الجمعة، 19 ديسمبر 2025

سلام اليهود في الماضي والحاضر

سلام اليهود في الماضي والحاضر



الشيخ محمد الغزالي


عندما جاء الإسلام إلى المدينة المنورة –وهو دين الإنصاف- عرض على اليهود معاهدة للسلام، قال لهم: نقر حرية التدين، نعترف بحرية العقل والضمير، لكل إنسان أن يعتنق الدين الذي يحب، وأن يبقى عليه ما يشاء، وبيننا وبينكم في المدينة جوار فلنرع حق الجوار، ولنتعاون في دفع أي عدو يفكر في الهجوم على المدينة بوصف أن لنا مصالح مشتركة فيها؛ فهي وطننا الذي يضمنا، والبلد الذي يؤوينا.


ولم يجد اليهود بدأ من أن يقبلوا المعاهدة، لأن فيها الإنصاف والعدالة، ولا معنى لاعتراض هذا الكلام، قبلوا المعاهدة على مضض، أمضوها برضا ظاهر، ولكن ضيقهم النفسي بها بدأ يظهر على مر الأيام.


خداع اليهود وتحدي المسلمين

امتد شطط اليهود في معاملاتهم وعلاقاتهم بالإسلام، كان ينبغي أن يكونوا محترمين للمعاهدة التي أبرمت بينهم بين المسلمين، ولكن كيدهم للإسلام أخذ يتزايد، ووضعوا خطة فيها شيء من المكر والدهاء، 

قالوا: لا بأس أن ننفي عن أنفسنا تهمة التعصب، وأن يدخل بعض منا في الإسلام، على أساس أنه يتوسم فيه الخير، ويظن به الحق، ثم بعد قليل يرجع عنه ويرتد ويقول: ظهر لنا أنه دين لا يصلح، لقد كنا غير متعصبين ودخلنا فيه، فلما انكشف لنا أنه باطل وضلال تركناه! هذه هي الخطة التي وضعوها، 

قال تعالى: (وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {72} وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {73} يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (آل عمران).


وصبر المسلمون على هذا التحدي، وهذا المكر، وتلك المؤامرات، ولكن اليهود مضوا في طريقهم -طريق العداوة- يقولون: ما لهذا الرجل يتبع قبلتنا، ولا يدين بديننا؟

تغيير القبلة وصدق العمل على البر

وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يرى أن الأصنام المحيطة بالكعبة تمنع من اتخاذها قبلة، فكان يتجه إلى بيت المقدس إشعاراً بأنه نبي له كتاب، وأنه موحِّد، وأنه يرفض الوثنية؛ ولما انتقل إلى المدينة المنورة مهاجراً هو وأصحابه بقي الأمر على ذلك، فكان اليهود يضيقون ويقولون مبكتين أو منكتين: 

ما لهذا الرجل يتبع قبلتنا ولا يدين بديننا؟


فتمنى الرسول صلى الله عليه وسلم على الله، ودعا دعاءً حاراً أن يصرفه عن هذه القبلة، وأن يعزم له على قبلة أخرى، وكان ينظر إلى الأفق متشوقاً إلى خبر يجيء من السماء يأذن له بالاتجاه إلى القبلة: 

(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة: 144).


ولما تسافه اليهود، وكثر لغطهم، وتحدثوا عن تغيير القبلة حديثاً فيه شيء من العدوان والتحدي، قال لهم القرآن الكريم: إن التعلق بالشكليات هو عمل التافهين من الناس، وإن الأمر عند الله ليس أمر شرق أو غرب أو شمال أو جنوب، إن الأمر عند الله أكبر من ذلك، إن الله يقرب الإنسان إليه يوم يكون الإنسان صادق اليقين، شريف الأخلاق، حسن التعاون مع الناس، صبوراً على البأساء والضراء، مؤدياً لحقوق ربه، يصلى له، ويصوم، ويزكي من أجله، وينفق؛ يوم يكون الإنسان كذلك يكون عبداً صالحاً، أما الشكليات فلا قيمة لها. ما التعلق بقبلة هنا أو هناك؟ إنها أمور رمزية فقط، قال تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ...) (البقرة: 177).


وحكى سبحانه ستة عناصر يتكون البر منها: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177).


ومضى اليهود في تحديهم، كان الكلام في تغيير القبلة في شهر شعبان -شهرنا هذا- كان الكلام والجدل الطويل حول بيت المقدس والمسجد الحرام، كان في شهر شعبان هذا، وفي رمضان وقعت معركة "بدر"، وقال اليهود بعد أن رأوا النصر الحاسم الذي أحرزه المسلمون قالوا للمسلمين: لا تغتروا أن وجدتم ناساً لا يحسنون الحرب فهزمتموهم، لئن التقينا بكم لتعلمُنَّ أنَّا نحن الناس! هذا النوع من التحدي غريب، وانضم إليه أن شعراء اليهود أخذوا يرثون قتلى قريش في معركة بدر، وهذا تصرف منكر! فإن المعاهدة المبرمة تحولت بعد ذلك كله إلى حبر على ورق؛ وإذا كان اليهود في المدينة يعاملون المسلمين على هذا الأساس، فإن الوفاء بالمعاهدة من جانب واحد يصبح نوعاً من الضعف.


ومع ذلك فإن النبي الحليم الكريم صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم من حوله كانوا يصابرون الأيام حتى يقع ما لابد من وقوعه، وخان اليهود المسلمين ونقضوا المعاهدة تلو المعاهدة -كشأنهم دائماً- فاستحقوا الطرد من المدينة المنورة ثم من الجزيرة العربية بكاملها.


لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ

عداء اليهود للأمة الإسلامية

 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق