السبت، 4 أكتوبر 2025

أسطول الصمود وحصار غزة.. دلالات الشجاعة وواجبات ‏الإنسانية

 أسطول الصمود وحصار غزة.. دلالات الشجاعة وواجبات ‏الإنسانية 


لسنتين مضتا يسود صمت طويل، صمت مخز في العالمين العربي والإسلامي، وتواطؤ منظم للنظام الدولي قائم على معايير مزدوجة، أفضى بالمظلومين في غزة إلى براثن الجوع والعطش والموت البطيء، أمام أعين البشر وضمائر الإنسانية ترتكب هذه الجرائم، لكن كثيراً من الدول تلتزم الصمت، وكثيراً من المؤسسات تغلق عيونها وتخرس مسامعها.

وفي ظل هذا السواد البهيم، برزت بادرة تحيي كرامة البشر؛ «أسطول الصمود» جمع وراءه عشرات سفن إغاثية، وحشد مئات الضمائر من شتى أصقاع الأرض في قافلة واحدة؛ فأعطى الأمل للغزيين، وما أمله لشعوب تلهفت على الرحمة والإنصاف.


لم يكن هذا الأسطول مجرد قافلة غذائية؛ بل كان صرخة ضد الظلم، ونبراساً في ظلمة الخذلان، ومشعلًا في ليل الانكسار، وإعذاراً إلى الله تعالى، وغسلاً لعار العرب والمسلمين الذي لحق بهم جراء الخذلان الشامل الذي استمر لعامين كاملين!

شجاعة الأبطال..من خاطر بحياته فأحيا غيره


من ركب هذا الأسطول لم يكونوا ركاباً عاديين؛ بل كانوا أبطالاً حملوا على عواتقهم شرف الإنسانية، تخطوا مخاوفهم، وتركوا وراءهم أمانهم، وانطلقوا إلى إخوة في حصار خانق مع علمهم أن الطريق قد لا تعود بهم إلى أهليهم وأوطانهم، وكان أهم همهم ليس النجاة لأنفسهم، بل إبقاء الحق حيا، وأن يسمع صوت المظلومين، وأن تفك عنهم قيود الجوع والبرد والقهر.

لم يحملوا سلاحاً، بل حملوا الحليب للرضع، والدواء للجرحى، والبطانيات للعرايا؛ وحملوا معهم صوت الضمير، كل منهم صار صوتاً يمزق خشخشة السكوت، ونجمة تلمع في ليل اليأس، وشجاعتهم لم تقتصر على غزة فحسب؛ بل كانت امتحاناً لضمير الإنسانية بأسرها، معلنة أن الاستشهاد في سبيل الله والمستضعفين في الأرض أكرم وأرفع من العيش في رضا الظالم.

هذه الرحلة لم تكن فصلاً معزولاً في تاريخ الصراع بين الحق والباطل؛ وإنما فصل جديد من أمس طويل، أبان فيه الأبطال أنه حيثما دار الظلم تشير انقلابة البوصلة دوماً نحو المعاناة والغيرة على الكرامة.

طغيان المحتل ويداه القذرتان تمتدان إلى 


الأبطال


لم تستح دولة الاحتلال من أن تظهر وجهها القبيح أمام العالم، فقد اعتبرت هذه البادرة الإنسانية تهديداً، فأظهرت عنفها في أعالي البحار؛ انتهكت القانون الدولي، واعتدت على السفن، واعتقلت المتطوعين، وصادرت ما كانت تحمله السفن من أدوية وطعام وبطانيات، فضربت أسوأ الأمثال في الإجرام والبربرية.

والحال أن ما كان على هذه السفن من حمولات لم يكن سلاحاً ولا ذخائر، بل كان قطرات رحمة تطفئ رمق جائع، أو تدفئ جسد طفل يعاني من البرد، أو تداوي جرحاً ما زال ينزف، ومع ذلك، أخاف الاحتلال من تلك اللقمة والدواء؛ لأن الحقيقة، حينما ترفع، تقوض إمبراطورية الكذب التي شيدوها بالقتل والتهجير.
اليوم وقد بلغ عدد الشهداء والمصابين والعوائل المشردة مئات الآلاف، وقد دمرت البنى التحتية والمستشفيات، صار المشهد ليس حرباً فحسب، بل مسعى متعمداً لإبادة شعب، والاعتداء على أسطول الصمود ليس سوى فصل إضافي في هذا المسار الإجرامي، محاولة لإسكات صوت التضامن الإنساني.

إن المحتل رمى برسالته القاسية على العالم: من يعاون المظلوم فسيعاقب؛ فليخش العون من يعينه! كل ذلك لم يخف حقيقة واحدة؛ أن الظلم إن أقام له بناية ظاهرة، فهو داخلياً متصدع، وأن الاحتلال مهما طال فلا بد من التحرر والاستقلال.

واجباتنا تجاه الأبطال.. السكوت خيانة
هذا الإقدام البطولي لم يأت ليظل حكاية فقط؛ بل حملنا أعباء وواجبات لا تمحى، إن طرح الأرواح في سبيل إنقاذ إنسان آخر، يستوجب علينا أن نعيد لهؤلاء الأبطال كرامتهم بحرية عاجلة، الحماية والضغط الدبلوماسي والقيم القانونية كلها أدوات يجب أن تستعمل لإطلاق سراحهم، وأن تستعاد الحمولات وتكمل المسيرة.

كما أن المهمة التي انطلقت ليست وقفة عابرة، بل حركة وعي لا بد من استمراريتها، إن أكثر من 500 متطوع من 20 دولة وهمهم صون كرامة الغزيين أرسل للعالم رسالة واضحة: «غزة ليست وحدها»، فواجبنا أن نسمع هذه الرسالة بصوت أعلى، وأن نعد أساطيل إغاثية أخرى، وأن نكسر الحصار بكل الوسائل المشروعة الممكنة.
هذا الواجب لا يقع على كاهل الحكومات وحدها؛ فهو على عاتق الشعوب والمجتمع المدني وكل فرد بما يملك؛ دعاء صادق، دمعة تفيض شفقة، قلم يكتب الحق، جسد ينزل الميادين، منشور يظهر الحقيقة في منصات التواصل.. كل هذا لبنات تبنى بها قيادة الضمير العالمي؛ لأن السكوت عن الظلم يغذيه؛ والصوت الرشيد وحده يقطع رباط الوحشة.

التمسك بقضية هؤلاء الأبطال ليس مدار يوم عابر، بل هو التزام لمستقبل أولادنا، فنجاة غزة وحرية القدس وكرامة الإنسان مرهونة بإقدامنا اليوم، وباستجابتنا لما أمرتنا به الشريعة والضمير والإنسانية.

نهاية الطغيان المحتومة.. وعد الأمل


أوصتنا سنوات التاريخ أن مملكة الظلم لا تدوم؛ الفراعنة غرقوا في طغيانهم، ونمرود زال، ودور الجبابرة انتهى، والكيان الذي يقيس قوته بصواريخ ودبابات لن يفلت من قضاء الله وسُننه في الكون والحياة؛ فإن الظلم لا يبقى إلا ليفضح، والباطل لا يصمد أمام إرادة الحق ومقاومة الفطرة.

قد تبدو آلة الحرب لهم جامدة وقوية، لكنها داخلياً متصدعة من هزيمة أخلاقية لا دواء لها، إن محاولات قطع طرق الإغاثة، وسجن المتطوعين، وقمع صوت التضامن ليست سوى دلالات على الذعر والإنهاك؛ لأنهم يعلمون أن قطع رحم الإنسان بالحياة سيجلب عليهم حكما تاريخيا لا مفر منه.

والأمل ينبثق في أحلك اللحظات؛ دموع أطفال غزة، وصلوات أهل القدس، وأصوات «الله أكبر» التي ترتج تحت قباب «الأقصى»، كلها علامات بزوغ فجر جديد، أساطيل الصمود اليوم قد تثمر غداً أساطيل تحرر، وحصون الاحتلال اليوم ستنهار في صباح الحرية.

فلنكبر الأمل بدل أن نغرق في التشاؤم، كل كلمة نطلقها، وكل خطوة نخطوها، تزيد في تسريع موعد النهاية، مقاومة غزة، ويقظة الأمة، ونهوض الإنسانية، كل ذلك يصوغ معاً وجه التاريخ القادم، وذاك اليوم قادم لا محالة.

ستعود فلسطين حرة، والقدس ستستعيد نبضها، و«الأقصى» سيرفع عن كاهله قيود الاحتلال، والأسرى سيخلصون من الأغلال، أسماء الذين خاطروا بحياتهم لهذا الخير ستدون بأحرف من نور في صفحات التاريخ، وشجاعتهم ستكون منارات تنير دروب الأجيال، هذه الحقيقة ليست أمنية بقدر ما هي وعد إلهي ومآل تاريخي: الظلم لا يدوم، والعدالة ستنتصر حتماً، والحرية ستشرق مع فجرها الجديد القريب!

الفاشر السودانية… غزة المنسية في قلب أفريقيا

 الفاشر السودانية… غزة المنسية في قلب أفريقيا



في الفاشر، تُختطف الأرواح، ويُنحر الجسد، وتُغتصب النساء، ثم تُغطّى هذه الفظائع بستارٍ مزخرف اسمه “محاربة الإسلام السياسي”. 
وحين يخلّفون وراءهم أنقاضًا موحشة وخرابًا ممتدًا، يزعمون أنّهم يؤسسوندولة مدنية”.

حصار الفاشر… مأساة إنسانية مكتومة
قبل أيام قليلة، كنت في جلسة مع صديقي السوداني محمد النور، فاندفع يروي لي أهوال ما يحدث في الفاشر متسائلًا:
لِمَ يبدو أنّ الناشطين السودانيين وحدهم من يلتفت إلى هذه المآسي؟ أين ضمير العالم؟ 
وأسئلة لا تنتهي. هزّتني شهادته إلى حدّ أنّ النوم جافاني، فقررت أن أجعل كتابتي القادمة عن الفاشر، لكن بأسلوبٍ مختلف عن تحليلاتي السياسية المعتادة. سأكتب بلغةٍ تجمع بين الأدب والسياسة، بين السرد والتضامن الإنسانيّ، ليكون النص في جوهره نداءً للإنسانية.

قال لي محمد والألم يعتصره: إنّ أيام الفاشر تشبه المقبرة. الأصوات التي يسمعها الناس ليست سوى قذائف تسقط على البيوت، وصراخ أطفال يتضورون جوعًا. منذ أكثر من خمسمئة يوم والمدينة محاصَرة، مكتومة الصوت، لا يصلها شيء سوى الموت. ربع مليون إنسان في الداخل يحدّقون في الفراغ، وستمئة ألف آخرون في الخارج ينتظرون خبرًا أو كسرة خبز.

المدينة التي كانت تضج بالحياة تحوّلت إلى أنقاضٍ. ثلاثة وثلاثون مستشفى انهارت، ست مدارس لم تعد سوى جدران مثقوبة، ومئة طفل قُطعت أطرافهم أو بُترت حياتهم. تقول الأرقام إن مئة وثلاثين ألف طفل يعانون سوء التغذية الحاد، لكن الأرقام لا تروي رائحة الجثث في الشوارع، ولا عيون الأمهات اللواتي يخدعن أطفالهن بكوب ماء وكلمة كاذبة: “غدًا سيكون أفضل”.

في سبتمبر المنصرم وحده، مات ثلاث وعشرون امرأة وطفلًا جوعًا. 
قبلها مات مئة آخرون. كأنّ الموت صار عادة يومية. تقول الأمم المتحدة إنّ صور الأقمار الصناعية تكشف عن سواتر ترابية تطوّق المدينة بطول ثمانية وستين كيلومترًا، لم تترك ميليشيا الدعم السريع إلا فجوة ضيقة ليكتمل الحصار. 
من حاول الخروج على قدميه تعرّض للنهب أو الاغتصاب أو القتل. 
بعبارة أخرى، صارت المدينة سجنًا بلا أبواب، والسماء سقفًا من نار.

مخيمات النزوح الكبرى والنازحون الجدد
إلى الجنوب من المدينة يمتد مخيم زمزم، كتلة من الخيام الممزقة. قرابة مليون نازح يتقاسمون فتات الطعام. فمنذ ديسمبر 2024 لم يتوقف القصف بحجة أنّ المقاتلين يختبئون بينهم. ثمّ في فبراير من العام الجاري، توقف برنامج الأغذية العالمي عن توزيع المساعدات، وفي أسبوعٍ واحد فقط فرّت عشرة آلاف أسرة جديدة إلى المخيم. وكلّ يوم يموت ثلاثة عشر طفلًا جوعًا.

أما شمال الفاشر، فهناك مخيم أبو شوك. 
كان منذ 2004 ملاذًا للمهجّرين، لكنّه اليوم صار مقبرة مفتوحة. خمسة وتسعون نازحًا ماتوا خلال أربعين يومًا، معظمهم أطفال. 
وفي سبتمبر وحده، قصفت ميليشيا الدعم السريع مسجدًا عند الفجر، فاستشهد العمدة وسبعون مصليًا دفعة واحدة. ومن بعدها انسحبت آلاف الأسر سيرًا على الأقدام، تحت شمس حارقة، تاركين وراءهم موتًا يتكاثر.

حتى الخيام الصغيرة الأخرى، مثل مخيم السلام، لم تسلم. الطرق مكتظة بالنازحين. الماء شحيح، الطعام منقطع، الدواء حلم بعيد. يقول العاملون هناك إنّ مجاعة مميتة باتت مسألة أسابيع، لا أكثر.

“التكية” والغذاء الموزّع بالمقدار
في حصار الجوع والقتل، وحين تعجز المنظمات، ينهض الناس. 
ففي الفاشر وُلدت مطابخ جماعية يشرف عليها شيوخ وشباب متطوعون. يطبخون من تبرعات المهاجرين، ويوزعون وجبة واحدة كلّ يومين. 
وأحيانًا ليست وجبة، بل بقايا ذرة أو حبوب يابسة. تقول سلمى، وهي نازحة في زمزم: “آخر مرة أكلنا وجبة حقيقية كانت قبل شهر. الآن نعيش على الماء وبعض الحبات. الطعام صار حلمًا بعيدًا.”

لكنّ هذه “التكية”، مهما كانت نواياها طيبة، لا تستطيع مواجهة الجوع. هي مجرّد محاولات يائسة في بحرٍ من الخراب. وبجانب الجوع، يظل القصف حاضرًا. ففي 19 سبتمبر 2025 قصفت طائرة مسيّرة مسجدًا في حي الدرجة، فسقط خمسة وسبعون قتيلًا، بينهم أحد عشر طفلًا. 
وفي أبو شوك، قُتل العمدة وسبعون مصليًا آخرين. وعلى الطرقات يُقتل الشبان الباحثون عن لقمة برصاصة في الرأس، وتُغتصب النساء اللواتي يحاولن الهرب. 
حتى كتبت الصحف: من يبقَ في الحصار يموت جوعًا، ومن يهرب يُقتل أو يُختطف.

المدينة كلها تحوّلت إلى مرمى للنيران. الأسواق، المستشفيات، مراكز الإغاثة، لم يسلم منها شيء. نستذكر بألمٍ الناشط عصام محمد الذي قُتل بقذيفة وهو يحاول إسعاف جريح. صار الحصار سجلًا طويلًا من الجرائم اليومية، لا يفرّق بين طفل أو شيخ، بين جائع أو مصلٍّ.

صمت العالم… ومرآة غزّة
كل ما سبق هو ما دفع رئيس الوزراء السوداني إلى منصة الأمم المتحدة في نيويورك، حيث قال: إنّ الصمت الدولي يمنح الميليشيا ضوءًا أخضر لقتل شعبه. ذكّر بقرار مجلس الأمن 2736 الذي يطالب بوقف الأعمال العدائية، لكنّ القاعة بقيت صامتة، كما العالم.

الاتحاد الأفريقي أدان، الجامعة العربية أصدرت بيانًا، الولايات المتحدة وعدت بآليةٍ لإدخال المساعدات، لكن شيئًا لم يتغير. حتى اجتماع “الرباعية” لم يصدر عنه بيان مشترك. وكالعادة: كلمات كثيرة، أفعال معدومة.

والمؤلم أكثر أنّ الناس في الفاشر يعرفون هذا جيدًا. يسمعون الأخبار عبر راديو صغير أو تلفاز باهت، ثمّ يعودون إلى صمتهم. 
وبين غزّة والفاشر، يتشابه المصير: 
الجوع، الحصار، التجاهل. لكنّ غزّة وجدت من يصرخ باسمها، أما الفاشر فلا يسمع صرختها أحد. في النهاية، صارت الفاش ر مرآة لخذلان العالم، تمامًا كما غزّة: مكانًا يذكّرنا أنّ الموت ليس دائمًا بقذيفة، بل قد يأتي ببطء، بجوع، بصمت ثقيل. 
وكأنّها تقول: “هنا، في دارفور، يتدرّب العالم على نسيان الإنسان.”

كلمة الختام…
أودّ أن أختم هذه الصرخة بمقولةٍ شهيرة نُسبت إلى كالغاكوس، زعيم الكلدونيين في شمال بريطانيا، نقلها المؤرخ الروماني تاسيتوس في خطبته قبل معركة مونـس غروبيوس عام 83 للميلاد:
“يستلبون وينحرون ويغتصبون، ثمّ يزخرفون جرائمهم باسم الإمبراطورية؛ فإذا ما خلّفوا وراءهم خرابًا موحشًا، نعتوه سلامًا.”

هذا القول تحوّل على مرّ التاريخ إلى شعار ضد الإمبراطوريات والغزاة، من روما القديمة إلى القوى الاستعمارية الحديثة. واليوم أستعيره في وصف ميليشيا الدعم السريع وداعميها. 
ففي الفاشر، يُحاصرون ويجوّعون ويغتصبون، ثمّ يزخرفون جرائمهم باسم “محاربة الإسلام السياسي”. وحين يخلّفون وراءهم أنقاضًا وخرابًا ممتدًا، يزعمون أنّهم يؤسسون “دولة مدنية”.














كلُّ من له ثمن فهو رخيص!

نقطة نظام

كلُّ من له ثمن فهو رخيص!


في إحدى الحفلات، جلست امرأةٌ فاتنةٌ بجانبِ الكاتبِ الشهير جورج برنارد شو، فهمس في أذنها: 
هل تقبلين أن تقضي معي ليلة مقابل مليون جُنيه!

ابتسمتْ وردّتْ في استحياءٍ: طبعا، بكل سرور!

عاد وسألها مرة ثانية بعدما اقتنعَ برضاها، هل من الممكن أن نُخفِّضَ المبلغ إلى عشر جنيهات؟!

فغضبتْ وصرختْ في وجهه: من تظنني أكون يا هذا؟!

فقال : سيدتي، نحن عرفنا من تكونين، نحن فقط اختلفنا في قيمة الأجر!

للأسف، إنَّ كثيراً من النُّخب الذين انفضُّوا عن المقاومة اليوم بعدما صار الوقوف معها مكلفاً، وقد كانوا البارحة يُنافحون عنها وهي على ظهور خيلها، لأنَّ الوقوف منها مكسبٌ ماديٌّ، ومعنويٌّ أيضاً، لأنَّها صكُّ طهرٍ وبراءة! 
لا يختلفون كثيراً عن هذه المرأة التي راودها برنارد شو عن نفسها، فكلُّ من له ثمن هو رخيص مهما ارتفعَ ثمنه!

ما أقبحُ الحكمة الباردة، هذا الجُبنُ الذي يرتدي عباءة الفلسفة، جعجعة مُنمّقة، ومفرداتٌ رنانة، ولا طحين!

‏كان بإمكان هذه النُّخب المخصيَّة أن يسعها الصمتُ، وهذا بحدِّ ذاته خذلان، وتذكرة مجانيَّة إلى مزبلة التَّاريخ!

‏ولكنَّهم أبوا إلا أن يطعنوا ظهرَ أشرف هذه الأُمَّة في أقدس معاركهم!

‏وكذا العاجزُ إذا أرادَ أن يرتأ دثار عجزه كي لا يبدو أمام نفسه عارياً صارَ له في شؤون الرِّجال وجهة نظر!

‏منذ متى لربَّات الحِجال رأيٌ في معارك الرِّجال؟!

‏أقرأُ قولَ النَّبيِّ ﷺ: لا تزالُ طائفةٌ من أُمّتي على الحقِّ ظاهرين، لعدوِّهم قاهرين، لا يضُرُّهم من خذلهم إلا ما أصابهم من لأواءَ، حتى يأتيهم أمرُ اللهِ وهم كذلك!

‏قالوا: أين هم يا رسول الله؟

‏قال: ببيتِ المقدسِ، وأكنافِ بيتِ المقدس!


‏أتحسَّسُ فيه مرارة طعم الخذلان حين يشعرُ المرءُ أنّه مقطوعٌ من شجرة! 
والغريبُ أنَّ النَّبيَّ ﷺ لم يقل لا يضرُّهم من عاداهم، فالعدوُّ لا يُتوقَّعُ منه إلا الضَّرر! وإنّما قال من خذلهم، لأنَّ الخُذلان يأتي ممن يُرتجى منه الخير!

‏أن يعطشَ والأنهار تجري في بلاد إخوانه!

‏أن تتوقَّفَ سيّارات إسعافه بسبب نفاد الوقود وأهله أكثر الأمم نفطاً!

‏أن يجوع ولا يُدخل له جاره من طعامٍ إلا ما يأذنُ به عدوُّه!

‏أن يُجلدَ على المنابر تارةً باسم التَّهور، وتارةً باسم البدعة!

‏أن تنهشه وسائل الإعلام دون أن تحترمَ مشهد بطولاته، ولا مشهد جنائزه!

‏أن تنغرسَ في جسده الأقلام، موجعٌ جداً أن يتطاول الحِبرُ على الدَّم!

‏أن تُحاضرَ فيه التَّجمعات والجماعات تريدُ أن تُعلّمه العقيدة، والولاء والبراء!
 

وإنَّ من مصائب الدَّهر أنَّ يُفتيَ القاعد للمجاهد، ويتطاول من على الأريكة على من في الميدان، 
وأن ينشبَ مخالبه على المجاهد من لم يرمِ عدواً لهذه الأمة ولو بوردة!

‏غير أنَّ مفردةً واحدة من النَّبيِّ ﷺ تحيلُ كلَّ مرارة الخذلانِ إلى حلاوةِ الثَّبات: لا يضُرُّهم!

‏وأعرفُ أنَّ هذا الجهاد ماضٍ ولن يوقفه خذلان حبيبٍ ولا إجرام عدوٍّ، وأنَّ التَّاريخ الآن يُكتُبُ وهو لن يرحمَ أحداً!

‏فإن أُكلتْ لحومُ مقاومتنا على المنابر فقد أفتى ستُّون فقيهاً بقتل الإمام أحمد بن حنبل! ذهبوا جميعاً إلى مزابل التَّاريخ وبقيَ اسمُ الإمام أحمد خالداً بحروف من نور!

‏وإن نهشت مقاومَتنا الأقلامُ فقد كتبتْ صحيفة “برقةَ” يوم أُلقيَ القبضُ على عمر المختار بالخطِّ العريض: القبض على زعيم المتمرّدين عمر المختار!

‏ذهبَ الذين كتبوا إلى مزابل التّاريخ، وما زال اسم عمر المختار ناصعاً!

‏وإن تطاولتْ على مقاومتنا الجماعاتُ والأحزاب فشأنُ القاعدِ أن يُشعره المجاهد بنقصه، إنّهم يرتأون ثقباً في عباءتهم، فمن قصُرَ فعله طالَ لسانُه! 
ولن يسلمَ المرءُ من النَّاسِ ولو كان نبيًّا أو صحابيًّا، وتذكّروا أنّه قد أتى يومٌ على هذه الأُمَّة كانت الخوارج ترى عليَّ ابن طالبٍ كافراً حلال الدّم!

‏ذهبَ الخوارجُ إلى مزابل التّاريخ أيضاً، وعليُّ ابن أبي طالبٍ في الجنَّةِ بجوار حبيبه ﷺ!

‏هي أيّامٌ ستمضي بطولها أو بعرضها، سيخرجُ الحقُّ منها مكلوماً، ولكنّه سيداوي جرحه سريعاً، وسيُكمل طريقه غير عابئٍ ولا ملتفت، وعند الله موعدنا!


نفق نتانياهو المظلم!!

 نفق نتانياهو المظلم!!

 . حسن الرشيدي

سياسات نتانياهو في غزة، أدخلت بالفعل الدولة اليهودية النفق المظلم، وأصبح مستقبل تلك الدولة الغاصبة في مهب الريح، ويبدو أن مستقبلها لن يتعدى عمر ما سبقها من الدول اليهودية كما يتوقع اليهود أنفسهم.

في مجال التحليل السياسي، يوجد مصطلح متداول يطلق عليه "النفق السياسي" أو "النفق المظلم" يُستخدم غالبا للإشارة إلى موقف أو أزمة سياسية صعبة، يجد فيها السياسي أو النظام السياسي نفسه محاصرا في ظروف معقدة، دون رؤية واضحة للحل أو الخروج.

يُعبر هذا المصطلح عن حالة من الضغط الشديد، والغموض، أو التعقيد السياسي، حيث تتضاءل الخيارات المتاحة، وتكون القرارات محفوفة بالمخاطر، وقد تؤدي إلى عواقب غير متوقعة أو سلبية.

فمصطلح النفق المظلم يحمل ثلاثة معانٍ: الغموض وهو عدم وضوح النتائج أو الحلول، والضيق وتعني محدودية الخيارات المتاحة، وأخيرا الخطر وتعني احتمالية اتخاذ قرارات قد تؤدي إلى تدهور الوضع.

وعند تطبيق المعاني الثلاثة: النفق السياسي المظلم على سياسات نتانياهو وممارساته في حرب غزة الحالية، نجد الآتي:

أولا/ الغموض


يعكس مصطلح الغموص في حالتنا تلك، عدم الوضوح في الرؤية النهائية لما بعد الحرب، حيث يصر نتانياهو على القضاء الكامل على حماس دون تحديد خطة واضحة لإعادة الإعمار أو الحل السياسي.

وفي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 26 سبتمبر الماضي، أكد نتانياهو أن "إسرائيل" يجب أن تنهي المهمة في غزة، لكنه رفض تماما فكرة الدولة الفلسطينية، متهما الدول الغربية بالنفاق في دعمها لها.

هذا الوضع يخلق غموضا حول ما إذا كانت السياسة التي يتبعها نتانياهو تهدف إلى سيطرة دائمة على غزة أم مجرد أمن مؤقت، على الرغم من أن تقارير الأمم المتحدة قد أشارت إلى أن الكيان الصهيوني يسعى لسيطرة دائمة على القطاع مع توسيع المستوطنات.

كما أن الخطة الأمريكية المقترحة (21 نقطة) لإنهاء الحرب وإنشاء مسار للدولة الفلسطينية، تزيد من الغموض حول التوافق الدولي.

هذا الغموض يعيق أي تقدم دبلوماسي ويثير تساؤلات حول ما أطلقوا عليه (اليوم التالي) بعد القضاء على حماس.

فالعجز الواضح لدى نتنياهو عن تصور الوضع لما بعد الحرب يعبر عن حالة مأزومة وشديدة التعقيد، حيث أصبحت مكانة نتانياهو كزعيم تقبع في مكان مظلم من السياسات والأفكار، ولا يستطيع بسهولة رسم طريق للخروج من الأزمة الراهنة.

هذه الحالة تعد من أبرز تعريفات النفق السياسي التي تعني فقدان الأفق السياسي الواضح والقدرة على التخطيط للمستقبل بثقة.

ثانيا/ الضيق في الخيارات المتاحة


تتضاءل الخيارات أمام نتانياهو بسبب الضغوط المتعددة، حيث يجد نتانياهو نفسه محاصرا بين الالتزامات العسكرية الداخلية والضغوط الدولية المتزايدة.
داخليا، يواجه نتانياهو تحديات من الاحتجاجات داخل الكيان التي تطالب بإطلاق سراح الأسرى وإنهاء الحرب، مع مخاوف من انهيار الائتلاف الحكومي إذا توقفت العمليات العسكرية، بسبب دعم قوى وأحزاب اليمين المتطرف المتحالفة مع حزب الليكود الذي يتزعمه نتانياهو لفكرة استمرار القتال ولو حتى لسنين عديدة، لتحقيق الهدف الذي يتمثل في تهجير أهل غزة وإقامة المستوطنات.
 

عبر العديد من مستخدمي المنصة عن مخاوف من أن نتانياهو لا يريد صفقة بل يسعى لتدمير غزة، وهذا الأمر يزيد من التذمر الشعبي العالمي ويحول الرأي العام ضد الكيان

أما الضغوط الخارجية، فقد رأيناها من تنديد غالبية دول العالم للمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال في غزة والتجويع، إلى الحد الذي دفع الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو إلى دعوة دول الجنوب العالمي إلى تشكيل جيش دولي قوي لتحرير فلسطين والدفاع عن شعوبها ضد ما وصفه بالطغيان والشمولية التي ترعاها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على حد تعبيره، وأعلنت كل من إندونيسيا وجنوب أفريقيا إلى تأييد تلك الخطوة.

وقد شهد خطاب نتانياهو في الأمم المتحدة انصرافًا جماعيًا لأكثر من 100 دبلوماسي من 50 دولة احتجاجًا على سياساته، مما يعكس عزلة دولية متزايدة. كذلك، اللقاءات الأخيرة بين نتانياهو ومستشاري ترامب (مثل جاريد كوشنر وستيفن ويتكوف) في نيويورك لمناقشة غزة أظهرت ضيقا في التفاوض، حيث يرفض نتانياهو أي صفقة تسمح بعودة حماس أو تؤدي إلى دولة فلسطينية، رغم الضغط الأمريكي، الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تصريحات علنية يوم 25 سبتمبر أي منذ عدة أيام، إلى التصريح للصحفيين أنه "لن يسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية"، وأكد أنه ناقش الأمر مباشرة مع رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتانياهو، مشددا على أن هذا لن يحدث بغض النظر عن رغبة نتانياهو.

بل ذكرت صحيفة هآرتس العبرية: الرياح في واشنطن تغيرت ونتنياهو سيواجه ضغوطا لإنهاء الحرب.

وكتب المعلّق العسكري في القناة 13 ألون بن دافيد مقالاً في موقع صحيفة معاريف بدأه بالقول: من كان يصدق أنه في مساء رأس السنة العبرية، بعد عامين من خروجه إلى المجزرة الوحشية على حد تعبير المعلق الصهيوني، يمكن ليحيى السنوار أن يسترخي في قبره ويشاهد رؤياه تتحقق؛ ليس العالم العربي فقط يتحد ضد "إسرائيل"، بل أيضا العالم الإسلامي ومعظم دول العالم. لقد تحولت "إسرائيل" إلى دولة معزولة ومنبوذة، وأكثر من 140 دولة من دول العالم تضع الآن الأساس لإقامة دولة فلسطينية.

هذه الضغوط تهدد نتانياهو بفقدان الدعم الداخلي أو الخارجي.

ثالثا/ الخطر المحدق

ونقصد به الخطر في عواقب سياسات نتانياهو، سواء

 المخاطر السياسية والعسكرية والدبلوماسية الناتجة

 عن الاستمرار في السياسات الحالية.

فعسكريا، يزيد التركيز على القضاء على بقايا حماس

 من الظهور عسكريا بمظهر المهزوم، وتنقل القناة

 12 العبرية عن رئيس أركان جيش الاحتلال إيال

 زمير، قوله: "نحن ملتزمون بأهداف الحرب كما

 حددها الكابينيت، لكن حماس لن تُهزم عسكريا ولا

 سياسيا حتى بعد عملية احتلال مدينة غزة".

بينما صرح اللواء احتياط إسحاق بريك: هناك خطر

 حقيقي لانهيار الجيش بسبب الاستنزاف في القوى

 البشرية والقدرات العسكرية.

فإطالة أمد الحرب لفترة أطول مما توقعته قيادة الجيش

 الإسرائيلية العليا، أدت إلى أمرين: استنزاف كبير

 للقوات وتقليل فعالية العمليات العسكرية، كما أدت

 إلى خلافات داخلية في القيادة العسكرية، وتزايد

 الاعتراضات الصادرة من كبار ضباط الجيش

 ورئيس هيئة الأركان على خطة احتلال غزة

 بالكامل.

وسياسيا، يعرض رفض الكيان الصهيوني للدولة

 الفلسطينية، وكذلك اتهامها بالإبادة الجماعية، كما في

 تقرير لجنة الأمم المتحدة الذي رفضه نتانياهو، مما

 يهدد بعقوبات دولية أو فقدان الدعم الأمريكي تحت

 إدارة ترامب الجديدة.

على منصة إكس (تويتر)، عبر العديد من مستخدمي

 المنصة عن مخاوف من أن نتانياهو لا يريد صفقة

 بل يسعى لتدمير غزة، وهذا الأمر يزيد من التذمر

 الشعبي العالمي ويحول الرأي العام ضد الكيان، مما


 يمثل خطرا متزايدا يمكن أن يؤدي إلى انهيار حكومة

 نتانياهو أو عزلة إقليمية طويلة الأمد، خاصة بعد أن

 بدأت كثير من الحكومات الغربية في الفترة الأخيرة،

 في اتخاذ موقف شعوبها في التنديد بما يجري في

 غزة، ومطالبة الكيان بوقف المجازر والتجويع.


مستقبل الكيان الصهيوني


في مناسبات سابقة، أشار رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتانياهو نفسه إلى تاريخ اليهود، مشددًا على أن دولهم القديمة لم تدم إلا لفترات زمنية محدودة نسبيا.

ففي اجتماع لدائرة الكتاب المقدس في أكتوبر 2017، قال نتانياهو: "الحشمونيون حكموا هنا لمدة 70-80 عامًا، وكانت هذه أطول فترة استقلال سياسي يهودي. هدفي هو الوصول إلى السنة المائة. سنتجاوز ذلك ونستمر".

وفي نفس الاجتماع، أشار نتانياهو ضمنيا إلى أن مملكة داود وسليمان (التي سبقت الحشمونيين بحوالي 700 عام) لم تدم أيضا أكثر من 80 عاما ككيان موحد قبل انقسامها إلى مملكتي إسرائيل ويهودا.

والحشمونيون هم أسرة يهودية في القرن الثاني قبل الميلاد، ويزعم اليهود أن هذه الأسرة استعادت الهيكل بالقدس، وأسسوا سلالة حاكمة جمعت السلطة الدينية والسياسية. وضعفت تلك الأسرة بسبب الصراعات الداخلية، وانتهى حكمهم بتدخل الرومان وتعيين هيرودس.

هذه التصريحات جزء من استراتيجية نتانياهو لربط التاريخ اليهودي بالواقع السياسي الحالي، حيث يرى أن الدروس من السقوط السابق (مثل الصراعات الداخلية أو التحالفات الخاطئة) يجب أن توجه سياسات دولة الاحتلال لضمان بقائها.

ولكن وعلى سبيل المثال، لم يشرح نتانياهو أسباب سقوط هذه الدول بالتفصيل (مثل الخلافات الداخلية في عصر الحشمونيين)، لكنه ركز على الحاجة إلى القوة لتجاوز الـ80 عاما، محذرا من أن الكيان يجب أن يكون مستعدا للاحتفال بذكراه الـ100 في 2048.

سياسات نتانياهو في غزة، أدخلت بالفعل الدولة اليهودية النفق المظلم، وأصبح مستقبل تلك الدولة الغاصبة في مهب الريح، ويبدو أن مستقبلها لن يتعدى عمر ما سبقها من الدول اليهودية كما يتوقع اليهود أنفسهم.





:

كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة: حين تتحول اتفاقيات السلام إلى أدوات للمشروع الصهيوني

 كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة: 

حين تتحول اتفاقيات السلام إلى أدوات للمشروع الصهيوني

طارق الزمر

"الاتفاقيات لم تَبنِ سلاما حقيقيا، وإنما أدّت إلى تفكيك الجبهة العربية، وتجريدها من أوراق قوتها الاستراتيجية"


في مطلع الثمانينيات، كان بعض القادة العرب يعتقدون أن توقيع اتفاقيات السلام مع الاحتلال الإسرائيلي قد يكون بوابة لمرحلة جديدة من الأمن والاستقرار، وأن الأرض المحتلة يمكن استعادتها عبر التفاوض والمفاوضات.

جاءت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978 لتؤسس لهذا التصور، وتلتها اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، ثم اتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل عام 1994. كلها قُدّمت على أنها "مفاتيح سلام" و"نهايات للصراع"، غير أن التطورات اللاحقة أثبتت أن تلك الاتفاقيات تحوّلت عمليا إلى أدوات وظيفية تُستخدم في المشروع الصهيوني لتكريس الاحتلال، وتوسيع الاستيطان، وتمهيد الطريق للتهجير الجماعي تحت غطاء "السلام".

الاتفاقيات الثلاث لم تَبنِ سلاما حقيقيا، وإنما أدّت إلى تفكيك الجبهة العربية، وتجريدها من أوراق قوتها الاستراتيجية. مصر أُخرجت من الصراع منذ كامب ديفيد، والسلطة الفلسطينية أُضعفت وتحولت إلى وكيل أمني بموجب أوسلو، بينما فُتحت الحدود الاقتصادية والثقافية بين إسرائيل والأردن عبر وادي عربة دون استعادة حقيقية لحقوق الفلسطينيين أو كبح للاستيطان.

المأزق الاستراتيجي اليوم هو أن هذا "السلام" بات بلا غطاء شعبي، وبلا صدقية، وباتت اتفاقياته أدوات علنية لتصفية القضية الفلسطينية، والتعامل مع الفلسطينيين كـ"سكان فائضين" يجب إخراجهم من المعادلة


الأخطر من ذلك أن هذه الاتفاقيات منحت إسرائيل غطاء سياسيا وشرعيا للاستمرار في تهويد القدس، وابتلاع الضفة، وخنق غزة، وفرض أمر واقع جديد: "الحدود الأمنية لإسرائيل هي ما تفرضه القوة، لا ما ترسمه الخرائط".

لقد أثبتت إسرائيل أنها لا ترى في هذه الاتفاقيات إلا أوراقا مرحلية تُستخدم في الوقت المناسب ثم تُلقى جانبا. كامب ديفيد لم تمنع إسرائيل من ضرب مصر ثقافيا وإعلاميا وأمنيا، وأوسلو لم تُوقِف الاستيطان يوما، بل ازدهر في ظلها، وأصبحت مناطق (C) في الضفة الغربية مرتعا للمستوطنات، ووادي عربة لم تحمِ الأردن من الأطماع، بل تحوّلت الحدود إلى شريان للاختراق السياسي والاقتصادي، وبدأ الحديث عن الوطن البديل يتجدد كل مرة تتقدم فيها مشاريع التهجير من الضفة.

في السنوات الأخيرة، ومع اندلاع الحروب على غزة، وتعثر مسار "حل الدولتين"، تحوّل المشروع الصهيوني نحو ما هو أبعد من الانسحاب أو التعايش، إلى الضم الكامل، بل والتهجير الممنهج. فالحديث المتزايد عن نقل سكان الضفة نحو الأردن، ونقل سكان غزة إلى سيناء، لم يعد مجرد تسريبات، بل بات خطابا رسميا لبعض قادة الاحتلال، ويجري التمهيد له إعلاميا ودبلوماسيا و"سلاميا".

في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي، السلام لم يكن يوما هدفا بحد ذاته، بل وسيلة لشرعنة مشروع السيطرة. إسرائيل أرادت من هذه الاتفاقيات تقطيع أوصال الجبهة العربية، وعزل الفلسطينيين عن عمقهم، وضرب قوى المقاومة، وتحويل الأنظمة إلى شركاء أمنيين لا خصوم سياسيين. وقد نجحت في ذلك، لكن المأزق الاستراتيجي اليوم هو أن هذا "السلام" بات بلا غطاء شعبي، وبلا صدقية، وباتت اتفاقياته أدوات علنية لتصفية القضية الفلسطينية، والتعامل مع الفلسطينيين كـ"سكان فائضين" يجب إخراجهم من المعادلة.

على الشعوب العربية أن تعود إلى الواجهة، وأن تُدرك أن مواجهة المشروع الصهيوني لم تعد خيارا، بل ضرورة وجودية


المنطقة اليوم تقف على أعتاب تحوّل كبير، فإما أن تُراجع الأنظمة العربية موقفها من تلك الاتفاقيات، وتستعيد زمام المبادرة، وتبني خطابا جديدا يواجه مشاريع التهجير، ويضع خطوطا حمراء لنهب الأرض والحقوق، أو تواصل التماهي مع المشروع الصهيوني، فتفقد ما تبقى من شرعيتها.

الرد الحقيقي لا يكون ببيانات الشجب، بل برفع الغطاء السياسي عن تلك الاتفاقيات، ودعم المقاومة بكل أشكالها، وبناء تحالفات عربية- إسلامية جديدة قادرة على ردع العدوان، ورفض منطق الإذعان والتبعية.

الحديث اليوم عن تهجير الضفة إلى الأردن وغزة إلى سيناء؛ لم يعد مجرد وهم، إنه هدف استراتيجي لإسرائيل يتم تغليفه إعلاميا بـ"الخوف من حماس" أو "ضرورات الأمن القومي"، لكنه في الحقيقة استمرار لمخططات التهجير التي بدأت منذ 1948، وتُنفذ كل عقد بوجه جديد.

والمفارقة أن هذه المشاريع لا تزال تجد سندا -لا اعتراضا- في بعض من وقعوا على تلك الاتفاقيات، أو سكتوا عنها طيلة عقود، وهو ما يفرض على الشعوب العربية أن تعود إلى الواجهة، وأن تُدرك أن مواجهة المشروع الصهيوني لم تعد خيارا، بل ضرورة وجودية.

الجمعة، 3 أكتوبر 2025

الخوف من التغيير.. والغدر بغزة

الخوف من التغيير.. والغدر بغزة

نور الدين العلوي


نكتب عن مآلات صفقة ترامب مع النظام الرسمي العربي للغدر بغزة، ونصِفُ الصفقة بصفقة الغدر ونبحث عن أسباب الاتفاق الغادر بالمقاومة.

نعم هناك اتفاق على الغدر لا نجادل فيه، وسببه ما علمنا القرآن الكريم عن الذين جاءهم الأنبياء بالتوحيد فقالوا "هذا ما وجدنا عليه آباءنا". نسمي هذا في علم النفس الاجتماعي بالخوف من التغيير، ونجد عليه أدلة كثيرة في التاريخ العربي الحديث؛ فكلما لاحت بارقة تغيير التفت عليها الأنظمة والكثير من النخب المصطنعة لتقاوم التغيير وتلغي نتائج ما تحرك وتقطع الطريق على ما يمكن أن يكون؛ فما هو كائن يبدو لهم مفيدا ومريحا ويعد بالخلود. حرب الطوفان وعدت بتغيير عميق واتفاق الغدر بها يدخل تحت باب "دع كل شيء في مكانه، فنعم كل شيء في مكانه". لقد كتبنا عن التلازم الوجودي بين النظام الرسمي العربي وبين الكيان واختصرنا في شعار إذا سقط أحدهما سقط الآخر؛ هنا ظهر الغدر وهنا وعد التغيير.

حرب التحرير الوطني والربيع العربي وعود بالتغيير

حرب الطوفان وعدت بتغيير عميق واتفاق الغدر بها يدخل تحت باب "دع كل شيء في مكانه، فنعم كل شيء في مكانه". لقد كتبنا عن التلازم الوجودي بين النظام الرسمي العربي وبين الكيان واختصرنا في شعار إذا سقط أحدهما سقط الآخر؛ هنا ظهر الغدر وهنا وعد التغيير


حدثنا آباؤنا الذين شاركوا في معارك التحرير الوطني من الاستعمار المباشر أن قوما كثرا جايلوهم كانوا يقولون لهم: هل ستقدرون على فرنسا المدججة بالسلاح؟ فإذا رأوا تصميمهم تحولوا إلى مخبرين يرشدون إلى مخابئ المقاومة. ولكن المحررين انتصروا رغم الوشاة والمخذلين وبنوا دولا وتحمسوا لها، لكن الدول انقلبت عليهم وأعادت سيرة القمع الاستعماري بل استعادت تراث القمع السلطاني السابق حتى على الاستعمار نفسه.

لقد كانت هذه الدول ترى تجارب بناء الديمقراطية في الغرب تجري أمامها وكانت تجارب مفتوحة على تغيير دائم، لكن عوض تبني نماذجها ارتدت إلى كل ممارسات الطواغيت؛ حيث لا تغيير ولا حرية. والغريب أن شعوبا كثيرة رأت ذلك أمرا عاديا، فالحاكم لا يكون إلا طاغية؛ صورة الحاكم الديمقراطي لم تدخل في مخيالها. والأغرب من كل ذلك أن النخب الجديدة التي نشأت مع هذه الدول صارت هي من تقود تيار القبول بالواقع السيئ وتجد له مبررات وتحمي الأنظمة من كل احتجاج.

لم يتوقف الاحتجاج على التسلط والقهر، فكان الربيع العربي تتويجا لحراك متقطع وطويل شد أزره أخيرا وثار ثورة حرية، وكان مطلبه الأول التغيير والخروج إلى أفق أرحب. وقبل أن يفلح في ترسيخ مطالبه وجد نفسه يواجه خوف الأنظمة والنخب من التغيير، وإن لم تقل النخب التي عارضته هذا ما وجدنا عليه آباءنا، ولكنها عملت على الحفاظ على ما وجدت عليه الآباء من خنوع واستكانة ورضا بالمقسوم.

والغريب الذي سيظل غريبا أبدا هو أن القائلين بذلك نخب قرأت كراسات التغيير الكونية ونظّرت للحريات، بل احتكرت الحديث عن الحرية والديمقراطية، فلما جاءتها الحرية على طبق من دماء الجمهور الطيب نكصت على أعقابها وحمت الأنظمة، فإذا هي لسان الانقلابات العسكرية باسم الحفاظ على الدولة، رغم أن شارع الربيع العربي لم يتبن نقض الدول أو تخريبها لصالح بدائل فوضوية أو وضع اللادولة؛ حالة فاضحة من رفض التغيير قادتها نخب الدول الحديثة التي جاءت بها معارك تحرير وتغيير. انتهى الربيع العربي مؤقتا إلى الوضع الذي كانت عليه الشعوب قبله، وإن كنا نأمل أو نظن أن قهرا كثيرا قد خُزِّن في النفوس وأنه يتربص لعودة.

الطوفان كان وعدا بالتغيير أكبر من غزة

لدينا قناعة ثابتة بأن الربيع العربي كان ذاهبا إلى تحرير فلسطين وإن لم يقدم خارطة طريق تحرير مباشر، ولكن "لن نترك غزة وحدها" كانت جملة في سياق تحرير تتربص لمعركة، فلما منعت من الفعل التغييري انفجر الطوفان معتمدا على نفسه فأعاد الوعد بالتغيير لأوسع من غزة (ربما كان يضمر أن لن يترك القاهرة وحدها).


هنا تبين للنظام الرسمي العربي ونخبه المبرراتية أن وعد التغيير حقيقي، لذلك فهو مخيف ويهدد سلامة مكاسبها التي ظنتها خالدة، فبدأ الخذلان والتثبيط، وقيل للفلسطيني المقاوم بدمه ما قيل لآبائنا ذات معركة: هل تقدرون على الكيان المدجج بالسلاح؟ وقد قدروا عليه بدمهم فاتضح مشروع التغيير أكثر. كان التلازم بين وجود الكيان ووجود النظام الرسمي العربي مهددا؛ ماذا لو سقط الكيان؟ ستتغير المنطقة برمتها، سيكون على مكونات النظام أن تبحث لها عن مواقع تحفظ مصالحها دون خدمة الكيان، وهذه ليست متاحة أمام شارع ثائر. فالتغيير لا يكون إلا جذريا ماحقا، وستكون هناك بلا شك مرحلة من الاضطراب "والخوف ونقص في الأموال والأنفس والثمرات" التي ليس للشعوب منها شيء، إنما هي مكاسب النظام ونخبه.

