاده السابقين، لحفظ السلم على الحدود وتأمين استمرار المساعدات الأجنبية وازدهار العلاقات مع قوى العالم الكبرى. 
فتعلم الجنرال كيف يصبح رجل أمن جيشه الأول، كيف يجعل نفسه ضرورة لشركاء السلام في الجوار، وشركاء أمن الإقليم في العالم. 
وعندما خرج الشعب، في مناسبة نادرة وغير مسبوقة ليقول كلمته، لم يتردد الجنرال في ارتكاب أعمال القتل والاغتيال والتعذيب.

بيد أن الحياة كانت رحيمة بالجنرال، رحيمة إلى الدرجة التي أوصلته إلى ما هو أعلى وأكبر مما حلم به في حياته كلها، لا في ساعات النوم ولا ساعات اليقظة. 
في لحظة حظ قدري، قلما أتيحت لجنرال مثله من قبل، غفل الكثيرون أو تغافلوا عن جهله وتواضع خلفيته العلمية، وعن فقدانه الإنجاز المهني العسكري، كما عن سطحية تفكيره وعقله المحدود ولغته السوقية. 
في لحظة الحظ القدري تلك، ما كان للجنرال إلا الثقة بمهارات وتقاليد السوق والتجارة والأمن والتآمر، التي أصبحت ثقافة الجيش الذي نشأ فيه وتدرج في مرتباته. 

ولأن البلاد كانت تعج بالاضطراب، وضياع البوصلة، وفقدان اليقين، لم تلبث الأقدار أن أتاحت للجنرال فرصته الثانية، فرصة أن يظهر للعالم قدراته في عقد الصفقات، في التآمر والخيانة والغدر، وفي القمع وسفك الدماء وإعادة الشعب إلى بيت الطاعة، الذي ظن أبناء الشعب أنهم غادروه بلا رجعة. 
لم ينقلب الجنرال على رئيسه وحسب، بل وقام بانقلابين في وقت واحد: انقلب على الرئيس وأطاح به، وانقلب على شركائه من علية القوم وسفلتهم.
الحقيقة، أن الجنرال لم يكن يحتاج كل خصائل الغدر والتآمر والسمسرة التي ولد بها، وهذبها ورفع من مستواها خلال مسيرته المهنية.
كان الرئيس حسن الظن، على أية حال، وبالرغم من أنه لاحظ سوء طوية الجنرال ونزعته التآمرية، فقد حسب أن الشعب، الذي كان أشعل واحدة من أكبر الثورات في تاريخه كله، من القوة بحيث لا يمكن أن يسمح لجنرال أن يقوده مرة أخرى إلى هاوية الاستبداد والتخلف. وقد وجد الجنرال في نخبة بلاده، السياسية والاقتصادية والإعلامية، خير عون وخير أداة. 

لم يكن الزمن قد انحط بالجيش وحسب، بل وانحط بكافة مقدرات البلاد ومؤسساتها، بحيث لم يعد من تعليم أو ثقافة أو فنون أو إعلام يعتد بها.
 في بلاد ورثت حضارة تعود إلى آلاف السنين، لم يكن هناك الكثير من السياسيين الذين يدركون قواعد العمل السياسي، أو المثقفين الذين يتمتعون بمستوى لائق من الثقافة، أو الإعلاميين الذين يفهمون مسؤولية الإعلام، أو رجال الأعمال الذين يحملون درجة كافية من الشعور بالواجب. وسرعان ما التف هؤلاء جميعا حول الجنرال، مهدوا له الطريق، أعلوا من شأنه، وقدموه للعامة من الشعب باعتباره المنقذ والحارس والهادي. ظن هؤلاء البؤساء، في لحظة فقدان الوعي تلك، أن الجنرال، وما أن يطيح خصومهم الإسلاميين، حتى يعيد لهم مقاليد الحكم والسلطة. ولكن الجنرال، بالطبع، كان له رأي آخر.

في انقلابه الثاني، استند الجنرال لذلك القطاع من الشعب، الذي اشترى خدعة الإنقاذ والحراسة والهداية، وإلى حلفائه في الإقليم، الذين أرادوا منه اقتلاع الإسلاميين الأشرار، الذين دعوا إلى حكم الشعب وحفظ الثروات واستقلال القرار، ومعاقبة الشعب المتمرد، في الوقت نفسه. في انقلابه الثاني، أطاح الجنرال شركاءه في الانقلاب الأول، كما يطيح المرء حذاءه المهترئ، واستولى على مقاليد الأمر وحده، بلا شريك. صعد الجنرال إلى أقصى ما يمكن أن يصعد إليه جنرال، واعدا الشعب بالرفاه والأمن والحرية والكرامة.

ولكن الأمور لم تسر كما يجب. خلال سنوات ثلاث فقط من السيطرة والحكم، أخذ فشل الجنرال يتكشف لشركائه في الوطن والإقليم، ولشعبه والعالم، على حقيقته. بالرغم من سلسلة، لا يبدو لها من نهاية، من المجازر وحملات القمع والاعتقال والتشريد، لم تستعد البلاد أمنها واستقرارها.
وبالرغم من عشرات المليارات من الدولارات، التي رفد بها الشركاء الإقليميون مالية الجنرال وآلة حكمه، تستمر أوضاع البلاد الاقتصادية والمالية في التدهور والانهيار. 

وبالرغم من أن الجنرال حرص من البداية على توريط مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والقضائية في الجرائم التي ارتكبها، ليطمئن إلى اصطفافها خلفه، تتقلص مساحة الحرية في البلاد كما لم تتقلص من قبل، وتهدد كرامة الناس كما لم تهدد من قبل. 
وحتى الوعود التي كان أطلقها لحلفائه في الإقليم، من أغدقوا عليه وفتحوا له أبواب أصدقائهم في أوروبا وأمريكا، بأن يكون لهم درع وسيف عند الحاجة، سرعان ما حنث بها. 

جهة واحدة، فقط، يمكنها أن تقول أن حكم الجنرال كان منحة كل الأزمنة لها: الدولة، العدو السابق، في الجوار. خلال سنوات ثلاث فقط من الحكم والسيطرة، وقف الجنرال عاريا، ليس ثمة ما يستر عوراته.

كانت بداية رد الفعل من مجلة "الإيكونوميست" البريطانية، التي حملت الجنرال مسؤولية الخراب الذي جرت إليه بلاده، ودعته إلى أن ينجو بجلده في نهاية فترة رئاسته الأولى وأن لا يحاول التجديد لفترة ثانية.
ثم انطلقت أبواق وثيقة الصلة بالحلفاء الإقليميين، تصف الجنرال بسوء الإدارة، وتبديد ثروات بلاده، وتنقل إليه رغبة الأمراء والشيوخ من أصدقائه بالمغادرة في أول فرصة ممكنة. 
وفي داخل البلاد نفسها، وبالرغم من أن من خانوا أشواق شعبهم باتوا يدركون حجم الكارثة التي يعيشونها، ولا يمنعهم من الحديث إلا الخوف، لحقت حفنة من المرتبطين بالأجهزة منهم وأعربت عن أملها في أن يمن الجنرال على البلاد بالتخلي عن الحكم. 

لا يحمل الجنرال عقلا ثاقبا، ولا يتمتع بالذكاء، صحيح. ولكنه ليس من الغباء بحيث لا يرى نذر الخطر وعمق التيه الذي لا يجد من وسيلة للنجاة منهما. وهكذا، وفي لحظة حقيقة نادرة، وجد الجنرال نفسه، وبلا إرادة منه، يستدعي حكمة الجنرالات الانقلابيين من قبله.

فإلى أين يأخذ هذا التيه السحيق الجنرال؟ أليس لهذا التيه من نهاية؟ أليس من أمل بتدخل ميتافيزيقي يجعل من خيانته آخر الخيانات؟

الثلاثاء، 30 أغسطس 2016

الهذيان: مصر لن تركع


الهذيان: مصر لن تركع

 وائل قنديل
وصلت حالة الهذيان القومي العام في مصر إلى مرحلةٍ شديدة الخطورة، تنذر بكوارث على الطريق، إذ كلما يغوص عبد الفتاح السيسي في فشله، يقفز منحنى الفاشية إلى أعلى مستوياته.

يمرّ النظام كله بحالةٍ من عدم الاتزان العقلي، ناهيك عن اضطرابه نفسيا، ومن ثم إقدامه على إجراءاتٍ بالغة العبثية والعشوائية، تشبه مستصغر الشرر المؤدّي إلى الحرائق الكبرى، ويتجلى فلتان أعصاب السلطة في مزيدٍ من السياسات التي تفتك بالسواد الأعظم من الشعب، من دون احتمالات اندلاع الغضب مجدّداً، وكأنهم على يقينٍ من أن الجماهير لن تقوم لها قائمة مرة أخرى، وأن النخب السياسية ارتضت المساحة الصغيرة التي تركتها لها السلطة، كي تلعب فيها، "تيران" و"صنافير" مثلا.

قبل عام مضى، كتبت إن "عبد الفتاح السيسي يشبه مطرباً بائساً يردّد أغنية وحيدة، بالإكراه، ومع سبق الإصرار والترصد، على جمهور أكثر بؤساً، لا يملك حق الاعتراض، أو المطالبة بالتجديد في الكلمات واللحن والأداء، فالمطرب الذي يعتمد على عضلاته أكثر مما يستخدم صوته يرى في نفسه فناناً، وفي الجمهور قطيعاً من الرعاع، ينبغي أن يصفقوا لكل هذا السخام المتدفق من حنجرة أتى عليها الصدأ".

الآن، تجاوزنا مرحلة احتقار الجمهور إلى الرغبة في استبدال الجمهور وإبادته، إذ مع اتساع مساحة الغضب والاحتجاج على السياسات الاقتصادية والاجتماعية، والخارجية بدرجة أقل، تتحول كتل من الجماهير، بنظر النظام، إلى مجموعةٍ من الأعداء والأوغاد والمتآمرين على موهبته العالية وقدراته الغنائية الرهيبة، في ظل ذلك الوهم المعشّش في رأسه، أنه ناجح، بل وعبقري، يحقق، في أيام، ما عجز عن تحقيقه السابقون في عقود، ولن ينجح فيه اللاحقون.

تنتقل حالة الهذيان من رأس السلطة إلى أطرافها، البرلمان مثلاً، وأذرعها، الإعلام نموذجاً، فتسمع هراءً لا يمكن أن يصدر إلا من داخل عنابر الحالات الخطرة في مستشفيات الأمراض العقلية، فتندلع حمى الاستطلاعات المزيفة، والهاشتاغات، بحثاً عن شعبية كاذبة، مع اقتراب نهاية فترة أولى لتسلط عسكري، فاقد الشرعية السياسية والأخلاقية.

انفجار لغم الاستطلاعات في الذين راحوا يزرعونه في حقول "السوشيال ميديا" أفقد الجميع صوابه، فاشتعلت الهستيريا في الشاشات وأوراق الصحف مجدّدا، لتبلغ حد الملهاة الباكية، على وطنٍ كان رائداً، فصار راقداً فوق بيض الخرافة والدجل، مفرّخاً كل يوم أسراباً من مروجي الكذب، المحرّضين على القتل.

تُستعاد مجدّداً دراما "مصر لن تركع"، وكأننا لم نبرح بدايات شتاء العام 2012 التي شهدت ذروة بطش السلطة العسكرية التي بدت، في ذلك الوقت، فاقدةً عقلها، فارتكبت عديد المجازر، تحت غطاء المؤامرة الكونية على مصر، لتركيعها وتقسيمها واحتلالها، إلى آخر هذه الخرافات التي تتجدّد بالعبارات ذاتها، على الألسنة ذاتها، هذه الأيام في "كونيشرتو" بقيادة مصطفى بكري.

من ألوان الهذيان، ما ردّده النائب مصطفى الجندي، أحد المشرفين على تمويل وتسليح بلطجية حرق الإخوان في يونيو/ حزيران 2013، في رده على ما كشفته صحيفة الغارديان البريطانية عن علاقته بحملة المرشح العنصري الأميركي، دونالد ترامب، بدلا من الرد على ما أثير عن تأجير شقته الوثيرة في الولايات المتحدة لحملة ترامب، يلهو بكلامٍ تافهٍ عن أن الصحيفة بريطانية، فكيف تتناول موضوعا أميركيا، فضلا عن أنها بريطانية مملوكة لقطر، وقطر عدو "30 يونيو"، كما ردد النائب في مداخلاته.

في هذيانه، يقول النائب إن موضوع شقته المؤجرة لحملة ترامب أثارته قطر للتشويش على نتائج زيارة الرجل الذي "يرأس 54 برلماناً أفريقياً، كما قال في مداخلةٍ مع إحدى القنوات، ويرتفع الرقم إلى 55 مع قناة أخرى.
يتحدّث النائب عن زيارة رئيس ما أسماه "برلمان عموم أفريقيا" التي لم يهتم بمتابعتها أحد، حتى صحافة السيسي، ليصل، في النهاية، إلى أن "الغارديان" تتآمر عليه، وعلى الجيش العظيم والسيسي الأعظم، لأنه سكرتيره في رئاسة البرلمان الأفريقي العمومي.

يبلغ الهذيان مراحل أخطر مع المذيع الذي أضحك العالم باستطلاع شعبية السيسي على "تويتر"، حين يواعد مشاهديه على أنه سيسجل هدفاً تاريخياً في مرمى قطر التي تتآمر عليه، فتشدّد مخابراتها على الفنادق بعدم بث برنامجه، رعباً من تأثيره الذري، وشعبيته الكاسحة.


في الإجمال، أنت أمام حالة خلل عقلي، تتبدّى في صورة هلاوس وضلالات وملامح هذيان مستمر، تنحدر من قمة السلطة إلى سفح عساكر دركها الإعلامي والدبلوماسي، الأمر الذي يثير مخاوف دوائر غربية من أن هذا التآكل في عقل النظام الحاكم في مصر، قد يندفع بها إلى مآلات أسوأ بكثير مما يتصورون.

قوة الشرعية

قوة الشرعية

محمد إلهامي
حين اجتاح إبراهيم باشا الشام وانتزعها من سلطان الخليفة العثماني وضمها لسلطان أبيه محمد علي باشا الكبير، جاءه شيخ الجامع الكبير في دمشق يسأله سؤالا بديهيا: لمن يدعو في الخطبة؟

كانت خطبة الجمعة طوال عهد الخلافة الإسلامية تشتمل على الدعاء للخليفة، وهذا الدعاء هو عنوان تبعية هذا البلد للسلطان أو الخليفة، وكان قطع الخطبة للخليفة أو السلطان يعني انتزاع البلد منه والتمرد عليه.

ماذا فعل إبراهيم باشا؟

وضع هذا الشيخ في الفلقة وضربه أمام الناس عقابا له. 
لأن مجرد طرحه هذا السؤال هو تشكيك في تبعية وإخلاص إبراهيم باشا للسلطان العثماني، وهي تهمة غير مقبولة ولا يُسمح لأحد أن يفكر فيها أصلا!

هذا وإبراهيم باشا هو الذي انتزع الشام فعليا من سلطان العثمانيين، وقاتل جيوشهم في معارك عديدة في الشام والأناضول حتى شارف على القسطنطينة لولا تدخل التحالف الأوروبي لمنعه حفاظا على توازن القوى في الشرق ولإبقاء السلطنة العثمانية في حال الرجل المريض.

وبرغم كل حروب محمد علي مع الجيوش العثمانية فإنه لم يسع أبدا إلى إعلان التمرد أو نزع الطاعة من السلطان العثماني، وإنما غاية ما أراد أن ينتزع منه الحق في أن تكون ولاية مصر له ولأولاده من بعده، أي أنه دفع الدماء والأموال ولم يجن عمليا إلا "شرعية" بقاء الحكم في أولاده من بعده، بأمر يصدر عن الخليفة "الشرعي".

وهنا يأتي السؤال الذي ما كان ينبغي أن يُطرح ولا أن يُجتهد في الإجابة عليه لولا ما نحن فيه من بيئة سياسية مريضة للأسف الشديد، السؤال: لماذا يحتاج الطغاة إلى "شرعية"؟!

لماذا يحتاج السيسي، برغم كل ما يتلقاه من دعم إقليمي ودولي ماديا وسياسيا، أن يؤكد ويكرر أنه "أنقذ مصر" ممن شعارهم "يا نحكمكم يا نقتلكم"؟ 
ولماذا لا يزال شبح كونه منقلبا يلوح في خطاباته وخطابات أبواقه الإعلامية؟
 لماذا يضطر السيسي –مثلا- أن يخلع زيه العسكري ويدبر انتخابات ساخرة لكي يصير رئيسا؟! 
لماذا يضطر أن يصنع لجنة لكتابة الدستور ثم استفتاء عليه؟! لماذا يضطر أن يدبر انتخابات برلمانية هزلية؟!

لا يفعل الطغاة كل هذا إلا ليكتسبوا اسم "الشرعية"، ويغطون شهوتهم العارمة في الحكم بغطاء من "الشرعية".. وما ذلك إلا لأن الشرعية قوة.

الشرعية قوة، وهي دائما موضع نزاع، وعليها تدور معركة طاحنة.. ولذلك فدائما ما يبادر العدو إلى انتزاعها، فما إن تشتعل أزمة في أي من بلادنا ثم يميل الميزان لصالح الشعوب أو لصالح ممثلي الأمة، إلا وينزل إلينا كائن بغيض يسمى "مبعوث الأمم المتحدة".. 
هذا المبعوث سواء أكان اسمه الأخضر الإبراهيمي أو جمال بن عمر أو برناردينو ليون يبدأ مباحثاته بين الأطراف ببند يقول: "الحوار بلا أي شروط ودون أي أسس مسبقة"..، وتدور اقتراحاته حول: مجلس وطني موسع، حكومة تضم كل الأطراف، رئيس توافقي، حكومة وفاق وطني ... إلى آخر هذه الاقتراحات.

وهذه الاقتراحات التي تبدو ناعمة كالأفعى تحمل داخلها السمَّ الناقع، إذ هي تعني على الحقيقة ثلاثة أمور:

1.    رفع الصغير وتمثيله بذات قدر الكبير
2.    إدخال شروط العملاء والانفصاليين والمجرمين لتبحث باعتبارها "مطالب شركاء وطنيين"
3.     نسف وإهمال أي ثوابت قديمة أو شرعيات قائمة لتكون البداية من الصفر وبلا أي مرجعيات

مع كل ما ينبعث من هذه الثلاثة من نتائج كارثية على أي قضية، لأنها تتيح تفتيت ثوابت ووضع ثوابت جديدة، وهدم شرعيات قائمة وإقامة شرعيات جديدة. واستبعاد أو تهميش أطراف قائمة ورعاية أطراف جديدة!

من أجل هذا كانت العادة في الانقلابات العسكرية أن يُقتل الرئيس السابق لينتهي النزاع حول الشرعية، إلا أن الانقلاب في مصر كان من السهولة والبساطة بحيث يندرج في طائفة الانقلابات التي وضعت الرئيس السابق في السجن ومهدت لمحاكمته لأنه لا يُخشى من أنصاره شيئا، فيكون قتله بسكين القانون بعد محاكمة مزخرفة ألطف منظرا من قتله بسكين العسكر بجريمة دموية.

لهذا فلا ريب في أن الشرعية –وهي قوة معنوية- تحتاج قوة مادية تحميها، وهو النموذج الذي لم يحدث في واقعنا المعاصر إلا مرتين: غزة 2007، تركيا 2016م.
بينما القوة المادية الخالية من أي شرعية أقدر على صناعة أو حتى شراء شرعية لها، وهذا السيسي يشتري السلاح الذي لن يستخدمه بمليارات الدولارات ويعقد صفقات إنشاء محطات نووية بديون غير مسبوقة، ويبيع الأراضي ويبيع الجنسية ويزيد من طحن الناس، وبإمكاننا أن نتوقع المزيد إذ لا تنفد أساليب الطغاة الشياطين، حتى إن بعض الرؤساء الأفارقة أجَّر أرض بلده لدفن النفايات النووية!!

لذلك لا بد للشرعية –القوة المعنوية- أن تساندها قوة مادية، وهنا تظهر الشرعية كقوة حاسمة في المعركة، ومن يقرأ التاريخ يعرف أن التنازل عن "الشرعية" لا يفعله عاقل، ويمكن أن نضرب على هذا الكثير من الأمثلة المنثورة في كتاب التاريخ:

(1) لقد عجز الخليفة القوي هشام بن عبد الملك الأموي عن خلع ولي العهد الوليد بن يزيد لما له من بيعة شرعية بولاية العهد، وهو ما وقفت معه القبائل اليمانية التي كانت عماد الدولة الأموية في ذلك الوقت، وتولى يزيد الحكم، ولما جرى انقلاب عليه انقسم البيت الأموي على نفسه حتى بلغ الانهيار.

(2) ولقد هَزَم أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني وقتله في ظرفٍ كل موازين القوى فيه لصالح أبي مسلم ولا يملك أبو جعفر إلا شرعية كونه من بيت الخلافة من آل البيت النبوي، وهذا وحده ما أجبر أبا مسلم على أن يذهب لأبي جعفر رغم توجسه الشديد حتى كان في ذلك نهايته.

(3) ولقد استطاع عبد الرحمن الداخل الذي لا يملك إلا نسبه الأموي (وهذه هي شرعية ذلك الوقت) أن يؤسس حكما في الأندلس حتى لقد قال زعيم القيسية كلمة مدهشة مفادها أن نزاعه مع اليمانية نزاع أنداد بينما "لو نزل هذا الفتى جزيرتنا فبال غرقنا في بولته".. وكان عمر الفتى 23 عاما فقط، وبشرعيته هذه انصاعت له القبائل حتى أسس الدولة الأموية في الأندلس وانتظمت له الأمور التي عجز سائر من قبله على الانتظام لها لأن أحدا لم يكن يمتلك شرعية البيت الأموي.

(4) ولقد عجز كل من سيطروا على الخلفاء العباسيين من تُرك وبويهيين وسلاجقة عن خلعهم من منصب الخلافة رغم انهيار ميزان القوة ضد الخلفاء، بل لم يكن للخلفاء قوة إلا شرعية المنصب.. وهو ما أتاح ظهور خلفاء أقوياء بعد عصور الضعف ولو طالت.

(5) ولقد  عجز المنصور بن أبي عامر وهو من أقوى ملوك الإسلام عن عزل الخليفة الصبي هشام بن المستنصر، وظل يُنادى بالحاجب المنصور أو الملك.. بينما عطاؤه للأمة لا يقارن بهشام، وما ذلك إلا لأن هشاما أموي من سلالة الخلفاء، وتلك الشرعية في ذلك الزمن!

(6) وحين وقع الاضطراب في الأندلس ودخلت في عصر ملوك الطوائف، قوَّى بنو عباد ملوك إشبيلة موقفهم السياسي حين وجدوا رجلا شبيها بالخليفة الأموي هشام بن الحكم المستنصر، فصاروا به الأعلى يدا على سائر الممالك الأندلسية، بل وأعلنت بعضها الخضوع للخليفة، وما كان ذلك ليمكن لولا تلك الشخصية التي تمثل قوة الشرعية.

(7) بل إن السلطان المملوكي محمد بن قلاوون تولى السلطنة طفلا لأنه الوحيد الذي يملك "شرعية" -بمفهوم الشرعية آنذاك- في ظل تضارب قوى العساكر الأقوياء من حوله، وكان كلما خُلِع كلما أعيد إلى السلطنة مرة أخرى.. حتى اشتد عوده وحكم بنفسه ثلث قرن فكان من أقوى السلاطين المماليك عبر تاريخهم كله.

(8) ولقد اكتسب المماليك شرعية حكمهم من كونهم حماة الخلفاء العباسيين،  ولم يفكر المماليك –ولو في عنفوان قوتهم- في عزل العباسيين من الخلافة على ضعفهم سائر تلك المدة، وظل الخليفة ضعيفا لكن وجوده يحمي شرعية الحكم، وبرأيي أنه لولا أن كانت دولتهم عسكرية في جغرافية سهلة كمصر، لاستطاع العباسيون أن يجددوا ملكهم لو ظهر فيهم قوي وحاول. ولم تزل الشرعية عن دولة المماليك إلا بقضاء العثمانيين على الخليفة العباسي وأخذه من القاهرة إلى اسطنبول.

(9) وكانت شرعية السلطنة العثمانية هي الراية التي يرفعها سائر المجاهدين للاحتلال الأجنبي في العالم الإسلامي، ولم تكن الوطنية تعني استقلالا عن الخلافة العثمانية، وتراث المقاومة في مصر منذ عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد ورشيد رضا يشهد بتعلق هؤلاء بالراية العثمانية وشرعية الخلافة العثماني ضد الاحتلال.

(10) وسائر الاحتلالات الأجنبية التي حاولت أن تترسخ في بلادنا إنما ادعت أن دخولها إلى هذه البلاد كان بإذن من السلطان العثماني أو هو حماية للسلطان العثماني كما فعلت الحملة الفرنسية ثم الاحتلال الإنجليزي، وكان السلطان العثماني وهو في أضعف حالاته إذا أراد أن يكشر عن أنيابه في مفاوضات مع الأجانب هددهم بأنه يملك "إعلان الجهاد" ويملك أن يستثير كل المسلمين بما له من شرعية.

ونستطيع أن نأتي من الواقع المعاصر بتجارب أخرى كفشل الانقلاب على بوريس يلتسين في روسيا مطلع التسعينات، وفشل الانقلاب على تشافيز في فنزويلا، وغيرهما..

ونحن إذا نظرنا في حالتنا المصرية فلن نجد بأيدينا ورقة قوة سوى ورقة "الشرعية" هذه، والفضل فيها أولا للشيخ حازم أبو إسماعيل الذي شق طريق ترشح الإسلاميين للرئاسة وأثبت أن الشعب يريدهم، ثم للصمود الباسل للرئيس محمد مرسي الذي كان يستطيع بكلمة أن يتنحى فيسبغ شرعية على الانقلاب العسكري ثم يعيش آمنا، لكنه اختار أن يبقى الحق حقا والباطل باطلا ولو كان الثمن هو سجنه أو دمه.

فليس، والحال هذه، أبأس من سياسي لا يعرف حلا لهذه الأزمة إلا أن ينظر ويفلسف ويخطط لاصطفاف ليس فيه إلا بند واحد يُتفق عليه: التخلي عن ورقة الشرعية هذه. ثم لا يتفقون بعدها على شيء أبدا.

نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

الاثنين، 29 أغسطس 2016

بَيانٌ وتِبيان عن حَقيقةِ مُؤتَمرِ الشِّيشان

بَيانٌ وتِبيان عن حَقيقةِ مُؤتَمرِ الشِّيشان

علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف

المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية

26 ذو القعدة 1437هـ

الحَمدُ للهِ ناصِرِ عِبادِه المُؤمنِينَ الموحِّدين، الدَّاعين إلى اللهِ تعالى على بَصيرةٍ وعلى هَدْيِ سيِّدِ المُرسَلِين، وأصحابِه الطيِّبِينَ الطَّاهِرينَ، والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ إلى يَومِ الدِّين.
أمَّا بعدُ،
فقدِ انعَقَد في مدينة جروزني عاصمة جمهورية الشِّيشان، ولمدَّة ثلاثةِ أيَّام مؤتمرٌ بعنوان: (مَن هُم أهلُ السُّنَّة والجَماعة، بيانٌ وتوصيفٌ لمنهجِ أهل السُّنَّة والجَماعة اعتقادًا وفِقهًا وسلوكًا، وأثَر الانحرافِ عنه على الواقِع)، وقد انتهى المؤتمر يوم السبت 24 ذو القعدة 1437 الموافق 27 أغسطس 2016، وأصدر بَيانَه المُخزي، ثم أعْقَبه بتوصياتٍ عِدَّة.
وهذه وَقفاتٌ مع هذا المؤتمر المشؤومٍ؛ أُسجِّلها بيانًا للنَّاس، وتبيانًا للحقِّ، وتَعريةً لحقيقةِ هذا المؤتمرِ.

أولًا: انعقَد المؤتمرُ في مدينة غروزني عاصمة جمهورية الشِّيشان التابعةِ لروسيا الاتحاديَّة، وفي الوَقتِ الذي كانتْ كَلماتُ أعضاء المؤتمر تنالُ مِن عُلماءِ المسلِمين من أهلِ السُّنَّة والجَماعة ودُعاةِ التوحيدِ، كانتْ تُقصَفُ الصَّواريخُ الرُّوسيَّةُ على رُؤوسِ إخوانِنا في الشامِ، ولم يَصدُرْ أيُّ شَيءٍ في المؤتمرِ عن جرائمِ رُوسيا الشَّنيعةِ.

ثانيًا: راعِي المؤتمرِ هو رَئيسُ جمهوريَّة الشِّيشان رمضان قاديروف، المعروفُ بولائِه التامِّ للرَّئيس الرُّوسيِّ المجرِم بوتين، حتى إنَّه سَطَّر على صفحتِه على (الفيسبوك) بأنَّه جُنديٌّ من جُنودِ بوتين، وأنَّه وجنودَه مُستعِدُّون أن يُضحُّوا بحياتهم من أجلِ بوتين! فهل يَعي المؤتمِرون حقيقةَ هذا الرَّجُل
http://bit.ly/2bQHW8k

ولولا الحياء والخوف من الله لوضعتُ رابطًا لمقطعٍ مرئيٍّ له وهو يرقص مع نساءٍ متبرجاتٍ احتفالًا بعيدِ ميلاد بوتين.


ثالثًا: رمضان قاديروف صوفيٌّ، خرافيٌّ، يزعُم أنه يحتفظُ بشَعرةِ للرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد أقام احتفالًا لاستقبالِها في مطار غروزني قادمةً من أوزبكستان، ويَزعُم أنَّ لديه قِطعةً مِن رِدائِه صلَّى الله عليه وسلَّم يَصِلُ طولها 50سم!
وهذِه بعضُ المقاطِع على اليوتيوب تُبيِّنُ حالَه وحالَ مستشاره:

1- مَقطعٌ مرئيٌّ يَظهَر في مقابلة تلفزيونية على قناة سكاي نيوز العربية: يتَّهم فيه الوهابيةَ بالخيانةِ لتعاليمِ الدِّين، ويقول عن المجاهِدين في سُوريَّة: إنَّهم ليسوا بمُجاهدِين وإنَّهم يُشوِّهون الإسلامَ.
http://bit.ly/2c2AYLJ
2- مقطعٌ مرئيٌّ يُظهر تخريفَ هذا الرَّجل، وفيه يَزعُم أنَّ لديه كُوبَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ويَرفعُه أمامَ الناسِ ويُقبِّله، وأنَّ لديه شَعرةَ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم ويُقبِّلها باكيًا، وفيها يَرقُص رقصةَ المجانين مع مجموعةٍ من مجاذيبِ الصوفيَّةِ، ويستقبلُ مفتي نظام الأسد حسون ويُرحِّب به، وفيه يقول: الوهابيُّون لَعنةُ اللهِ عليهم وعلى آبائِهم وأُمَّهاتِهم، ويَدَّعي زُورًا وبُهتانًا أنَّهم قتَلوا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويُقسِم باللهِ ليَقتلنَّهم!
http://bit.ly/2bwvZSb
3- مقطعٌ مرئيٌّ ثالِث لمستشارِه ومُدير إدارة الشُّؤون الدِّينيَّة بالشيشان، في مُحاضَرة له وهو يَدْعو صراحةً للاستغاثة بغيرِ الله من الأحياءِ والأمواتِ، ويهاجِم من يقول إنَّ هذا شركُ بالله.
http://bit.ly/2bUoYij
أفيليقُ بالمشَاركِين في المؤتمر المحسُوبين على العِلم الشَّرعي أن يشْكُروا رجلاً مشعوذًا محاربًا للتوْحِيد وأهلِه فيختُموا بيانهم بشُكْره قائلين: (كما تَقدَّم المشاركون بالشُّكرِ لفخامةِ الرئيس رمضان أحمد قديروف؛ لجُهودِه المبارَكةِ في خِدمةِ القُرآنِ الكريمِ والسُّنَّةِ المطهَّرة)؛ فعليهم مِن اللهِ ما يَستحقُّون!

رابعًا: والأُمَّة تَعيش أَحْلَك ظُروفِها، وقد تَكالَب عليها أَعداؤُها مِن كُلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ؛ بل تَواطَأ معهم فِرَقُ الرَّوافِض الضَّالَّة، وجيوشُ النصارى الحاقدة، كي يَضرِبوا أَهْلَ السُّنَّة عن قَوسٍ واحِدةٍ، يَتَفاجَأ العالَمُ الإسلاميُّ مِن قِلَّةٍ مَحسوبَةٍ على العِلْم الشَّرعي لا يُمَثِّلون إلَّا أَنْفُسَهُم يَجتمِعون تحت رعايةِ هذا المُجرم، لا لِيَعِظوه، ولا لِيُحَذِّروه مِن انْتِقامِ اللهِ له في تَأييدِه سَيِّده بُوتِين الذي يَقْصِفُ إخواننا في سُوريَةَ (وفيهم السُّنِّيُّ، والصُّوفِيُّ، والأشْعَرِيُّ، والماتِريدِيُّ)، ولا ليَدْعُوا إلى تَوحيدِ المسلِمينَ سَلفيِّهم وصُوفيِّهم وأشعريِّهم ضِدَّ صَليبيَّة الرُّوس، ونُصيريَّة الأسد، وصَفويَّة إيران، وطائفيَّة حِزب اللات؛ لا، بل ليُكرِّسوا الخلافَ بين المسلمين حتى في هذه الظروف العصيبة التي تمرُّ بها الأمة!!

خامسًا: صُدِّرَ بيانُ المؤتمر بهذه الجُملة: (أهلُ السُّنَّة والجَماعةِ هُم الأشاعرةُ والماتريديَّةُ في الاعتِقادِ، وأهلُ المذاهِبِ الأَربعةِ في الفِقهِ، وأهلُ التصوُّفِ الصافي عِلمًا وأخلاقًا وتزكيةً)، وهم بهذا قد خالفوا السُّنَّةَ وفرَّقوا الجماعةَ، وأخْرَجوا أئمَّةَ الإسلامِ -ممَّن عاشُوا قبل الأشْعريِّ والماتريديِّ كمالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ والبُخاريِّ ومُسلمٍ، وغيرِهم- مِن مُسمَّى أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، ودُونَ هؤلاء المؤتمِرينَ- في إثباتِ أنَّ هؤلاءِ الأئمةَ ومن سارَ على نهجِهم أشاعرةٌ أو ماتريديَّةٌ أو صُوفيَّةٌ- خَرْطُ القَتاد!

سادسًا: عَرَّض المؤتمرُ بمَن سمَّاهم المتطرِّفين- وغالبًا ما يُشيرونَ بهذا إلى أصحابِ المَنهجِ السلفيِّ- بكَلِماتٍ نابيةٍ، وبأنَّهم أصحابُ مَنهجٍ مُنحرِفٍ، وخَطيرٍ، ومُتطرِّفٍ، وأنَّهم اختطفوا لقبَ أهل السُّنَّةِ والجَماعةِ وقَصَروه على أنفُسِهم، وأنَّ مُؤتمرَهم هذا جاء كنُقطةِ تحوُّلٍ لاسترجاعِ هذا اللَّقب، ونحن نقولُ لهم: البَيِّنةُ على المدِّعي، أثْبِتوا أنَّ منهجَ الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم ومَن تَبِعهم كان أشعريًّا أو صُوفيًّا؛ حتَّى تَصفو لكم دَعواكُم!
وهذا نصُّ عِبارةِ المؤتمَر:
(هذا المؤتمرُ نُقطةُ تحوُّلٍ هامَّةٌ وضروريَّةٌ؛ لتصويبِ الانحرافِ الحادِّ والخطيرِ الذي طالَ مَفهومَ "أهل السُّنَّة والجماعة" إثرَ محاولاتِ اختطافِ المتطرِّفين لهذا اللَّقبِ الشَّريفِ وقَصْرِه على أنفُسِهم وإخراجِ أهلِه منه)

سابعًا: أوَّل توصيةٍ في المؤتمر كانتْ عن: (إنشاء قناة تليفزيونيَّة على مُستوَى روسيا الاتحاديَّة؛ لتوصيلِ صورةِ الإسلامِ الصحيحةِ للمُواطنين، ومُحارَبةِ التطرُّفِ والإرهابِ)، وهذه تَوصيةٌ سِياسيَّةٌ بامتياز! يجتمعُ كِبارُ صوفيَّة العالَمِ، ومِن كلِّ قُطرٍ إسلاميٍّ؛ ليُوصُوا بإنشاءِ قناةٍ تلفزيونيَّة تُبثُّ على مستوى روسيا الاتحاديَّة؛ لتوصيلِ صُورةِ الإسلامِ الصَّحيحةِ -زَعَموا- للمُواطنينَ الرُّوسِ والشِّيشانيِّين!! فهل هناك استهتارٌ وازدراءٌ بمَن شارَك في المؤتمرِ أكثرُ من ذلك؟!

ثامنًا: وممَّا يدلُّ على أنَّه مؤتمرٌ انتقائيٌّ، إقصائيٌّ أكثرُ منه عالِميًّا: ما جاء في التوصيةِ الثالثةِ في المؤتمرِ، وهو (ضرورة رفْع مُستوَى التعاوُنِ بين المؤسَّساتِ العِلميَّةِ العَريقةِ كالأزهرِ الشَّريفِ، والقرويين، والزيتونة، وحضرموت، ومراكز العِلم والبحثِ فيما بينها وبين المؤسَّساتِ الدِّينيَّة والعِلميَّة في رُوسيا الاتحاديَّة) مُستبعِدين بذلك مراكزَ العِلم الأخرى في العالَمِ الإسلاميِّ كلِّه.

تاسعًا: ومِن المُضحِكات المُبكِياتِ التوصيةُ الثامنةُ في المؤتمر، التي تُوصِي الحُكوماتِ بـ: (تَشريع قوانين تُجرِّمُ نشْرَ الكراهيةِ، والتحريضَ على الفِتنةِ، والاحترابَ الداخليِّ، والتعدِّي على المُقدَّسات)! وهل هناك ما يَنشُرُ الكراهيةَ ويُحرِّضُ على الفِتنةِ أكثرُ مِن أن تُوصِمَ المخالِفَ لك مِن أهل السُّنَّة بالمتطرِّف وبأنَّ عِندَه انحرافًا حادًّا وخَطيرًا، وغيرِها مِن العِباراتِ التحريضيَّة؟!

عاشرًا: تجاهُلُ المؤتمرِ عُلماءَ السُّنَّة السَّلفيِّينَ في أنحاء العالَمِ كلِّه كان مقصودًا؛ فلو كان المؤتمرُ يَهدِفُ بالفِعلِ إلى تَوحيدِ الكلمةِ، ولَمِّ الشَّملِ، لَجَمَع عُلماءَ المسلمين بشَتَّى تَوجُّهاتِهم؛ ليَخرجوا ببيانٍ يَجمَعُ كلمتَهم- ولو فيما يتَّفقونَ عليه- ويُؤجِّلوا ما اختَلفوا فيه، خاصَّةً في مِثل هذا الوقتِ الذي تَكالَبَ فيه عليهم الرافضةُ واليهودُ والنَّصارى، لكنَّ همَّهم في إخراجِ السَّلفيِّين مِن دائرةِ أهلِ السُّنَّة والجماعةِ أكبرُ مِن هَمِّ تَوحيدِ صَفِّ المسلِمينَ ضِدَّ عَدُوِّهم!

حادي عشر:
رأينا مَنْ حَضَر المؤتمرَ، وإذا بهم ثَلاثةُ أصناف: صِنفٌ يُشارِكُ القائمين على المؤتمرِ عقيدَتهم وفِكرَهم وتَوجُّهَهم الحاقِدَ على السَّلفيِّين ودعوةِ التوحيدِ، وهؤلاء ليس لنا إلَّا أن نَدْعو اللهَ لهم بالهِدايةِ، وصِنفٌ ذَهَب وهو يُحسِنُ الظنَّ بهم فخاب ظنُّه! وصِنفٌ ثالثٌ حضَر وهو لا يَدْري لِمَ حَضَر ولِمَن حضَر، وربَّما فُوجِئَ باللُّغةِ الفَجَّة التي ظهرتْ في البيانِ الختاميِّ للمؤتمر! وهذان الصِّنفانِ الأخيرانِ عليهما أن يَتحلَّيَا بالشجاعةِ والجُرأةِ وأنْ يَتبرَّأَا مِن هذا البيانِ وما حواه المؤتمرُ، وإلَّا فهي وصمةُ عارٍ في تاريخِ مَسيرتِهم العِلميَّةِ.
أمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ الحَقيقيُّون، وهم مَن كان على ما كان عليه رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه، فلا يَضيرهم ولا يَضرُّهم مِثلُ هذه المؤتمراتِ والمؤامراتِ، بل هي عَلامةٌ على قُوَّةِ هذا المنهجِ وعِظَمِ انتشارِه؛ ممَّا أقضَّ مضاجعَ القومِ، وجَعَلهم يَتداعَوْن مِن كلِّ مكانٍ؛ ليَخرجوا بهذه النتيجةِ المخزيةِ!.

والله غالبٌ على أمرِه ولكنَّ أكثرَ النَّاس لا يعلمون.

مولانا أحمد سيف الإسلام

مولانا أحمد سيف الإسلام
وائل قنديل


سيحكي لنا التاريخ يوماً إن رجلاً نبيلاً، اسمه أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح حمد، مرّ من هنا، تاركاً ما إن تعلم منه السياسيون والحقوقيون لن يسقطوا في مستنقعات الفاشية المثقفة والنضال الملوّث أبداً.
عامان مرّا على الرحيل المفجع للسياسي والحقوقي، اليساري المحترم، أحمد سيف الإسلام، أحد القلائل ممن نجوا من طاعون التلوّن والتحوّل والتبدل، مستعصياً على السقوط في بئر عنصرية الشلة ومكارثية التيار وبؤس التحيز للأيديولوجيا على حساب الإنسانية الجامعة، والوطنية المانعة للانسحاق أمام إغراءات الاستعلاء الزائف، والارتواء من دماء الخصوم السياسيين.

بضميرٍ يقظ، وقلب سليم وعقل راجح، قرأ أحمد سيف الإسلام ما جرى في مصر، ذلك الصيف البائس من عام 2013، فقال في تصريح متلفز على موقع "مصر العربية" إن ما جرى، باختصار، أن الرئيس المدني المنتخب تعرّض لمؤامرةٍ من القادة العسكريين، شاركت فيها بعض الأحزاب والقوى السياسية المدنية، استغلت غضباً شعبياً لإطاحته.

كان سيف الإسلام ممن رفضوا تظاهرات 30 يونيو/ حزيران، ولم يوقع على استمارات "تمرد" المصنوعة في مطابخ العسكر، معلناً أن السير في هذا الاتجاه يعني، ببساطة، أنه لن يكون لمصر رئيس مدني آخر، إن تم إسقاط الرئيس مرسي بذلك الشكل سيكون أول وآخر رئيس مدني، لأن السير في هذا الطريق يكرّس قاعدة أن أي رئيسٍ لا يرضي هوى الجنرالات ستتم إطاحته.

يصلح تراث سيف الإسلام الحقوقي والسياسي منهجاً شاملا لمن أراد تعليم التربية الوطنية، والثقافة الإنسانية الرفيعة، بكل ما تشمله من أسس الحريات والكرامة والنضال السياسي من أجل المبادئ الكلية العامة، بعيداً عن التحوصلات الأيديولوجية والتكتلات الشللية الضيقة.

هو درسٌ في الاصطفاف الوطني والإنساني، لمن يبحث عن اصطفافٍ محترم، وليس عن صفقاتٍ وتسوياتٍ تتأسس على الانتهازية والمنفعة، وتعتمد قوانين السوق ومهارات السمسرة والمضاربة في الأسهم السياسية.

كما أنه درسٌ في الاستقامة السياسية، والاتساق مع الذات والانتصار للإنسان، بما هو إنسان، وليس بما هو ابن الشلة والتيار والحزب، وأظن أن ذكراه فرصةٌ لمن يريد أن يفهم ويتبصر ويختار الطريق، بعد ثلاث سنواتٍ من النزيف القيمي والتساقط الأخلاقي لدى النخب السياسية، باختلاف منابعها ومصباتها.
في ذكراه الأولى، قلت إن الانقلاب نجح، منذ غنت حناجر ملوّثة بالكراهية المقيتة ضد "الكائن الإخواني"، وقدّمت خدماتٍ جليلة لهذا "الأبارتهايد" العنصري الذي ظل ينمو ويتوغل، حتى وصل إلى مرحلة "أنتم شعب ونحن شعب"، وأن الذين لا يتذكّرون القيم الإنسانية، إلا حين يلحق بأصدقائهم وإخوانهم في الأيديولوجيا الأذى، هم أول من يطيل عمر هذا الانقلاب، ويدعمه على نحوٍ يفوق ما يقدمه الانقلابيون الصريحون أنفسهم.

 الآن، وفي ذكراه الثانية، تتهاوى مصر إلى الأعمق في مأساتها الإنسانية، إذ انتقلنا من مرحلة" شعب وشعب" إلى حالةٍ باتت فيها أبواق السيسي تهدّد الجميع بالمحو والإبادة والاستبدال، ولا تتورّع عن التلويح بالتخلص من هذا "الشعب الوغد" الذي يعبر عن تململه من الخراب الاقتصادي والانهيار السياسي، فتتطاير سموم الفاشية من النوافذ الإعلامية، تعلن صراحةً أن على من لا يرضى بحكم نظام السيسي أن يبحث له عن وطنٍ آخر، أو يستعد للموت إن فكّر يوماً في الخروج للاحتجاج على إدارته التعيسة للبلاد.
مرة أخرى، من يريد التأسيس للمشروع الوطني الجامع عليه أن يستلهم روح أحمد سيف الإسلام الذي شخّص، في جملٍ شديدة البساطة، أصل الداء، وحدّد معالم طريق الانعتاق والتحرّر من مصيرٍ مخيفٍ، تنزلق إليه مصر بالسرعة القصوى، مع استمرار جماعة الحكم الدموية الفاشلة في العبث بمستقبل البلاد.

وأحسب أنه كلما استشعر هذا النظام اقتراب النهاية، سيوغل في الفاشية والقمع، بحيث لا يترك مصر إلا وقد وضعها على منحدر السقوط في جحيم صراعٍ طائفيٍّ ومجتمعيٍّ مرعب، ذلك أن الإنجاز الأكبر لنظام عبد الفتاح السيسي أنه نجح في تحويل البلاد إلى ما يشبه خرقةً مبللةً بكيروسين الفتنة الطائفية والاحتراب المجتمعي.
 وعلى ذلك، تُحسن النخب السياسية والقانونية صنعاً إذا بدأت، من الآن، الاشتغال على حماية النسيج الاجتماعي المصري، من الاحتراق بفعل سياسة النظام المنهجية لصناعة حالةٍ من "حرب الكل ضد الكل"، والعودة إلى ما قبل اختراع "الدولة".
تعالوا إلى كلمةٍ سواء، اسمها" أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح حمد".


        والد علاء عبد الفتاح: الرئيس مرسي تعرض لمؤامرة       

سيد قطب.. ذلك المظلوم

سيد قطب.. ذلك المظلوم

.
 
محسن صالح
خمسون عاما مضت على إعدام المفكر الإسلامي الكبير سيد قطب رحمه الله. لم تنفع اتصالات وتدخلات العديد من الزعماء (بمن فيهم الملك فيصل ملك السعودية، ورئيس العراق عبد السلام عارف) والمفكرين والشخصيات والهيئات العربية والإسلامية في إثناء الرئيس المصري عبد الناصر عن إعدامه، الذي نفذ في 29 أغسطس/آب 1966.
ربما مرَّ على شريط ذكريات كل من عبد الناصر وسيد قطب عند تنفيذ الإعدام ذلك اللقاء الذي تحول حفلا تكريميا، والذي أقامه ضباط ثورة 23 يوليو/تموز 1952 (التي أسقطت الحكم الملكي في مصر) لسيد قطب بحضور عبد الناصر نفسه وجمهور واسع من الضباط والدبلوماسيين والأدباء والمهتمين، في أغسطس/آب 1952 في نادي الضباط في منطقة الزمالك.

قال سيد في هذا اللقاء "إن الثورة قد بدأت حقا، وليس لنا أن نثني عليها، لأنها لم تعمل بعد شيئا يذكر، فخروج الملك ليس غاية الثورة، بل الغاية منها العودة بالبلاد إلى الإسلام..". ثم تابع سيد "لقد كنت في عهد الملكية، مهيئا نفسي للسجن في كل لحظة، وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضا، فأنا في هذا العهد مهيئٌ نفسي للسجن أيضا، ولغير السجن، أكثر من ذي قبل"!!

وهنا وقف عبد الناصر وقال بصوته الجهوري "أخي الكبير سيد، والله لن يصلوا إليك إلا على أجسادنا، جثثا هامدة..".
إن طه حسين الذي كان يوما مسؤولا عن سيد قطب في وزارة المعارف قال في اللقاء التكريمي الذي أشرنا إليه أعلاه "إن في سيد خصلتين هما المثالية والعناد"، وبعد أن تحدث عن أثر سيد في ثورة يوليو 1952 ورجالها ختم كلمته بالقول "إن سيد قطب انتهى في الأدب إلى القمة والقيادة؛ وكذلك في خدمة مصر والعروبة والإسلام"
هذا الموقف كتبه شخص حضر الحفل، هو الأديب السعودي المعروف، مؤسس صحيفة عكاظ بعد ذلك، أحمد عبد الغفور عطار؛ ونشره في مجلة كلمة الحق، العدد الثاني، مايو/أيار 1967.
بعد 14 عاما صدقت توقعات سيد، وأُعدم بعد أن أمضى معظم ما تبقى من حياته في سجون "تلاميذه" من ضباط ثورة يوليو.
***
خمسون عاما مضت على استشهاد سيد.. ولكن لا يكاد يكون له بواكٍ.. ولا كلمات وفاء؛ فقد كثرت عليه السكاكين، وتناوشته سهام المتنطعين وأنصاف المثقفين، وعلماء السلاطين، وأتت على فكره ومواقفه غيوم سوداء، وحملات تحريض وشيطنة، حتى تمّ حصر صورته بشكل مُزوَّر في شخصية تكفيرية متطرفة منغلقة.

إن معظم من كتب عن سيد قطب ناقدا أو متهما ركز في كثير من الأحيان على سيد وفكره من خلال مقاطع مجتزأة أو من خلال ما كتبه آخرون.. إن هؤلاء الذين ركزوا على بعض الجوانب "الملتبسة" في كتابات سيد، وغضوا النظر عن أدبياته الرائعة ونصوصه الإبداعية والتجديدية وروحه الثورية ومواقفه التي دفع حياته ثمنا لها.. هؤلاء ظلموا سيد، وشاركوا في وضع حاجز نفسي بين الناس وبين سيّد، ولم يخدموا بذلك سوى أنظمة الفساد والاستبداد وتيارات التغريب وأتباع "أذناب البقر".

نعم، لسيد أخطاؤه كغيره من البشر، فلتتم معرفتها، وليتم نقد أفكاره وأدائه كغيره من المفكرين والمصلحين والسياسيين، فلا حرج ولا عيب.. فكفى المرء نبلا أن تعدُّ معايبه، أما أن يتم تشويه الشخص وشيطنته وإلغاء دوره.. فلا.

***
إن طه حسين الذي كان يوما مسؤولا عن سيد قطب في وزارة المعارف قال في اللقاء التكريمي الذي أشرنا إليه أعلاه "إن في سيد خصلتين هما المثالية والعناد"، وبعد أن تحدث عن أثر سيد في ثورة يوليو 1952 ورجالها ختم كلمته بالقول "إن سيد قطب انتهى في الأدب إلى القمة والقيادة؛ وكذلك في خدمة مصر والعروبة والإسلام". ربما كانت " المثالية والعناد" وصفا دقيقا لسيد، غير أنه مع التزامه الإسلامي، كان معدنه الأصيل يعكس صفات "التقوى والصبر والجرأة في الحق"؛ وهي أبرز صفات المصلحين وقادة الدعوات.
***
سيد الذي تعرض للظلم لم يأخذ حقه كأديب وناقد أدبي من الطراز الأول، فُتحت له أهم المجلات الأدبية في عصره، وأبرز جمال اللغة العربية، كما أبرز إعجاز القرآن وعظمة آياته. وله شعر جميل أخذ طابعا وطنيا وإسلاميا وإنسانيا ولامس هموم الناس والمجتمع؛ وكتب في الوصف والحنين والتأمل والرثاء والتمرد والثورة وفلسطين..
***
من ناحية ثانية، عبر سيد عن روح ثورية إسلامية ووطنية هائلة كانت حافزا وملهما لأبناء جيله ولمن بعده في مواجهة الساسة والمثقفين والعلماء الفاسدين والأنظمة الفاسدة والمستبدة. وأبرز الإسلام بروحه الحركية العملية التي ترفض الظلم وتنتصر للمظلوم وتنزع الشرعية عن الطغاة؛ ولذلك قدم بمقالاته "النارية" ورؤاه الفكرية بنية أساسية دافعة للثورة على الملكية في مصر، وغيرها من الثورات وحركات التغيير. وعدَّه ضباط ثورة يوليو ملهما لهم. وقبل الثورة بأربعة أيام (19/7/1952) كان عدد من ضباطها، بينهم عبد الناصر، يجتمعون في بيته لوضع ترتيباتها؛ وبعد نجاحها كان سيد هو الشخص المدني الوحيد الذي يحضر أحيانا اجتماعات مجلس قيادة الثورة.

لم تمض ستة أشهر حتى افترق سيد عن الثورة ورجالاتها بعد أن رأى ما لا يعجبه، فتركهم وانتقدهم. وفي سنة 1954 حكم عليه نظام عبد الناصر بالسجن 15عاما (ضمن حملته ضدّ الإخوان المسلمين).. فازداد صلابة وإصرارا، بالرغم مما عاناه في السجن من أمراض وآلام.. وكتب قصيدته الشهيرة "أخي أنت حر وراء السدود"، كما كتب قصيدته "هبل.. هبل" التي رأى فيها كثيرون وصفا لعبد الناصر ونظامه.
نقل كاتبو سيرة سيّد عنه عبارات عندما طُلب منه أن يسترحم عبد الناصر بعد صدور حكم الإعدام، فقال: "إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية، ليرفض أن يخطَّ حرفا يقر به حكم طاغية"، وقوله "لماذا أسترحم، إن سُجنت بحق فأنا أرضى حكم الحقّ، وإن سجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل"!!
واتخذت كتابات سيد في سجنه خطابا أكثر حدة وعمقا وتأصيلا للثورة على الطغاة من خلال التركيز على مبدأ "الحاكمية" وردّ التشريع إلى الله والحكم بما أنزل الله. وعندما خرج من السجن سنة 1964 لم يتردد في قبول الإشراف والرعاية على تنظيم إخواني سري، كان يركز في تلك المرحلة على المعاني الإسلامية التربوية والحركية.

وعندما قُبض عليه في صيف 1965 بتهمة قيادة تنظيم عسكري سري إخواني بهدف زعزعة أمن البلاد واغتيال عبد الناصر والانقلاب على النظام، وحكم عليه بالإعدام بهذه التهم الملفقة، تلقى قرار الإعدام ببسمته الساخرة قائلا "الحمد لله، لقد عملت 15 عاما من أجل الحصول على الشهادة".

ونقل كاتبو سيرة سيّد عنه عبارات عندما طُلب منه أن يسترحم عبد الناصر بعد صدور حكم الإعدام، فقال: "إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية، ليرفض أن يخطَّ حرفا يقر به حكم طاغية"، وقوله "لماذا أسترحم، إن سُجنت بحق فأنا أرضى حكم الحقّ، وإن سجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل"!!

كان سيد يرى أن دفع حياته ثمنا لإيمانه ودفاعا عن كلماته وأفكاره أمرا طبيعيا، بل هو ما يعطي لهذه الكلمات قيمتها ومعانيها وتأثيرها، فهو يقول "إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة".
***
من ناحية ثالثة، كان سيد من أبرز مفكري القرن العشرين العرب المسلمين الذين كتبوا في التعبير عن عزة الإنسان وكرامته وحريته واستعلاء إيمانه ولو اتسع المقام لأتينا بعشرات الشواهد على ذلك فـ"الظلال" مليء بهذه المعاني. ولعل مقالته في "العبيد" في كتابه دراسات إسلامية من أروع ما كتب في فضح السلوك البشري المنحرف عن معاني الحرية.
***
من ناحية رابعة، كان سيد قطب من أبرز المفكرين الذين قدموا الإسلام بشموله وحيويته وصلاحيته لكل زمان ومكان، وقدرته على الحكم وعلاج مشاكل الحضارة، وتحقيق التوازن بين متطلبات الروح والمادة.

وكان في الوقت نفسه من أبرز الكتاب الذين نقدوا الحضارة الغربية، وكشفوا عوراتها، وفضحوا الاستعمار الغربي وأطماعه في المنطقة.. وقدم نقدا لاذعا للأنظمة الرأسمالية والشيوعية.. ولعل مقاله الشهير "إسلام أمريكاني" الذي نُشر في مجلة الرسالة سنة 1952 يفضح سياسة أميركا وعملاءها في المنطقة.. وفيه يقول "الإسلام الذي يريده الأميركان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط، ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان.. إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم، لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأن طرد المستعمر فريضة، وأن الشيوعية كالاستعمار وباء.. فكلاهما عدو".

وبالنسبة للأميركيين وعملائهم فالإسلام "يجوز أن يستفتى في منع الحمل، ويجوز أن يُستفتى في دخول المرأة البرلمان، ويجوز أن يستفتى في نواقض الوضوء، ولكنه لا يستفتى أبدا في أوضاعنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو نظامنا المالي، ولا يستفتى أبدا في أوضاعنا السياسية والقومية.."!
***
أما الروح الإنسانية والتعبير العميق عن المعاني الإنسانية فهي من ناحية خامسة، من الجوانب التي أبدع فيها سيّد، ومن الجوانب التي طمسها خصومه (وربما بعض محبيه). ولعل كتيب "أفراح الروح" بالرغم من صفحاته المحدودة يرقى إلى مصاف الأدب الإنساني العالمي الذي لم يلق ما يستحق من رعاية واهتمام من الأدباء والباحثين.. وبالرغم من أنه عبارة عن خواطر كتبها وهو في السجن، فإنك تقرأ لمفكر يُحلق في أوسع آفاق الحرية والكرامة الإنسانية، ومعاني الحب والعطف واستيعاب الآخرين ومخالطتهم والانفتاح عليهم والصبر على أذاهم.
***
ظُلم سيّد بسبب قيام محسوبين على بعض الاتجاهات السلفية بتكفيره، بناء على نصوص اجتزؤوها من كتاباته. وفي المقابل، عانى سيد أيضا من اتهامه بأنه يُكفِّر المجتمعات المسلمة، واستخدم متهموه وخصوصا من باحثين وكتاب علمانيين ويساريين ومن خصوم للتيار الإسلامي، نصوصا مجتزأة لإثبات ذلك
من ناحية سادسة، فقد ظُلم سيّد بسبب قيام محسوبين على بعض الاتجاهات السلفية بتكفيره، بناء على نصوص اجتزؤوها من كتاباته. وفي المقابل، عانى سيد أيضا من اتهامه بأنه يُكفِّر المجتمعات المسلمة، واستخدم متهموه وخصوصا من باحثين وكتاب علمانيين ويساريين ومن خصوم للتيار الإسلامي، نصوصا مجتزأة لإثبات ذلك. ولأن هذا المقال لا يتسع لمناقشة كل الاتهامات، فإننا نضع أبرز النقاط التي يجدر بيانها في هذا السياق:

1- يجب ملاحظة التطور التاريخي لالتزام سيد الإسلامي وفكره الذي أخذ شكله الناضج في السنوات الأخيرة من عمره، ومن الخطأ محاسبة سيد عن مرحلة تاب عنها أو عن أفكار تراجع عنها. وكما قال أخوه محمد قطب في رسالة بعثها إلى عبد الرحمن الهرفي، فإن سيد أوصى بقراءة بعض كتبه فقط قبيل وفاته، ومنها "في ظلال القرآن" وخصوصا الأجزاء الاثنا عشر الأولى التي تمكن من تنقيحها، وكتاب "معالم في الطريق"، و"هذا الدين"، و"المستقبل لهذا الدين"، و"خصائص التصور الإسلامي"، و"مقومات التصور الإسلامي"، و"الإسلام ومشكلات الحضارة".. وهو ما ينبغي محاسبته عليه، وليس ما تراجع عنه.

2- إن سيد قطب كان أديبا ناقدا، قبل أن يكون عالما شرعيا وفقيها بالمعنى الاصطلاحي المتداول. وقد أراد أن ينافح عن الإسلام عقيدة وسلوكا ومنهج حياة. ودفع حياته ثمنا لذلك؛ وقد وفقه الله في آلاف المواضع والشروح والمعاني الرائعة واللفتات القيِّمة.. ولربما خانه تعبيره في بعض العبارات والاسترسالات.. لكن كثيرا منها يوضحها كلامه في مواضع أخرى.

3- إن العلماء الكبار لم يُكفِّروا سيد، بمن فيهم علماء الاتجاه السلفي.. ووقف بعضهم في وجه من كفَّر سيّد، كما فعل العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وعضو هيئة كبار العلماء بالسعودية، في رده على ربيع المدخلي؛ حيث طلب منه عدم نشر اتهاماته لسيد لكثرة ما فيها من التجنِّي عليه، مؤكدا أن الواجب "الدعاء له بالمغفرة، والاستفادة من علمه..".

وفي الدراسة التي نال بها ماجد شبالة درجة الدكتوراه من جامعة صنعاء حول "منهج سيد قطب في العقيدة"، توصل إلى أن سيد قطب كان موافقا لما عليه أهل السنة والجماعة في الفهم، وأن سيد اهتم بالعقيدة وخصائصها، ونواقضها، وأنه نقض منهج مخالفي السلف الصالح من المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة.. وأن كلامه المتوهم خطؤه، يقابله كلام واضح قاطع يوافق الفهم الصحيح كما في قضايا خلق القرآن ووحدة الوجود.. وغيرها.

4- إن سيّد قد بيَّن نواقض الإيمان التي يقررها الكتاب والسنة، مع اهتمامه الشديد بـ"شرك الحاكمية" المرتبط بنبذ شرع الله، وتبني أيديولوجيات وتشريعات مناقضة للدين وتعاليمه، باعتباره أبرز أنواع الكفر في هذا العصر. وبالرغم من قوة عبارات سيد وحدَّتها في بعض المواضع، فإن من درس كتابات سيّد من العلماء المنصفين، ومنهم العلامة الشيخ عمر الأشقر (وهو ما سمعه كاتب هذه السطور منه) يذكرون أن كتابات سيد لم تَحوِ نصا واحدا يُصرِّح فيه بتكفير المجتمعات والأفراد.. كما أن العدد الأكبر ممن خالط سيد من رفاقه ينفون عن سيد تهمة التكفير.
***
وأخيرا، فقد آن الأوان لإنصاف سيد قطب، وأن تُقرأ كتاباته بشكل موضوعي، وأن تحفظ مكانته باعتباره أحد أبرز رواد الفكر الإسلامي والإصلاح والتجديد في القرن العشرين.. رحمه الله.
وللمستزيد عن سيّد أن يطلع على الدراسات المرجعية المتميزة للدكتور صلاح الخالدي في هذا المجال.

الأحد، 28 أغسطس 2016

الثورات تُعيد المستعمرين إلى بلادنا لحماية أدواتهم

الثورات تُعيد المستعمرين إلى بلادنا لحماية أدواتهم


د.فيصل القاسم

عندما نراجع شريط ذكريات الثورة السورية على مدى أكثر من خمس سنوات، تصبح الصورة أكثر وضوحا. ويصبح المشهد عاريا بلا رتوش. 
لقد سمعنا كثيرا في الماضي أن الاستعمار خرج من الباب، لكنه عاد من النافذة. ومازلنا نسمع أن الكثير من الأنظمة العربية الحاكمة ليست سوى واجهات إما للمستعمر القديم، أو للقوى الكبرى. 
وقد كان المفكر التونسي هشام جعيط قد وصف الكثير من الحكومات العربية بأنها ليست حكومات وطنية تمثل شعوبها أو تعمل من أجل بلادها، بل هي مجرد وكلاء لقوى خارجية في بلادها، فكما أن الشركات لها مندوبون ووكلاء عامون في كل بلدان العالم كشركات السيارات والساعات والكحول والألبسة، فإن القوى الكبرى لها وكلاء في بلادنا يسمونهم حكاما. 
لقد ظللنا نسمع عن هذه الأمور، وكنا نعتقد أنها مجرد فذلكات مثقفين ويساريين، لكن الثورة السورية أثبتت ذلك بشكل صارخ.

لقد كان النظام السوري تحديدا ينعت كل الدول العربية التي تعارضه بأنها مجرد توابع لأمريكا وأنها لا تمتلك قرارها، بل هي مجرد وكالات غربية. وقد ظننا لكثرة ما سمعنا الإعلام السوري وهو يقوم بتخوين العرب الآخرين واعتبارهم مجرد عملاء للغرب، ظننا أن النظام صاحب قراره، وأن القرار الوطني المستقل الوحيد الموجود في العالم العربي هو في سوريا فقط. 
لكن كما هو معروف فإن حبل الكذب قصير جدا مهما طال. 
لقد جاءت الثورة السورية لتكشف بما لا يدع مجالا للشك أن النظام السوري مثله مثل بقية الأنظمة مجرد وكيل، وهو لا يختلف أبدا عن الوكلاء التجاريين الذين ذكرهم هشام جعيط.

بدأت تبعية النظام لروسيا تظهر في السنوات الأولى من الثورة عبر الموقف الروسي في مجلس الأمن، فكلما كان هناك محاولة لإدانة النظام أو اتخاذ إجراءات معينة ضده عقابا له على ما يفعله بسوريا والسوريين، كانت روسيا ومعها الصين تلجأ فورا إلى استخدام حق النقض الفيتو ضد أي قرار دولي يستهدف النظام. 

طبعا كانت روسيا دائما تبرر استخدامها للفيتو لحماية النظام بأنها ضد التدخل الدولي في شؤون الدول، وأنها بذلك تحمي القانون الدولي بالدرجة الأولى، لكن مع مرور الأيام بدأنا نكتشف أن روسيا تحترم القانون الدولي كما تحترمه أمريكا تماما، فعندما يكون في مصلحتها ترفع من شأنه، وتعتمده وثيقة قانونية، وعندما يقف عائقا في طريق تحقيق مشاريعها تدوسه بأرجلها غير مأسوف عليه كما فعلت عندما غزت سوريا عسكريا. ما الفرق بين الغزو الأمريكي للعراق والغزو الروسي لسوريا؟

لم يكن استخدام الفيتو الروسي في مجلس الأمن الدولي حماية للقانون الدولي أبدا، بل كان دفاعا مفضوحا عن محميتها السورية وعميلها في دمشق. كما تحمي أمريكا توابعها، فإن روسيا تحمي تابعها. 
لقد كان الفيتو الروسي المرحلة الأولى لحماية النظام، لكن عندما بدأت الأمور تفلت من يديها، وبدأ النظام يفقد قدرته على مواجهة الثوار، لم تعد تكتفي روسيا بالفيتو، بل كان لا بد من التدخل المباشر.
وقد بدأت تباشير التدخل المباشر عندما لعبت روسيا دور الوسيط بين النظام وأمريكا لتجريد سوريا من سلاحها الكيماوي الاستراتيجي. 
لقد كانت روسيا تعلم أنه لو بدأ الناتو بقصف النظام لربما خسرت روسيا مستعمرتها السورية إلى الأبد، فكان إذا لا بد من التوسط للحيلولة دون انهيار تابعها في دمشق.

وبعد ذلك حاولت روسيا تزويد النظام بكل أنواع السلاح والخبراء، لا بل إنها دعمت كل حلفائه كالإيرانيين وغيرهم عسكريا وسياسيا لحماية النظام، لكن ذلك لم يحم النظام، وعندما أصبح الثوار على تخوم الساحل السوري معقل النظام، سمعنا فجأة عن زيارة مفاجئة للرئيس السوري إلى موسكو. 
وقد بدأت مفاعيل تلك الزيارة تظهر بعد أسابيع عندما بدأت روسيا تغزو سوريا غزوا عسكريا حقيقيا، من خلال إقامة القواعد العسكرية المفضوحة في حميميم واستباحة كل الأجواء والأراضي السورية من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها.

إن ما يحصل في سوريا يذكرنا بفرق المصارعة تماما، فعندما ينهار مصارع يخرج من الحلبة، ويصعد محله مصارع جديد لمواجهة الخصم. 
لقد خرج النظام من الحلبة منذ زمن، وتحول جيشه إلى مجرد مليشيا تقاتل إلى جانب المليشيات الأجنبية التي استجلبها لحمايته، وعندما انهارت المليشيات الإيرانية وتوابعها، جاء دور روسيا المدير الحقيقي للعبة السورية لعلها تفوز بالجولة الأخيرة وتحسم الأمر لصالحها، فتدخلت، في الحلبة كما يتدخل المصارع عندما يجد أن شريكه قد انهزم. 

وقد صدق المعارض السوري المحسوب على النظام لؤي حسين عندما قال لجمهور النظام: إياكم أن تظنوا أنكم انتصرتم، فأنتم مجرد توابع. 
وأضاف حسين حرفيا: "من دون أدنى شك لم ينتصر النظام إطلاقا إلا ببقاء قياداته على كراسيهم. وهذا الأمر لا يحتاج لكبير جهد للتأكد منه. فالقوات العسكرية الضاربة في أغلب المناطق هي قوات غير سورية، هي "حلفاء الجيش السوري" كما يسميهم الإعلام الموالي.
النظام باع نفسه وقراره وأرضه وسماءه لأي غريب مستعد أن يحفظ لقياداته كراسيهم، حتى لو تحولت هذه الكراسي إلى كراسي كرتونية لا يحق لها إصدار أي قرار عسكري أو سيادي، ويبقى لها قرارات أسعار البندورة والفجل".

سيد قطب الصحوة الاسلامية … حسان الصحوة الأمنية


سيد قطب الصحوة الاسلامية … حسان الصحوة الأمنية

آيات عرابي

خمسون عاماً مرت على استشهاد الشيخ سيد قطب, خمسون عاماً مرت على تلك الصورة الباهتة للرجل وهو يخطو مهيباً نحو المشنقة والتي تبدو فيها السماء مكفهرة تلعن العسكر وتشتكي إلى ربها سفك دم الرجل لأنه قال ربي الله.

لم يكن سيد قطب رجلاً عادياً, ملامحه الهادئة لم تكن تكشف العواصف الفكرية التي تعتمل في داخله.
خطورة سيد قطب على العسكر والعلمانيين في نظري تنبع من أنه يمثل حالة قابلة للتكرار, لغم قابل للانفجار في أي لحظة, فالرجل تحول في امريكا من النقيض إلى النقيض, من رجل مؤمن بأفكار حزب الوفد (وهو حزب صنعه الاحتلال البريطاني وصنع أفكاره الليبرالية المتصالحة مع الاحتلال ليصبح بديلاً عن أي كيان اسلامي وهو ما يشبه نزع رصاصات المسدس ووضع رصاصات فشنك مكانها) إلى مؤمن بالخلافة ومصلح يرى الجاهلية التي يحاولون فرضها على المجتمع.
أن تكتشف ذاتك فجأة, من جملة من مشهد, من صورة, من حوار مع احدهم.
وإن كان الشهيد حسن البنا هو من أيقظ المسلمين في مصر ورصهم صفوفاً وحارب بهم الكيان الصهيوني ومثل أول تهديد حقيقي على مخططاتهم, فالشهيد سيد قطب كان أول من ضرب بمعوله صنم الدولة القومية بكتاباته.

قبل حسن البنا لم يكن امام المسلمين سوى حزب الوفد الذي صنعه الاحتلال البريطاني, فإذا بهم أمام واقع جديد تشكل في بضع سنين وتحول إلى جيش يحقق الانتصارات على العصابات الصهيونية في فلسطين, ثم جاء سيد قطب ليكشف بكتاباته المتعمقة أن انتكاسة المسلمين في فلسطين ونجاح النقراشي نسبياً في سحب الاخوان المسلمين من فلسطين واحتواءهم نسبياً عن طريق الاعتقالات وحل الجماعة, انما جاء نتيجة لبقاء تلك المؤسسات الصنمية التي اسسها الاحتلال في مصر.

كان الشهيد سيد قطب يمتلك بصيرة حادة, فتنبأ قبل انقلاب 2013, وقبل طلعات الطيران شبه اليومية التي تُحرق فيها منازل سيناء ويُقتل فيها المصريون هناك وقبل أن يتحول جيش النظام السوري إلى بندقية تُصوب نحو مسلمي سوريا, بأن هذه الجيوش ليست للدفاع عن المسلمين بل للدفاع عن اليهود وقتل المسلمين.

تنبه سيد قطب مبكراً إلى ضرورة إزالة ذلك الورم السرطاني حتى تتحرر مصر, وهو الدرس الذي استوعبه قبله صلاح الدين الأيوبي فعمل على تدمير وتفكيكه جيش العبيديين في مصر قبل أن يتجه لتحرير بيت المقدس.

حسن البنا كان الجراح الذي تحرك بمشرطه نحو الجزء الظاهر من الورم في فلسطين وسيد قطب كان الطبيب الذي شخص أصل الورم. الرجلان كانا ولا يزالا السيفين المتقاطعين الذين تحتاجهما الحركة الاسلامية الآن. التنظيمي والتنظيري, الحركي والفكري.
وبعد أن تمكن المقبور عبد الناصر (بتخطيط أمريكي صهيوني) من امتصاص قوة جماعة الإخوان المسلمين واكمل المقبور فيصل عملية الاحتواء وجعل من الخليج داراً للنقاهة لمن تبقى من جماعة الإخوان بعد المحارق التي ارتكبها المقبور عبد الناصر في حقهم, كانت أفكار الرجل قادرة على التأثير في الحركة الاسلامية, فكان لابد من تدشين جيل من الدعاة المُدجنين المصنوعين في مكاتب أمن الدولة وسلالم المخابرات, تم استيراد كتالوجهم من آل سعود ليعتلوا موجة الصحوة الاسلامية التي واكبت انتصارات المسلمين في افغانستان على الاحتلال السوفييتي ومزج ذلك الأسلوب مع أسلوب التعامل الأمني, فخرجت أكاديمية أمن الدولة لفنون الدعوة الاسلامية طابوراً من الدعاة الأمنيين كحسان ومحمود المصري وغيرهم, ليحاصروا الدين في ركن ضيق وليمتصوا جانباً كبيراً من الصحوة الاسلامية.

كان حسن البنا وسيد قطب يمثلان الصحوة الاسلامية بينما كان حسان ومحمود المصري واشباههم يمثلون الصحوة الأمنية, يمثلون اسلاماً لا يحدثك الا عن نواقض الوضوء والاستنجاء وتهذيب اللحية, ويتعامى عن عمالة مؤسسات العسكر لاعداء الدين.
والآن وبعد خمسين عاماً من استشهاد سيد قطب وبعد 67 عاماً من استشهاد حسن البنا رحمة الله عليهما, ما تزال الثورة تحتاج إلى سيفين متقاطعين مثلهما.




السبت، 27 أغسطس 2016

ملاطفة مقاتلٍ زاده الخيال

ملاطفة مقاتلٍ زاده الخيال

وائل قنديل

يزمجر الجنرال محمّراً عينيه، فتتحوّل المعارضة، المستأنسة أصلاً، إلى ملاطفةٍ مرتعشة، لا تفلح في تجنب الغضب الجهول، فيكون الحل الأسرع والأسلم فتح النار مجدّداً على الرئيس الأسير محمد مرسي، وجماعة الإخوان المسلمين.

يقدّم عبد الفتاح السيسي نفسه، في حواره المعروض بكل نقاط التوزيع، باعتباره "المقاتل"، حتى يخالُ لك أن في كل نقطة من جسده طعنة أو رصاصة، حصاد مشاركته في المعارك التاريخية، من حطين وعين جالوت وحتى أكتوبر 1973، متلبسا روح "بطل الحرب والسلام".

يتحدّث من الوضع واقفاً فوق تلال الخراب الاقتصادي، والانهيار السياسي، متوعداً من يرفض هذيانه بأن ما حقّقه من إنجازاتٍ يفوق الخيال، فتشتعل، على الفور، الحرب على الدكتور مرسي و"الإخوان"، داخل معسكر المعارضة اللطيفة.

في هذا الطقس السياسي "الخريفي" العاصف، من يستمع إلى تصريحات عبد المنعم أبو الفتوح عن الرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان قد يتصوّر أن الرجل أمضى عمره كله في صراعٍ حامي الوطيس مع الجماعة، أو ربما يصل بك الخيال إلى الظن بأنه عاش عمره السياسي داخل تنظيماتٍ يسارية أو ليبرالية، متشدّدة في رفضها الإسلام السياسي، خصوصاً وهو يصف، في حواره لتلفزيون "العربي"، زميل السنوات الطويلة في جماعة الإخوان، الدكتور محمد مرسي، بأنه وأحمد شفيق، مثل "الطاعون والكوليرا". 
غير أن التاريخ القريب يقول لنا إن أبو الفتوح ظل متمسكاً بموقعه البارز في مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين، حتى قرّرت الجماعة عدم اختياره مرشحاً لها في انتخابات الرئاسة 2012.

انتهت علاقة أبو الفتوح بجماعة الإخوان في يوليو/تموز 2011 على وقع أزمة ترشيحات الرئاسة. 

وعن قرار فصل أبو الفتوح، قال مرشد الإخوان الذي يقبع في الزنزانة، مرتدياً ملابس الإعدام، الدكتور محمد بديع: "لم يكن من السهل على الإخوان، وعليّ شخصياً اتخاذ مثل هذا القرار، وقلت للإخوان يومها إننى كمن يقطع أصابعه، لكن قطع أصابعي أهون عندي من نقض العهد مع الله". 
وأكد بديع حينها أن "أبوالفتوح هو الوحيد الذي بايعني مرتين، وهو يعلم جيداً مكانته في قلبي، وأنا أعلم الشعبية التى يتمتع بها، وحاولت جاهداً منع ما حدث، واقترحت عليه حلاً كان سيمثل نهاية مناسبة للمشكلة وترضي الجميع، لكنه رفض".

عبد المنعم أبو الفتوح، مثل هشام جنينة، يحاولان تجنب بطش نظام الجنرال ذي الخيال الفقير، عن طريق توجيه أكبر عدد من اللكمات العنيفة في وجه المقيّدين بالسلاسل، ممن لا يملكون إمكانية الرد أو الدفاع عن النفس، فالسيد هشام جنينة الذي مازال ينتظر إشارة الرضا من الجنرال، كي يهرول إليه، يتحدّث عن مرحلة الرئيس مرسي، وكأنه كان معتصماً داخل خيمة في ميدان التحرير، مطالبا برحيل النظام، وليس رئيساً للجهاز المركزي للمحاسبات فيه.

تتجاوز المسألة كونها حنقاً على الرئيس مرسي و"الإخوان"، إلى ممارسة نوعٍ من رياضات الرشاقة السياسية التي تقي أصحابها ضربات نظام، هو للبلطجة أقرب، لكنّ الوقائع تؤكد أن هذه الرشاقة قد تؤجل الضربة، لكنها لا تمنعها تماماً. 

ويمكن الرجوع، هنا، إلى حالة الدكتور عبد الرزاق السنهوري، رئيس مجلس الدولة بعد يوليو/تموز 1952، والذي حاول شراء رضا السلطة، بالإمعان في المزايدة عليها في العداء للإخوان المسلمين.

في الكتاب المهم "ازدهار وانهيار النخبة القانونية المصرية" للدكتور عمرو الشلقاني، تجد مشاهد نهاية السنهوري، كما وضعتها سلطة عبد الناصر، في أزمة مارس/آذار 1954، صورة طبق الأصل من مشاهد تخلص سلطة عبد الفتاح السيسي من هشام جنينة. والعجيب أكثر هو التطابق في أداء الشخصيتين القانونيتين، على الرغم من 62 عاماً تفصل بين الموقفين.

يقدّم الكتاب الخطوط العريضة لما يُعرف في العامية السياسية المصرية بقصة "ضرب السنهوري بالجزمة على سلم مجلس الدولة"، وهي العملية التي جهز لها الضباط جيشاً من المواطنين الشرفاء، اتهموا فيها رئيس مجلس الدولة بالخيانة والعمالة.

يفند المؤلف ما يسميه السرد التقليدي للقصة، بنبراته البطولية، والذي يُظهر السنهوري شهيداً لسيادة القانون واستقلال القضاء، فالرجل الذي يصوّرونه ضحيةً لرفض العسكر تبني دستور ديمقراطي جديد وعقد انتخابات نزيهة، هو نفسه الذي جلس على منصته القضائية في نهاية يوليو/تموز 1952، بعد أسبوع مما يسميه صاحب الكتاب "الانقلاب العسكري"، وأفتى بما ينسف أحكام دستور 1923، ويتعارض مع أبسط قواعد المنطق القانوني السليم، وهو كذلك يمكن اعتباره "ترزي قوانين" للعسكر، حتى إن غلاف مجلة روز اليوسف، قبل أسبوع من الاعتداء على السنهوري، صدر برسم كاريكاتوري يظهر فيه دستور العسكر الجديد كأنه عروس، يتأبّط ذراعيها جمال عبد الناصر ومحمد نجيب، ويزفها صلاح سالم بالورود من الأمام، فيما يدقّ السنهوري الصاجات في خلفية الموكب، ومعه زميله سليمان حافظ.
غير أن ذلك كله لم يشفع، فأمام جبروت العسكر الكل باطل وقبضُ ريح.

الجمعة، 26 أغسطس 2016

عودة الأتراك إلى الصدارة بجدارة

عودة الأتراك إلى الصدارة بجدارة




محمد بن المختار الشنقيطي


أستاذ الأخلاق السياسية بمركز التشريع الإسلامي والأخلاق في قطر

منذ أكثر من ستة قرون لاحظ عالِم الاجتماع وفيلسوف الحضارة عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406م) أن الأتراك جددوا نضارة الحضارة الإسلامية بعد أن أبْلتها القرون، وقعدت بها النخب الممسكة بزمام الدولة العباسية، حين تخلَّت عن معاني الرجولة والقوة، وأدمنت الترف والخمول. ثم رمتها الأمم عن قوس واحدة، من المغول في الشرق إلى الصليبيين في الغرب، ونخر عظامَها الفكرُ الباطني.
وقد وجد ابن خلدون -الذي عاصر المماليك في مصر- أن اختراق الشعوب التركية لقلب العالم الإسلامي، وهيمنتَها العسكرية على زمام الأمور فيه، كان "عناية من الله تعالى سابقة، ولطائفَ في خلقه سارية‏"، فكتب:

"حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف، ولبستْ أثواب البلاء والعجز، ورُمِيت الدولة بكفرة التتر الذين أزالوا كرسيّ الخلافة، وطمسوا رونق البلاد، وأدالوا بالكفر عن الإيمان، بما أخذ أهلَها عند الاستغراق في التنعُّم، والتشاغل في اللذَّات، والاسترسال في الترف، من تكاسُل الهمم، والقعود عن المناصرة، والانسلاخ من جِلدة البأس وشعار الرجولية. فكان من لطف الله سبحانه أنْ تداركَ الإيمانَ بإحياء رمَقه، وتَلافى شمل المسلمين بالديار المصرية، بحفظ نظامه، وحماية سياجه، بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية، وقبائلها العزيزة المتوافرة، أمراء حامية، وأنصارا متوافية..‏ يدخلون في الدين بعزائم إيمانية، وأخلاق بدوية، لم يدنِّسها لُؤْم الطباع، ولا خالطتها أقذارُ اللذات، ولا دنَّستها عوائد الحضارة، ولا كسَر من سورتها غزارةُ الترف‏.‏. فيسترشح من يسترشح منهم لاقتعاد كرسيِّ السلطان، والقيام بأمور المسلمين، عناية من الله تعالى سابقة، ولطائف في خلقه سارية‏.‏ فلا يزال نشءٌ منهم يردف نشء، وجيل يعقب جيلا، والإسلام يبتهج بما يحصل به من الغَناء، والدولة ترِفُّ أغصانُها من نضرة الشباب." (تاريخ ابن خلدون، 5/428).
"لقد منحت الحملات الصليبية والغزوات المغولية فرصة ذهبية للأتراك لاكتساب شرعية القيادة والريادة في العالم الإسلامي بجدارة، في وقت كان فيه المسلمون في مسيس الحاجة إلى براعة الأتراك العسكرية، واستعدادهم للتضحية"
وقد عبَّر ابن خلدون -وهو العربي اليمنيُّ الجذور- عن عمق أساهُ لأن العرب فقدوا روحهم المتوثبة وفتوتهم الأولى، بعد أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم شملهم، وأحال حياتهم من حياة الانتحار الجماعي في اقتتال بين القبائل دون غاية أو رسالة أخلاقية، إلى حياة التوحيد والوحدة والجهاد، لبناء عالم أفضل لهم وللبشرية.

والسبب في هذا التراجع -في تحليل ابن خلدون- هو إهمال العرب لمصدريْ قوتهم، وهما الرسالة الإسلامية والعصبية الاجتماعية. لكن ابن خلدون -وهو المسلم المتجاوز لحدود الانتماء العرقي- كان مغتبطا بأن التُّرك سدُّوا مسدَّ العرب في قيادتهم لمسار الحضارة الإسلامية، بعد أن خَبَت وهجُ الروح التي حرَّكت العرب الفاتحين في صدر الإسلام.

لقد منحت الحملات الصليبية والغزوات المغولية فرصة ذهبية للأتراك لاكتساب شرعية القيادة والريادة في العالم الإسلامي بجدارة، في وقت كان فيه المسلمون في مسيس الحاجة إلى براعة الأتراك العسكرية، واستعدادهم للتضحية. وهكذا امتدت حقبة الريادة التركية في العالم الإسلامي ثمانية قرون ونصف قرن، من تتويج أول سلطان سلجوقي -وهو السلطان طغرل- في بغداد عام 1055م إلى خلع آخر سلطان عثماني قوي -وهو السلطان عبد الحميد الثاني- في إسطنبول عام 1909م. وانتقل مركز ثقل الحضارة الإسلامية غربا مع حركة القافلة التركية المغرِّبة، من وسط آسيا إلى بلاد فارس، ثم إلى العراق والشام، وأخيرا إلى مصر والأناضول.

كانت الجنديَّة طريق الأتراك إلى القيادة، فهم لم يستحوذوا على وجدان المسلمين وولائهم إلا لحسن بلائهم وحملهم راية الملة والأمة. وقد برهن الترك على صلابة والتزام في الدفاع عن حدود دار الإسلام لا مثيل لهما لدى أي من الشعوب في تاريخ الإسلام. وبهذه الصفات تقدَّم ذلك الشعب القوي الشكيمة بجدارة، وانتقل من الصفوف الخلفية إلى الصدارة. وقد روى مؤرخحلب ابن العديم قصة طريفة تدل على عمق التحول التاريخي الذي مرَّ به الترك في طريقهم إلى ريادة العالم الإسلامي. ففي معرض حديثه عن زحف السلطان ألب أرسلان -ثاني سلاطين السلاجقة- من العراق إلى الشام، كتب ابن العديم:

"ولما قَطع السلطان المُعظم الفرات من نهر الجوز، نزل بعض المروج على الفرات، فرآه حسنا، فأُعجب به، فقال له الفقيه أبو جعفر: يا مولانا احمد الله تعالى على ما أنعم به عليك، فقال: وما هذه النعمة؟ فقال: هذا النهر لم يقطعه قطُّ تركي إلا مملوكٌ، وأنتم اليوم قد قطعتموه ملوكا. قال: فلعهدي به وقد أحضر جماعة من الأمراء والملوك، وأمرني بإعادة الحديث، فأعدتُه، فحمد الله هو وجماعة من حضر عنده حمدا كثيرا." (ابن العديم، بغية الطلب في تاريخ حلب، 4/1974).

وقد بيَّنتُ في صدر كتابي عن (أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية) -وهو مترجم إلى اللغة التركية- أن العرب كانوا سيف الإسلام في حقبة الاندفاع، وأن الترك كانوا درع الإسلام في حقبة الدفاع، وكأنما انتقلت مصائر العالم الإسلامي من أيدي العرب إلى أيدي الترك منذ منتصف القرن الخامس الهجري. كما بيَّنتُ بالاستقراء التاريخي أن كل القادة العظام للمقاومة الإسلامية خلال الحروب الصليبية (سلاجقة، ودانيشمند، وأراتقة، وزنكيين، وخوارزميين، ومماليك) كانوا من أصول تركية.
"المقاومة الإسلامية للحملات الصليبية -في وجهها السوسيولوجي والعسكري- كانت ظاهرة تركية في جوهرها. وما تخللها من دور رائع للسلطان الكردي صلاح الدين الأيوبي، تأكيدٌ للقاعدة لا خروج عليها، لأن صلاح الدين كان جزءا من النخبة العسكرية التركية لا مقابلا لها"
فالمقاومة الإسلامية للحملات الصليبية -في وجهها السوسيولوجي والعسكري- كانت ظاهرة تركية في جوهرها. وما تخللها من دور رائع للسلطان الكردي صلاح الدين الأيوبي، تأكيدٌ للقاعدة لا خروج عليها، لأن صلاح الدين كان جزءا من النخبة العسكرية التركية لا مقابلا لها.

ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن المماليك الأتراك بقيادة بيْبرس هم من كسروا العاصفة المغولية العاتية في معركة عين جالوت بفلسطين، وهو نصرٌ أنقذ العالم الإسلامي من خطر مُميت لم يواجه مثلَه من قبل. كما أننا لسنا بحاجة إلى التذكير بجهد العثمانيين وجهادهم على مدى أربعمائة عام لصيانة حدود العالم الإسلامي، من سواحل الخليج إلى ضفاف المتوسط، ومن أدغال السودان إلى أعماق البلقان.

ومما ساعد الأتراكَ في الإمساك بمصائر العام الإسلامي أنهم كسبوا العرب السنَّة إلى صفهم، وهم عمق الإسلام الروحي والثقافي. كما كسبوا الأكراد السنة إلى صفهم، وهم شعب محارب كانت له مواقف مشهودة في مقاومة الصليبيين. وقد توصلت النخبة السنية التركية والعربية والكردية إلى أرضية مشتركة من التفاهم، تتأسس على تقاسم الأدوار والمكانة. وقد لاحظ البحَّاثة في الأدب الفارسي والتركي، حسين مجيب المصري، أن الأتراك لم يتَّسِموا بالاستعلاء العرقي والثقافي في علاقتهم بالعرب بخلاف الفرس الذين تحكمت فيهم العُقد العرقية والثقافية تجاه العرب والترك معا على مرِّ القرون (المصري، صلات بين العرب والفرس والترك، ص 219-220).

وتعيش الأمة الإسلامية اليوم حالة انكشاف إستراتيجي خطير، تغذيها ظروف تمزُّق داخلي مزمن، واختراق خارجي خطير. وهي حالٌ تشبه حالها أثناء الحملات الصليبية والعاصفة المغولية. ومن المؤكد أنه لن يُخرج الأمة من هذا المأزق إلا ظهور قوة إسلامية تتصدر مسيرتها بعزم وجدارة. 

وقد أدرك الفيلسوف السياسي صمويل هنتغتون هذا الأمر، وشرحه بإطناب في كتابه الذائع الصيت (صدام الحضارات)، وهو كتاب كثيرا ما أسيء فهمُه، وأسيء فهم مؤلفه الذي لم يكن داعية للحرب أو صدام الحضارات -وقد وقف في وجه الغزو الأميركي للعراق بشجاعة- وإنما كان مراقبا ذكيا، أدرك بفطنته أثَر الأديان والثقافات في العلاقات الدولية في أيامنا، خلافا لما كان عليه الحال خلال الحرب الباردة. وقد شرح هنتيغتون الفكرة الرئيسية في كتابه بالقول:

إن "العالم سيتم تنظيمه [بعد الحرب الباردة] على أساس الحضارات أو لن يُنظَّم أبدا. في هذا العالم دول المركز في الحضارات هي مصادر النظام، وذلك في داخل الحضارات ثم بين الحضارات مع بعضها، عن طريق التفاوض بين دول المركز في كل منها.. العوامل الثقافية المشتركة تعطي شرعية للقيادة، ولدور دولة المركز في فرض النظام، بالنسبة لكل من الدول الأعضاء، والقوى والمؤسسات الخارجية" (هنتيغتون، صدام الحضارات، ص254).

ثم توصل إلى أن "السلام لا يمكن أن يتحقق أو أن يتم الحفاظ عليه في أي منطقة إلا بقيادة الدولة المسيطرة في تلك المنطقة. الأمم المتحدة ليست بديلا عن القوة الإقليمية، والقوة الإقليمية تصبح مسؤولة وشرعية عندما تمارسها دولة المركز مع الدول الأعضاء في حضارتها. دولة المركز يمكن أن تقوم بوظيفتها النظامية، لأن الدول الأعضاء تنظر إليها كقُربَى ثقافية. الحضارة أسرة ممتدة، ومثل أعضاء الأسرة الأكبر سنا، تقوم دول المركز بتوفير الدعم والنظام للأقارب. وفي غيبة القُرْبى هذه، فإن قدرة الدولة الأقوى على حلِّ الصراعات في منطقتها أو فرض النظام فيها تصبح محدودة." (صدام الحضارات، 255).
"تعيش الأمة الإسلامية اليوم حالة انكشاف إستراتيجي خطير، تغذيها ظروف تمزُّق داخلي مزمن، واختراق خارجي خطير. وهي حالٌ تشبه حالها أثناء الحملات الصليبية والعاصفة المغولية. ومن المؤكد أنه لن يُخرج الأمة من هذا المأزق إلا ظهور قوة إسلامية تتصدر مسيرتها بعزم وجدارة"
وقد لاحظ هنتيغتون حالة اليُتم التي تعيشها الحضارة الإسلامية في هذا العصر، لأنها لا تملك "دولة مركز" تتصدر مسيرتها، وتضبط خلافاتها الداخلية، وتدرأ عنها سهام الأعداء. فـ"عدم وجود دولةِ مركزٍ إسلامية يمثل مشكلات مهمة لكل من المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية" (صدام الحضارات، 221)، فهذا الأمر "مصدر ضعف بالنسبة للإسلام، ومصدر تهديد للحضارات الأخرى." (ص 289).

وقد بدأت حالة الانكشاف الإستراتيجي هذه منذ تفكيك الدولة العثمانية على أيدي المستعمرين الأوربيين، مطالع القرن العشرين. فـ"نهاية الإمبراطورية العثمانية تركت الإسلام دون دولة مركز.. وهكذا فإنه على مدى معظم القرن العشرين لم يكن لدى أية دولة إسلامية قوة كافية، ولا ثقافة كافية، ولا شرعية دينية، للاضطلاع بهذا الدور، لكي تصبح مقبولة من الدول الإسلامية والمجتمعات غير الإسلامية، كزعيم للحضارة الإسلامية" (صدام الحضارات، 289).

وقد استعرض هنتيغتون ست دول إسلامية وقدَّم تقييما لإمكانية اضطلاع أي منها بدور "دولة المركز" في الحضارة الإسلامية، وهي: السعودية، ومصر، وتركيا، وإندونيسيا، وباكستان، وإيران. فوجد أن خمسا منها تعاني من موانع جوهرية تحول بينها وبين هذه الريادة، إما بسبب "عدد سكانها الصغير نسبيا وعدم حصانتها الجغرافية" (السعودية)، أو بسبب "الفوارق الدينية" بينها وبين جمهور الأمة وسوء العلاقة بينها وبين العرب (إيران)، أو لفقرها في الموارد الطبيعية (مصر)، أو لانقسامها العرقي وعدم استقرارها السياسي (باكستان)، أو لأنها "تقع على حدود الإسلام بعيدا عن مركزه العربي" (إندونيسيا).

وبقيت من الدول الست تركيا وحدها هي المؤهلة لريادة العالم الإسلامي، فـ"تركيا لديها التاريخ، وعدد السكان، والمستوى المتوسط من النمو الاقتصادي، والتماسك الوطني، والتقاليد العسكرية، والكفاءة.. لكي تكون دولة مركز. ولكن أتاتورك حَرَم الجمهورية التركية من أن تخلُف الإمبراطورية [العثمانية] في هذا الدور، وذلك بسبب تحديدها بكل وضوح كمجتمع علماني" (صدام الحضارات، ص 291). ثم فرضت عليها الحرب الباردة والخطر السوفياتي "التورط مع الغرب" (ص 236) في أحلافه، مما جعل تركيا "دولة ممزَّقة" (ص 243) في هويتها وفي خياراتها الإستراتيجية.

فالموانع التي تمنع تركيا من الصدارة والتحول إلى دولة المركز في العالم الإسلامي موانع عارضة، وليست موانع جوهرية، وهي الشطط الأيديولوجي العلماني الذي فُرض على شعبها، وفرض التبعية للغرب عليها، بينما تدعوها مكانتها وتاريخها وثقافتها إلى أن تكون رأسا في العالم الإسلامي، لا ذنَبا في الغرب. وقد انتبه هنتيغتون إلى أن تلك القيود المفروضة على تركيا بدأت تتآكل، فـ"في تركيا -كما في كل مكان- تؤدي الديمقراطية إلى الرجوع إلى الأصول وإلى الدين." (ص 241)، ولذلك فإن "الانبعاث الإسلامي غيَّر شخصية السياسة التركية" (ص 241).

وختم هنتيغتون ملاحظاته الثمينة بإمكان تحرُّر تركيا من القيود المفتعلة المفروضة عليها نهائيا حين تستكمل اكتشاف ذاتها، وتعيد تعريف نفسها، فكتب: "ماذا لو أعادت تركيا تعريف نفسها؟ عند نقطة ما يمكن أن تكون تركيا مستعدة للتخلي عن دورها المُحبِط والمُهين كمتسوِّل يستجدي عضوية نادي الغرب، واستئناف دورها التاريخي الأكثر تأثيرا ورُقيا كمُحاور رئيسي باسم الإسلام وخصم للغرب." (ص 291). لقد صدر كتاب هنتيغتون منذ نحو عقدين من الزمان، ولو كان مؤلفه حيا اليوم لسَعِد بصدق تحليلاته، وعمق نظرته إلى المستقبل، فقد أعادت تركيا تعريف نفسها، واكتشفت جذورها.
"تدل الهزة الوجدانية التي صاحبت أحداث الانقلاب في جميع أرجاء العالم الإسلامي على أن فشل هذا الانقلاب ليس حدثا سياسيا عابرا، بل هو بداية انعطافة تاريخية كبرى، ستعيد الأتراك إلى صدارة العالم الإسلامي بجدارة"
إن عبرة التاريخ الذي استعرضناه هنا، ومنطق الجغرافيا السياسية الذي تحدث به هنتيغتون، يدلان على أن تحول أي من الدول اليوم إلى "دولة مركز" في العالم الإسلامي يستلزم شروطا ثلاثة:

- أن تكون قريبة مكانيا ووجدانيا من العالم العربي الذي هو القلب الثقافي للإسلام.
- وأن تملك القوة الاقتصادية والعسكرية والبشرية والمؤسسية الداعمة لطموحاتها.
- وأن تملك الإرادة السياسية والاستعداد للتضحية والمخاطرة ثمنا لهذه الريادة.

وتركيا هي الدولة الوحيدة التي يتوفر فيها الشرط الأول والثاني. أما الشرط الثالث فلم يتحقق بعدُ، كما يظهر من عجز تركيا عن وقف الجرح السوري النازف على حدودها منذ خمسة أعوام، رغم رغبتها في ذلك ومصلحتها فيه. وربما يكون السبب هو قيود الدولة العميقة والكيان الموازي الذي كان ينخر تركيا من الداخل، والخوف من غدر الغرب الذي يتربص بها الدوائر.

لكن فشل الانقلاب الأخير حرر أيدي تركيا إلى حد بعيد من هذين القيدين. وتدل الهزة الوجدانية التي صاحبت أحداث الانقلاب في جميع أرجاء العالم الإسلامي على أن فشل هذا الانقلاب ليس حدثا سياسيا عابرا، بل هو بداية انعطافة تاريخية كبرى، ستعيد الأتراك إلى صدارة العالم الإسلامي بجدارة.