الخميس، 11 ديسمبر 2025

فقه التشارك لا حكم التغالب

 فقه التشارك لا حكم التغالب

د. عبد الرحمن بشير

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي


1- في الماضي إلا قليلا من حياة الرسول الكريم، والصحب الأفاضل في زمن الخلفاء الراشدين، كانت الحياة كلها مبنية على القوة والغلبة، ولهذا صارت الحياة السياسية في الماضي تنزع نحو السيف في كل ما يتعلق بشأن الحكم، ولم يعرف الناس مذهب التشارك إلا بعد الثورات التي انفجرت في أوربا، واستطاع الناس من خلالها التغلب علي الفئات الحاكمة باسم العوائل في الغرب، وبهذا انتهت حقبة كاملة من التاريخ السياسي.

2- في العالم الإسلامي بزغ فجر جديد في مرات عديدة، المرة الأولي تحقق في يد النبي الكريم صلي الله عليه وسلم، وبني دولة راشدة بقيت نصف قرن من الزمان، تحققت فتوحات كبيرة في المستوي الداخلي كما المستوي الخارجي، فقد لاحظ الناس لأول مرة من التاريخ دولة تقوم علي التراضي لا علي القوة، وعلي الخيار لا علي التوصية، وعلي المشاركة الفاعلة لجميع الفئات الفاعلة لا علي مستوي النخب فقط، فكانت هذه فتحا سياسيا قبل أن تكون فتحا دينيا، وانتصارا للإنسان قبل أن تكون انتصارا للقيم، وبعد هذه الانتصارات الداخلية، استطاع هذا الجيل الفاعل والفريد في بناء الدولة علي أسس متينة، وواجه جميع التحديات الداخلية والخارجية بقوة وثبات، والمرة الثانية كانت في لحظة خروج عبد الله بن الزبير واختيار الناس له، ولكن الدولة العميقة في الدولة الأموية كانت له بالمرصاد، فتعثرت المحاولة، كما تعثرت محاولة الإمام الحسين، ابن فاطمة، بيد أن العودة إلي هذا الزمن بقيت في قلوب الناس، ولهذا حاول عمر بن عبد العزيز إعادة الحياة إلي الوضع الدستوري الصحيح، فكان عمله ثورة داخلية، ولكن المنية لم تمهله كثيرا، وقيل، وهذا ما رجحه كثيرون من أهل التاريخ، ومنهم المؤرخ العراقي الكبير الدكتور عماد الدين خليل بأنه تعرض لعملية تصفية داخلية من الدولة العميقة (الأسرة الحاكمة).

3- في العالم الإسلامي، كانت الدولة تحكم باسم قيصر، والدين يقاد من الكنيسة، وكان بين الحاكم ورجل الدين عقودا غير مكتوبة، ذلك لأن المسيحية لا تحمل في طياتها مشروعا قانونيا إلا قليلا، ولهذا قرروا في أدبياتهم (دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر) فهذا هو التشارك في كون الله وفي خلقه، ما بين الله والإنسان، وهذا ليس صحيحا في أدبيات الفكر الإسلامي المنبثق من الرؤية الإسلامية، فالقرآن قرر أن الله هو الخالق، وهو الحاكم كذلك (ألا له الأمر والخلق)، ومن هنا افترق الفكر الإسلامي عن الفكر الغربي القديم، فقد حمل الفكر الغربي القديم في طياته المشروع العلماني، بينما الفكر الإسلامي منذ بزوغ فكره حمل الفكر الموحد.

4- في العالم الإسلامي، كانت السلطة فيما بعد الخلافة الراشدة غالبا تحكم بالهوي في الشأن السياسي، ولكنها تحاول أن تجد لها حلا من الشريعة لهواها السياسي، ومن هنا رأي الناس الخطاب المؤول الذي صنع الدين المؤول، وبالتالي برر كل ما يصنعه الحاكم، ووجدوا بعض النصوص النبوية التي تؤكد لهم بأن حق الحاكم أكبر من حق المحكوم، وأن السلطان هو ظل الله في أرضه، وأن يوما واحدا من حاكم مستبد وطاغ خير من ستين عاما في عبادة وتقوي بلا سلطان، وصار هذا النوع من الحكم الاضطراري هو الأصل، بل ورأي البعض أن هذا هو الأليق بالبشر، ولهذا سار مذهب القوة والاستيلاء (!وهو ما يسمى عندنا (الحاكم المتغلب) بالسيف، وجعلوا ذلك خالص مذهب أهل السنة والجماعة.

5- في الفكر السياسي الإسلامي بقيت فيه جذور فكرية قوية، رفضت قبول المذهب الاضطراري كأصل، فقد ذهب جمهور العلماء علي أن البيعة هي الصيغة الشرعية لبناء الدولة والسلطة، ولهذا يكون التراضي هو الأصل عند جمهور العلماء، وقبولهم لمن غلب بالقوة كان من باب الضرورات تبيح المحرمات، ولكن مع الزمن صار هذا المذهب هو الأصل، ولهذا رأينا الصيغ الغريبة والمضحكة للبيعة في زمن ما بعد الخلافة الراشدة حيث عاد الناس إلي الطفولة السياسية في زمن ما بعد الخلافة الراشدة متأثرين بالحالة الدولية في العالم، وبالثقافة السائدة في البلاد المفتوحة، فأنا من المؤمنين بأن المسلمين فتحوا بلاد الفرس دينا وحضارة، ولكنهم تأثروا بهم سياسة وحكما فيما بعد، فقد ظهر فكرة الاسرة الشاهنشاهية في مجال الحكم والسياسة في الدول الإسلامية الحاكمة من الأمويين حتي العثمانيين، ولكن المسلمين حاولوا أن يطعموا الفكرة بروح إسلامية، والقارئ الحصيف للفكر السياسي لابن تيمية يلاحظ بأن الشيخ منزوع نحو الحرية والتراضي في الحكم، والسوق، فهو يرفض احتكار الحكم، واحتكار السوق معا، وهو القائل (عصمة الأمة تغني عن عصمة الأئمة)، وهذه خطوة سياسية متقدمة، بل وتتقدم في قراءتها حتي في عصرها، ورفض تدخل الدولة في السوق، وهذه كذلك رؤية شبه ليبرالية في الاقتصاد، وان كانت تنطلق من المدرسة الإسلامية.

6- الفكر السياسي الإسلامي توقف عن الاجتهاد في مرحلة مبكرة في القضايا السياسية، ولهذا بقي الفقه السياسي كما قال البعض فكرا جنينيا، بل وأكد أستاذ الأخلاق السياسي الدكتور محمد المختار الشنقيطي بأن أزمة الحضارة الإسلامية كانت، وما زالت دستورية، فلا شك في أن النصوص الإسلامية تحمل في طياتها مشروعا قيميا متكاملا، ولكن تحويل القيم إلي واقع يحتاج إلي فقه متجدد، فهناك فقه النصوص، وفقه الواقع، وفقه التنزيل، فالمشكلة لدينا تكمن في فقه حركة الحياة، لأن الحكام صادروا السياسة من الأمة، وقبل كثير من الفقهاء خوفا من الفتنة هذه المصادرة، ولكن الفتنة الكبرى جاءت فيما بعد، لأن أغلب الناس اعتقدوا بأن هذا هو الأصل، ومن هنا وجدنا ثراء في المستوي القيمي، وقحطا غير عادي في المستوي التطبيقي.

7- لدينا إشكالية كبري في كيفية بناء العقود في حياة الأمة، فنحن نعاني مشكلات لحظات التحول، فأمة الإسلام في مفترق الطريق، فهي تبحث ذاتها تحت الركام، ولم تعرف بعد وجهتها الحضارية، فهل تستطيع أن تكفر من تاريخها لتبدأ مرحلة جديدة؟ وهل هذا من الممكن فعله؟ أم هي بحاجة إلي نوع آخر من الفعل الحضاري؟ وكيف يجب ان يكون هذا الفعل الحضاري؟

لديها ثراء في التراث من حيث القيم، ولديها جفاف من حيث التطبيق العملي لقرون متطاولة، وبينها وبين الأمم الأخرى مسافات هائلة، فهل يجب أن تستنسخ من التجارب الأخرى لتلحق الأمم المتقدمة؟ أم ماذا يجب فعله في هذه المرحلة الخطيرة في حياتها؟

إن هذه التساؤلات التي تطرح في السوق الفكري، تسبق دوما علي المشروع الذي يجب أن تتبني به الأمة، فلا نجاح بدون مشروع، ولا مشروع بدون طرح تساؤلات عميقة، بل ويجب أن يكون طرح التساؤلات عميقة، وصادمة.

8- يقال، من لا تاريخ له، لا حاضر له، بل لا مستقبل له، وهي مسألة صحيحة إلي حد ما، ولكن هل كل أمة لها تاريخ مجيد، وخرجت من الفعل، تعود إلي التاريخ مرة أخرى بحكم مجدها التاريخي، فهذا ليس صحيحا بالإجماع، ولكن هناك من المؤرخين من يؤكد ذلك، والدليل علي ذلك أن الصين عادت إلي مجدها التاريخي مستلهمة منه، ولكن البعض يقول: إن أمريكا صنعت مجدها بدون تاريخ، وإلي هذا ذهب المفكر المصري محمد حسنين هيكل، وكذلك المفكر القطري جاسم سلطان، ولكني لست معهم في مذهبهم هذا، فالولايات المتحدة استمرار حضاري، ولم تعش قطيعة حضارية، فهي جزء من المنظومة الغربية، ولكن بنكهة أمريكية، ومن هنا فأمة الإسلام بحاجة إلي إعادة مجدها الحضاري، ولكن بلغة العصر، فلا بد من قطيعة مع الماضي المتخلف، والذي توقف عن الاجتهاد، كما بجب أن نتواصل بشكل جديد مع الماضي النهضوي، حينها ننجح في صناعة النهضة المنشودة، فلا حياة سياسية صحية بغياب النهضة، لأن سؤال النهضة لا يجب أن تكون جزئية، بل يجب أن تكون شاملة، فلا نهضة مرة أخري في ظرف التغالب، بل لا بد من التشارك، وهذا ما تنبهت له قيادة الصين مؤخرا، هل يمكن للصين أن تبقي قوية تحت النظام الشيوعي، وهو نظام ينزع نحو الشمولية، فأخطر ما يدور في ما وراء الأسلاك هو كيف نتدرج نحو نظام رأسمالي ممزوج بروح الشيوعية، ومرحلة ديمقراطية بنكهة صينية؟

9- التشارك يعني عدم الاقصاء، والتغالب يعني التفرد بالقرار، وهنا يكمن التخلف السياسي، فقد نحقق لحظة ما ازدهارا علميا تحت قيادة التغالب، ولكننا لا نحقق نهضة مستدامة تحت هذه القيادة، فالعراق نموذج لهذا، وكذلك ماليزيا المزدهرة، وهي الآن توقفت من النمو، والسبب هو أن القائد السابق مهاتير نجح في بناء دولة عصرية، ولكنهم لم ينجحوا في بناء نظام سياسي يقوم علي التشارك علي المدي البعيد.

لقد نجح اتاتورك بناء دولة علمانية في تركيا، ولكنه فشل في تحقيق نهضة تركية، كما نجح بورقيبة في بناء نموذج علماني في تونس، ولكنه فشل في تحقيق سلم اجتماعي بين مكونات المجتمع في تونس، وما يفعله اليوم أردوغان في تركيا يعتبر ذكاء سياسي حيث يحاول ان يبني دولة الجميع، دولة لا تصطبغ بشكل أيديولوجي، ولكنها لا تعيش في قطيعة مع ماضيها، فهي علمانية جزئية، بعد أن كانت علمانية شاملة، لأنه يحاول معالجة ما فشل به أتاتورك، دون أن يقع في أخطاء بعض الإسلاميين الذين لا يعرفون تعقيدات الواقع وتركيباته الصعبة.

نحن اليوم بحاجة إلي فقه حديد، وهو فقه المشاركة، فكيف نبني دولة الجميع؟ وليس دولة الفريق، هذا النوع من الفقه لا وجود له في الكتب الصفراء، فهو موجود في الوحي بشكل قيم عليا، ويحتاج إلي قوة ذاتية لاستخلاصه من الوحي، كما نحتاج إلي قراءة أخري للواقع، ومن هنا نستطيع أن نقيم فقها جديدا يتجاوب مع معطيات العصر، ويستجيب للحظة الحالية، فلا نكون مثاليين وحالمين كما هو شأن أكثر الدعاة، ولا نكون منفعلين لما يطرح لنا من قبل الآخرين كما هو شأن العلمانيين، فلا بد من طرح لهذا الفقه الجديد (فقه التشارك) وليس هذا بعيدا عن ما صنعه نبي الله يوسف عليه السلام في داخل الدولة الفرعونية.

10- التشارك حل سياسي ناجح، والتغالب حل استثنائي، وهو كذلك وهم من أوهام القوة، اليوم لدينا كم هائل من الوعي، ولكنه ليس منتظما في عقولنا، فهو موجود بشكل متنافر، ولدينا كذلك نقص شديد في الخبرة، ومن هنا فشلنا كثيرا في تحويل الوعي الكمي الهائل إلي خبرة حياتية، ولهذا نجد المسلمين يبحثون دوما عن القائد الملهم، وليس عن المؤسسة الناجحة.

التشارك ذكاء أمة، ونجاح نخبة، والتغالب غياب أمة، ونجاح فرد، فنحن عشنا عقودا تحت قيادات ملهمة، كانت جلها أفرادا، ولهذا نري في العالم الإسلامي حبا عظيما للملك الراحل فيصل رحمه الله عند الإسلاميين، والرئيس الراحل جمال عبد الناصر رحمه الله عند القوميين، والسبب هو أن أمتنا ما زالت تعيش في مرحلة الطفولة المستدامة، فهي ترغب ولي لأمرها، وأعجب ما أعجب في دعاء الأئمة (اللهم وفق ولي أمرنا)، إنه دعاء يحمل معنيين، المعني الأول، هو أن الأمة تنازلت عن أمرها لشخص معين واحد، والمعني الثاني، هو أن هذا الشخص هو الذي يقرر في أمرها ما يشاء، ولهذا فهو يحتاج فقط إلي دعاء، ولكن القرآن وصف القيادة بالجماعية لا بالفردية (وأولي الأمر منكم)، فهذا النوع من التفكير التبسيطي للشأن السياسي خلق جماعات سياسية مراهقة لا تفقه التشارك السياسي وأهميته.

في قراءتي المتواضعة لأحوال الأمة توصلت بأن أزمتها ليست دينية، ولا كذلك أخلاقية، فهي لا تعيش أزمة روحية كغيرها من الأمم التي تمردت على الهوية الإنسانية، ولكنها تعيش على أزمة سياسية هيكلية عميقة، فهي منذ زمن مبكّر انقلبت على الوضعية الدستورية، فعادت إلى الجاهلية في السياسة، وافترق القرآن بقيمه عن السلطان في استعلاءه، ولهذا يكون الحل في تصحيح الوضع من هناك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق