الجمعة، 12 ديسمبر 2025

نخبة المعرفة الجاهلة لجهلها

 نخبة المعرفة الجاهلة لجهلها

محمد صالح البدراني


جدلية المعرفة والتعلم:


في زمن مر وما زال أثره فاعلا عُرّف المثقف أنه يعلم شيئا من كل شيء، ثم عُرّف النابغ هو الحافظ لأقوال وأشعار وكتب، بل إن التعليم عندنا نشأ على إعداد موظفين للدولة ولم ينشأ على التعلم من أجل التفكير بالمعارف وتطويرها، لأن من أنشأ التعليم الحديث عندنا هو المستعمر، والمستعمر عدده قليل نسبة للبلد فيحتاج متدربين على تفكيره من أهل البلد لتسيير مصالحه، وعلّمهم اختبار الحفظ وليس الفهم، والسرية في المعلومة بأن تحصر بيد عدد معين، وليس عدم تهويلها، فترى المدير ولحد الآن يمنع الوثائق والمعلومات عن أصحاب الاختصاص ويبقيها بيد الموالين له فلا يزداد البلد إلا تخلفا.

المشكلة تزداد تعقيدا عندما يثق مكدّس المعرفة بمعرفته بلا معالجة تلك المعرفة؛ فيجعلها معيارا، أو يستقيها من الموبايل والحاسوب ويمكن أن يطلع على أي شيء جديد عليه ليضيفه إلى المخزن، ويسرب منها إلى التواصل الاجتماعي فيعمل المادحون على تأكيد وهْم الصفة بأنه مثقف، ليخرج إلى المجتمع معارضا مناقشا أدق المقدسات، وهو لم يعالج معرفته، وإنما ينقلها (قال فلان) أو يقتبس بلا مصدر الاقتباس، وهو في حقيقة الأمر لم يعالج المعلومة وإنما قبلها كما سمعها بلا تفكير.. إذن هو لا يحتاج إلى التعلم، ومن يحس أنه لا يفهم قوله أو يأتي بأسلوب جديد يسفهه وينتقده، ويوجه إليه عبارات بنبرة التقليل من شأنه.

خطورة الخزان للمعرفة:

خزان المعرفة لا قدرة له على حل مشكلة ولا إبداع، لأنه أصلا غير مؤهل لكنه من بيئة منظومة تنمية التخلف، فاكتسب مكانة ربما لم يكتسبها المثقف العالم الذي غالبا ما يكون مهمشا في مجتمع سلبي لا يعالج أي موضوع في منظومته العقلية وإنما يأخذها انطباعا جاهزا وربما يضعها سهوا أو عمدا في رف المقدسات، لأن المقدسات لها مكانة عند الناس فهم يرفعونها ويعظمونها؛ لا لأنها تؤمن بها وتدير سلوكها بل لأنها تحتاجها في تحقيق غريزة حب السيادة والتملك وغيرها، فالبحث والاستقصاء مفقود والناس يسمعون بألسنتهم ويحولون ما يسمعون ككرة الطائرة.

جدلية الجودة والسوء:

ما كنا نلاحظه في جيل سبقنا ومات في جيلنا وفُقد في الجيل الحالي هو أمر جلل، ومنه الصرامة والدقة وعدم التساهل في الصواب، بدءا من المظهر، وكان الشاب يقول نخرج عربجية، أي لا يرتدي الزي الرسمي لدخول السينما مثلا أو الجلوس في القهوة (التي تسمى الآن كافي)، أو عبارة "شرب له على قدر فلوسه"، أي أن جودة عملك ومهارتك وفق ما تحصل عليه من مال، فلم تعد المهارة والإخلاص جزءا من الذات الداخلية، بل أصبحت تحت تأثير التعرية والأحداث بدل أن تكون ضمن الثوابت.

والمهارة نوع من الثقافة التي يملكها عامل البناء المخلص، والقصّاب، والتاجر، ومصلح السيارات بصنوفها، وهكذا، عندها ستجد أن كل ذي مهنة معتز بمهنته، ويحاول أن يطور نفسه بها وأن نجاحه هو في قدرته على تطوير الذات، فالناس الذين انشغلوا بتقييم الآخرين من خلال ذاتهم هم أناس متخلفون وعاجزون بالعجز المسبب للإحباط، فالتقييم هو تقييم الذات! أنا فلان كنت في العام الماضي كذا؛ هل تحسنت في إنتاجي أو مهارتي أو خدمتي للمجتمع؟ ولكن هذا لن يكون عند امتلاكي المعرفة وإنما عند انغماسي في التعليم، والصرامة تجاه نفسي أولا، وسنجد أن هذا النوع يطفئ اللهفة ويسد النقص ويستر العورة، بسيط مهتم لأمر نفسه ليس بغرائزه وحاجاته، وإنما بإنجازه ودوره في البناء ومساعدة الآخرين. فالحلول والابتكار هي واجب المثقف ومعيار ثقافته وليس قدر معرفته، فالمعرفة تحصيل حاصل، بيد أن تهذيب النفس هو تثقيفها لذا قالت العرب على تهذيب الرماح تثقيفها.. فصورة الفشل تتمثل فقدان الدقة والمهارة والانتماء إلى الأمة بتوسيع الحجم.

هذه الصرامة وما تحدثنا عنه، هي من تجعلنا ننبهر بدقة زخرفة وإتقان بيت قديم، أو أثري للسكن، يمكن أن يكون بلا ملامح لغياب الأجهزة والعدة، بينما الآن هنالك عدة تختصر زمنا طويلا، ولكن الجودة مفقودة والثمن مرتفع وربما بلا ذوق، ولأن المجتمع أمرضه اليأس تجد الناس يتجنبون بعضهم ليس لأنهم سيئون وإنما لأن قدرتهم على العطاء ضعفت. 
وهذا سببه سوء سلوك البعض، فضاعت الحقوق وهدرت السمعة، فوجد المسالمون السلامة بالاعتزال لدرجة الانفراد وفيها يجد نفسه.

ما هو الحل؟
بكلمة: التوازن!
والتفصيل كثير لأن التوازن يتطلب إعادة تنظيم حياة المجتمع وإعلاء القيم، وهو لا يأتي بضخ الكتب المقدسة وحكمة الأولين في ذاكرة الناس، وإنما استعادة الصرامة والثبات على القيم على قلة ما تعلم. فالمعرفة ليست مشكلة أبدا، وإنما تطويرها واستثمارها والصدق، وغيرها من القيم وأهمها أن تكون صادقا مع نفسك، وليس وصفك الناس بالسوء لأنهم لا يحققون رغباتي ولا يعطوني قيمة أفترضها لي، وهي ليست حقيقة أو تساير أهوائي.

التعلم الفردي وغياب المجالس العفوية ومعاني المدرسة والحوارات الصافية، والخلاف من أجل الوصول إلى الحقيقة وليس الاختلاف من أجل المصالح الضيقة، وسيادة الأشخاص الإمعة الفارغين وقيادة الطامعين الجاهلين، واستغلال المواهب بلا تشجيعها، وكذلك الطيب وعطائه بلا إنصافه، والغدر بالصديق وغياب المروءة.. كلها عوامل تحتاج إلى دراسة ومنظومة تدريب وتطوير وتنسيق مع الحكومة لإسقاط ما يتعلمونه على الواقع، وإلا كمن يخطب بالأخلاق وينزل عن منصته لترى سوء الخلق متجسدا به.

إن اكتفاءنا بما عندنا من علم، وما نقدمه من خدمة دون تطوير ذواتنا، هو مشاركة في سقوط وانحدار مجتمعنا. واليوم العالم كله يغلي بالظلم والظالمين، بل وحب الظلم بقدر كره من يحب الظلم أن يقع هذا الظلم عليه، ولو تتبعت تجد أن الظلم مصدره ظلم هؤلاء الناس لأنفسهم بضلال الطريق، وهذا هو المرض الذي أعطينا حلا واحدا له وهو إنشاء مراكز دراسات وتأهيل تنسجم معها أنظمة المجتمعات.

أهلًا بكم في المسرحية الإعلامية الكبرى

 أهلًا بكم في المسرحية الإعلامية الكبرى

كاتبة أميركية، وأستاذة بجامعة فوردهام.

في 5 ديسمبر/كانون الأول، تساءلت الكاتبة الفلسطينية داليا أبو رمضان، والتي لا تزال في غزة: كيف يمكن للعالم أن يصدق ادعاء إسرائيل بأن "وقف إطلاق النار" لا يزال قائما؟

لقد كان التلاعب بالعالم جزءا أساسيا من "اتفاق السلام" منذ البداية. بدأ ذلك في 13 أكتوبر/تشرين الأول، في قمة شرم الشيخ في مصر، في اليوم الذي وقع فيه دونالد ترامب على ما سمي بـ"وقف إطلاق النار" أمام زعماء من نحو ثلاثين دولة.

وأعلن ترامب مرارا: "انتهت الحرب في غزة"، مضيفا: "لقد استغرق الوصول إلى هذه النقطة ثلاثة آلاف عام، هل تصدقون؟" وأردف: "سيصمد هذا الاتفاق، سيصمد".

وقد أشاد به على الاتفاق كل من بايدن، وبيل وهيلاري كلينتون، وكامالا هاريس.

ووصفت صحيفة "ذا هيل" الحدث بأنه "جولة نصر لترامب"، الذي حط في إسرائيل ليستقبل بالتصفيق من أعضاء الكنيست. وهناك، ادعى ترامب بأن اللحظة كانت "فجرا تاريخيا لشرق أوسط جديد"، وسط الأضواء والاحتفالات التي صاحبت إطلاق سراح عدد من الأسرى الإسرائيليين المتبقين لدى حماس.

من الواضح أن قمة شرم الشيخ كانت مُغرقة في "الاستعراض"، كما وصفتها صحيفة "العرب ويكلي"، التي قالت إن الحدث بدا وكأنه احتفال دعائي بشخص وجد فجأة لنفسه صورة "صانع السلام"، أكثر مما هو اجتماع تفاوضي رفيع المستوى. 

وقال أحد الدبلوماسيين الذي طلب عدم ذكر اسمه: "كان يوما غريبا للغاية… مجرد عرض، وخطاب، وصف طويل من القادة، كان أمرا جنونيا".

رسمت القمة بنجاح خريطة الطريق الرسمية التي سارت عليها وسائل الإعلام المؤسسية. وكأن الأمر استغرق 3 آلاف عام للوصول إلى هذه النقطة، لا عامين وحشيين من الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل بحق غزة، وقتلت خلالها عددا لا يحصى من الفلسطينيين (بلغ عددهم، بحسب قائد سابق في الجيش الإسرائيلي، نحو 200 ألف بين قتيل وجريح).

وسرعان ما التقطت وسائل الإعلام العالمية رواية "وقف إطلاق النار"، والتي افترضت تلقائيا أن إسرائيل قد أوقفت هجماتها على الفلسطينيين.

ومع أن ترامب أعلن ذلك، فإن الواقع كان شيئا آخر، إذ لم يصمد "الاتفاق"، وإن ظلت الرواية الخيالية قائمة. وقد تحقق ذلك من خلال إستراتيجيات خطابية إعلامية- بعضها مألوف، وبعضها جديد- ومن خلال أقدم أشكال الرقابة الإعلامية: التعتيم الكامل على أخبار الهجمات الإسرائيلية.

كما أشار موقع FAIR، ففي الأيام العشرة الأولى من "وقف إطلاق النار"، قتلت إسرائيل ما لا يقل عن 97 فلسطينيا، وأصابت 230 آخرين، وانتهكت الاتفاق 80 مرة، ما دفع الصحفية بيلين فرنانديز إلى التساؤل: "كان من المتوقع أن نرى عنوانا أو اثنين يقولان إن إسرائيل انتهكت وقف إطلاق النار، لكن مثل هذه العناوين لم تظهر أبدا في الإعلام الغربي المؤسسي".

تم التهوين من القتل الإسرائيلي المتواصل في غزة، مع التأكيد المستمر على أن الإبادة الجماعية قد "توقفت تقريبا". وهذا تطلب قدرا هائلا من التلاعب اللغوي، أدى إلى عناوين صادمة، كما في تقرير شبكة NBC: "وقف إطلاق النار في غزة لا يزال قائما رغم الضربات الإسرائيلية". ومصدرهم؟ دونالد ترامب.

ورغم أن كل طرف قد "انتهك الهدنة الهشة"، فإن إسرائيل- بعد أن شنت ضرباتها- بدأت في "تجديد تنفيذ وقف إطلاق النار"! عبارات لا معنى لها. وكما قالت فرنانديز: "لم تستطع وسائل الإعلام ببساطة أن تقول: إن لم تتوقف عن إطلاق النار، فهذا ليس وقف إطلاق نار".

رغم أن كل طرف قد "انتهك الهدنة الهشة"، فإن إسرائيل- بعد أن شنت ضرباتها- بدأت في "تجديد تنفيذ وقف إطلاق النار"! عبارات لا معنى لها. وكما قالت فرنانديز: "لم تستطع وسائل الإعلام ببساطة أن تقول: إن لم تتوقف عن إطلاق النار، فهذا ليس وقف إطلاق نار"

في 27 نوفمبر/تشرين الثاني، فجرت منظمة العفو الدولية فقاعة الإعلام، عندما أصدرت تقريرا قالت فيه: "السلطات الإسرائيلية لا تزال ترتكب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة"، وأكدت أن إسرائيل "لا تزال تفرض عن عمد شروط حياة من شأنها أن تؤدي إلى الفناء الجسدي للسكان، دون أي إشارة لتغيير في نواياها".

منذ بدء "وقف إطلاق النار"، منعت إسرائيل إيصال الكميات المتفق عليها من الغذاء والدواء والاحتياجات الأساسية إلى القطاع. وكما أفاد الصحفي أوين جونز، فإن إسرائيل لا تزال تمنع دخول المساعدات إلى غزة، ولم تسمح سوى لـ"خُمس عدد الشاحنات" التي وعدت بها. ولا يزال معبر رفح مغلقا أمام إدخال المساعدات.

وقد أفاد موقع Drop Site News أن الغارات الإسرائيلية اليومية داخل غزة أسفرت عن مقتل أكثر من 350 فلسطينيا، من بينهم 136 طفلا. وبحلول 3 ديسمبر/كانون الأول، ارتفع العدد إلى 360 قتيلا و922 جريحا. وخلص تقرير العفو الدولية إلى أن: "على العالم ألا ينخدع. الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل لم تنتهِ".

ويكفي أن نستمع إلى الشهادات القادمة من غزة لنفهم ذلك.

تعود الكاتبة داليا أبو رمضان لتصف ليلة 19 نوفمبر/تشرين الثاني: "استيقظت مرعوبة، إذ كانت الانفجارات تهز الأرض تحت جسدي، وكنت على يقين لوهلة أن الحرب قد عادت، وأن وقف إطلاق النار قد انهار تماما". رغم أن الضربات كانت على بعد 5 كيلومترات، فإن قوتها جعلتها تبدو وكأنها تنفجر خلفها مباشرة.

تقول: "كأن الاحتلال أراد أن يذكرنا بأن وقف إطلاق النار الذي يتحدث عنه العالم، ليس سوى ستار رقيق يسدل فوق نار لا تتوقف عن الاشتعال".

تلك الليلة، قتل 28 فلسطينيا، من بينهم 17 طفلا، وأصيب أكثر من 77 آخرين، في غارات على أحياء مكتظة. وادعت إسرائيل أنها كانت تستهدف "قادة المقاومة".

وبحث بسيط عبر الإنترنت أظهر أن الإعلام المؤسسي الأميركي لم يغطِ هذه الهجمات الدامية إطلاقا.

القليل من التقارير التي نُشرت، تمسكت بإطار كاذب يقضي بـ"تحميل الطرفين المسؤولية". مثال نادر جاء في تقرير إذاعة NPR بتاريخ 24 نوفمبر/تشرين الثاني، حيث قالت: "إسرائيل وحماس تتهمان بعضهما البعض بانتهاك اتفاق وقف إطلاق النار".

واعترفت الإذاعة بأن إسرائيل "نفذت سلسلة من الغارات في أنحاء غزة"، أوقعت ما لا يقل عن 20 قتيلا. ومع ذلك، أكدت أن وقف إطلاق النار "الذي أعلنه الرئيس ترامب" كان "لا يزال قائما" بعد أكثر من ستة أسابيع.

ورغم أن حماس لم تقتل أحدا، أعادت NPR تكرار مزاعم إسرائيل بأن "مسلحين عبروا الخط الأصفر" الذي يحدد الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية. لكن وفقا لـDrop Site News ومنظمات مستقلة مثل "يوروميد لرصد حقوق الإنسان"، فإن "الخط الأصفر" الإسرائيلي يتقدم باستمرار نحو داخل غزة، فيما يشبه الاستيلاء غير القانوني على الأراضي. وقد أطلقت إسرائيل النار وقتلت شقيقين صغيرين كانا يجمعان الحطب، بزعم أنهما عبرا هذا الخط المتحرك.

تختم داليا أبو رمضان بقولها: "أقنع الاحتلال العالم بأن حمام الدم في غزة قد توقف، بينما في الواقع، لا تزال العائلات تمحى من السجلات المدنية في صمت تام. العالم صامت، ربما فقط لأن شيئا ما يدعَى وقف إطلاق نار قد أعلن؟"

ثم تتساءل: "كيف يمكن للعالم أن يبتلع هذه الكذبة، بينما يتوسع الاحتلال أمام أعين الجميع؟"

قد تساعدنا تصريحات هيلاري كلينتون الأخيرة في نيويورك على فهم ذلك. فقد زعمت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة أن الشباب يدعمون فلسطين فقط بسبب تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة تيك توك، الذي "ينشَر فيه محتوى ملفق تماما عن غزة"، حسب قولها.

بالنسبة لكلينتون، إذن، وسائل التواصل الاجتماعي مجرد أكاذيب.

إن حجتها تعني أن من يثقون في تقارير منظمات حقوق الإنسان، والشهادات، والأدلة البصرية على الإبادة، ما هم إلا ضحايا غسل دماغ على يد "الشيطان الجديد" الذي يدعى الإعلام الاجتماعي.

ومع هذا التلاعب المتغطرس بأسلوب "كلينتوني"، ومع مسرحيات ترامب السياسية وتواطؤ الإعلام مع الإبادة الإسرائيلية، يجري نفي كل ما يمكن لأي إنسان أن يراه بعينيه أو يشعر به بقلبه. لهذا، يجب شيطنة المصادر المستقلة والتشكيك فيها وحظرها.

لكن كما قال الصحفي علي أبو نعمة في 28 نوفمبر/تشرين الثاني، "رغم الإعلام والدعاية، فإن التغير في الوعي العالمي تجاه إسرائيل، خاصة لدى الشباب، يشير إلى أننا بلغنا نقطة اللاعودة". فالدعم العالمي لـ"الدولة الإبادية" يتراجع، ومع شعور النخب بأن سيطرتهم على السردية تضعف، يلجؤون إلى المزيد من القمع والرقابة لحماية الوضع القائم.

أما ترامب، المنتشي بدور "صانع السلام الأعظم"، فقد طبع اسمه في 3 ديسمبر/كانون الأول على مبنى "معهد السلام الأميركي" في واشنطن. وكان قد جرد هذه المؤسسة المستقلة، التي أنشأها الكونغرس عام 1984، من تمويلها الفدرالي في وقت سابق من هذا العام.

ونشرت وزارة الخارجية الأميركية على منصة "إكس" تغريدة قالت فيها: 

"مرحبا بكم في معهد دونالد جيه. ترامب للسلام"، معلنة أن تغيير الاسم يهدف إلى "عكس هوية أعظم صانع صفقات في تاريخنا". لكن، وكما هو حال إسرائيل، يعد ترامب اليوم أحد أكثر الرؤساء كراهية في تاريخ الولايات المتحدة.

فوق السلطة 471 - سوريا تُحيي الذكرى الأولى للتحرير

فوق السلطة 471 - سوريا تُحيي الذكرى الأولى للتحرير



فوق السلطة: مخرجة مصرية تعلن "انتهاء عصر الحجاب" وماكرون في حضرة "الباندا"

أثارت تصريحات المخرجة المصرية إيناس الدغيدي، جدلا واسعا بعد إعلانها أن “عصر الحجاب قد انتهى”، واصفة المحجبات بأنهن “مضحوك عليهن”، في تصريحات نفت فيها أن تكون المرأة المحجبة واجهة لمصر يوما ما.

بانر فوق السلطة

وسلط برنامج "فوق السلطة" في حلقة (2025/12/12) الضوء على هذه التصريحات التي جاءت رغم أن السيدة الأولى في مصر محجبة، كملايين المصريات المسلمات والمسيحيات من الراهبات، بل سبق أن التقت أول عارضة أزياء محجبة تشجيعا منها على الزي المحتشم.

وفي رد فعل على تصريحات الدغيدي، تساءل الإعلامي مصعب العباسي: "هي بقى الست الذكية أوي اللي ما بيضحكش عليها، وشايفة إن المجتمع المسلم اللي لابس حجاب ده مضحوك عليه؟"، منتقدا ما وصفه بالتناقض بين دعوات الحرية ومهاجمة خيارات النساء الشخصية.

وفي سياق متصل، تناولت الحلقة قضية ثلاث راهبات نمساويات محجبات بالكامل تمردن على الأبرشية الكاثوليكية، بعد تهديدهن بالطرد من الدير إذا لم يستجبن لأمر إقفال حسابهن على  منصة إنستغرام التي يقدمن فيها يوميات العيش في الكنيسة.

وقالت إحدى الراهبات في مقطع فيديو: "لا يمكننا إغلاق أفواهنا، وسنواصل التعبير عن رأينا في جرأة"، مضيفة أن التهديد بالطرد سبب لهن أضرارا نفسية بالغة، إذ ترى الكنيسة أنه لا يمكن أن ينطلق خطاب من داخلها دون مراجعته مسبقا.

وفي محور آخر، تطرقت الحلقة إلى زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للصين طالبا وساطة الرئيس الصيني شي جين بينغ لدى الزعيم الروسي فلاديمير بوتين بقبول وقف إطلاق النار في أوكرانيا، لكن بكين أكدت تمسكها بموقفها الحالي.

وأشار مقدم البرنامج نزيه الأحدب إلى أن شي جين بينغ "لم يبع ماكرون ما ذهب لشرائه خلف سور الصين العظيم نيابة عن كل الأوروبيين"، في إشارة إلى عدم تحقيق الزيارة أهدافها المعلنة.

وتناولت الزيارة أيضا قضية المبادلات التجارية والعجز التجاري الفرنسي مع الصين الذي يبلغ 47 مليار يورو، أي ما يعادل نصف العجز التجاري الفرنسي الإجمالي تقريبا، دون تحقيق نتائج واضحة في هذا الملف.

وانتهت الزيارة بشيء من المرح بزيارة ماكرون وعقيلته حديقة دب الباندا اللطيف، ولعب كرة الطاولة مع الفريق الفرنسي المشارك في بطولات بالصين، في مشهد وصفه البرنامج بأنه الجانب الممتع الوحيد من الرحلة.

وتناولت الحلقة عددا آخر من الموضوعات، وهذه أبرزها:

  • من أوروبا إلى أميركا واليابان، إسلاموفوبيا عابرة للقارات.
  • دعاوى قضائية ضد كاتب مصري متهم بإساءة الأدب للنبي الكريم.
  • سوريا تحيي الذكرى الأولى للتحرير، الرئيس السوري أحمد الشرع: "قاتلنا بشرف".
  • آمنة أبو شباب تنعى زوجها ياسر، والإعلام الإسرائيلي ينقل وصفه بالكلب.
  • رئيس الموساد الجديد خضع لامتحان قبول عند سارة نتنياهو.
  • مظاهرات سياسية في تونس تحت شعار "المعارضة ليست جريمة".
  • الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يوزع حلوى العيد الأوكرانية مقابل الذهب الأوروبي.

إسرائيل وهشاشة الدولة السورية: غنيمة حرب وإعادة رسم الخرائط بالقوة

إسرائيل وهشاشة الدولة السورية: غنيمة حرب وإعادة رسم الخرائط بالقوة
 . أحمد مصطفى الغر

 

تسعى إسرائيل لإعادة رسم حدود الجنوب السوري مستغلة ضعف الدولة الجديدة لفرض واقع سياسي وميداني جديد. ما أدواتها في استثمار الفوضى وهندسة الجغرافيا والسيادة؟ وما خيارات السوريين لمواجهة هذه الهيمنة؟

في خضم انهيار نظام حكم دام خمسة عقود في دمشق، ومحاولة سوريا الهشة الانتقال إلى وضع الدولة بعدما عانت خلال السنوات الأخيرة من كونها رقعة صراع مفتوحة على تدخلات متعددة، برزت أزمة الجنوب السوري ـ ولا سيما منطقة الجولان وهضبة جبل الشيخ ـ كمسرح لاحتلال متجدد من جانب الجيش الإسرائيلي.

هذه التدخلات العسكرية المتسارعة لا تُقرأ فقط كرد فعل على فراغ أمني كما يصفها الصهاينة، بل بوصفها إعادة هندسة ميدانية وجغرافية للحدود وفقًا لاستراتيجية الأطماع الإسرائيلية، وفي ظل هشاشة الدولة السورية الجديدة تجد نفسها مجددًا غنيمة حرب تتقاسمها القوى المتدخلة، تتقدّمها هذه المرة إسرائيل بوصفها الطرف الأكثر قدرة على استثمار الفوضى وتوجيه مآلاتها.

تاريخ التفاهم

من أجل فهم طبيعة ما يجري اليوم في جنوب سوريا، لا بدّ من العودة إلى اتفاق فض الاشتباك 1974 بين سوريا وإسرائيل، الذي شكّل لبنة لحدود مؤقتة بعد حرب أكتوبر 1973. ينص الاتفاق على انسحاب القوات من مناطق كان الاحتلال الإسرائيلي قد سيطر عليها، وعلى إقامة منطقة فصل عازلة بين خطيّ "ألفا" و"برافو"، وتحت إشراف قوة حفظ سلام من الأمم المتحدة، انتشرت رسميًا في يونيو 1974 لمراقبة الالتزام بالخطوط المرسومة وضمان عدم إقامة تحركات عسكرية واسعة في المنطقة. ومنذ 1974 وحتى الأشهر الأخيرة من 2024، كانت هذه المنطقة العازلة بمثابة ضمانة لاستقرار محدود بين الطرفين، وإن لم يكن سلامًا، وعلى الرغم من تسجيل خروقات متفرقة خلال العقود اللاحقة، خصوصًا في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، ظلّت المنطقة إلى حدّ كبير جبهة راكدة عسكريًا، مقارنة بسخونة الملفات الأخرى في الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

كما أن دمشق، رغم تمسكها السياسي المعلن بخيار "استعادة الجولان"، لم تتجاوز عمليًا سقف تلك المعادلة الأمنية التي فرضها هذا الاتفاق الذي شكّل هدنة مؤقتة حدّدت شكلًا من العلاقات الأمنية والفصل بين القوات. إلا أن انهيار نظام بشار الأسد في دمشق في ديسمبر 2024 أتاح لإسرائيل ـ بحسب مواقفها الرسمية ـ إعلان انهيار الاتفاق وأن الفراغ الذي خلف سقوط النظام السوري يبرّر تمدّدها. والملاحظ هنا أن هذا الانقلاب على مفاهيم ما بعد 1974 ليس مجرّد عودة إلى الاشتباك: بل بداية مشروع لإعادة هندسة حدود المنطقة، وممارسة احتلال دائم لمناطق كانت تُفترض أن تبقى فاصلة بين قوتين متناحرتين.

احتلال تدريجي

ما نراه اليوم ليس مجرّد غارة هنا أو هناك، بل

 احتلال إسرائيلي تدريجي ومدروس لمساحات

 استراتيجية من أراضي سوريا. فمنذ إعلان سقوط

 النظام، شهدنا تحرّكات إسرائيليّة منهجية شملت

 تثبيت مواقع على قمم استراتيجية كجبل الشيخ وتمدّدًا

 متدرّجًا إلى ما وراء "الخط الأزرق" في اتجاه عمق

 جنوب سوريا، مع إقامة نقاط مراقبة وحواجز

 ومرابض دائمة تحولت سريعًا إلى قواعد عسكرية

 على أرضِ كانت تُعدّ منطقة فصل. زيارة رئيس

 الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى مواقع

 السيطرة الميدانية في نوفمبر 2025 أبرزت هذا

 البُعد السياسي لمشروع الاحتلال الجديد، في حين أكّد

 قادة إسرائيليون أن الوجود على الأرض له أهمية

 بالغة وإن بقاء القوات مرتبط بترتيبات أمنية مستقبلية

 تُراعي مصالح تل أبيب.

في الممارسة التنفيذية، لم يقتصر التمدّد على نقاط

مراقبة فقط، بل شمل اقتحامات ميدانية لقرى محدّدة

 في ريف القنيطرة وريف درعا، مثل بيت جن

 وسعيدة الحانوت وبِر عَجم والحميدية، ترافقها

 ضربات جوية ومدفعية وحملات تفتيش واعتقالات

 واستحداث حواجز مؤقتة تحوّلت سريعًا إلى نقاط

 سيطرة أطول أمدًا، العملية التي نفّذتها إسرائيل في

 بيت جن في 28 نوفمبر 2025 وما تبعه من قصف

 أظهر أن أهداف الضربات والإنزال لا تقف عند

 مستوى ملاحقة عناصرٍ مُدانةٍ وفق الرواية

 الإسرائيلية، بل تمهّد لإرساء واقع سيطرة ميدانيّة

 أوسع أثّر على حياة الأهالي وحرّك موجات نزوح

 محلية.

 

المستقبل السوري لن يُكتب بالمعارك التقليدية فقط، بل بكيفية بناء مؤسسات قادرة على الصمود، وتحويل الهشاشة إلى قاعدة لإعادة ترتيب القوة الداخلية.

وبينما تسوّغ تل أبيب ما تفعله بحجج أمنية، استُخدمت قضية الطائفة الدرزية كأحد المبرّرات العلنية؛ وقد شهدنا تجنّداً واختلاف مواقف داخل المجتمع الدرزي بين فِرقٍ ترى في إسرائيل ضامنًا لأمنها وفرقٍ أخرى تتمايز سياسيًا عن ذلك، وبالتوازي أشار مسؤولون إسرائيليون إلى أن حماية الدروز عنصرًا في حساباتهم الاستراتيجية لهذا التدخل الحادث في الجنوب السوري. هذه الحيثية الطائفية تضيف بعدًا طبقيًا وسياسيًا إلى التوغلات: فالضغوط على القرى المختلطة والدرزية وتقطيع أوصالها تُستغل لإضعاف الروابط المحلية وتحويلها إلى مساحات نفوذ قابلة للاستثمار الأمني والسياسي

هشاشة الدولة غنيمة حرب


في النظرية الأمنية الإسرائيلية منذ بن غوريون وحتى نتنياهو، لم يكن المطلوب فقط تحييد الجيش السوري، بل كسر قدرة دمشق على العودة كفاعل مركزي يمكنه إعادة بناء جيش نظامي يتبنى عقيدة صدامية مع إسرائيل، ولا شك أن انهيار الدولة المركزية في عهد بشار الأسد ثم الانتقال إلى مرحلة سلطة انتقالية جديدة غير مستقرة بعد سقوطه وهروبه خارج البلاد، قد خلق بيئة مثالية لواحدة من أكثر استراتيجيات تل أبيب رسوخًا: تحويل خصومها إلى كيانات غير قادرة على اتخاذ القرار السيادي. فالحرب بالنسبة لإسرائيل ليست حدثًا عسكريًا ينتهي بتوقيع اتفاق، بل ديناميكية طويلة الأمد تنتج كيانات هشّة يسهل التحكم بمساراتها.

كان اتفاق فض الاشتباك 1974 مبنيًا على معادلة بسيطة: دولة مقابل دولة، وحدود مقابل اعتراف بميزان الردع. لكن ما جرى بعد سقوط النظام السوري كسر هذه المعادلة؛ لأنه ـ وفق التصريحات الرسمية الإسرائيلية ـ لم تعد هناك دولة يمكن التفاوض معها أو محاسبتها. في هذا المشهد، تتبنى إسرائيل هنا مقاربة ليست جديدة؛ فهي امتداد لما استخدمته تل أبيب في جنوب لبنان، ثم في غزة في عقود سابقة: خلق فضاء حدودي غير مستقر بما يكفي لعدم نشوء قوة منظمة، أو حتى فضاءً مستقرًا بما يكفي لخدمة الأمن الإسرائيلي. إنها معادلة نزع الشرعية عن الدولة، ثم إحلال شرعية القوة مكانها.

وفي هذا السياق، لم يُعدّ الجنوب السوري فراغًا أمنيًا كما تسوّقه الرواية الإسرائيلية، بل فراغًا سياديًا تستثمره تل أبيب لإعادة صياغة البيئة الحدودية، بحيث لا تعود أي سلطة قادمة ـ مهما كانت هويتها ـ قادرة على فرض واقع يعاكس المشروع الإسرائيلي. بمعنى آخر: 
تريد إسرائيل أن تهزم مستقبل سوريا قبل أن تنهزم حاضِرها، وبالتالي أصبحت التوغلات الإسرائيلية منتجًا سياسيًا يتم استثماره على ثلاث مسارات:

* غنيمة أمنية: تفكيك منظومة صواريخ ودفاعات وبنى لوجستية سورية، ومن ثمَّ منع تشكل قوة مركزية.

* غنيمة سياسية: تصوير إسرائيل كقوة استقرار أمام الغرب، لا سيما في ظل معاناة دول الشرق الأوسط من مشاكل أمنية متواترة.

* غنيمة جغرافية: فواصل حدودية جديدة ترسمها الجرافات لا الخرائط، مع التحكم بالعقدة الجغرافية الأهم في الجنوب السوري دون الحاجة لضم رسمي.


إن أخطر ما في المشهد ليس السيطرة العسكرية في 

حد ذاتها، بل إعادة هندسة الإدراك: مستقبل الجنوب 

السوري يُكتب اليوم بمنطق "مَن يسيطر يقرر"، 

وصياغة واقع حدودي جديد ـ ولو دون إعلان رسمي 

ـ يعني أن أي دولة سورية قادمة ستبدأ مفاوضاتها مع 

إسرائيل من خط جديد، لا علاقة له بخريطة 1974.

