الأحد، 14 ديسمبر 2025

سيف الله والمحراب الخفي: حين تُختبر النفوس في ميدان المناصب

سيف الله والمحراب الخفي: حين تُختبر النفوس في ميدان المناصب

 في ظل المجد الذي يوشي بالغواية

أحمد هلال.. 
كاتب وناشط حقوقي


وفي ظلال دولة قوية وعادلة استقامت فيها العلاقات المجتمعية وانتظمت الدوائر الحكومية والدواوين، ووضعت القواعد واللوائح

وتوحدت المعايير ليتم تطبيقها بتجرد، مهما كان حجم الإنجاز الذاتي ومهما بلغت شهرة القيادة

كانت النجوم تتأمل من عليائها مشهداً فريداً في تاريخ الفتوحات. خالد بن الوليد، ذلك السيف الذي أرهب الأمم، وتلك العبقرية التي حيرت الأعداء، يقف في معسكره كالطود الشامخ.

حوله رجال عاشوا معه اللحظة التي تسبق النصر، واللحظة التي تلي الفتح. كانوا يرون فيه ليس قائداً فحسب، بل رمزاً لإرادة الله النافذة في أرضه.

لكن السماء، التي تربي عبادها بالعطاء والمنع، بالنصر والهزيمة، بالمجد والتواضع، كانت تعدّ لخالد امتحاناً من نوع آخر. امتحان لا يُختبر فيه بسالة السيف، بل بنقاء القلب. لا يُقاس بقوة الضربات، بل بقوة الإيمان.

الرسالة التي جاءت كالصاعقة في ليلة هادئة:

وفي زهوة النصر وفرحة الانتصارات وسيف لم ينكسر في معركة ولم ينهزم في جاهليته او من بعد إسلامه

في ليلة كانت النجوم فيها كأنها شموع تسبح بحمد ربها، دخل رسولٌ من المدينة يحمل رقعةً صغيرة الحجم، عظيمة الأثر.

 وقف بين يدي خالد، وناوله الرسالة المختومة بخاتم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

فتح خالد الرسالة، وقرأ الكلمات القليلة التي هزت أركان المجد الزائف:وانه ليس بزائف، لكنه كان في موضع اختبار عظيم

كلمات تختصر فلسفة التكليف:

قد عزلتك عن قيادة الجيش، ووليت أبا عبيدة بن الجراح.

توقف الزمن للحظة. تناهت الأنفاس. نظر الجنود إلى قائدهم وهم لا يصدقون: كيف يعزل سيف الله المسلول؟ كيف ينزل من علياء القيادة إلى مستوى الجنود؟

من يستطيع أن يكون في قوة عمربن الخطاب ويتخذ مثل هذا القرار في كلمات قصيرة ،ترسخ قواعد واضحة وثابتة؟

لكن خالد رفع رأسه، وابتسم ابتسامة الراضي بقضاء ربه، وقال كلمات أصبحت دستوراً لكل قائد:

إن أمير المؤمنين أراد أن يذكرني أني عبد من عباد الله، فعبدٌ أنا.

ومن يتحمل تنفيذ هذا القرار بتلك الانسيابية والقوة النفسية العالية التي لامست السماء برفعتها السامقة؟!

 مشهد التسليم الذي علم التاريخ معنى العظمة

لم ينتظر خالد حتى الصباح. لم يجمع قادة الجيش ليشرح أو يبرر. لم يطلب محاكمة أو استئنافاً. بل قام في الحال، وخلع درع القيادة عن صدره، وذهب إلى أبي عبيدة بن الجراح ، الرجل الوديع الذي كان يحبه حباً يقطر إخلاصاً وتواضعاً.

وقف أمامه، وسلّمه الراية، وقال بصوت هادئ كأنه خرير الماء:

أنت الأمير، وأنا جندي تحت أمرك.

لم يخبرنا التاريخ أن خالد بن الوليد المتفرد في عبقريته العسكرية، انتقد القرار او شكك في قدرات وإمكانيات القائد الجديد، ولم يبحث عن خبراته العسكرية او تاريخه!!

ما أسعد تلك القلوب التي لا تتقلب مع المنح او المنع!!

بكى أبو عبيدة. بكى لأن العظمة الحقيقية رأها بعينيه. بكى لأن خالداً علمه أن القيادة ليست منصباً يُتشرف به، بل أمانة تُحمل.

المعركة الأولى بعد العزل: الاختبار الحقيقي

دخل المسلمون معركتهم الأولى بعد تغيير القيادة. ووقف خالد في الصف الأول، يحمل رمح الجندي العادي، لا سيف القائد العام. اقترب منه شاب من الجنود، وسأله ببراءة الشباب وصراحته:

“يا أبا سليمان، أما حز في نفسك أن تُعزل بعد كل هذه الانتصارات؟

نظر إليه خالد نظرة الأب الحكيم لابنه، وقال:

يا بني، إني قاتلت لله قبل أن أُولى القيادة، وسأقاتل لله بعد أن أعزل. والله ما طلبت منصباً قط، ولا اتكأت على مجد صنعه الله على يدي.

مالنا يتفاخر أحدنا على غيره لمجرد موقف رمزي أوسياسي عابر

ومالنا ينشغل أحدنا بغيره، رغبة في ان يكسر عليه نجاحه او عطاؤه؟!

ثم اندفع في المعركة وهو يردد:

اللهم إنك تعلم أني ما قاتلت يوماً إلا ابتغاء وجهك.

مرايا النفوس: كيف تختلف ردود الأفعال؟

 تكشف القصة عن حقائق عن النفوس البشرية، وتنعكس على واقع الحركات الإسلامية اليوم:

النوع الأول: من يجعل المنصب هويته

هذا يرى نفسه في الكرسي لا في الرسالة. يعتقد أن وجوده مرتبط بمنصبه. فإذا عُزل:

♦ تحطمت معنوياته، اعتبر نفسه مهانا، انسحب من الميدان أو أساء إلى الجماعة.

النوع الثاني: من يقاتل من أجل ذاته لا من أجل الله

يظن أنه يخدم الدعوة، وهو في الحقيقة يخدم صورته. إذا ذهب المنصب:

♦ قلّ عطاؤه، ذبل حماسه، بدأ ينتقد من جاء بعده

 بحث عن جمهور جديد يصفق له

النوع الثالث: من يسوء خلقه عند العزل

هذا يتحول من داعية إلى عائق، فيبدأ:

♦ بنشر الإشاعات، تحريض الصغار ضد الكبار(وما أكثرمن يحرضون)، كشف ثغرات الإخوة، الهروب من المسؤولية

النوع الرابع: الخالدون في كل زمان

هذا هو النموذج الحقيقي. إذا عُزل:

ازداد عملاً، تعمق تواضعاً، بقي وفياً

 استمر في العطاء من أي موقع


 الدروس التربوية للحركة الإسلامية

1- المنصب امتحان لا مكسب:

المناصب في العمل الإسلامي ليست مكافآت، بل اختبارات من الله. قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31].وهي في الأصل مغرما وليست مغنما، او وجاهة او تشريفا.

2- العزل تربية لا عقاب:

كما ربى الله خالدا بالعزل، تربي الجماعة أبناءها بتغيير المواقع. العزل قد يكون:

♦ وقاية من الفتنة، فرصة للراحة، اختباراً للصدق، تجديداً للطاقات

لماذا لا تتم تلك القواعد بأريحية ويسر

لماذا تخشى القيادة اتخاذ القرارات التنظيمية في تلك المواقف

ولماذا تكون ردود الأفعال دالة على هشاشة النفسية لتتحول الى خصومات شخصية؟

3- الولاء للفكرة لا للأشخاص:

الحركة الإسلامية تبقى والفكرة تبقى، أما الأشخاص فيتغيرون. الولاء يجب أن يكون للمبادئ لا للوجوه.

لماذا يظن البعض القليل ان المسؤولية أصبحت ميراثا او ارثا او حقا لا يتنزع بغير الوفاة؟!

أسئلة عميقة نطرحها والاجابات عند أطرافها!!

4- التواضع شرط القيادة:

من لا يتواضع عند الصعود، سيسقط عند الهبوط. التواضع هو:

♦ تذكر أن النعم من الله

♦ الاعتراف بفضل الإخوة

♦ الاستعداد للعودة إلى الصفوف

5- الإخلاص يظهر عند المحن:

لا يُعرف الإخلاص في أوج النجاح، بل عند زوال المناصب. الإخلاص الحقيقي هو:

♦ الاستمرار في العمل، دعم القيادة الجديدة، الحفاظ على وحدة الصف

6- التربية بالقدوة:

قصة خالد يجب أن تكون منهجاً تربوياً في:

♦ اختيار القادة

♦ تغيير المسؤولين

♦ تقبل القرارات التنظيمية


رسالة عملية للعاملين في الحقل الإسلامي

يا من تحملون هم الدعوة:

1- استعدوا للعزل كما تستعدون للولاية: فإن الدعوة تحتاجكم في المقدمة وفي المؤخرة.

2- لا تتعلقوا بالمناصب: فالكرسي لا يصنع الرجل، بل الرجل هو الذي يعطي الكرسي قيمته.

3- كونوا كخالد: إن عُزلتم فكونوا أفضل جنود الدعوة.

4- تذكروا أن الله يراقب: وهو أعلم بما في الصدور.

5- اعلموا أن الدعوة أكبر من الأشخاص: فالمشروع يبقى والأشخاص يذهبون.

الخاتمة: العظمة الحقيقية

قصة خالد بن الوليد تعلّمنا أن العظمة الحقيقية ليست في قيادة الجيوش، بل في قيادة النفس. ليست في الفتح بالسيوف، بل في فتح القلوب. ليست في المجد الظاهري، بل في الإخلاص الباطني.

لقد كان بوسع خالد أن يقول: أنا سيف الله! ولكنه اختار أن يقول: “أنا عبد من عباد الله.”


لا اظن أحدا قد صنع من المجد ما صنع، كما صنع خالد ،ثم يتم عزله هكذا بكلمات قليلة تحمل الإرث التربوي الذي يجب أن يكون حاضرا لتختفي معه كل الخلافات والانقسامات وحب الذات

وهنا انتصر انتصاراً لم ينل مثله في كل معاركه. وهنا كتب اسمه في سجل العظماء حقاً. وهنا أصبح قدوة لكل من يحمل راية الإسلام.

فطوبى لمن يتواضع عند العلو، ويصبر عند الهبوط، ويبقى عبداً لله في كل أحواله.

فهذه القصة الخالدة تظل نبراساً يضيء طريق كل داعية، ومرجعاً تربوياً لكل قائد، ودستوراً أخلاقياً لكل من يريد أن يخدم الإسلام حقاً.

هل يمكن أن تعود إلينا تلك الأخلاقيات النادرة في محيط الحركة الإسلامية الهادرة؟!



المصادر التاريخية:

1- تاريخ الطبري – أحداث سنة 15 هـ

2- البداية والنهاية لابن كثير

3- الكامل في التاريخ لابن الأثير

4- سير أعلام النبلاء للذهبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق