الثلاثاء، 16 سبتمبر 2025

المتفرجون على المُضحّين

 المتفرجون على المُضحّين

عثمان الثويني

دائماً ما نرفع أكفّنا بالدعاء لمن يضحّون في سبيل فكرة أو معتقد أو حرية، نصوغ لهم أجمل الأدبيات، ونستحضر أعمق الموروثات، وكأن التضحية قدر كُتب عليهم وحدهم. 
لكن السؤال الصادق:
لماذا لا ندعو لأنفسنا أن نكون في صفوف المضحين الأولى؟

لقد أصبحنا نعيش أنانية مغلّفة بالشعارات، نتعامل مع من يقدّم التضحيات كأن حياته بلا أسرة تحبه أو طموحات تشده، بينما الحقيقة أنهم بشر مثلنا تماماً، لهم قلوب تتعلق، وأحلام تتأجل، وآمال تُكسر. 
لكنهم اختاروا أن يقدّموا أثمن ما عندهم لأجل ما يؤمنون به، بينما نحن نغرق في أعذارنا.

نضع عشرات الحواجز لنبرر لأنفسنا البقاء في مقاعد المتفرجين، نحاول أن نُبعد عن كاهلنا أعباء التضحيات بحججٍ واهية: 
“لدي التزامات”، “لي أبناء ينتظرونني”، “سأساهم بالكلمة أو الدعاء فقط”. 
وهكذا نقنع أنفسنا أن القليل يكفي، بينما القلب يعرف أن ما يُطلب هو الكثير.

والمتفرج على التضحيات يعيش صراعاً داخلياً مريراً، فهو يسمع عن معاني البذل والفداء صباحاً ومساءً، ويقرأ عن الشهداء والمجاهدين وأبطال الحرية، لكنه حين يلتفت إلى حياته المترفة يجد نفسه أسيراً لمعادلة متناقضة. 
بين ما تربّى عليه من أدبيات العزة وما يعيشه من واقع الاستسلام، يظهر ذلك الصوت الداخلي الذي يلومه، فيحاول إسكات ضميره بمزيد من الأعذار أو بتكثيف الدعاء والتأثر، ظانّاً أن ذلك كافٍ ليبرئ ساحته. هذا التناقض النفسي هو ما جعل أجيالاً كاملة تكتفي بالفرجة، بينما القلة فقط هي التي تصمد في الميدان.
وما يزيد المشهد إيلاماً أن بعض العلماء والوعّاظ، ممن يُنتظر منهم أن يكونوا في الصفوف الأولى بالكلمة والموقف، اختاروا مقاعد الفرجة أيضاً.  
    
تراهم يكتفون بخطب مطمئنة، أو عبارات عاطفية، أو دعوات عامة لا تُغير شيئاً في الواقع، بينما الأمة تنتظر منهم أن يكونوا ضميرها ولسانها الحيّ. 

لقد تحوّل بعضهم إلى مفسّرين للأحداث أكثر من كونهم صانعين لها، واكتفوا بالوعظ عن التضحية دون أن يقتربوا من كلفتها الحقيقية.

وما ينطبق على الأفراد ينطبق أيضاً على جماعاتٍ كثيرة رفعت شعار الإسلام، وامتلأت أدبياتها بالكلام عن الفداء والتضحية، لكن حين جاء وقت العمل اكتفت بأن تضع بطولاتها في أوراق كتبها. 
تحوّل الشعار إلى ديكور، وتحولت الشعارات إلى أغلفة مطبوعة، بينما الميدان بقي فارغاً إلا من قلة آمنت بالفعل لا بالقول. 
هنا يظهر الفارق بين من جعل الإسلام مشروع حياةٍ يُمارَس، وبين من جعله مجرد شعارٍ يُردَّد.

إن الذين ضحّوا لم يكن طريقهم مفروشاً بالورود، ولم يكونوا أكثر قوة أو أقل تعلقاً بالحياة منا، لكنهم آمنوا أن العيش الحق هو عيش الآخرة، فهانت عليهم الدنيا بما فيها. 
هنا يكمن الفارق: هم ينظرون لما بعد اللحظة، ونحن أسرى اللحظة ذاتها.

وأتصور أننا صرنا مسلمين بالهوية فقط، ننتظر أن يخطّ الآخرون بدمائهم وصبرهم صفحات عزّنا، بينما نكتفي نحن بالتصفيق والتأثر. 

ولعل أخطر ما في الأمر أن الاعتياد على هذا الدور السلبي يطمس فينا معنى الإيمان الحق: أن يكون الإنسان حاضراً في الميدان لا متفرجاً على بطولات الآخرين.

فالتضحيات ليست شعارات نُزيّن بها مجالسنا، ولا قصائد نُغرق بها مسامعنا، بل مسؤولية مشتركة. 
ومن لم يتهيأ لأن يكون جزءاً من صفوف المضحين، فعلى الأقل لا يخدع نفسه بأن مكانته محفوظة بين الأبطال وهو لم يخطُ الخطوة الأولى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق