الجمعة، 25 يوليو 2025

باشوات وسوبر باشوات: صورة مصر في عصرين

باشوات وسوبر باشوات.. كيف تغيّر وجه السلطة ولم تتغير قواعدها؟


قراءة نقدية في كتاب د. حسين مؤنس عن تحولات الحُكم في مصر الحديثة
  يسري الخطيب

 


الكتاب: باشوات وسوبر باشوات – صورة مصر في عصرين

المؤلف: د. حسين مؤنس

1- باشوات وسوبر باشوات.. كيف تغيّر وجه السلطة ولم تتغير قواعدها؟

2- بأسلوب يمزج بين التحليل السياسي والرؤية التاريخية العميقة، يقدم الدكتور حسين مؤنس في كتابه المهم «باشوات وسوبر باشوات» – الذي ظهرت الطبعة الأولى منه، سنة 1985م – تشريحًا دقيقًا لبنية السلطة في مصر خلال قرنين، ويفضح كيف انتقلت البلاد من قبضة “الباشاوية” الأرستقراطية إلى سلطة “السوبر باشاوية” العسكرية، من دون أن يتحقق حلم المصريين في العدل أو الحرية.

3- ينطلق د. حسين مؤنس من حقيقة أن مصر – منذ أوائل القرن التاسع عشر – لم يحكمها المصريون الحقيقيون، بل كانت تُدار من طبقة أرستقراطية معزولة عن الشعب، ترث النفوذ والسلطة والمال، وقد تمثلت هذه الطبقة في الباشوات الذين “استولوا على الحُكم ومقاليد الإدارة والاقتصاد منذ عصر محمد علي”، بحسب تعبيره.

4- المفارقة المؤلمة التي يسجّلها المؤلف، أن ما يسمى بـ”ثورة 1952″ لم تضع حدًا لهذا النمط، بل استبدلته بنسخة أكثر حدة، تتمثل في حكم الضباط، أو ما أسماه بسخرية “السوبر باشوات”، أي الذين تولوا مقاليد الدولة بعد الثورة من دون أن تكون لهم شرعية حقيقية أو خلفية اجتماعية تؤهلهم للحكم.

5- ينقسم الكتاب إلى مجموعة من المقالات التحليلية، يمكن تلخيص أهم محاوره في النقاط التالية:

أ- الباشاوية.. طبقة فوق الشعب

يقول مؤنس: (في هذا البلد كان هناك دائمًا أناس يحكمون ولا يحكمهم أحد، يملكون ولا يسألون، وإذا سُئلوا كانت إجابتهم التجهّم أو السجن)

يؤكد المؤلف أن الباشاوية القديمة لم تكن مجرد ألقاب، بل كانت نظامًا كاملاً من الامتيازات والاحتكار السياسي، يتوارث فيه الحكم والنفوذ، تحت ستار من القصور والمظاهر الخادعة.

ب- الثورة… تجديد للهيمنة لا قطيعة

في قراءة موضوعية لثورة يوليو، يقول مؤنس: 

(لم يكن أحد يظن أن يذهب الباشوات من القصور ليأتي سوبر باشوات من الثكنات، يتحكمون في الناس بالرتبة العسكرية بدلًا من اللقب التركي)

ويضيف: (خرجت الباشاوية من الباب، فعادت من النافذة، ولكنها عادت بلباس جديد، هو لباس الجيش)

ج- مصر التي لم تحكم نفسها قط

يرى المؤلف أن مصر ظلت طوال تاريخها الحديث تحت حكم فئات أجنبية أو منقطعة عن الشعب، بدءًا من محمد علي الذي لم يكن مصريًا، وصولًا إلى أبناء الطبقة العسكرية الذين فرضوا أنفسهم حكامًا بحجة “الثورة”.

ويؤكد:(ليست مأساة مصر في احتلال أجنبي، بل في حكم داخلي منقطع الجذور، يتحدث باسم الشعب ولا يراه)

6- أهم ما ورد في الكتاب من رؤى نقدية:

(لقد حكم الباشوات مصر وملكوا كل شيء فيها: السياسة والجاه وصدارة المجتمع، ولكن من استولى على القصور والأموال والضياع؟ إنهم السوبر باشوات)

(ما جرى في يوليو لم يكن ثورة بالمعنى الكامل، بل انقلاب أحل ضباطًا مكان باشوات، ورفع شعارات لم تتحقق)

(كان طموح بعض الباشوات قديمًا أن يُعيَّن وزيرًا، أما الآن، فالسوبر باشا ينام عسكريًا ويصحو رئيسًا)

7- الكتاب لا يهاجم الثورة بقدر ما يفكّك أوهامها، ويكشف كيف تم توظيف أحلام الجماهير لبناء نظام سلطوي جديد.. فبينما وعدت الثورة بالتحرر من النفوذ الطبقي، أسست لنفوذ عسكري أكثر إحكامًا.

8- ينتقد مؤنس كذلك تغييب الحياة السياسية، وإقصاء النخب الحقيقية من المشهد، مقابل صعود أهل الثقة والولاء.

(الذين قادوا الثورة، لم يُدرّبوا على الحكم ولا فقه السياسة، فحكمونا بنفس منطق الثكنات)

9- عن المؤلف:

د. حسين مؤنس (1911م – 1996م)، مؤرخ موسوعي، من أبرز أعلام الدراسات التاريخية الإسلامية والأندلسية، وأستاذ بجامعات القاهرة والسوربون. عُرف بكتاباته الرصينة، وقدرته على الربط بين الماضي والحاضر، وتقديم قراءة ناقدة للمسلمات التاريخية. ترك خلفه أكثر من 50 مؤلفًا.

10- كتاب «باشوات وسوبر باشوات» ليس مجرد سجل لوقائع أو تحليل لنخب، بل هو دعوة لقراءة التاريخ المصري من زاوية الاستمرارية في منطق السلطة القائم على الإقصاء والهيمنة، رغم تغير الوجوه، وهو وثيقة فكرية لا غنى عنها لفهم أزمة الحُكم في مصر، وأثرها الممتد على البنية السياسية والاجتماعية حتى اليوم.

—————

يسري الخطيب

 قراءة اونلاين

    كتاب باشوات وسوبر باشوات: صورة مصر في عصرين

“ألبانيزي” أدت واجبها.. فهل نؤديه نحن؟

 “ألبانيزي” أدت واجبها.. فهل نؤديه نحن؟

  سيد أمين

لم تكن الإيطالية فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الأممية المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، التي فرضت عليها الإدارة الأمريكية عقوبات ومنعتها سلطات الاحتلال من دخول فلسطين، سوى واحدة من هؤلاء النبلاء الكُثر الذين راعهم حجم الإجرام الصهيوني الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، فنزعوا رداء المصالح الشخصية والفكرية والدينية والثقافية والسياسية، وقرروا الانتصار للإنسانية، والقتال بمفردهم في المحافل السياسية الدولية كلها من أجل ترميم ما تبقى من احترامها، وإنقاذ إنسانية هذا العالم.

العقوبات الأمريكية تأتي في إطار الإنكار الغربي المستمر للحق العربي، وعصفهم بمنظومة العدالة الدولية التي أسسوها بعد الحرب العالمية الثانية، وهو العصف الذي ازدادت فداحته بعد حرب الإبادة الصهيونية على غزة المستمرة منذ سنة 2023، رغم أن هذه المنظومة هي ذاتها التي دلسوا بها على العرب والمسلمين ونقلوهم عبرها من الحراك المسلح نصرة لفلسطين إلى الانبطاح فوق طاولات منظماتها وتحتها، بدعوى السياسة.

وثقت ألبانيزي جرائم الكيان الصهيوني في العشرات من تقاريرها، وكشفت عن تورط 60 شركة غربية عابرة للقارات في دعم إسرائيل وتسليحها وتزويدها بأدوات وتقنيات القتل والإبادة في غزة، بل وطالبت المحكمة الجنائية الدولية بسرعة التحرك لملاحقة المسؤولين الإسرائيليين، كما طالبت فرنسا واليونان وبلدها إيطاليا بتوضيحات حول فتح مجالها الجوي لعبور نتنياهو، في مخالفة لقرارات المحكمة الدولية التي توجب اعتقاله، فضلا عن توثيقها عمليات الفصل العنصري التي تمارسها إسرائيل في الضفة الغربية.

أهمية نشاط المسؤولة الأممية أنه جاء في إطار طبيعة عملها الرسمي، ما يعني أن تلك التوثيقات لم تصدر عن أطراف خارج أجهزة منظومة العدالة الدولية، أو من متطوعين حقوقيين، أو من متضررين أصحاب مصلحة قد يسهل على إسرائيل -كعادتها- اتهامهم بالتشنيع والتشهير، ولكنها جاءت من داخل أخص المتخصصين بالشأن الفلسطيني في أهم منظمة دولية، ما يجعلها أدلة دامغة على الجرائم، وسيقتص لها التاريخ إن عجز الحاضر.