 

هذا جوهر فكرة "غنيمة الحرب"؛ ليس الاستيلاء على

 الأرض، بل الاستيلاء على موقع التفاوض القادم.


 فإسرائيل لا تحتاج إعلان ضم رسمي؛ يكفي أن


 يصبح الوجود على الأرض أمرًا طبيعيًا، وأن تتحول


 الاعتراضات الدولية إلى مجرد حديث بلا أدوات.


الخيارات السوريّة

في الواقع السوري الراهن، لا يمكن الحديث عن جيش مركزي يخوض حربًا نظامية، ولا عن مؤسسات دبلوماسية قادرة على فرض شروط، وبالتالي فإن الخيارات الواقعية تنبع من هندسة النفوذ، وليس من استعادة الأرض بالبيانات أو الاحتجاجات الدولية، إذن ما هي الخيارات الممكنة أمام السوريين؟

1- الردع عبر الوكلاء، لا عبر الجيش:

إسرائيل تعرف أن التدخل العسكري المباشر في ملعب مفتوح يخلق بالضرورة خصمًا غير مرسوم، لا يحمل شارة جيش ولا يُوقّع اتفاقات. لذلك قد يكون المسار الواقعي لدمشق هو تحويل الجنوب السوري إلى ساحة كلفة للمحتل، لا إلى ساحة استباحة. ليست مقاومة كلاسيكية كتجربة السبعينات والثمانينات، بل شبكات ردع غير نظامي قادرة على عرقلة التمدد، تهديد خطوط الإمداد، والتشويش على الاستقرار الأمني الإسرائيلي في الجولان دون رفع أعلام أو إعلان جبهات. إسرائيل تخشى المعارك غير المحددة أكثر مما تخشى حربًا لها بداية ونهاية، وبالتالي لن يستعيد السوريون أرضهم لأنهم يطالبون بها، بل حين تصبح كلفة احتفاظ إسرائيل بها أثقل من كلفة مغادرتها.

2- استثمار التناقضات، لا مواجهة الجميع:

في منطقة تتقاطع فيها مصالح: أمريكا، روسيا، تركيا، إيران، الخليج، والأردن، يصبح الذكاء السياسي أهم من القوة العسكرية. الخيارات الواقعية لا تقوم على استعداء الجميع بل على رصّ مساحات مشتركة مع بعض القوى الإقليمية التي ترى ـ ولو ضمنيًا ـ أن التمدد الإسرائيلي يمسّ نفوذها أو حدودها أو مصالحها أو أوراقها في المساومات الكبرى، أي أن دمشق لا تحتاج إلى حلفاء عاديين، بل إلى شركاء براغماتيين ترتبط مصلحتهم بوجود حدود سورية لا تتحول إلى قاعدة مفتوحة لإسرائيل.

3- بناء دولة لا تستعيد الأرض فورًا، بل تجعل خسارتها مستحيلة:

قد تكون المفارقة هنا أن أكبر تهديد لإسرائيل ليس صاروخًا من الجنوب، بل مؤسسات من دمشق. الدولة المركزية المستقرة ولو ببطء تعني عودة قوانين، إدارة موارد، مؤسسات مالية، جيش مهني، علاقات اقتصادية إقليمية. إسرائيل تدرك أن الدولة خطر استراتيجي دائم، أما الميليشيات فهي خطر تكتيكي يمكن إدارته. وبالتالي، استعادة الدولة أولًا هو فعل مقاومة، حتى من غير إطلاق رصاصة.

أفق المواجهة


مع كل هذا التدخل الإسرائيلي، تبدو سوريا اليوم في مفترق طرق حاسم: ليس الجنوب فقط ميدانًا للصراع، بل كل الأراضي السورية أصبحت خاضعة لتوازنات جديدة بين القوى الإقليمية والدولية، وبين هشاشة الدولة وصعود نفوذ الاحتلال. المستقبل السوري لن يُكتب بالمعارك التقليدية فقط، بل بكيفية بناء مؤسسات قادرة على الصمود، وتحويل الهشاشة إلى قاعدة لإعادة ترتيب القوة الداخلية. الدولة السورية الجديدة لا يمكن أن تنتظر استعادة أراضٍ بالقوة، بل عبر استثمار ما تبقى من نفوذ سياسي وعسكري وإداري لإجبار أي طرف على الاعتراف بسيادتها، ولو بشكل تدريجي ومقيد، مع تطوير قدرات الردع غير التقليدية لتجنب الانزلاق إلى استباحة مفتوحة للأراضي.

إن المشهد السوري بعد سقوط النظام السابق يعكس معركة طويلة المدى بين منطق القوة والشرعية. إسرائيل ستظل تسعى لإعادة رسم الخرائط، لكن ما سيحسم المشهد هو قدرة الدولة السورية على ترجمة هشاشتها الحالية إلى قوة استراتيجية، ليس فقط من خلال استعادة السيطرة الميدانية، بل عبر إعادة تشكيل سيادتها في عقول الناس والمجتمع الدولي والإقليمي. المستقبل لن يكون سهلاً، لكنه قائم على مزيج من الصبر الاستراتيجي، والحكمة السياسية، والردع الذكي.

السبئية والماسونية.. وتفجير المجتمعات الإسلامية

السبئية والماسونية.. وتفجير المجتمعات الإسلامية


                          د. حاكم المطيري..

 الأمين العام لمؤتمر الأمة ورئيس حزب الأمة في الكويت أستاذ الحديث والتفسير - جامعة الكويت

السبئية حركة باطنية سرية استفادت من الخلاف بين الصحابة في أواخر عهد عثمان فسعت إلى تفجير المجتمع الإسلامي من الداخل، وكان هدفها ألا تتحقق أي وحدة بين مكونات الأمة بتأجيج الصراع فيما بينها، كما جرى حين كاد علي وطلحة رضي الله عنهما أن يصطلحا قبل معركة الجمل، فأجج السبئية الحرب بينهما.

وقد ظلت هذه الحركة -كفكرة وهدف وأسلوب- تظهر في كل عصر حتى ألف ابن تيمية لوأد فتنتها (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لمنع تفريق صف الأمة وهي تواجه الحملات المغولية والفرنجية!

إلا أنها باتت في هذا العصر برعاية الحملة الصليبية ودولها الوظيفية، فهي التي تصنعها على عينها، وتنفخ في نارها كلما خبت وكادت تنطفئ!

ولعل أوضح تجلياتها ما جرى بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ٢٠٠٣ ثم أثناء ثورات الربيع العربي في موجته الأولى ٢٠١١ – ٢٠٢٤ من توظيف الحركات السبئية لمواجهة قوى المقاومة والثورة، وكان للنظام الإيراني والنظام العربي دور خطير في صناعتها ورعايتها!

وكانت من أخطر أدوات المحتل الأمريكي في حصار الشعوب العربية، وتفجير الصراع الطائفي ثم المذهبي، وضربها ببعضها لتنشغل بنفسها عن مقاومته؛ لفرض خرائط الشرق الأوسط الأمريكي، وتقسيم المنطقة على أساس ديني طائفي ومذهبي -بدلا من التقسيم البريطاني لها على أساس قومي ومناطقي- حيث زادت فجأة بعد الغزو الأمريكي لاحتلال العراق حدة الصراع الطائفي بين السنة والشيعة بتفجير جامع سامراء! 
في مناطق لم تكن تعرف الطائفية من قبل، لمجرد أنها قاومت المحتل الأمريكي في العراق! أو أرادت العدل والحرية في سوريا واليمن ومصر!

ثم زادت فجأة الفتنة -بعد الربيع العربي- بين الطائفة الواحدة والمذهب الواحد في كل بلد كما بين الشافعية في الشام من السلفية والأشعرية! 
وفي الخليج بين الحنابلة والحنابلة الجدد! وفي مصر بين الصوفية وأهل الحديث! وفي العراق بين النواصب الجدد وجميع المذاهب!

وبلغت صولة هذه الفئة -المفتونة المشبوهة- على الأمة ودينها وتاريخها أن اجترأت على الصحابة حتى لم يسلم أحد منهم! 
ثم صالت على الأئمة، وكفرتهم، وطعنت بهم، ابتداء من سعيد بن جبير، وأبي حنيفة، وأحمد، حتى النووي، وابن تيمية، وابن حجر، والسيوطي!

فلم يبق إمام لم يجرحه هؤلاء السبئية ولم يطعنوا به!

ثم صالوا على الصحيحين ورجالهما طعنا وتشكيكا!

وقد رفعت هذه الحركات السبئية كل الشعارات بحسب كل معركة وأهدافها وأدواتها فتارة باسم نصرة آل البيت! وتارة باسم نصرة السلف! وتارة باسم نصرة السنة!

بينما المستفيد الوحيد من كل نشاطها المشبوه هو المحتل الأمريكي!

وهناك جامع مشترك بين هذه المجموعات الدينية المشبوهة وهو:

١- الطابع السري الخفي لمن يقف وراءها حتى لا يكاد يعرف تاريخ رؤوسها! ولا عمّن أخذوا العلم أو مَن أجازهم وأذِن لهم بالتعليم؟ ولا مَن هي الجهات التي ترعاهم وتحول دون منع نشاطاتهم مع أنهم في دول تنص قوانينها على حماية الوحدة الوطنيةـ وتجرم الطعن بالرموز الدينيةـ ومع ذلك ينشط هؤلاء فيها نشاطا مشبوها لا يتصور بلا رعاية وإذن منها!

٢- يكاد يكون نشاطها منحصرا فقط في القضايا التي تثير الخلاف والفتن وتفجر المجتمعات من الداخل، وهو يؤكد طبيعة المهمة التي تقوم بها وأوكلت إليها! فالحركات الإسلامية والجماعات الدينية التقليدية تقوم عادة بمهمة دعوية تخدم المجتمع، وتعزز الأخوة فيما بين فئاته وقيم التراحم والتكافل فيه، ونشر الفضيلة، وقد يكون من أنشطتها الرد على مخالفيها أحيانا، أما هذه الفئات السبئية؛ فليس لها نشاط منذ ظهورها إلا إثارة الفتن التي تخدم الدول الوظيفية والمحتل الخارجي بشكل مباشر!

٣- أن كل كتاباتها وأنشطتها الإعلامية تدور حول قضيتين خطيرتين تخدم أهداف الحملة الصليبية وتكرس وجودها هما:

– “التفجير” لقضايا “التكفير” بدعوى حماية العقيدة!

-والتحذير من “التغيير” بدعوى اتباع السنة والطاعة للأئمة!

وفي الوقت الذي يتظاهر شيوخ السبئية بالغيرة والحمية على الدين والعقيدة والسنة حتى كفروا أبا حنيفة والنووي وابن تيمية إذا هم يرون الطاغوت الكافر ولي أمر تجب طاعته، والمحتل واقعا لا قدرة على مقاومته!

٤- استهداف العلماء والمصلحين المعاصرين بالتشهير والإسقاط والتحذير من كتبهم بحيث لا تبقى للأمة ثقة بهم فيسهل ترويج باطلهم لدى أتباعهم.

وهذا لا ينفي وجود خلاف طائفي ومذهبي في الأمة منذ القرن الأول وأن في كل طائفة ومذهب متنطعين أو مهووسين دينيا أو دجالين يستفيدون من تأجيج الخلاف كسبا للأتباع والمال والشهرة!

كما لا ينفي دور وسائل الإعلام والتواصل في تنامي هذه الظاهرة، فصارت الإثارة الإعلامية والبحث عن الشهرة فتنة في حد ذاتها، استجرت وجرأت (حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام) على اتخاذ الأئمة الأعلام وعلماء الإسلام غرضا مباحا وعرضا مستباحا!