الدموع التي ربّت التواضع.. عبد الله بن عمر والراعي
لقاء قصير، لكنه انتصب في تاريخ التربية كمنارةٍ لا تنطفئ.
الرواية كما انبثقت من منابعها الأولى
يروي ابن سعد في “الطبقات” بإسناده الثابت:
مرّ عبد الله بن عمر براعي غنم، فسمعه يقول:
“اللهم ارحم عمر، وارحم عبد الله بن عمر.
فوقف عنده، وفي عينيه سؤال كبير، وقال له بصوتٍ
يشبه العتاب إذا رقّ والرحمة إذا اشتدّت:
“ويحك! أنا والله أخوف عليك من عمر! أتدعو لنا
وتترك نفسك؟!
ثم مضى، لكنه مضى مثقلاً لا خفيفاً. فلما خلا بنفسه
بكى بكاءً شديداً، فسُئل عن سبب بكائه فقال:
“وددت أني كلمته بكلمة واحدة.”
وتُخبرنا روايات الذهبي وأبي نعيم أن دموعه بلّلت
لحيته، وأن الموقف، على صغره، هزّه هزّاً لا يعرفه
إلا من عاش بقلبٍ يخشى الله كأنما يراه.
لماذا لم تعد قلوبنا هكذا؟ وما الذي يحدث بعد؟
الى اين نذهب بقلوبنا؟
وكيف لها ان تعود بهذا الصفاء، وان تشرق كالشمس
في رابعة النهار؟!
صورة تتكلم وعبرة تتنفس
كان العصر يمدّ عباءته الأخيرة، والشمس تلوّح قبل
الرحيل بقبلة حمراء. يمضي ابن عمر في طريقه،
وقلبه في حوارٍ مع السماء. فجأة، ينفذ من بين الأغنام
صوتٌ خافت، لا يُقصد به أن يُسمع، لكنه يصل إلى
من يعرف استشعار الإشارة الإلهية قبل أن يسمع
الصوت البشري:
اللهم ارحم عمر.. اللهم ارحم عبد الله بن عمر.
لماذا يتذكر هذا الراعي عمر بن الخطاب؟ ولماذا
يدعو له ناسيا نفسه؟!
هل نسينا دعاء رابطة القلوب عند الغروب؟!
لابد أن هذا الدعاء عند الغروب كي تشرق به شمس
المحبة والتعاطف والتراحم فتسكن قلوبنا بالإيمان
ودعاء للصالحين بالغيب.
توقفت الأقدام، وسكنت الأنفاس.
ابن عمر لا يسمع اسمه، بل يسمع غفلة رجلٍ يدعو
لغيره وينسى نفسه.
فاض قلبه بالخشية، وكأن أبواباً أرادت أن تُفتح بقي
أحد مصاريعها موصداً.
اقترب منه، وكأنه يمشي على أرضٍ من زجاج، وقال
بكلمات قليلة تحمل عالماً:
“ويحك! أنا والله أخوف عليك من عمر! أتدعو لنا
وتترك نفسك؟!”
كلمات قصيرة، لكنها طبقات من الرحمة واليقظة:
عتابٌ يقطر شفقة، وقسم يطيح بالمجاملات، وقلب
يحمل الناس لا يعلو عليهم، وسؤال يهزّ الغفلة من
جذورها.
ثم انصرف، لكن الانصراف كان بالجسد فقط.
فقد بقي قلبه معلّقاً بالرجل. وحين خلا بنفسه انفجرت
دموعه، كأنها تغسل شيئاً لم تستطع الكلمات أن
تغسله.
دموع رجل يحاسب نفسه محاسبة لا يحسنها كثير من
الناس لغيرهم، دموع من خشي أن يكون قصّر في
إنقاذ قلب صغير.
ومضة مقارنة: حين ننظر إلى مرايا اليوم
ولو وقفنا عند هذا المشهد لوجدناه مرآةً تُظهر ما كان
عليه السلف من رقةٍ وتواضع، ومرآة أخرى تُظهر
ما آل إليه كثير من الأخلّاء والأصحاب في زماننا.
فعبد الله بن عمر، وهو الفقيه العابد، يخشى على راعٍ
مجهول،
بينما نرى في مجالس اليوم من لا يخشى إلا على
صورته أمام الناس.
ويفزع منتفضا يحسد الناس على ما افاء الله عليهم من
علم وحكمة.