كل يوم في غزة ببنادقها القليلة كان تهديدا للنظام القائم، كل جندي صهيوني يسقط كان يسقط من جسد النظام العربي قبل أن يحسب نقصا في جيش الكيان. ذاك الجندي كان يحمي النظام الرسمي العربي، لذلك وجب إيقاف النزيف في جيش الكيان أولا.

الاحتقار الكبير الذي يظهره الكيان ورئيس حكومته للنظام الرسمي العربي هو الدليل الأوضح على أن هذا الكيان لا يقبل بصفقة مهما كانت مفيدة له؛ إن غطرسته تدفعه إلى المزيد من إذلال حُماته وخاصة حماته العرب


كان النظام العالمي يرى ويقيس مسار المعركة، فهو حامي الكيان وحامي حُماته من حوله، فكلهم كيان واحد معاد للتغيير. حلف عالمي كان يشتغل ضد مقاتل حاف وجائع ولكنه مؤمن بالتغيير، وعندما تبين أن الكيان تهشم وأنه إلى زوال وأن حلفا شعبيا عالميا يقوم ضده بوعي جديد (وعي بالتغيير)؛ سارع النظام إلى موجة الاعتراف الورقي بدولة فلسطين وسارع رأسه (الترامبي) إلى عقد الصفقة. حركتان متلازمتان مهمتهما إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الكيان ومن وجود حُماته من حوله، على أمل إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الطوفان. هنا نرسخ فكرة سيقدم عليها الزمن الأدلة؛ وعد التغيير لن يتوقف.

"دم الشهداء ما يمشيش هباء"

زودتنا الثورة الليبية على حثالة من حثالات النظام الرسمي العربي بهذا الشعار المبني على إيمان عظيم بحسن الجزاء الإلهي، لذلك نرسخ يقينا بأن الطوفان لن ينتهي بصفقة ترامب، ومعركة التحرير والتغيير لم تضع أوزارها، والفلسطيني في مقدمة المعركة لم يرم السلاح. وما يبدو للبعض الشفوقين على المقاومة كمأزق سيكون هو نفسه المخرج نحو المزيد من ترسيخ نتائج الطوفان، أي تهشيم الكيان وما يتبع تهشيمه من سقوط النظام الرسمي العربي الذي يحاول المساهمة في إنقاذه، وهو يظن أنه ينقذ نفسه.

إن الاحتقار الكبير الذي يظهره الكيان ورئيس حكومته للنظام الرسمي العربي هو الدليل الأوضح على أن هذا الكيان لا يقبل بصفقة مهما كانت مفيدة له؛ إن غطرسته تدفعه إلى المزيد من إذلال حُماته وخاصة حماته العرب الذين نرى الذلة على وجوههم في التلفزات.

لقد رفضوا التغيير الذي يجعلهم يحتمون بشعوبهم من كل عدوان (لم نسمع نظاما عربيا واحدا يقول ماذا لو أحتمي بشعبي من العدو؟). 

والعدو يعرف ذلك أوَ ليس قد صنع النظام العربي بيديه! معرفته بهم أشخاصا ومؤسسات تدفعه إلى المزيد من الابتزاز والإذلال، وهنا مقتلهم ومقتله مهما أجلوا المعركة. إن العدو يكثف الألم والغضب في نفوس شعوب مُنعت من نصرة غزة ففهمت بالقوة أن نصرة غزة تبدأ من داخل كل قُطر مقموع. وإفشال الصفقة يعني المزيد من القمع ولن يغلق الملف ولن تهدأ النفوس ولن يمكن تمويه الدم الصريح الذي سال في غزة، ولن يعود الكيان وحماته إلى ما قبل الطوفان.

هنا يحضر دم الشهداء؛ لقد اتضح الغدر بغزة واتضح أكثر الخوف من التغيير في باقي المنطقة، لكن الطوفان خرج من غزة إلى العالم وعلى النظام الرسمي العربي أن يبحث له عن شرعية أخرى. إن ما وجدوا عليه آباءهم قد ولى إلى غير رجعة. ما زال هناك دم على الطريق ولكنه دم التغيير وتبدل الأحوال. من كان يظن أن نظام البعث في سوريا سيزول؟

مملكة إسرائيل الصليبية الصهيونية

 مملكة إسرائيل الصليبية الصهيونية

 


حلمي الأسمر 

.على أديم هذه الأرض التي بارك الله حولها، قامت ممالك وغابت أخرى، غزاة جاؤوا على ظهور خيولهم، أقاموا قلاعا شاهقة، ورفعوا راياتهم على أسوار القدس، وظنّوا أنهم خالدون؛ لكن الأرض لفظتهم، والتاريخ أسدل ستاره على أحلامهم، كما أسدل على الصليبيين حين غادروا عكا آخر مرة، مهزومين، منكسرين، يطويهم البحر بعيدا عن فلسطين.


اليوم، يقف الكيان الإسرائيلي في المشهد ذاته، وإن ارتدى ثوبا عصريا: جيش مدجج بالتقنية، واقتصاد يسبح في دعم الغرب، وسياسة تتكئ على قوة أمريكا. غير أن جوهر الحكاية لم يتبدل؛ فما بُني على اغتصاب الأرض وتزييف التاريخ لا يرسخ مهما طال الزمن.

يتفتت الداخل الإسرائيلي يوما بعد يوم: قوميات متناحرة، وعلمانيون ضد متدينين، وأشكناز ضد سفارديم، والمهاجر الذي جاء باحثا عن "وطن آمن" يخطط الآن للهجرة من جديد. هذا الانقسام ليس عارضا، بل هو نذير تفكك داخلي، تماما كما تناحر أمراء الصليبيين قبل سقوطهم.

يقف الكيان الإسرائيلي في المشهد ذاته، وإن ارتدى ثوبا عصريا: جيش مدجج بالتقنية، واقتصاد يسبح في دعم الغرب، وسياسة تتكئ على قوة أمريكا. غير أن جوهر الحكاية لم يتبدل؛ فما بُني على اغتصاب الأرض وتزييف التاريخ لا يرسخ مهما طال الزمن

وحين تتبدل موازين القوى في العالم، وحين يتراجع النفوذ الأمريكي، ستجد إسرائيل نفسها وحيدة في مواجهة شعب لا يعرف الاستسلام؛ شعب جُبل على الصبر، جُرح ألف مرة، لكنه لم يمت، بل ازداد عنادا وتمسكا بأرضه. وحين يلتقي الصمود الداخلي مع انهيار السند الخارجي، يبدأ الانهيار الكبير، ومن يقلب النظر فيما يجري حولنا اليوم من نبذ للكيان بسبب جرائمه التي هزت ضمير البشرية، يجزم بأننا بتنا قريبين أكثر من أي وقت مضى من تلك اللحظة التي يتخلى فيها الغرب عن ربيبته المجرمة، ليس لرهافة حس أو صحوة ضمير فجائية، بل لأن حمل هذا الوزر الصهيوني بكل بشاعته لم يعد محتملا، فقد مضى لأبعد من كل ما تصوره عقل بشري من إجرام.

وساعتها، لن تسقط إسرائيل على مراحل هادئة، بل على وقع زلزال يشبه طوفانا جديدا يبدو أنه سيبدأ وشيكا، بعد أن بلغ طوفان الأقصى مداه. ربما يُهزم جيشها في معركة فاصلة، أو ينهار أمنها من الداخل، أو يتفكك حلفها مع الغرب، فتغدو مجرد "حصون محاصَرة" بانتظار النهاية، وحين يكتب التاريخ فصله الأخير، قد يضع إسرائيل في السطر ذاته الذي كتب فيه عن مملكة القدس اللاتينية: "كانت هنا، ثم زالت".

التاريخ لا يكرر نفسه حرفيا، لكنه يحب أن يسخر. وما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه تل أبيب بعكا، وما أشبه القادم بالذي مضى!

حين ننظر إلى التاريخ، ندرك أنّ الكيانات الاستعمارية الغريبة عن محيطها الجغرافي والثقافي غالبا ما تكون عابرة، مهما امتلكت من قوة ودعم خارجي. مملكة الصليبيين في القدس استمرت قرنين تقريبا، لكنها انهارت أمام صلابة الأرض وأهلها وتحوّل موازين القوى العالمية. فهل يمكن أن يواجه الكيان الإسرائيلي المصير نفسه ولكن بوتيرة أسرع؟ سنحاول هنا إعادة رسم المشهد، مع سيناريوهاته المحتملة..

المرحلة الأولى: التصدعات الداخلية

مع مرور الزمن، يتعمق الشرخ داخل المجتمع الإسرائيلي: الانقسام بين التيار الديني المتشدد والعلماني، الخلافات الإثنية بين اليهود الغربيين (الأشكناز) والشرقيين (السفارديم والمزراحيم)، وازدياد هجرة عكسية لليهود مع تراجع الأمن وفقدان الشعور بالمستقبل.

هذه التصدعات تجعل إسرائيل أقل تماسكا من مملكة الصليبيين التي كانت تعاني بدورها من صراعات أمرائها وقادة الحملات.

المرحلة الثانية: تغير موازين القوى الدولية

كما فقد الصليبيون سند أوروبا الموحدة مع ظهور قوى جديدة (المماليك والعثمانيين لاحقا)، فإن إسرائيل مهددة بفقدان المظلة الأمريكية مع صعود قوى كالصين وروسيا وتراجع الغرب اقتصاديا وعسكريا، عندها سيصبح وجود إسرائيل عبئا أكثر منه فائدة لحلفائها.

المرحلة الثالثة: تعاظم المقاومة المحلية
الفلسطينيون اليوم -رغم الألم والحصار- أثبتوا أن إرادة البقاء أقوى من أي تفوق عسكري. ومع الوقت، تتنامى قدرات المقاومة الشعبية والعسكرية والتكنولوجية، حتى تصبح إسرائيل محاصَرة داخل حدودها، تفقد السيطرة على محيطها

الفلسطينيون اليوم -رغم الألم والحصار- أثبتوا أن إرادة البقاء أقوى من أي تفوق عسكري. ومع الوقت، تتنامى قدرات المقاومة الشعبية والعسكرية والتكنولوجية، حتى تصبح إسرائيل محاصَرة داخل حدودها، تفقد السيطرة على محيطها مثلما حدث للصليبيين قبل سقوط عكا.

المرحلة الرابعة: الانهيار المفاجئ

الكيانات الاستعمارية لا تسقط تدريجيا فقط، بل قد تنهار دفعة واحدة مع هزيمة استراتيجية أو انسحاب داعم رئيسي.

تصور افتراضي:

- هجوم واسع من المقاومة أو من أي قوة أخرى إقليمية مناهضة للكيان (إيران، تركيا، باكستان.. إلخ) يربك إسرائيل داخليا..

- فقدان واشنطن القدرة أو الرغبة في التدخل العسكري المباشر.

- تحرك إقليمي (ربما انتفاضة عربية أو تغير سياسي كبير) يعجّل بالسقوط.

في مثل هذا السيناريو، قد نجد إسرائيل خلال منتصف القرن الواحد والعشرين وقد تراجعت إلى "جيوب محصنة" داخل فلسطين، بانتظار لحظة الانهيار الكامل، تماما كما تقلصت مملكة الصليبيين إلى شريط ساحلي قبل سقوطها النهائي.

المسألة ليست نبوءة غيبية، بل قراءة منطقية لمسار التاريخ: المشاريع الاستيطانية العابرة قد تعيش عقودا أو قرونا، لكنها لا تخلّد، لأن جذورها في الأرض ضعيفة. وإذا كان الصليبيون قد استمروا 192 عاما، فربما يكون عمر إسرائيل أقصر بكثير في ظل تسارع الزمن وتغيّر موازين القوة.

فوق السلطة 461 - نتنياهو يعتذر

 فوق السلطة 461 - نتنياهو يعتذر



فوق السلطة: انقلاب بيرس مورغان واعتذار الدانمارك لنساء غرينلاند

ركز برنامج “فوق السلطة” في حلقة (2025/10/3) على قضايا استحوذت على اهتمام الرأي العام في المنطقة والعالم في ضوء استمرار الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة على قطاع غزة.

بانر: فوق السلطة ترامب يشبه الصراع بين إيران وإسرائيل بمشاجرة الأطفال حلفاء حزب الله ينفضون عنه وخصومه يقاتلون إلى جانبه
وأبرزت إحدى فقرات الحلقة انقلاب الإعلامي البريطاني الشهير بيرس مورغان على إسرائيل، بعدما شكل بمفرده إبان "طوفان الأقصى" جبهة للدفاع عنها.

وقال مورغان -في مقطع فيديو- إن "ما يحدث في غزة هو إبادة وتطهير عرقي لا يتناسب مع موقعة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023".

بدوره، تساءل مقدم البرنامج نزيه الأحدب قائلا: "من بقي في هذا العالم يا ترى في صف إسرائيل ليفرض شروطها على البشرية؟".

وأشار مورغان إلى أن وجهة نظره تطورت منذ بداية العام الحالي، خاصة عندما رأى أن إسرائيل لا تحقق أهدافها الحربية مثل هزيمة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإطلاق سراح الأسرى المحتجزين.

كما فرضت إسرائيل حصارا خانقا على قطاع غزة دام 3 أشهر، مما أدى إلى "تجويع إجرامي للسكان"، حسب الإعلامي البريطاني.

واستعرض بعضا مما فعلته آلة الحرب الإسرائيلية في القطاع الفلسطيني المحاصر، إذ دمرت 70% منه، وقتلت ما لا يقل عن 60 ألف شخص من ضمنهم ما يزيد على 20 ألف طفل، فضلا عن تطهير عرقي يقوده وزيرا الأمن القومي والمالية إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.

ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ترتكب إسرائيل بدعم أميركي إبادة جماعية في غزة، خلّفت 66 ألفا و225 شهيدا، و168 ألفا و938 جريحا، معظمهم أطفال ونساء، ومجاعة أزهقت أرواح 455 فلسطينيا بينهم 151 طفلا.

اعتذار دانماركي

وفي فقرة ثانية، قدمت الدانمارك اعتذارا لنساء جزيرة غرينلاند التابعة لها، وذلك بعد أن منعت نصفهن إبان الاحتلال قبل عشرات السنين من الحمل والولادة عبر عمليات تعقيم إجبارية للأرحام.

وكانت صحيفة ليبراسيون قالت في أبريل/نيسان الماضي إن آلاف المراهقات من شعب الإنويت زرعت في أرحامهن أجهزة منع الحمل دون موافقتهن بين عامي 1966 و1975، كجزء من سياسة تحديد النسل التي طبقتها الدانمارك في غرينلاند.

وتعتبر غرينلاند جزءا من الكومنولث الدانماركي، ورئيسها الرسمي هو ملك الدانمارك فريديريك العاشر، بموجب قانون الحكم الذاتي الذي دخل حيز التنفيذ في 21 يونيو/حزيران 2009.

وفي الثامن من يناير/كانون الثاني الماضي، شكك الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الحقوق القانونية للدانمارك في غرينلاند، قائلا "الناس لا يعرفون حقا ما إذا كانت الدانمارك تتمتع بأي حقوق قانونية في غرينلاند".

وتناولت الحلقة عددا آخر من المواضيع، وهذه أبرزها:

  • نتنياهو يعيش خريفه السياسي والعالم ينفض عنه.
  • الإسرائيليون يثقون بحماس أكثر من ثقتهم بحكومتهم.
  • هل حولت معركة الصخرة حكومة لبنان إلى مسخرة؟
  • جوزيف عون يلاحظ سيطرة اللبنانيين على الأمم المتحدة.
  • إعلامية درزية تخرج جنبلاط من الطائفة وتقول: لسنا مسلمين.
  • متطرفون هندوس يجبرون شابا مسلما على السجود لآلهتهم.