ألبانيزي ولدت عام 1977 في إيطاليا، ونشأت في أسرة ليبرالية مهتمة بحقوق الإنسان، وبسبب تعليمها في مجال الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن، تعرفت إلى تفاصيل القضية الفلسطينية والمذابح التي يتعرض لها الفلسطينيون، وتخصصت في هذا الشأن، وحاضرت فيه في العديد من المحافل الأكاديمية والحقوقية الدولية، حتى اختارتها الأمم المتحدة لمنصبها الأممي، ولما أوجعت صراحتها إسرائيل، أمسكت واشنطن لها عصا التخويف والإرهاب بعقوبات تشمل تجميد أرصدتها وأرصدة ذويها في “البنوك”.

جائزة نوبل: تكريم وتخليد

إذا كان هذا ما قدمته الإيطالية الحرة من أجل نصرة المستضعفين في غزة الذين خذلهم العالم الإسلامي، فيتوجب علينا -كنظم حكم وشعوب نُعد الحاضنة الطبيعية للشعب الفلسطيني- أن نرد لها المعروف بالمعروف، ونتمترس خلف الدعوات التي انطلقت لمنحها جائزة نوبل للسلام.

وهناك العديد من الرسائل التي يمكن إرسالها للعالم كله، وخاصة لقوى التكبر فيه، مفادها أن العالم الإسلامي ومعه أحرار العالم لا ينسون أبدا من ينحاز لحقوق المستضعفين، وأن الدفاع عن فلسطين وحقوق شعبها المهدرة لم يعد خيارا يعود على صاحبه بالغُرم والخسارة كما كان في السابق، بل إنها قضية عادلة تنصر من ينصرها.

من أهم الرسائل أن حصول من وثقت -رسميا وأمميا- جرائم الإبادة الإسرائيلية على هذه الجائزة الكبيرة، التي يدور حولها نقاش نخبوي دائم في المحافل العالمية كافة، سيسهم في نسف المظلومية التي تقوّى بها الصهاينة على مدى عقود في مسألة “الهولوكوست”، لنستكمل بذلك نسف ما أغفلته تداعيات توثيقها “إعلاميا”.

وإذا كان مجرد طرح اسمها لدى العديد من الجهات الحقوقية في العالم لنيل الجائزة قد أوجع إسرائيل ورعاتها، فإن حصولها عليها فعليا سيكون طعنة قوية وتاريخية للمشروع الصهيوني برمّته.

وكما أن طرح اسم فرانشيسكا ألبانيزي لنيل الجائزة يُعد دعما للقضية الفلسطينية وتقديرا لمن يدافعون عن المظلومين في وجه ظالميهم، فإنه سيكون أيضا فرصة نادرة للجهة المانحة للجائزة لتُمسح عنها الاتهامات التي لطالما وُجّهت لها بأن ترشيحاتها في المجالات كافة تخضع لاعتبارات سياسية ولـ”لوبيات” صهيونية.

أما إذا قامت هذه الجهة برفض ترشح ألبانيزي، فإننا لم نخسر شيئا، وإنما فقط كشفنا حقيقة المعايير المزدوجة لـ”جائزة نوبل”، لتنضم إلى القائمة الطويلة لتلك المؤسسات والجهات العالمية الكبرى التي حطم “طوفان الأقصى” وحرب الإبادة الصهيونية سمعتها، ولم يتبقَّ لها إلا الوأد للأبد.

الدور الإسلامي: الدعم المؤمَّل

قد يبرر البعض انعدام دعم العالم الإسلامي “العسكري” لغزة تحت دعاوى نختلف فيها أو نتفق، إلا أن تواضع الدعم الرسمي والشعبي “السلمي” أيضا محل تساؤلات، إذ تحركت دول لا تنتمي لهذا العالم لدعم غزة في المحافل الدولية، كما جرى في المحكمة الجنائية ومحكمة العدل الدولية، بينما بقيت 57 دولة مسلمة تشاهد المذبحة التي تُرتكب بحق الأشقاء من بعيد دون أن تحرك ساكنا.

الآن جاءت الفرصة من جديد لحفظ ما تبقى من ماء وجه أمة المليارين، وبكلفة أقل، عبر دعم ألبانيزي لنيل جائزة نوبل للسلام، بما يحمله ذلك من اعتراف غربي رسمي ونخبوي بالإبادة في غزة، وأن من قام بها هم هؤلاء “الناجون من الهولوكوست” المزعوم.

ومن حسن الحظ أن لجنة حكماء يختارها البرلمان النرويجي (وليس السويدي) هي من تختار الفائزين بالجائزة في مجال السلام، بخلاف باقي اللجان، والنرويج أصلا من الدول الأوروبية القريبة جدا من القضية الفلسطينية، علما بأن اللجنة المشرفة على الجائزة تلقت طلبات ترشيح لـ338 مرشحا هذا العام، بينهم 244 فردا و94 منظمة، ويمنع نظام اللجنة الإفصاح عن الأسماء.


لماذا لا يغادر العرب منظومة الغبن الدولي؟


دروس عملية للمطبعين







تركيا نعمة من الله على سورية!

 تركيا نعمة من الله على سورية!

شهادة في الصميم

by مضر أبو الهيجاء
مضر أبو الهيجاء فلسطين-جنين 23/7/2025

الخميس، 24 يوليو 2025

الأزهر وشيخ الفرص الضائعة

الأزهر وشيخ الفرص الضائعة

وائل قنديل

"ويشدّد الأزهر على أن ما يُمارسه هذا الاحتلال البغيض من تجويعٍ قاتلٍ ومُتعمَّد لأهل غزَّة المُسالمين، وهم يبحثون عن ‏كسرة من الخُبز الفُتات، أو كوب من الماء، ويستهدف بالرصاص الحي مواقع إيواء النازحين، ومراكز توزيع ‏المساعدات الإنسانيَّة والإغاثيَّة، لهو جريمةُ إبادةٍ جماعيةٍ مُكتملة الأركان، وأنَّ مَن يمدّ هذا الكيان بالسلاحِ، ‏أو يُشجِّعه بالقرارات أو الكلمات المنافقة، فهو شريكٌ له في هذه الإبادة، وسوف يحاسبهم الحَكَم العدل، ‏والمنتقم الجبَّار، يومَ لا ينفعُ مال ولا بنون، وعلى هؤلاء الذين يساندونهم أن يتذكَّروا ‏جيداً الحكمة الخالدة التي تقول: "أُكلنا يوم أُكِل الثور الأبيض". 

لم يصمُد هذا النص المُقتبس من بيان صادر عن مشيخة الأزهر بضع ساعات، حتى تحرّكت الآليات الدبلوماسية والسياسية والأمنية المصرية لتُجبر شيخ الأزهر، أو تقنعه (لا فرق)، بسحب البيان والتراجع عنه في لحظةٍ شديدة البشاعة يمرّ بها الشعب الفلسطيني، والحجّة التي تضمّنها "البيان المعتذِر عن البيان" أنّ البيان الأوّل قد يؤثّر على المفاوضات الجارية بشأن إقرار هدنة إنسانية في غزّة.

مُخجلٌ أن يبرّر الإمام الأكبر تراجعه عن بيانٍ يمثّل الحدّ الأدنى من الموقف الأخلاقي، الإنساني، الديني، القومي، بأنه لم يكن يدرك أنّه حين قال ما قال إنّ ذلك قد يعرقل المفاوضات والوساطات، فلما اتصل به ذلك المسؤول أو ذاك، وشرح له الأمر، عرف واستجاب وتراجع.

قارن بين حجّة الإمام الأكبر في التراجع وموقف وزير خارجية ألمانيا يوهان فادفول في القضية نفسها، إذ يعلن الأخير أن "بلاده  تدعم إسرائيل، ولذلك فهي لا تستطيع أن تلعب دور الوسيط بينها وبين حركة حماس".

ما نعلمه من التاريخ بالضرورة أنّ الأزهر الشريف كان دوماً جامعة شعوب الأمّة ومرجعيّتها الدينية والروحية، ولم يكن يوماً ألعوبة بيد الحكام، أو أداة دبلوماسية يستخدمها وزيرٌ ويوظّفها في مشروعه السياسي، الذي يعلم شيخ الأزهر قبل الجميع أنه لا يعبّر عن أوجاع (وأحلام) الشعوب التي تحترق حزناً وغضباً من الأنظمة التي تصنع من عظام الشعب الفلسطيني الشقيق وجماجمه جسراً للتطبيع مع كيان إرهابي مجرم يتأهب لاعتلاء قيادة الشرق الأوسط، ويفرض على شعوبه ديانة مختلقة ومصنوعة في ورش الأفكار الشرّيرة في مراكز صنع القرار الصهيونية.

في النصّ المقتبس أعلاه أن "من يمدّ هذا الكيان بالسلاح أو يشجّعه بالقرارات أو الكلمات المنافقة فهو شريك له في هذه الإبادة"، 

وهنا نسأل الإمام الأكبر: 

ما حكم التعامل مع هذا الكيان بصفقات الغاز الطبيعي المسروق من الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ 

وما رأي فضيلتكم في من يمدُّه بالحاصلات الزراعية والفاكهة ويستورد منه ويصدّر له وهو يمارس حرب الإبادة على شعبٍ شقيق؟

 ما رأي الفضيلة والإمامة الكبرى في الموقف السليم بين عدو مُتجبّر يضع سكّينه على رقبة شقيق وهذا الشقيق الذي تسيل دماء أطفاله ونسائه وشيوخه، هل تصلح هنا وضعية الوسيط بأجرٍ أو من دونه؟ 

هل يصحّ أن يصبح متر غاز العدو مُساوياً في القيمة والأهمية لليتر دم الشقيق؟.

في زمنٍ ليس بعيداً، كان على رأس المؤسّسة الأعلى إمام أكبر لم يكن يقبل أن يكون الأزهر الشريف جزءاً من منظومة الحكم أو يسير مع اتجاه الريح أو يحسب قراراته وآراءه وفتاواه على مسطرة المصلحة الدبلوماسية كما تقرّرها حكومات التطبيع، كان اسمُه فضيلة الإمام الأكبر الدكتور جاد الحق علي جاد الحق. 

كان يأبى إلّا أن يكون الأزهر مُستقلاً عن السياسة، مُبتعداً عن المواءمات والصفقات الدبلوماسية، وكان على طول الخطّ يمضي عكس اتجاه السلطة في ما خصّ مقاربة القضية الفلسطينية والعلاقات الرسمية بالكيان الصهيوني، وأيضاً في مسائل أخرى أرادت الحكومة تمريرها، فتصدّى لها ولم يتراجع أو يسحب بياناً بعد مكالمة من رئيس أو وزير... 

كان بودّ الجماهير ألا يهدر شيخ الأزهر الحالي الفرص التي جاءته سراعاً تسعى إليه، ليسجّل موقفاً تاريخيّاً تذكُره له الأمة بأجيالها القادمة بأنه الرجل الذي أيقظ شعوبها وتصدّى لخذلان حكّامها، ورفض أن يكون ترساً في قطار الوساطات.

مجاعة غزّة.. و”أكل العيش”!

 مجاعة غزّة.. و”أكل العيش”!


تعيش غزّة بمليونين من فلذات أكبادها تحت خطِّ الحياة؛ لا خطّ الجوع أو الفقر أو الحرب. 

لا معيشة، ولا لقمة، ولا شربة، ولا كلمة في حرم المجاعة سوى الخذلان، ولا معنى سوى الحرمان. 

تشاهد غزّة مشاهديها، وترقبهم وعيونهم محدقة بها، يتفحصون جلدها المنحوت على عظم، وقلبها المتوقف عن ضخ الدم، وعيونها الشاخصة كأنّها لميتة تسير على الأرض، ولبدنها الذي يبدو الهيكل العظمي أسمن منه، ولا يصدق أحد ما يجري، لا غزّة، ولا العيون الصادقة والدموع الكاذبة، قدرٌ من الوقاحة أكبر من أن تتحمّله شاشة واحدة، وقدرٌ من الألم أكبر من أن يحمله كوكب برمته، وإن  حملته هي وحدها.. مجاعة يا عمي، مجاعة.


وبينما هي على ذلك، مسكينةً شريدة وحيدة مجوّعةً شهيدة، تتقافز أمامها بين كلّ فينة وأخرى أطباق من كلّ ما لذّ وطاب، أطعمة من وادٍ آخر، ليس فيها الدود مع الخبز، ولا التّراب مع ذرات بيضاء يشتبه في كونها 50 جرامًا من الطحين مع 50 كليوجرام من الوهم، ترى موائد ممتدة تكفي لإطعام غزّة عشر سنوات، بمحتوى لا ينضب، ولا يتأثر، لا بحرب ولا بمجاعة ولا يحزنون، ولا يحزنون فعليًّا، لا يعنيهم شيء، سوى “أكل العيش”، يفعلون ما يفعلون، ويخبرونك أنّه “أكل العيش” الذي يجبرهم على مواصلة “فلوجات” الطعام، ووصفات الطبخ، وهم يسألونك بعينين جريئتين حتى تكاد تشك في نفسك، وعظامك المنسحقة وهنا: وهل المطلوب منّا أن نجوع أيضًا لنشعر بك؟

والحقيقة أنّ هذا ما حذرنا منه سنوات وسنوات، لا لمجاعة ولا لحرب، وإنما لفراغ الإنسان من أيّ قيمة حقيقيّة، راهنًا نفسه لـ”محتوى” يقدّمه، حتى وإن كان سرابًا، وإن كان معجونًا من فراغ، لا شيء سوى ضجيج كاميرا وضجيج إعجابات وضجيج مشاهدات، ثمّ.. لا شيء، سوى أن بات الإنسان بهيمة مربوطة في حساب على عالمٍ افتراضيّ، استبدله بعالمه الحقيقيّ، حتى إذا انتهى شحن البطارية كأنّما أصيب بغيبوبة، حتى يفيق الهاتف فيفيق هو أيضًا، رهينة لا يملك من أمره شيئًا، فلا يملك موقفًا أخلاقيًّا، ولا رجولة ولا نخوة ولا شهامة، كأنّما كلما نادت غزّة “وامعتصماه”، أجاب الصدى: “محتوااااي”!

في السجن، في زنزانةٍ استطعت فيها لأيام تدبير هاتف وضيع أستطيع منه متابعة ما يجري في الخارج، ومع جوع بسيط في الداخل، أو حرمان من بعض أصناف الطعام، وهو لا شيء مقابل مجاعة غزّة، كانت صور الطّعام تؤذيني، وصور الشّراب وما لذّ وطاب تقلب عليّ المواجع، لا حسدًا لصاحبها، ولا حنقًا على حياته، ولا حقدًا إزاء سلامته، ولكن فتنة في محنتي، وريقًا جاريًا في حلقي دون أن يجد ما يبلله ويجبر لهفته، وعليهِ كانت المحنة أشدّ حين يواجه الحرمان بصور الخارج المترَف، بينما أبدو ضائعًا في متاهةٍ لا قرار لها، أتلهف لصورةٍ قادمة، لا لطعامٍ قادم، صورة تحمل من الطعام عينَ الطعام الذي بين يديّ، فأشعر بأنّني لست وحدي، وأنّ ثمّة من يطعم ما أطعَم!

تخيّلوا، تلك المحنة التي لا تساوي مثقال ذرة عالقة في نعل طفلٍ يعاني بغزّة، كم كانت المشاعر فيها مختلطة حين أرى صورة “عافية” وأنا في سقم السجن والزنازين، فكيف بمن يموت ابنه بين يديه، يهلك الولد، ويعجز والده عن إنقاذه بكسرة خبز، وتعجز أمه عن إعادته للحياة برشفة حليب، ثم يتصفح هذا المكلوم جواله ليرى من يتضامن معه فيفاجأ بسفرة عامرة من المنسف، يتقاطر الجميد فيها على اللّحم، وتلمع حبات الأرز، بينما تلمع في الآن ذاته نهاية الطريق والدنيا، ويبرق الموت من هوّة في السقف، ثم يفاجأ بشوكة تهبط من الأعلى بسرعة جنونية، مع رائحة بارود نفّاذة، ليفيق من المشهد السفليّ على المشهد الحقيقيّ، وهو أن قطع اللّحم تلك التي كانت على المنسف، كانت تخصه هو، بشحمه ولحمه!

سفَلة كثر، لا وصف آخر، يظنون أنّ قلوب المتابعين الوهميّة على منشوراتهم أهم من قلوب غزّة المكلومة، ويرون أن مشاهداتهم المزيّفة أهم من مشاهديهم المجوَّعين، ويعتبرون أن طبيعة محتواهم عذر لهم في البقاء أسرى داخل ذلك المستنقع النتن، وأنّ “أكل عيشهم” أهمّ من مسغبة الغزّيّين وأكلهم أنفسهم، ويجهلون أنّ تلك الأواني ليست وحدها التي تدور، ولكن تدور الأيام أيضًا، بين دناءة “المفاجيع”، وعلو” “المفجوعين”.

فرجاءً، كفوا غزّة أطباقكم، ما دام طبقها فارغًا، وما دامت ملاعقكم مقصورة عليكم، وما دامت نيرانكم مشتعلة تحت الخراف وهم مشويّون فوق نيرانهم، وليذهب “عيشكم” وعيشتكم إلى الجحيم.