الناطق العسكري باسم كتائب القسام أبو عبيدة (18/7/2025 لقطة شاشة)
يا صديقي: أنت لم ترَ "أبو عبيدة" بعينيك، ولم تتعرّف على ملامحه منذ لمع مثل شهابٍ في سمائنا منذ أكثر من عشر سنوات، متحدّثاً وحيداً باسم أحلامنا العربية وكرامتنا وعزّتنا، فالتفّتْ حوله القلوب والعقول، كأنّه صوت من السماء، خلقه الله لكي يشيع في أرضنا طمأنينةً وأملاً وثقةً في قدرتنا على العيش بشرف.
نحن صدّقنا هذا المُلثّم مجهولَ الملامح، والمختلَف حول اسمه وشخصه، من دون أن يظهر، ذلك لأننا أحببنا خطابه ووثقنا به، واتخذناه بلسماً لأوجاع الروح المهزومة، واعتبرنا كلماته ممّا يحافظ على اليقين بعدالة قضيتنا وحتمية انتصارها في نهاية المطاف. كنّا نترقّبه كلّما راجت المفاهيم الفاسدة واختلّت الموازين، فيأتي الناطق باسم البطولة والبسالة، حاملاً أنباء الصامدين في غزّة، فينعدل كلّ شيء في لحظةٍ واحدة، كما في الأيّام الأخيرة التي اجترحت فيها المقاومة بطولاتٍ أشبه بالمعجزات، مع بدء عملية الغزو الصهيوني مدينة غزّة، واصطياد جنود العدو بالجملة.
كان هذا حتميّاً، في فترة شديدة البؤس، امتدّت أسبوعاً، حافلاً بترويج أشكال فاسدة من البطولة، تختلط فيها النزعة الإجرامية مع التفاهة وقلّة القيمة والابتذال. هنا أطلّ قمر المقاومة في غزّة، ليضيء لنا المفاهيم ويجلو المعاني ويُعيد إلى الأفعال والأشياء تعريفاتها الصحيحة، فيغتسل معنى البطولة مما لحق به من ملوّثات البروباغاندا المجنونة، ونكون أمام نموذج البطل الحقيقي، في المعركة الحقيقية ضدّ العدو الحقيقي والوحيد.
مع انتشار التسريبات والأنباء عن اغتيال الناطق باسم كتائب الشهيد عز الدين القسّام (أبو عبيدة)، خيّمت سحابة من الحزن والشعور باليُتم بامتداد سماء العالم العربي والإسلامي كلّه، باستثناء تلك المناطق الممهورة بغيوم التصهين، حزن ثقيل يشبه ذلك الحزن على "جيفارا" في القرن الماضي، والحزن على استشهاد القادة إسماعيل هنية وحسن نصر الله ويحيى السنوار ومحمد الضيف، على الرغم من أنّ أحداً لم يعرف أبو عبيدة أو يراه وجهاً لوجه، أو يطالع صورته من غير اللثام على شاشة التلفزة، لكنّه الهلع من غياب الصوت الوحيد المعبّر عن روح هذه الأمة، والرعب من اختفاء كلمة الحقّ في زمن الباطل الذي يتنافس الفاسدون والعملاء وخدم الاحتلال في الانتماء إليه، هو حزنٌ على اغتيال القيمة في زمن قلّة القيمة، وأسىً على قتل نداء البقاء في زمن العدم.
في واحدة من احتفالات العدو باغتيال "أبو عبيدة" وهي كثيرة، وفي العاشر من ديسمبر/ كانون أول 2023 ظهر الملثّم بصوته على الشاشة، فتنفّست الأمّة الصعداء واجتاحتها الفرحة.
سجّلتُ وقتها؛ "حالة الناطق الملثم المقاوم تتجاوز في اتساعها وعمقها كلّ ما سبقها من حالات، على نحو يجعل التعلّق بها والانتماء لها والالتفاف حولها أمراً شديد العفوية والصدق والنقاء، ذلك أنّنا هنا بصدد كاريزما بلا جهاز دعاية ضخم يتولّى صياغتها ووضعها في قوالب إعلامية بالغة القوة والإبهار، ثم تسويقها للجماهير، بل صوت يأتي من مكانٍ مجهول، من دون صورة برّاقة يشرف عليها جيشٌ من خبراء صناعة الطلّة الإعلامية.
ماذا يعني كلّ هذه الشوق لصوت الملثّم بعد انقطاع عدّة أيّام، اشتعلت خلالها الشائعات الصهيونية المسمومة عن استشهاده؟
الشاهد، مرّة أخرى، أنه ليس شوقاً لنجمٍ جماهيري، بقدر ما هو ظمأ شديد لكلمات تطمئن الناس على المقاومة وقدرتها على البقاء والصمود، واجتراح مزيدٍ من المعجزات القتالية والبطولات الشحيحة في هذه المرحلة القاحلة من تاريخ الأمة".
الشاهد أنه مع كلّ إعلان عن اغتيال رمز من رموز المقاومة، وكما جرى في حالتَي السنوار ونصر الله، تنشط ماكينات الدعاية السامّة في ترويج أنّ المقاومة انتهت بعد أن تلقت ضربة قاضية، غير أنّه في كلّ مرّة تنهض المقاومة من تحت الركام فتنبعث مقاوماتٌ أقوى، وهكذا تُعلّمنا غزّة في كلّ مرّة، فبعد كلّ "سنوار" سنوارٌ أشدّ، وبعد كلّ "ضيف" ضيفٌ أعزُّ وأقوى، ومع اغتيال أبو عبيدة، شهيدنا الحي، والشاهد على خذلاننا جميعاً، فإنّه ما دامت هناك مقاومة هناك صوتٌ ناطق باسمها، فإنْ قتلوا الصوت سوف ينبت ألف صوت وصوت، وإنْ مات الملثم فإنّ روح المقاومة لا تموت، سيأتي "ملثمٌ" جديدٌ ما دام هناك شعب يعرف أبجدية الأرض والدم.
ولا يَفْهم مرادَهُ على الوجه الصحيح إلا من تَلَقَّى هذه الكلمات وهو في الوضع الصحيح، والوضع الصحيح هو ما عليه المقاومة الآن، وما ستكون عليه حتمًا في كل آن، الوضع الصحيح هو ما تدعو إليه هذه الكلمات القرآنية الخالدة: “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ”، والفتنة ليست إلّا هيمنة الطغيان على بني الإنسان، وما يترتب على هيمنة الطغيان من حرمان الإنسان من الحرية الحقيقية؛ وبمجرد سقوط قوى الطغيان في أيّ مكان أو زمان يتوقف عمل السِّنان، ويبقى البلاغ والبيان، ويُنادَى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ”، ويُسْتَأنف العمل بآيات لم تنسخ على الصحيح:“لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ”، “وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ”.
ما هي الحرية الحقيقية؟ وأين هي؟
هذه الحرية حقٌّ أعطاه الخالق للعباد؛ فهي من ثمَّ جزء من طبيعته؛ إلى حدِّ أنَه لا يملك التنازل عنه وهو في وضعه الطبيعيّ الذي فطره الله عليه، كما يقول روسُّو في العقد الاجتماعي: “تنازُلُ الإنسانِ عن حريته يعني تنازُلًا عن صفة الإنسان فيه … وتنازُلٌ كهذا يناقض طبيعة الإنسان”، ومن تأمل آيات القرآن التي تحدثت عن المبدأ الإنساني أيقن أنّ الإنسان والحرية ولدا في لفافة واحدة، وعندها لن يتعجب من تكرار هذه العبارة مئات المرات في التراث الإسلامي: “الشارع مُتَشَوِّفٌ للحرية”؛ ولن يندهش إذا قيل له: إنّ “لا إله إلا الله” هي منبع الحرية.
وحينما وثبت الشعوب الأوربية وثبتها مطالبة بالحريّة لم تكن في حاجة إلى من يعرف لها الحرية؛ لقد كانت الحرية في أشعار “دانتي” و”بترارك” وفي نثر الإنسانيين شذىً لا يُعَرَّفُ ولا يُكَيَّف، كانت وروداً باسمة وأزهاراً ناعمة تُدِلُّ على النسيم وتنفث عطرها في روحه الممتدة المنسابة، فتستنشقها الشعوب في أنحاء القارة الأوربية، وتأخذها كَمَا هي بلا حاجة إلى تفسير أو تأويل؛ فكان ما كان من تفجير فجر النهضة، إلى أن جاء عصر التقعيد الفلسفيّ tانطلقت الأقلام في تعريف وتكييف وتوصيف الحرية، وغدت تمزقها الاتجاهات المتعارضة؛ فيُغَرِّبُ بها مِلْ وبنثام وسميث وتوكفيل، ويُشَرِّقُ بها هيغل وإنجلز ونيتشه وماركس، فإذا اجتمع شملها يوماً أو اتحدت قواها ساعة امتطى الإمبرياليون أصحاب الأهواء وأرباب الأموال والسلطة ظهرها بغرض استعمار البلاد واستحمار العباد، وإخراج الخلق من الأمن إلى الخوف ومن الطمانينة إلى الفزع؛ باسم التحرير والتنوير، وبذريعة: “التحول الديموقراطي!” فانقلبت الحرية الحقيقية إلى حرية مضادة تركب متن ثورة مضادة؛ لتنحسر الحرية عن كثير من المساحات الإنسانية؛ وتنحصر فيما تتلهى به الشعوب من ألوان الشذوذ والانحراف الخلقي الذي تمارسه باسم الحرية الشخصية، وقبل ذلك حرية الرأسماليّ في امتصاص دماء الخلق والتهام لحومهم.
أين المعنى وأين القيمة؟
واليوم ومع افتقاد المعنى والقيمة، وتحول الإنسان إلى سلعة، تعالت صرخات الباحثين عن حياة لها معنى، وهذه نُتَفٌ يسيرة من أقوال المفكرين الغربيين، أُزْجيها على استحياء، يقول “كارلو سترينجر” في كتابه “الخوف من الأفول”: “هكذا وصل عصر (العجل الذهبيّ) إلى ذروته، وباتت منظومات الفكر والمعتقدات مجرد سلع تتحدد قيمتها وفقًا للعرض والطلب، مثل أيّ شيء آخر”، ويقول “جي ديبور” في كتابه “مجتمع الاستعراض”: “وهكذا تنشأ في اقتصاد الخدمات وأوقات الفراغ الآخذة في التوسع صبغة الدفع المحسوب على أساس شامل للوسط الاستعراضي المحيط، وللانتقالات الجماعية الزائفة لقضاء الأجازات، وللاشتراك في الاستهلاك الثقافي، ولبيع المودة الاجتماعية ذاتها في المحادثات المشبوبة واللقاءات مع الشخصيات، وهذا النوع من السلع الاستعراضية، الذي لا يمكن بالطبع أن يجد رواجًا إلا بسبب البؤس المتزايد للوقائع المناظرة له، ظهر كذلك بالطبع بين السلع الرائدة لتقنيات البيع الحديث؛ لأنه قابل للدفع بالأجل”، ويقول “آلان دونو”: “كان رئيس جامعة مونتريال يؤمن أنّه إنّما يوضح مسلَّمةً عندما صرَّح في خريف عام 2011م بأنّ “العقول ينبغي أن تفصل وفق احتياجات سوق العمل”، ويقول “ألفريد إيكس الابن”: “الاتجار بالبشر والسخرة وظروف العمل السيئة والمنتجات غير الآمنة وتدمير البيئة؛ هذه جميعها قضايا مستمرة”، ويقول “آلان تورين”: “فليس في واقع الأمر من ديمقراطية دون اختيار حر للحاكمين من قبل المحكومين، ودون تعددية سياسية، لكن لا يمكن الكلام على الديمقراطية إذا لم يكن أمام الناخبين من خيار إلا بين فريقين من الأوليجارشية أو الجيش أو جهاز الدولة، ويقول: مؤلفا “الأناركية”: “وحيث يجادل أنثروبولوجيون مثل جوناثان فريدمان بأنّ العبودية العتيقة كانت في الحقيقة مجرد طبعة أقدم من الرأسمالية؛ يمكننا نحن بنفس السهولة بل بسهولة أكبر بكثير في الحقيقة أن نجادل بأنّ الرأسمالية الحديثة هي في الحقيقة طبعة أحدث من العبودية”، ومئات المؤلفات التي تحوي آلاف الصرخات تتعالى وتتوالى.
غزة أيقونة الحرية للمرحلة القادمة في حياة البشرية
لن تسلم المقاومة سلاحها، ولن تتوقف عن المقاومة؛ ليس فقط لأنّها كانت ولا زالت أمل الأمة في التحرر من الهيمنة الصهيونية، وإنّما لذلك ولأمر آخر استجدّ في العمق الإنسانيّ، وفي الوجدان البشريّ، وهو أنّها صارت أيقونة الحرية والمعنى والقيمة لشعوب الأرض كلّها، فلقد استيقظت الشعوب على وعيين متوازيين، الأول زيف المبادئ التي تعتاش عليها تحت ظلّ النظام العالميّ المهيمن، وعظمة وسمو النموذج الفلسطيني الغزاوي الباعث، نموذج الثائر المثابر التوّاق للحرية الحقيقية، الحرية الحمراء التي لا يدقّ بابها إلّا بكل يد مضرجة، إنّ الجديد الذي لمسناه في الحراك العالمي الشعبيّ المساند لغزة هو أنّه ليس مجرد تعاطف أو انتفاضة إنسانية، وإنّما إلى جانب ذلك وربما قبله هو إعجاب بالنموذج وإكبار وإجلال للتجربة، ومن تَفَرَّسَ الأحداث التي فاضت من الجامعات الكبرى وانساحت في الشوارع وانداحت في الميادين وسبحت فوق أمواجها باقات الدعم الفكري والخطابي من كبار المفكرين المرموقين أمثال “نعومي كلاين”؛ سوف تتأكد له هذه الحقيقة، فالمجد للمقاومة، والويل لكل من يتآمر على حرية الإنسان وقيمته، والله غالب على أمره.
يعتبر شعار "السلام من خلال القوة" الشعار الأحدث في سياق مشاريع السلام التي تم التسويق لها خلال جولات الصراع العربي الإسرائيلي. فقد جرى تنشيط القضية الفلسطينية على قاعدة "الأرض مقابل السلام" بعد هزيمة 1967.
ولكن مع المنعطفات الكاسحة لتسعينيات القرن العشرين جرت الاستعاضة عن مبدأ الأرض مقابل السلام بشعار السلام مقابل السلام. فكان مؤتمر مدريد 1991. واليوم نشهد ولادة مفهوم جديد التقى على صياغته كل من ترامب ونتنياهو وهو شعار "السلام من خلال القوة".
ومما لا شك فيه أن تلك التحولات التي شهدها المفهوم ليست إلا تكييفات تعكس مدى الافتتان بالقوة. مثلما تكشف عن درجة الاختلال في موازين القوى بين الجلاد والضحية.
الأرض مقابل السلام
لقد قامت مشاريع "السلام" الأولى بين العرب والإسرائيليين على فكرة "الأرض مقابل السلام". وكانت متسقة إلى حد ما مع المقررات الأممية بشأن القضية الفلسطينية: "242" و"338″ ثم مشروع روجرز الذي جرى تبنيه بين الفترتين، بوجهيه (المشروع والمبادرة).
ففي الـ "242" أكد مجلس الأمن الدولي "إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط" على أساس:
" انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في النزاع الأخير.
واحترام واعتراف بسيادة ووحدة أراضي كل دولة في المنطقة، واستقلالها السياسي وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها، حرة من التهديد بالقوة أو استعمالها".
ففي حين عنت النقطة الأولى "الأرض"، فقد عنت النقطة الثانية "السلام". وهو القرار الذي سيُبنى عليه القرار "338" الذي أعقب حرب 1973، وجاء بدوره كي يشدد على إيقاف الحرب والبدء الفوري في مفاوضات "بهدف إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط".
وبين 1967 والـ"242″، و1973 والـ"338″، كان وزير الخارجية الأميركي روجرز يبني تصوراته في السلام المفترض، انطلاقا من مخرجات الـ242. ومن المخرجات نفسها بنى هنري كيسنجر المبادئ العامة لاتفاقية كامب ديفيد 1979.
لقد جاء مشروع روجرز في السلام استمرارا لأطروحة الـ"242″. فأكد في النقطة الأولى ضرورة "انسحاب إسرائيل من أراضٍ عربية محتلة في حرب يونيو/حزيران، وذلك مقابل ضمانات عربية للوصول إلى التزام مبرم للسلام". إنها الصيغة نفسها التي فرضتها نتائج الهزيمة العسكرية للعرب في 1967. وجعلت من الأرض السليبة جزءا من معادلة التفاوض في سياق مقايضة الأرض بالسلام.
وليس غريبا أن تبادر دولة الاحتلال ذات الأحلام التوسعية إلى رفض تلك الصيغة ما سبب خلافا حادا بينها وبين الإدارة الأميركية. فقد كانت الحكومة الصهيونية ترفض إطلاق كلمة "انسحاب" التي اعتمدتها مبادرة روجرز. وفضلت مقابل ذلك صيغة "إعادة تمركز القوات".
فهذه الأخيرة ستكون- عكس الانسحاب- خاضعة "لمائة تفسير على الأقل" مثلما قال ليفي إشكول. ورغم ذلك الصدام، فإن الحكومة الصهيونية قد قبلت في الأخير بالصيغة الأميركية، لا حبا في السلام، بل لأن "الغلظة في التعامل مع السياسة الأميركية مغامرة لا ينبغي لإسرائيل أن تقدم عليها بالمواجهة"، والكلام لهيكل.
وبعد شهر من ذلك التاريخ أبدت مصر موافقتها على ذاك المشروع. وكتب وزير خارجيتها محمود رياض إلى روجرز يقول: "إن انسحاب إسرائيل من كل الأراضي العربية التي احتلتها نتيجة لعدوان 5 يونيو/حزيران 1967، هو ضرورة حيوية لتحقيق أي تسوية سلمية في المنطقة".
والحقيقة أن مشروع "الأرض مقابل السلام" لم يستقر على تلك الصيغة، ولا هو تبلور نهائيا إلا مع إمضاء اتفاقية كامب ديفيد بين مصر ودولة الاحتلال 1979.
فقد جاء ذلك المشروع استدراكا على نجاح الكيان في الاستيلاء على أراضٍ عربية: (سيناء المصرية، والجولان السورية، إضافة إلى الضفة الغربية والقدس التي كانت تحت الوصاية الهاشمية، فضلا عن احتلال قطاع غزة)، خلال حرب خاطفة صبيحة الخامس من يونيو/حزيران 1967.
وبذلك أصبح انسحاب جيش الاحتلال من الأراضي التي تم احتلالها في 1967، هو الشرط الأساسي لأي معاهدة للسلام. فدولة الكيان تتخلى عن الأراضي التي احتلتها إثر الهزيمة، في مقابل اعتراف عربي بوجود تلك الدولة في الشرق الأوسط.
وهو ما كرسته اتفاقية كامب ديفيد، إذ حصلت مصر بقيادة الرئيس السادات على استعادة شبه جزيرة سيناء مقابل إبرام اتفاق السلام مع إسرائيل. في المقابل، لم تحظَ بقية الأراضي العربية التي احتلت عام 1967 – مثل الجولان والضفة الغربية والقدس وقطاع غزة – بالزخم ذاته على طاولة المفاوضات.
وكان ثمن الانسحاب من سيناء قاسيا جدا على مصر والأمة. فهو يبدأ من إخراج مصر من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي حتى "الحماية الشخصية" للرئيس. ناهيك عن تسليم الأسرى، ورفع الحصار البحري والقبول بالحل المنفرد، وغيرها.
ورغم التنازل العربي، فإن مبدأ "الأرض مقابل السلام" لم يعد يستجيب للهواجس الأمنية للاحتلال.
السلام مقابل السلام
منذ معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية 1979 حتى أوسلو 1993 مرورا بمؤتمر قصر الصنوبر 1989، بدا وكأن منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها رافعة رسمية للنضال الفلسطيني، قد استنفدت أغراضها.
فالمنظمة التي فرضت استقلالها السياسي والتنظيمي عن الأنظمة العربية منذ 1964، واقتلعت الاعتراف العربي بها ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني منذ قمة الرباط 1974، انتهى بها المسار إلى اكتساب وضعية المفاوض الوحيد باسم الشعب الفلسطيني.
وكلما فُتح أمامها باب نحو التفاوض، كان يُغلق دونها باب نحو المقاومة. ومعه تجري تغيرات عميقة في الفلسفة والسلوك والخطاب والخيارات… لقد مثلت تلك البيئة التي قرأت الصهيونية تفاصيلها جيدا، مدخلا للمناورات وفرض التنازلات.
وانكشف ضعف الكادر الفلسطيني المفاوض أمام دهاء المفاوض الصهيوني. فسهل عليه الانتقال من شعار الأرض مقابل السلام إلى مفهوم جديد قائم على فكرة "السلام مقابل السلام".
لقد أصبح شعار "السلام مقابل السلام" هو الشعار الطاغي على الخطاب الصهيوني منذ جولات الاستطلاع الأولى للإعداد لاتفاق السلام. شعار جيء به أساسا لقبر ذلك الشعار الأثير "الأرض مقابل السلام" الذي أعقب الهزيمة. ولسان حال الصهاينة يقول إن العرب لم تعد لهم أرض يساومون بها أو يقايضون بها السلام.
ومما لا شك فيه أن ذلك المسار لم يكن إلا نتيجة لجملة من المقدمات. فبالإضافة إلى حالة الهوان العربي، كانت التحولات الدولية والإقليمية تجري لغير صالح العرب. وهو ما هيأ الأوضاع لطرح مشروع للسلام ينهي القضية الفلسطينية.
لقد بدت الدول العربية في تلك المرحلة أقرب إلى التهميش منه إلى الفاعلية. وإذ خلت الساحة من أي مشروع عربي للسلام يحافظ على الثوابت ولا يفرط في الحقوق، فقد برز مشروع السلام الصهيوني الأميركي الذي انتهك الثوابت وفرط في الحقوق.
فقد كان المفاوض الإسرائيلي قادرا على تفتيت الجبهات، واستثمار الدور الحيادي لمصر من أجل فرض بعض المكاسب. ومما لا شك فيه أن "الموازين العربية قد اختلت بخروج أكبر دولة عربية من حساباتها".
وهو ما عمل المفاوض الصهيوني والراعي الأميركي على استثماره. فخلال المسار التفاوضي كانت مصر- حسب شيمون بيريز- "الدولة الوحيدة التي يمكن للمنظمة وإسرائيل والولايات المتحدة اللجوء إليها طلبا للمساعدة في اللحظات الحرجة".
كانت أغلب الدول العربية تمارس ضغوطا على المنظمة على أنحاء مختلفة، إلى حد أن هيكل وصفها "بقوة الطرد" التي دفعتها نحو "مجال الجذب الإسرائيلي".
لقد جرى التفاوض "في ظل موازين قوى لم تكن يقينا في مصلحة الطرف الفلسطيني، مما كان محتما أن يقود في خاتمة المطاف إلى اتفاق أبسط ما يمكن أن يقال عنه إنه مغامرة".
وفعلا فقد كان الحصاد السياسي لتلك المغامرة أشبه ما يكون بالقبول الطوعي "بالحكم الذاتي" الذي سيصادر فعليا أي حديث عن "دولة فلسطينية". فقد سادت قناعة لدى صناع القرار في دولة الاحتلال أن الدولة الفلسطينية مهما كانت منزوعة السلاح لن تكون إلا النهاية الوجودية للكيان.
وهكذا فقد جرى ترحيل القضايا المصيرية: (حق العودة، الحدود، المستوطنات، القدس) إلى ما سمي بقضايا الحل النهائي. إنه "الحل المغامر" مثلما وصفه هيكل. وهو ما أكده بيريز بقوله لقد حصلنا "على تنازلات لم نكن نستطيع بدونها توقيع أي اتفاقية… تنازلات أمنية وقضية إبقاء القدس خارج اتفاقية الحكم الذاتي، والإبقاء على المستوطنات حيث هي".
لقد توج ذلك المسار باتفاقية أوسلو 1993. وبرز على سطح الخطاب العربي (بما فيه الفلسطيني) مفهوم "السلام العادل والشامل"، أو "سلام الشجعان" مثلما كان يردد "الختيار".
ولم تكن تلك الشعارات إلا محاولات يائسة لتنفيس كربات الخديعة. أما الحقيقة الماثلة على الأرض، فهي أن مشروع السلام لم يكن إلا اعترافا فلسطينيا بدولة الاحتلال، وأن مقررات أوسلو لم تكن إلا نهاية لحلم الدولة الفلسطينية على أرض 1967.
كما أن "السلام مقابل السلام" قد حل محل "الأرض مقابل السلام". لأن "الذي يسيطر على الأرض هو الذي يملك مقدرات السلام، أي أن العرب لم يكن في قدرتهم أن يعطوا السلام في مقابل الأرض". وتلك مفاعيل حاسمة فرضتها البيئات الجديدة وحقائقها على الأرض.
السلام من خلال القوة
خلال لقائه الأخير في الولايات المتحدة مع وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث قال نتنياهو "سأقول إن الرئيس ترامب وأنا كنا دوما نتحدث عن السلام من خلال القوة: القوة أولا ثم يأتي السلام. ونأمل أن نجني ثمار هذه القوة قريبا في مجال السلام".
وفي المواجهة المحتدمة مع المقاومة في غزة أكد نتنياهو أن مفاوضات الإفراج عن الرهائن "لن تجري من الآن فصاعدا إلا تحت النار". فـ"الضغط العسكري" -من وجهة نظره- هو وحده الكفيل باستعادة الرهائن.
الضغط العسكري والقصف والنار مترادفات للقوة ما فتئ نتنياهو يذكّر بها في مفتتح كل جولة من جولات التفاوض. إنه الكساء الأبدي للفكرة الصهيونية الذي يمكن أن تجده في تفاصيل الخطاب.
في قلب تنظير بيريز لفكرة "الشرق الأوسط الجديد"، أي للسلام المفترض مع العرب، أقر قائلا "لم ندخل الحرب مع مصر لنستولي على نصف سيناء، ولم ندخل في مواجهة مع سوريا للحصول على الجولان، لكن فعلنا ذلك من أجل ضمان الأمن والاستقرار".
فعلى تلك القاعدة كان يجري التحول من قوة العسكر إلى قوة الحكمة مثلما يقول. ورغم نعومة القفاز، فإننا لن نجد أفضل من بيريز للحديث عن تلك الصيرورة: صيرورة السلام من خلال القوة. من هنا نميل إلى القول إن شعار "السلام من خلال القوة" كان الأقرب إلى العقيدة الأمنية للكيان.
ولذلك لم تستطع الصيغ الأخرى أن تثبت أو أن تؤدي دورا محوريا في كبح الصراع، رغم الدعوات الأممية التي رافقتها. فكل شعار من الشعارات السابقة لم يكن إلا استجابة مؤقتة لظروف دولية وإقليمية، أما الذي يحدد الوجهة الصحيحة، فهو ميزان القوى.
وما دام أن ميزان القوى يعمل لصالح النقيض الحضاري للأمة، فإن الحقيقة التي ظلت ثاوية خلف المناورات هي القوة القادرة على فرض السلام، أو فرض الاستسلام من خلال "تدفيع" قوى الرفض الثمن.
ففي كل الحروب التي كان جيش الاحتلال يخرج منها مكللا بالنصر، كانت تعقبها دعوات صهيونية للسلام. فكأن الاستسلام الذي كان يعرض على العرب لم يكن إلا استثمارا في نتائج الحروب القاسية، أي في الهزائم.
يذكر بيريز أن قوات الاحتلال خلال الهزيمة شنت "حملة عسكرية خاطفة وأذهلت العالم بنصرها المدوي، ولكنها لم تفز بالسلام وراح وزير الدفاع وقتذاك موشيه ديان ينتظر عبثا مكالمة هاتفية من الزعماء العرب"، يعلنون فيها الإذعان الطوعي للقوة القاهرة.
فقد كان بوسع عبدالناصر، رغم الجروح الغائرة للهزيمة، أن يمارس الاستنزاف، وأن يصدح من مؤتمر الخرطوم "لا صلح لا اعتراف لا تفاوض". فنصر 1967 لم يكن آخر الحروب لدولة الاحتلال، ولا هو لبّى احتياجاتها الأمنية. إنه الأسلوب نفسه يستعاد مع كل جولة من جولات الصراع.
فبعد الضربة الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية، ظل ترامب يحدّ سكاكينه منتظرا جثو الإيرانيين على الركب في مسرح الذبح الأخير؛ أي الاستسلام.
فالرئيس ترامب بدوره، قد أسس دعوته للسلام على عقيدة "السلام من خلال القوة". وكم توعد الرجل حركة حماس وغزة "بالجحيم". وهو ما يعني أن السلام (الاستسلام) الذي تأتي الحرب نقيضا له، يصبح من نتائجها المباشرة. ونحسب أن التقاء النهجين -الأميركي والصهيوني- في لحظة فارقة يجد مبرراته في التاريخ والأيديولوجيا.
إن "السلام" الأميركي والصهيوني لا يجد له معنى إلا في اعتماد القوة العارية لإنزال الضعيف على حكم القوي. إنه الاستبعاد الممنهج لمبدأ العدالة في العلاقات الدولية. فالحرب من وجهة نظر حنه آرنت "لعبة لا يقوم هدفها العقلاني في إحراز النصر، بل في ردع الطرف الآخر".
وقد أصبحت القوة المرادفة للعنف في العقل الأميركي الصهيوني محض تحدّ للقانون الدولي. فحين حركت المحكمة الجنائية الدولية دعاوى ضد دولة الاحتلال بتهمة الإبادة، اتهمها وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بتهديد أمنهم القومي وأمن حليفتهم.
إنه الرد نفسه نطالعه لدى وزير خارجية رونالد ريغان آنذاك جورج شولتز إبان محاكمة نيكاراغوا لبلاده أمام محكمة العدل الدولية. لقد وصف شولتز الوسائل القانونية بأنها طوباوية. ورأى أن الذين يعوّلون على ذلك النهج "يتجاهلون عنصر القوة في المعادلة". وكم كانت فرانشيسكا ألبانيزي محقة حين اعتبرت أنه "لا مكان للعدالة عندما تكون إسرائيل في قفص الاتهام".
في الختام
إن دولة الاحتلال "تصر على سلام إسرائيلي من منطق القوة والغلبة". ولم تكن تحولات وجهة النظر الإسرائيلية تجاه السلام إلا استجابة للمتغيرات مثلما يفهمها العقل السياسي الصهيوني. فليست تلك التحولات ترفا ذهنيا أو خطأ في الحسابات، بقدر ما كانت مقاربات تستجيب لاحتياجات الكيان الأمنية والإستراتيجية.
وفي المقابل لم تأتِ المبادرات العربية في السلام إلا لتكريس الاعتراف بدولة الاحتلال بوصفها جسما طبيعيا في فضاء حضاري تقول حقائق التاريخ والجغرافيا إنها ليست من النسيج نفسه. ومما لا شك فيه أن "حقائق التاريخ والجغرافيا سوف تعود إلى تأكيد نفسها" مثلما يقول هيكل.
فقد ظهر بالكاشف أن العرب لا يملكون مفتاح السلام، وهم أيضا لا يملكون القدرة على تحرير الأرض. وهو ما يعني أنهم يذهبون إلى سلام معدمين سياسيا وإستراتيجيا، وفاقدين لعناصر القوة في التفاوض، أي أنهم ذاهبون إلى الاستسلام.
فلماذا يستمر العرب في وهْم أن السلام المعروض على الأمة هو الخيار الوحيد في كل مرحلة؟
أما المقاومة فقد رأت المسألة بعين مختلفة، ولسان حالها يقول: إذا أردت أن تفاوض فقاتل.
خطة "ينون" تم تبنيها من قبل أعضاء معهد الاستراتيجيات الصهيونية في الإدارة الأمريكية وتم تناولها بشكل مفترض كوسيلة لتعزيز المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، وكذلك تحقيق الحلم اليهودي بدولة "من نيل مصر إلى نهر الفرات".
لم تشكل تصريحات رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو في حديثه عن إسرائيل الكبرى صدمة سياسية، فقد أشارت إليها العديد من الأبحاث والتقارير التي تناولت السياسيات والأهداف الإسرائيلية في المنطقة. فهي ليست مجرد تصريحات سياسية للاستهلاك الداخلي أو محاولة لترهيب الأعداء بل الأمر يسير منذ عقود على خطى ثابتة وخطط معدة سلفا.
ومن ذلك خطة ينون المشهورة والتي تعد وثيقة استراتيجية إسرائيلية نُشرت عام 1982 في مجلة "كيفونيم"[1] (الاتجاهات) الصادرة عن المنظمة الصهيونية العالمية.
كتبها عوديد ينون، وهو صحفي في جيروزاليم بوست. ودبلوماسي إسرائيلي ومستشار سابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون. تحمل الوثيقة عنوان "استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات" وتستند إلى أفكار ثيودور هرتزل ومؤسسي الحركة الصهيونية، وتهدف إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يخدم المصالح الإسرائيلية ويضمن تفوقها الإستراتيجي.
يُستشهد به كمثال مبكر لوصف المشاريع السياسية في الشرق الأوسط بمنطق الانقسامات الطائفية وتجزئة الدول وتقسيمها.
وقد لعبت دورًا في كل من تحليل حل النزاعات من قبل الباحثين الذين يعتبرونها قد أثرت في صياغة السياسات التي اعتمدتها الإدارة الأمريكية في عهد جورج دبليو بوش، وكذلك في النظريات التي بموجبها توقع المقال أو خطّط لأحداث سياسية كبرى في الشرق الأوسط منذ الثمانينيات، بما في ذلك غزو العراق عام 2003 والإطاحة بصدام حسين.
يشار أن مقال ينون قد تم تبنيه من قبل أعضاء معهد الاستراتيجيات الصهيونية في الإدارة الأمريكية حتى تم تناوله بشكل مفترض كوسيلة لتعزيز المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، وكذلك تحقيق الحلم اليهودي بدولة "من نيل مصر إلى نهر الفرات"، وتشمل غالبية الشرق الأوسط، كما صرح بذلك رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو.
أهداف خطة ينون:
1. تدعو الخطة إلى تقسيم الدول الكبرى في المنطقة، مثل العراق وسوريا ومصر والسعودية، إلى كيانات أصغر على أسس طائفية أو إثنية (مثل سنة، شيعة، أكراد، دروز). الهدف هو إضعاف هذه الدول وتحويلها إلى كيانات متصارعة وهشة غير قادرة على تشكيل تهديد لإسرائيل.
أكد ينون في خطته أن الهدف المباشر للسياسة يجب أن يكون تفكيك القدرات العسكرية للدول العربية المحيطة بإسرائيل، في حين أن الهدف الأساسي طويل الأجل يجب أن يعمل على تشكيل كيانات منفصلة من حيث الهويات الدينية والعرقية.
2. تشجع الخطة على استغلال الانقسامات الدينية والإثنية داخل المجتمعات العربية لخلق حالة من الفوضى المزمنة، مما يسهل السيطرة الإسرائيلية على المنطقة.
3.تقترح الخطة دعم الأقليات الدينية والإثنية (مثل الأكراد والدروز) لتكوين حلفاء أو كيانات تابعة تخدم الأهداف الإسرائيلية.
4. تشير الخطة إلى ضرورة إضعاف الفلسطينيين عبر تهجيرهم أو تشتيتهم، خاصة من خلال دفع الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن، وفي غزة إلى مصر.
السياق التاريخي:
ظهرت الخطة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1979) بين مصر وإسرائيل، وفي ظل أحداث إقليمية مثل الثورة الإيرانية والحرب العراقية-الإيرانية، وكذلك الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. اعتبر ينون أن هذه الأحداث تمثل فرصة لإعادة تشكيل المنطقة. وترى الخطة العراق على وجه الخصوص كتحدٍ استراتيجي رئيسي لإسرائيل، مما جعلها تركز على تفكيكه.
يرى ينون عندما كتب المقال بأن العالم كان يشهد حقبة جديدة في التاريخ لم يسبق لها مثيل، الأمر الذي تطلب تطوير منظور جديد واستراتيجية تشغيلية لتنفيذه. من وجهة نظره أن العالم العربي الإسلامي الذي يحيط بإسرائيل قد تم تقطيعه بشكل تعسفي إلى 19 دولة غير متجانسة عرقيا من قبل القوى الإمبريالية، فرنسا وبريطانيا العظمى، وكان مجرد «بيت مؤقت من الورق قام بتجميعه الأجانب».
ثم يشرع في تحليل نقاط الضعف في الدول العربية، من خلال الاستشهاد بما يعتبره عيوبًا في بنيتها الوطنية والاجتماعية، مستنتجًا أن إسرائيل يجب أن تهدف إلى تفتيت العالم العربي إلى فسيفساء من التجمعات العرقية والطائفية. «كل نوع من المواجهة العربية - العربية» سيكون مفيدًا لإسرائيل على المدى القصير. رأى الأحداث المعاصرة في لبنان بمثابة نذير للتطورات المستقبلية بشكل عام في جميع أنحاء العالم العربي. سوف تخلق الاضطرابات سابقة لتوجيه الاستراتيجيات الإسرائيلية قصيرة وطويلة المدى. على وجه التحديد.
أكد ينون في خطته أن الهدف المباشر للسياسة يجب أن يكون تفكيك القدرات العسكرية للدول العربية المحيطة بإسرائيل، في حين أن الهدف الأساسي طويل الأجل يجب أن يعمل على تشكيل كيانات منفصلة من حيث الهويات الدينية والعرقية. - ويبدو آثار الخطة جليا على سياسات إسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة، خاصة في أحداث مثل غزو العراق عام 2003 والحرب في سوريا. كما يُشار إلى أن وثيقة " (A Clean Break) عام 1996، التي كتبها مستشارون أمريكيون وإسرائيليون، استلهمت أفكار ينون أيضا.
"إسرائيل الكبرى":
تتماشى الخطة مع مفهوم "إسرائيل الكبرى" الذي يمتد من النيل إلى الفرات، وهو حلم صهيوني مزعوم يستند إلى أوهام وتفسيرات تلمودية وأفكار هرتزل. يُزعم أن هذا المشروع يشمل ضم أراضٍ من لبنان وسوريا والأردن والعراق ومصر والسعودية، مع إنشاء دول وكيلة تابعة لإسرائيل.
يشار إلى أن رؤية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للشرق الأوسط، خاصة في خطاباته الأخيرة وخريطته المقدمة أمام الأمم المتحدة عام 2023، تعكس استمرارية أفكار ينون، مع التركيز على توسيع النفوذ الإسرائيلي عبر تحالفات مع دول عربية (مثل اتفاقيات إبراهيم) وإضعاف المقاومة الفلسطينية.
[1] كانت مجلة «كيفونيم» مُكرّسة لدراسة اليهودية والصهيونية، وقد ظهرت بين عامي 1978 و 1987، ونشرها قسم الإعلام في المنظمة الصهيونية العالمية في القدس.
إن تدمير إسرائيل غزة لا يتعلق فقط بالتطهير العرقي، بل بمحو شعب وثقافة وتاريخ يكشف الأكاذيب التي استخدمت لتبرير قيام الدولة الإسرائيلية.
بينما تواصل إسرائيل ارتكاب قائمة من الفظائع ذات الطابع النازي بحق الفلسطينيين، بما في ذلك التجويع الجماعي، تستعد لارتكاب جريمة أخرى: هدم مدينة غزة، إحدى أقدم مدن العالم.
معدات هندسية ثقيلة وجرافات مدرعة عملاقة تهدم مئات المباني المتضررة بشدة. شاحنات الإسمنت تصب الخرسانة لردم الأنفاق. الدبابات والطائرات الإسرائيلية تقصف الأحياء؛ لدفع من تبقى من الفلسطينيين في أنقاض المدينة نحو الجنوب.
سيستغرق تحويل مدينة غزة إلى ساحة فارغة شهورا. وليس لدي شك في أن إسرائيل ستكرر كفاءة الجنرال النازي إريك فون ديم باخ-زيليوفسكي، الذي أشرف على محو وارسو.
وقد أمضى سنواته الأخيرة في السجن.
لعل التاريخ، على الأقل في هذه النقطة، يعيد نفسه.
مع تقدم الدبابات الإسرائيلية، يفر الفلسطينيون، فيما تفرغ أحياء مثل صبرا والتفاح من سكانها.
المياه النظيفة قليلة، وتخطط إسرائيل لقطعها عن شمال غزة.
الغذاء نادر أو باهظ الثمن.
كيس طحين يكلف 22 دولارا للكيلوغرام، أو حياتك.
تقرير نشرته يوم الجمعة هيئة تصنيف مراحل الأمن الغذائي المتكاملة (IPC)- المرجع العالمي الأول في قضايا الجوع- أكد لأول مرة وجود مجاعة في مدينة غزة.
ذكر التقرير أن أكثر من 500 ألف شخص يواجهون "المجاعة والفقر والموت"، مع توقع توسع "الظروف الكارثية" إلى دير البلح، وخان يونس الشهر المقبل. توفي ما يقرب من 300 شخص، بينهم 112 طفلا؛ بسبب الجوع.
القادة الأوروبيون، إلى جانب جو بايدن ودونالد ترامب، يذكروننا بالدرس الحقيقي للهولوكوست.
إنه ليس "لن يتكرر أبدا"، بل "نحن لا نهتم".
إنهم شركاء كاملون في الإبادة الجماعية.
بعضهم يكتفي بالتعبير عن "الذهول" أو "الحزن". بعضهم يندد بالتجويع الإسرائيلي المنظم.
قلة تقول إنها ستعترف بدولة فلسطينية.
لكن هذا مسرح كابوكي- وسيلة لكي يزعم هؤلاء القادة الغربيون، بعد انتهاء الإبادة، أنهم وقفوا في الجانب الصحيح من التاريخ، حتى وهم يسلحون ويمولون القتلة، ويلاحقون ويصمتون أو يجرمون من ندد بالمذبحة.
إسرائيل تتحدث عن احتلال غزة. لكن هذا خداع.
غزة ليست للاحتلال، إنها للتدمير، للمحو، للمسح من على وجه الأرض. لن يبقى سوى أطنان من الركام تنقل بصعوبة. المشهد القمري، الخالي طبعا من الفلسطينيين، سيكون أساسا لمستعمرات يهودية جديدة.
قال بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي، في مؤتمر لزيادة الاستيطان في الضفة الغربية:
"غزة ستدمر بالكامل، المدنيون سيرسلون إلى الجنوب إلى منطقة إنسانية بلا حماس أو إرهاب، ومن هناك سيبدؤون بالرحيل بأعداد كبيرة إلى دول أخرى".
كل ما كان مألوفا لي حين عشت في غزة لم يعد موجودا.
مكتبي في وسط المدينة.
بيت الضيافة مارنا في شارع أحمد عبدالعزيز، حيث كنت أشرب الشاي مع صاحبته العجوز اللاجئة من صفد.
المقاهي التي اعتدت ارتيادها، المقاهي الصغيرة على الشاطئ، الأصدقاء والزملاء، معظمهم إما في المنفى، أو أموات، أو دفنوا تحت الركام.
آخر مرة زرت فيها بيت مارنا نسيت أن أعيد مفتاح الغرفة رقم 12. لا يزال على مكتبي.
قلعة قصر الباشا في البلدة القديمة- التي بناها السلطان المملوكي الظاهر بيبرس في القرن الـ13، وعرفت بنقش أسدين متقابلين- أُزيلت.
وكذلك قلعة برقوق (قلعة برقولقا)، المسجد المحصن من العصر المملوكي، بني 1387-1388، والذي كان يحمل عند بوابته نقشا يقول:
"بسم الله الرحمن الرحيم. إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشَ إلا الله".
المسجد العمري الكبير في غزة، والمقبرة الرومانية القديمة، ومقبرة الكومنولث- حيث دفن أكثر من 3000 جندي بريطاني ومن دول الكومنولث في الحربين العالميتين- دُمرت، مع الجامعات والأرشيفات والمستشفيات والمساجد والكنائس والمنازل.
ميناء أنثيدون، الذي يعود إلى 1100 قبل الميلاد، وكان ميناء للبابليين، والفرس، واليونان، والرومان، والبيزنطيين، والعثمانيين، بات أنقاضا.
كنت أضع حذائي على الرف عند مدخل المسجد العمري الكبير، أكبر وأقدم مسجد في غزة.
كنت أتوضأ عند الصنابير المشتركة.
في الداخل، كانت ضوضاء غزة وغبارها وضجيجها يذوب بعيدا.
إن محو غزة ليس فقط جريمة ضد الشعب الفلسطيني، إنه جريمة ضد تراثنا الثقافي والتاريخي: اعتداء على الذاكرة.
لا يمكننا أن نفهم الحاضر إذا لم نفهم الماضي.
التاريخ تهديد قاتل لإسرائيل، فهو يكشف عن فرض مستعمرة أوروبية بالقوة في العالم العربي، يظهر الحملة الشرسة لنزع العروبة، يفضح العنصرية المتأصلة ضد العرب وثقافتهم وتقاليدهم، يقوض أسطورة "فيلا في غابة" التي رددها إيهود باراك، يسخر من كذبة أن فلسطين وطن يهودي حصري، ويعيد التذكير بالوجود الفلسطيني لقرون، ويبرز الطبيعة الدخيلة للصهيونية.
عندما غطيت الإبادة في البوسنة، فجّر الصرب المساجد، وأزالوا أنقاضها، ومنعوا الناس من ذكرها. الهدف في غزة هو نفسه:محو الماضي واستبداله بالأسطورة لتغطية الجرائم الإسرائيلية، بما فيها الإبادة.
إن محو الذاكرة يمنع البحث الفكري ويعيق التحقيق التاريخي. إنه يحتفي بالتفكير السحري. يسمح للإسرائيليين بالادعاء أن العنف المتأصل في المشروع الصهيوني غير موجود.
لهذا السبب، تحظر الحكومة الإسرائيلية إحياء ذكرى النكبة. الفلسطينيون يُمنعون حتى من رفع علمهم.
إنكار الحقيقة التاريخية يسمح للإسرائيليين بالعيش في دور الضحية الأبدية. لكن مواجهة هذه الأكاذيب تهدد بأزمة وجودية. ولهذا يفضل معظمهم وهْم الراحة على الحقيقة المؤلمة.
المجتمعات التي تمحى ذاكرتها تتحجر. تَشُن حربا على الحقيقة. تكرر الأكاذيب بلا نهاية. لأن الحقيقة، متى ما وُجدت، لا تمحى.
ما دامت الحقيقة مخفية، وما دام الساعون إليها يتم إسكاتهم، يستحيل على مجتمع أن يجدد نفسه أو يصلحها.
إدارة ترامب تسير بخطى متوازية مع إسرائيل: تفضل الأسطورة على الواقع، وتسكت من يتحدى الأكاذيب.
المجتمعات المتحجرة لا تستطيع التواصل مع من هم خارج دوائرها. تنكر الحقائق القابلة للتحقق. وهذا ما عالجته لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا: اعتراف الجلادين بجرائمهم مقابل الحصانة، ما أعطى الضحايا والجلادين لغة مشتركة قائمة على الحقيقة التاريخية. عندها فقط كان الشفاء ممكنا.
مختص في الشؤون الشرق أوسطية-الأفريقية والدراسات الاستراتيجية
تتحرّك الرباط في واشنطن بخطّة متعددة المسارات، تُزاوج بين النفاذ إلى آليات صنع القرار الأمريكي وتكييف السردية الأمنية حول الصحراء، بهدفين متوازيين: ترسيخ الاعتراف بسيادة المغرب على الإقليم، ودفع الإدارة والكونغرس إلى التعاطي مع جبهة البوليساريو بوصفها مصدر تهديد عابر للحدود لا مجرد حركة نزاع محلي. أو بمعنى آخر، منظمة إرهابية.
وتنشط هذه المقاربة بالتوازي مع معطيات سياسية منها:
ميزان مصالح أمريكي آخذ في إعادة التشكل، ووظيفة متزايدة للأمن الإقليمي في حسابات واشنطن الإفريقية، ونافذة زمنية ترى الرباط أنها مناسبة لتحويل الزخم الدبلوماسي إلى وقائع قانونية.
بنية الضغط عبر عقود متعدد الأوجه
ولتحقيق تلك الغايات، اختارت الرباط تعاقدًا صريحًا مع شركات ضغط واستشارات سياسية في واشنطن الأمريكية. العقد الأبرز حديثًا جاء مع شركة، Scribe Strategies and Advisors (سكرايب ستراتيجيز آند أدفايزرز) بقيمة 405,000 دولار ولمدة ستة أشهر، وهي شركة ذات خبرة إفريقية ونوافذ مفتوحة على الدوائر المقربة من البيت الأبيض. يقود الشركة Joseph Szlavik (جوزيف سزلافيك)، وهو خبير أمريكي مخضرم في الشؤون الإفريقية سبق أن عمل في إدارة جورج بوش الأب، ويمتلك شبكة علاقات واسعة مع دوائر صنع القرار في واشنطن. الهدف من العقد، تعظيم عوائد التجارة والاستثمار، تأمين استمرار الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، وإعادة تعريف التهديدات الناشئة من نشاط جبهة البوليساريو بوصفها تنظيمًأ إرهابيًا. هذا التعاقد ليس الوحيد؛ فهناك عقود شهرية أخرى مع بيوت ضغط كبرى (يوركتاون سوليشنز، Yorktown Solutions ، براونستاين هاييت فاربر شريك، Brownstein Hyatt Farber Schreck أو، أكين غامب، Akin, Gump, Strauss, Hauer & Feld) بمبالغ منتظمة، تتكامل لتغطي الكونغرس، والسلطة التنفيذية، وخزّان الأفكار، ومجتمع الأعمال.
وتتكامل هذه الشبكات لتغطية مؤسسات مختلفة، البيت الأبيض، الكونغرس، البيروقراطية الفيدرالية، ومراكز الأبحاث. وبذلك يقدّم المغرب سرديته عبر قنوات متعددة وبخطاب متكيّف مع كل جمهور: لغة الأمن القومي للأجهزة الأمنية، لغة الاستثمار والتجارة لوزارة الخزانة، ولغة الشرعية القانونية للكونغرس.
جوهر السردية، التقرير على أن مقترح الحكم الذاتي لسكان الصحراء ضمن السيادة المغربية هو “الإطار الوحيد القابل للتطبيق”، وإن أي إطالة للنزاع تُفاقم مخاطر أمنية تُلامس الحسابات الجيوسياسة للولايات المتحدة على المتوسط، منطقة الساحل، الإمدادات الطاقية، وسلاسل التجارة عبر الأطلسي. وبهذا الكيفية، تتجاوز الرباط كونها تُسوّق لـ “قضية وطنية” إلى التسويق، “لحلٍ أمريكيٍّ” لتقليص بؤر عدم الاستقرار، من منظور مصالح أمنية مشتركة.
واشنطن: اعتراف قائم، وتردد إجرائي
في سياقٍ متصل، نذكّر بأنّ الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب، الذي أُعلن في نهاية الولاية الأولى لترامب، بقي قائمًا ولم يلغِه خلفه بايدن. لكنه ظلّ اعترافًا سياسيًا أكثر منه منظومة أدوات تنفيذية شاملة. لذلك يتحرك المغرب على جبهتين: تثبيت الاعتراف في نصوص وخطط البيروقراطية (الدفاع، الخارجية، التجارة، الخزانة)، ودفع الكونغرس إلى بناء “مظلّة تشريعية” تحاصر أي رجعة، وتفتح الباب أمام تصنيفات قانونية تُضيّق هوامش الحركة على البوليساريو ومُموليها.
وهذا الذي يفسر، ظهور مشروع قانون من عضوين نافذين صديقين للمغرب، وهو القانون الذي قدّمه عضوا الكونغرس Joe Wilson (جو ويلسون) وJimmy Panetta (جيمي بانيتا) في يونيو/حزيران 2025 يطلبان عبره مراجعة ما إذا كانت جبهة البوليساريو تستوفي معايير التصنيف الإرهابي. بعبارةٍ أخرى يطلب نص المشروع من وزارة الخارجية مراجعة إمكانية تصنيف البوليساريو “منظمة إرهابية أجنبية”، مع بند يسمح برفع التصنيف إذا دخلت الجبهة في مفاوضات جادة حول خطة الحكم الذاتي التي قدّمها المغرب عام 2007. وبهذا تصبح ورقة الإرهاب وسيلة ضغط تفاوضية أكثر من كونها هدفًا بحد ذاته.
حسابات الجزائر: الخصم الذي ينبغي تطويقه؟
تدرك الرباط أن الطريق إلى تغيير سلوك واشنطن لا يمرّ عبر المغرب فقط؛ فالجزائر طرف مُعلن في المعادلة. وواشنطن، بدورها، تُبقي على سياسة مزدوجة: تعريفات جمركية قاسية من جهة، وتفاهمات دفاعية وفرص تعاون اقتصادي من جهة أخرى. بمعنى، قامت الإدارة البيت الأبيض بفرض تعريفات جمركية بنسبة 30%، وهي الأعلى في إفريقيا على الجزائر، وفي الوقت نفسه وقعت مذكرة تفاهم للتعاون الدفاعي في يناير/كانون الثاني 2025 معها. كما زار المستشار الخاص لترامب للشؤون الإفريقية Massad Boulos (مسعد بولس) الجزائر مؤخرًا، حيث التقى الرئيس (عبد المجيد تبون) ووزير الخارجية Ahmed Atta أحمد عطاف ووزير الطاقة محمد عرقاب. وهذا التباين الأمريكي مقصود؛ فهو يُبقي قنوات النفوذ الأمريكية في الجزائر مفتوحة دون التخلي عن روافع الضغط.
رهان الرباط في هذا السياق دقيق، والغرض من ورائه الدفع نحو مقاربة تُحمّل الجزائر كلفة سياسية لاستضافة ودعم تسليح الجبهة في بيئة تتداخل وجيوسياسية الساحل المعقّدة، من دون أن تدفع واشنطن إلى “رد فعل مُعاكس” يعيد التوازن لصالح الجزائر. ومن هنا تأتي لغة اللوبي المغربي باعتبارها “وظيفية” لا “عدائية”، بقصد تقليل المخاطر عبر حل عملي سريع يحفظ ماء وجه كل الأطراف ويُخرج واشنطن بمكسب الفاعل الذي يعمل على الاستقرار في المنطقة. وكلما انتشرت السردية المغربية، ازدادت كلفة استمرار الجزائر في تموضعها التقليدي، خصوصًا مع حساسيات متوسطية أوروبية حول الهجرة والطاقة والإرهاب.
ماذا عن نقاط ضعف البوليساريو: تآكل خارجي وتصدعات إقليمية
الجدير بالإشارة إليه في التطورات الراهنة، أنّ المملكة المغربية تقدّم هنا رواية اندماجية جذّابة لشركاء أفارقة، ولا سيما دول الساحل الثلاث التي تُراجع اصطفافاتها التقليدية مع الغرب.
ومبادرة “الوصول إلى الأطلسي” التي قدمتها لدول كونفدرالية الساحل – مالي، النيجر، وبوركينا فاسو- بجعل الصحراء عقدة ربط أكثر منها ساحة نزاع، وتحوّل الملف من مُجرّد مسألة سيادة إلى مسألة ممرات وطاقة وتجارة.
وزاوية النظر هذه تخدم خطاب الرباط في واشنطن، فالولايات المتحدة – على مر تاريخها- لا تأبه بـ “سرديات تاريخية”، بقدر ما تميل إلى خرائط موانئ وخطوط كابلات وأنابيب ووسائط نقل تمثّل مصالحها أو ما ستجني من الانخراط، استراتيجيًا. وكلّما تجسّد هذه السردية في مشاريع مادية، ترسّخت كلفة الرجوع إلى الوراء.
إضافيًا، تمرّ جبهة البوليساريو بأضعف لحظاتها. إذ يلاحظ تقلّص الاعترافات في أمريكا اللاتينية، تراجع الزخم داخل الاتحاد الإفريقي، ارتباك تنظيمي داخلي، وتوترات في المخيمات التي تُدار في بيئة إقليمية باتت أكثر حساسية لأي تماس مع جماعات متطرفة في الساحل كما تروّجها الرباط.
يُضاف إلى ذلك، أن بعض الجيوش الإفريقية رفض المشاركة في فعاليات عسكرية حين يَحضر ممثلو الجبهة، ودول عربية مؤثرة لا تعترف بها أصلًا. طبعًا هذه الوقائع لا تحسم النزاع، لكنها تُقلّص قدرة الجبهة على حشد سند دولي مضاد حين تعيد واشنطن ضبط مقاربتها. ورهان الجبهة الوحيد -راهنًا- هو الاعتماد على القانون والأمم المتحدة عبر بعثة “المينورسو”، ثم على الجزائر وحلفائها.
إذن، وترتيبًا على ما سبق، يمكن تلخيص احتمالات نجاح اللوبيات الوظيفية لدن المملكة المغربية بين ثلاثة سيناريوهات:
– نجاح جزئي (وهو المرجّح من منظور براغماتي بحت): بحيث تقوم واشنطن بتثبيت الاعتراف بسيادة المغرب عبر قرارات تنفيذية، وتضييق قانوني ومالي على شبكات مرتبطة بالبوليساريو، من دون تصنيف الجبهة على أنها إرهابية.
– نجاح كامل (أقل احتمالًا): تصنيف رسمي للبوليساريو كمنظمة إرهابية أجنبية، وهو خيار يتطلب أدلة قضائية وأمنية صلبة، بل ويصطدم ببعض التحفظات داخل الإدارة الأمريكية نفسها.
– الجمود (محتمل لكن ضعيف): الإبقاء على الوضع الراهن بسبب توازناتها مع الجزائر، والتخوّف من ردود فعل الجزائر وحلفائها، أو اعتراضات بيروقراطية في واشنطن نفسها.
لكن القراءة الواقعية – في تقديري- لما يجري على المستوى الإقليمي ترجّح السيناريو الأول، وهو دعم عملي لمقترح الحكم الذاتي، ضغط متدرج على البوليساريو، وتعزيز استثمارات في الصحراء لترسيخ السيادة المغربية على الأرض. حيث تدرك الرباط أنه إذا ما وصلت خطة الحكم الذاتي إلى تفاصيل مؤسِّسة —آليات حكم، تقاسم صلاحيات، إدماج سكان المخيمات بترتيبات إنسانية–اقتصادية— فإن مسار واشنطن نحو “تطبيع نهائي” مع واقع السيادة المغربية سيصبح أسهل، حتى دون تصنيف للبوليساريو إرهابية. أمّا إن تأخر التفصيل وبقي الخطاب عامًا، فسيبقى التصنيف الكامل معلقًا، وتستمر أدوات الضغط الجزئية.
وفي الختام، يتجلى لنا تحوّل اللوبي المغربي في أمريكا إلى أداة استراتيجية لربط الصحراء بقضايا الأمن والطاقة والتجارة العابرة للأطلسي، مع شركات صناعة الرأي العام في واشنطن، بغرض صياغة خطاب متعدد الأوجه يخاطب كل مؤسسة أمريكية بلغتها الخاصة. في رأيي، من المستحيل أن نشهد في المستقبل القريب تصنيفًا كاملاً للبوليساريو كمنظمة إرهابية، لكن يرجّح أن واشنطن ستواصل تثبيت الاعتراف بسيادة المغرب ودفع الملف نحو تسوية قائمة على الحكم الذاتي. ومع اقتراب ذكرى المسيرة الخضراء (6 نوفمبر 2025)، قد يجد البيت الأبيض في هذا التوقيت فرصة لإظهار “إنجاز دبلوماسي” يُرضي الرباط ويعزز صورة واشنطن كقوة قادرة على إنهاء نزاع مزمن عمره نصف قرن. ولا ننسى أنه قد يكون في ذلك مشهد انتصار آخر للرئيس ترامب، الذي ما انفكّ يظهر نفسه كالرئيس القادر على إنهاء الحروب والنزاعات المزمنة، في سبيل دعايته الذاتية نحو جائزة نوبل للسلام.
الآن يتضح بما لا لبس فيه قدرة إسرائيل الفائقة على بسط عدوانها العسكري المباشر على الإقليم كما يحصل في سوريا ولبنان وإيران..
كشفت حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزّة ما تبعها من استطالة إسرائيلية عدوانية في الإقليم، عن استبانة إسرائيل على حقيقتها بعد نزع الأسطورة عنها، وهي حقيقة ممتدة في ثلاث حقائق:
الأولى ـ المحدودية الإسرائيلية، هذه المحدودية هي التي أرادت إسرائيل التغطية عليها بالإبادة على غزّة، بتعميق النكبة في الوعي الفلسطيني إثر الفاعلية الفلسطينية، وفرضها ردعًا على الإقليم كلّه، أرادت إسرائيل القول إنّها إذا مُسّت فإنّها لا تملك القدرة فحسب، بل والإرادة، والاستعداد للانفلات من أي كابح، لسحق الذي مسّها.
هذا منطق استعماري تقليدي، أيْ تدفيع الشعب الذي يقاوم الاستعمار أثمانًا تفوق في راهنيتها وفي عمق تأثيرها أيّ نتائج قريبة من فاعليته المبادرة لمواجهة الاستعمار. بيد أنّ قدرة فصيل فلسطيني محدود القدرات في بيئة مكشوفة ومحاصرة على إنفاذ أكبر عملية عسكرية في تاريخ الصراع مع إسرائيل مستندة إلى الخداع الإستراتيجي تكشف عن هذه المحدودية الإسرائيلية التي يمكن ترجمتها بالقابلية الفعلية للهزيمة. لا يعني ذلك، أنّ نجاح عملية السابع من أكتوبر في حدودها الزمانية والمكانية، القفز عن أي مراجعة لحساباتها ورهاناتها، ولكن يعني ضرورة عدم الاستسلام لسياسة الإبادة الرامية إلى طمس هذه الحقيقة الأولى، هذا الاستسلام يتجلّى اليوم في أسئلة تستفيد عكسيًّا من الحقائق الثلاث التي نحن بصددها.
الثانية ـ الارتباط العضوي بين الحالة العربية والاستمرارية الإسرائيلية، وهو أمر يعود إلى أصل هذا الارتباط بين تأسيس الدول العربية على أساس هويات متطابقة مع التقسيم الاستعماري بعد الحرب العالمية الأولى، واستثناء فلسطين من ذلك للتمهيد لقيام الكيان الصهيوني، مما يجعل الهندسة الاستعمارية الفرنسية/ البريطانية للمنطقة، التي ورثتها الإمبراطورية الأمريكية، شديدة التركيب، ولكنها شديدة الوضوح حين رصد السياسات، من حيث تناقض انتصار فلسطين مع الهويات الوطنية العربية المتجسدة في الدول العربية، وهو أمر ظهر بالرفض العملي لحالة المقاومة الفلسطينية من بعد النكبة، وانعكس في صراعات مباشرة معها، دون إغفال الأخطاء الفادحة التي اقترفها الفلسطينيون، لكنها لم تكن العامل الحاسم في السعي العربي المستمر لحصار المقاومة الفلسطينية، بالنحو الذي أخرجها من بيروت، وتاليًا ألزمها بتوقيع اتفاقية أوسلو.
اليوم لا يُظهِر العرب عجزًا عن دعم الفلسطيني في حدّ أدنى كإغاثة الواقعة عليهم الإبادة في غزة بالطعام والدواء، ولكن تواطؤًا واضحًا يظهر مباشرة في الحملات الإعلامية التي تتبنّى السردية الصهيونية، أو تدين المقاومة الفلسطينية، أو تجعل رواية الإبادي وجهة نظر قابلة للاستماع، ويظهر في حملات الشيطنة الموتورة التي تهاجم المقاومة وقيادتها كلما انحشرت الأنظمة العربية في زاوية الاتهام بالعجز أو الخذلان أو التواطؤ، أو في الجهود الأمنية التي تمنع الجماهير من أيّ فعل محدود لا يكاد يتجاوز عتبة رفع العتب كالمظاهرات أو الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي أو جمع التبرعات.
اليوم لا يُظهِر العرب عجزًا عن دعم الفلسطيني في حدّ أدنى كإغاثة الواقعة عليهم الإبادة في غزة بالطعام والدواء، ولكن تواطؤًا واضحًا يظهر مباشرة في الحملات الإعلامية التي تتبنّى السردية الصهيونية، أو تدين المقاومة الفلسطينية، أو تجعل رواية الإبادي وجهة نظر قابلة للاستماع،
إنّ هذه الحقيقة تطرح الأسئلة الواجبة عن معنى الوجود العربي، وعن كون الواقعة الاستعمارية الإسرائيلية تمددت في المجال العربي لإبادة العرب معنويًّا، حينما يَظهرون بهذا القدر من العجز وقلة الحيلة وهم بمئات الملايين، عن إغاثة الفلسطينيين في قطاع غزّة، وهو سؤال يفترض أنه كان حاضرًا طوال الوجود الإسرائيلي في فلسطين، لشذوذه وطروئه ولا معقوليته التاريخية والمادية (أي الوجود الإسرائيلي)، ولكن استمراره كان دائمًا مشروطًا بالحالة العربية، التي لا يمكن التغطية عليها الآن بعد هذه الإبادة. لا يقتصر الأمر مع هذه الحقيقة الفاضحة؛ على مراجعة الذات العربية من حيث جدواها الوجودية، ولكن أيضًا يعيد فلسطين بوصفها قضية كلّ عربي حينما تكون كاشفة عن هذه الأحوال العربية المريعة، مما يعيد أطروحة كون القضية الفلسطينية قلب القضية التحررية العربية.
الثالثة ـ أنّ العدوّ المباشر والأكثر خطورة وإلحاحًا على العرب جميعًا هو إسرائيل، وهي الحقيقة التي سعت الحكومات والأنظمة العربية لطمسها طوال عقود، سواء في مسار طويل من التخلّص من القضية الفلسطينية من بعد هزيمة العام 1967، أو في خطابات الأولويات الوطنية التي تجعل فلسطين نقيضًا لها، وهي خطابات بدأت بالظهور بعد كامب ديفيد المصرية، وانتشرت بعد موجة التطبيع الأولى أواسط تسعينات القرن الماضي بعد توقيع اتفاقية أوسلو، ودُفعِت إلى الأمام من جديد بعد ما يُسمى بـ "ثورات الربيع العربي"، وفي السياق كانت محاولات إنكار كون إسرائيل عدوًّا وهو الأمر الذي تجسّد عمليًّا في اتفاقيات التطبيع، وإحلال أعداء جدد مكانها، كما يسمى بـ "الإسلام السياسي" وجماعاته، و"المشروع الإيراني" وإذكاء الطائفية في المنطقة، وكل عدوّ من هؤلاء الأعداء المصطنعين، وجد له حضورًا لدى نخب وأوساط شعبية، بما في ذلك لدى قوى هي نفسها متهمة كقوى "الإسلام السياسي" التي تمكنت ذات الأنظمة التي تعاديها وتعمل على سحقها باستمرار، من أن تستدخل إليها الخطاب الطائفي والإخلال بالأولويات الوجودية للعرب والمسلمين من حيث تراتبية الأخطار وكيفيات مواجهتها وسبل النهوض منها.
الآن يتضح بما لا لبس فيه قدرة إسرائيل الفائقة على بسط عدوانها العسكري المباشر على الإقليم كما يحصل في سوريا ولبنان وإيران، واللعب بالتوازنات الإقليمية والوطنية، بما يحتّمها الخطر الأكثر مباشرة وإلحاحًا على الأمن القومي العربي ولبقية القوى الأصيلة والطبيعية في المنطقة.
هذه الحقائق كان يفترض بها أن تطرح على الواقع العربي الأسئلة الصحيحة، من قبيل العودة للتأكيد على معنى مركزية القضية الفلسطينية، وتداخلها العضوي مع القضايا العربية الأخرى، وسبل التحرر واستكمال الاستقلال الوطني لدول الإقليم وفي طليعتها العربية منها، والبناء على الحقائق التي أكدتها عملية السابع من أكتوبر، بما في ذلك قدرة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة في غمرة الإبادة الجماعية. إلا أنّ الأسئلة التي استمرّ الإلحاح في طرحها، ولاسيما بفعل الإبادة الجماعية المروعة والمخيفة، هي تلك التي تؤكد على الوطنيات العاجزة والتابعة لأغراض تنموية اقتصادية وهمية بما يجعل القضايا العربية من جديد على النقيض من القضية الفلسطينية، وإعادة تقييم المقاومة الفلسطينية بسلب مبرر وجودها وأدواتها بالحديث المستمرّ عن ضرورة مراجعة أدوات الكفاح الفلسطيني، ويقصد به حصرًا الكفاح المسلح، دون أيّ مراجعات جادّة لمسار التسوية ومآلاته الانقسامية على الواقع الفلسطيني والمصادرة من الفلسطينيين أدوات كفاحهم الأخرى غير المسلحة، والتي وفّرت (أي التسوية) لإسرائيل أسباب التمدد في الإقليم، ولاسيما مع الدول العربية.
هذا كلّه ظهر بديل السؤال الصحيح عن سرّ العجز العربي السياسي، والذي هو كما سلف القول؛ أقرب إلى التواطؤ المقصود، والعجز العربي الشعبي والجماهيري الناجم عن سياسات التجريف المادي التي مارستها الحكومات العربية وبما أفضى إلى خدمة إسرائيل، والتحريف المعنوي بحيث جهلت الأجيال الجديدة من الجماهير العربية أهمية القضية الفلسطينية بالنسبة لها، ليس فقط على المستويات المعنوية والثقافية والأخلاقية، ولكن أيضًا على المستوى المادي المباشر من حيث مصلحة سكان المنطقة العربية ومستقبل أبنائهم.