ابن عمر يبكي لأنه لم يتم النصيحة،
ونرى في بعض الأصدقاء من يفرح لأنه أتمّ السخرية
على صاحبه.
ذاك الراعي يرفع الرجلين بالدعاء،
وبعض الأخلاء اليوم يرفعون أنفسهم بتحقير آراء
إخوانهم.
ابن عمر يقلقه أن رجلاً نسي نفسه وهو يدعو،
وبعض الناس يقلقهم أن صاحبهم تكلّم كلمة لم توافق
هواهم.
السلف كانوا إذا جلسوا تفقدوا قلوبهم،
والكثير اليوم إذا جلس تفقد ذكاء الآخرين، ومستوى
علمهم، ونقاط ضعفهم.
ذاك ينشغل بالرحمة،
وهؤلاء ينشغلون بالغيرة والحسد والنقد اللاذع،
وبمحاولة الظهور في ثوب الرفعة ولو على أطلال إخوانهم.
ذاك العالم خاف على الراعي،
وبعضنا يخاف من الراعي أن يتقدّم عليه!
إن دموع ابن عمر مرآة نرى فيها الفرق الكبير بين
قلبٍ يحمل الناس على منكبيه، وبين قلبٍ يقف فوقهم
ليقيس طولهم ووزنهم ومعرفتهم.
لقد تجلت في تلك اللحظة ثلاث طبقات من الحكم:
- طبقة النصيحة: توجيه لطيف لكنه نافذ.
- طبقة المحاسبة: فقد بكى لأنه يرى نفسه مقصراً.
- طبقة الوجود: سؤالٌ عن مصير قلبٍ غافل.
وهذا عمقٌ لا يبلغه إلا من صفت نفسه وتهذبت روحه.
كان ابن عمر يخاف من التقصير،
بينما يخاف بعض الناس اليوم من أن يظهروا أقل
علماً أو فهماً أو منزلة من أصحابهم.
كان السلف ينظرون إلى البسطاء ككنوز،
وبعضنا ينظر إليهم كفرصٍ للاستعلاء.
كانوا يهابون الله،
ونخشى نحن من أحكام الناس.
إن في هذا المشهد:
رُقيّاً في تربية النفس، وعمقاً في التعامل مع الخلق
وصدقاً في منهج الدعوة، ونقاءً في الشخصية الإيمانية
فالنصيحة رحمة، لا استعلاء، والعلم تواضع، لا منبر مفاخرة.
والأخوة ستر، لا سوق غيبة، والمجالس رفعة للقلوب،
لا ساحة لتمزيقها.
حين تصير الدمعة معلماً
هذه القصة، على قصرها، جامعة أوسع من خطب،
وأجلّ من مواعظ.
إنها درس في التواضع حين ينحني الكبير ليقيم قلب البسيط.
درس في التربية حين تصبح دمعة العالم منهجاً لا يُنسى.
درس في الإنسانية حين يخاف الرجل على غيره أكثر
من خوفه على نفسه.
وما أحوج الأخلاء اليوم إلى دمعةٍ من نوع دمعة ابن
عمر:
دمعة تذكّرهم أن رفعتهم في التواضع،
وأن مكانتهم في رحمتهم،
وأن أخوتهم في سترهم،
وأن الخير كل الخير أن يبكي الإنسان لأنه لم ينصح
صاحبه كما ينبغي،
لا لأنه لم ينتصر عليه في مجلس.
أخيرا
إن الأمة التي يبكي علماؤها لأنهم لم ينصحوا راعياً
كما يجب، هي الأمة التي تملك أن تُغيّر العالم.
فطوبى لأمةٍ كان علماؤها يبكون لأن راعياً ذكرهم،
ولم يبكوا لأن أحداً نسيهم.
وطوبى لأمةٍ بقيت دمعة الخشية فيها أعلى من ضحكة
الاستعلاء.
وطوبى لقلوبٍ تشبه قلب عبد الله بن عمر، تتواضع
وترقّ، وتخاف وتُشفِق، وتُصلح الناس بإصلاح نفسها
قبل ألسنتها.
المصادر
1- طبقات ابن سعد – الجزء الرابع، ص 158
2- سير أعلام النبلاء للذهبي – المجلد الثالث، ص216
3- حلية الأولياء لأبي نعيم – المجلد الأول، ص303
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق