الجمعة، 12 ديسمبر 2025

في ذكرى وفاة الصديق

 في ذكرى وفاة الصديق

د. محمد الصغير

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


من سُنن الله الجارية في مخلوقاته تفضيل بعضها على بعض، حتى في صفوة الخلق قال الله تعالى: ﴿ تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۘ﴾ [البقرة: 253]، وهذا التفضيل هو بيان مكانة وتحديد منزلة، وليس من باب الانتقاص أو التقليل من الآخرين، وفي هذا الإطار وضع شراح الحديث قول النبي الأكرم ﷺ: “أنا سيد ولد آدم ولا فخر”.

وذكر القرآن الكريم درجات من الفضل تأتي بعد درجة النبوة، ﴿وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَعَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ وَٱلصِّدِّیقِینَ وَٱلشُّهَدَاۤءِ وَٱلصَّـٰلِحِینَۚ وَحَسُنَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ رَفِیقࣰا﴾ [النساء: ٦٩]. 

ومن المجمع عليه سلفاً وخلفاً أن درجة الصدّيقية في هذه الأمة، أول من تقلدها وعُرف بها هو صاحب النبي الأول وخلفيته الأوحد، الذي إذا أطلق وصف الصديقية لا ينصرف إلا إليه: ﴿وَٱلَّذِی جَاۤءَ بِٱلصِّدۡقِ وَصَدَّقَ بِهِۦۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ﴾ [الزمر: 33].

وخلصت من المعايشة المتأنية لحياة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أنه الصاحب المفرد والصاحب المطلق، فمعنى الصحبة يقتضي الاشتراك والخلطة، لكن لم ينفرد بصحبة رسول الله وبمكانته عنده كما اتفق لأول رجل آمن به دون سؤال أو تردد، ومنقبة الهجرة وليلة الغار فيهما من الفضل ما تقصر عن بلوغه الآمال: ﴿ ثَانِیَ ٱثۡنَیۡنِ إِذۡ هُمَا فِی ٱلۡغَارِ إِذۡ یَقُولُ لِصَـٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40].

فكل الصحابة اشتركوا في فضل الصحبة وحضور المجالس والمشاهد مع رسول الله ﷺ، لكن لم يحصلها منفرداً إلا صهره ووزيره في حياته وخليفته بعد وفاته، كما أنه الصاحب المطلق، فإذا أُطلق لفظ الصحبة فلا ينصرف إلا إليه، وقد نزلت آية الهجرة في سورة التوبة بعد واقعة الغار ببضع سنين، فلما سمعها الناس ما قال أحد: مَن صاحِبه؟ ولا قال أحد منهم لـمّا قال “دعوا لي صاحبي”: مَن تقصد من أصحابك يا رسول الله؟

وقد أثبت النبي ﷺ له هذا التفرد على إطلاقه، فقال: “ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر”، وقال ﷺ: “ما لأحد عندنا يدٌ إلا وقد كافأناه بها، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة”.

وأبو بكر بين الصحابة كسيدنا إبراهيم بين الأنبياء، فما زكى القرآن الكريم أحداً بعد النبيين كما زكى صاحب نبينا الكريم: ﴿وَسَیُجَنَّبُهَا ٱلۡأَتۡقَى﴾ [الليل: ١٧] إلى آخر السورة.

وذكر الإمام الرازي في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَلَا یَأۡتَلِ أُو۟لُوا۟ ٱلۡفَضۡلِ مِنكُمۡ وَٱلسَّعَةِ﴾ [النور: 22] أن فيها عشر فضائل لأبي بكر رضي الله عنه.

= أبو بكر الخليفة

برزت أفضلية أبي بكر وتأكدت مكانته عندما تولى الخلافة، فثبّت أركان الدولة وحفظ الله به الملة، وقام بالأعمال المؤسسة لدولة الراشدين، واضطلع بالمهام التي لا يَقوى عليه غيره ولا يتحملها سواه، وبدأ ذلك بحسم نبأ وفاة رسول الله ﷺ، ثم مكان دفنه وغسله والصلاة عليه، وتقسيم ميراثه من بعده.

ثم اتخاذ أجرأ القرارات في أصعب الأوقات، حيث قرر مباشرة إنفاذ جيش أسامة الذي عقد النبي ﷺ لواءه، وقتال المرتدين ومانعي الزكاة، وحفظ لنا التاريخ تخوف عمر بن الخطاب من هذه الحرب في هذا الظرف، وكيف كان يفكر في تأمين المسلمين وأمن الدولة، ولكن الخليفة كان ينظر إلى حماية العقيدة ووأد الفتنة، وجعل شعاره: «والله لا ينتقص الإسلام وأنا حي».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق