غزة وخسوف القمر.. «شيزوفرينيا الإيمان» على الأرض!
في ليلة استثنائية، تسابق الناس إلى المساجد مع إعلان خسوف القمر، امتلأت الصفوف، وارتفعت الأيدي بالدعاء، ووقف الأئمة بأوامر إدارية من وزراء الأوقاف يؤمون المصلين في صلاة غابت عن حياتنا لعقود.
بدا المشهد وكأنه عودة إلى سُنّة غُبرت في بطون الكتب، فاستعادها الناس بحماس المجرِّب الجديد، فكانت الظاهرة الفلكية حدثًا روحيًا، وصارت السماء مرآة تتأملها الأرض.لكن في اللحظة نفسها، وعلى مرمى البصر من كل شاشة تُبث منها صور الخسوف، كان هناك شاشات أخرى تنقل مشهداً آخر؛ مشهداً يمتلئ بالغبار والنار؛ دماء تُراق، وأطفال يُنتشلون من تحت الركام، وأمهات يصرخن ولا مغيث، إنها غزة التي أوشكت على الخسوف الكلي، لولا أنها تتمسك بخيوط الأمل البادية من عزائمهم الصلبة.
العجيب أن هناك أوامر نبوية أصرح وأوضح من صلاة الخسوف؛ «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه»، «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»، أوامر حملت وزنًا أثقل من الظواهر السماوية، لكنها تُركت على رف اللاوعي.
التناقض يبدو صارخاً، فكيف امتلأت المساجد في دقائق لأداء طقس عارض يدخل في فروض الكفايات، بينما الفراغ يخيّم على ساحات النصرة والنجدة التي هي من فروض العين؟!
وكيف تحركت الجموع إلى طقس شعائري وقتي، بينما لم تتحرك لنصرة شعب تُسحق إنسانيته يوميًا؟ أهو تدين انتقائي؟ أم ازدواجية وعي تجعلنا نتمسك بالقشور ونتجاهل اللباب؟
الخسوف الذي غيّب القمر لساعات، كشف عن خسوفٍ أعمق؛ خسوف في الضمير الجمعي، حيث يتجلى التدين في الطقوس، ويغيب عند المواقف الكبرى، ازدواجية قاسية، حيث الخشوع لله في ظاهرة كونية عابرة، وفتور وتراخ أمام كارثة إنسانية مستمرة.
وهنا يصبح السؤال أكثر حرقة: هل نحن أمام يقظة روحية حقيقية، أم أمام «شيزوفرينيا إيمانية» تفضح علاقتنا المرتبكة مع أوامر ديننا؟
اللافت أن هذه الظواهر الكونية تكشف حقيقة ميزاننا الداخلي، فهي ليست مجرد علامات في السماء، بل كاشفات لما في الأرض: قلوب تتحرك لظل القمر، ولا تتحرك لأشلاء البشر!
فإذا كان الهدف من صلاة الخسوف أن نتذكر عظمة الله، فكيف ننسى أن عظمته تتجلى أيضًا في نصرة المظلوم وإغاثة المستضعف؟! وإذا كان من الحكمة أن يهرع الناس للدعاء حين يخسف القمر، فالأوجب أن يهرعوا ألف مرة حين يخسف الظلم بأمة كاملة.
مقارنات وتناقضات
في دول إسلامية كثيرة، أعلنت الوزارات المسؤولة عن المساجد والدعوة رسميًا إقامة صلاة الخسوف، وامتلأت عشرات المساجد الكبرى بالمصلين في عواصم عربية وإسلامية، أرقام الحضور حسب رصد الصحافة المحلية في كل دولة تجاوزت عشرات الآلاف في ليلة واحدة.لكن ماذا عن غزة؟ أين الدعوات الرسمية لمسيرات رمزية في المساجد الكبرى تضامنًا مع أهلها؟ أين بيانات تلك الوزارات نفسها التي تحض الناس على إغاثة المكلومين؟ كيف يخرج المسؤول ليأمر بإقامة صلاة الخسوف، بينما لا يحرك ساكنًا حين يسقط آلاف الأطفال تحت القصف؟ لماذا إلى الآن لم تخصص جمعة واحدة في بعض دولنا الإسلامية للحديث عن غزة ومصابها، أو الحديث عن الصهاينة وغدراتهم؟!
حتى ساحات المساجد الكبرى في عالمنا الإسلامي، التي هي مهوى أفئدة المسلمين جميعاً، شهدت صلاة الخسوف بخشوع عظيم، في مشهد روحاني يليق بمكانتها، لكن غزة لم تشهد نفس الساحات حملة كبرى لدعمها، ولا حتى دعاءً جماعيًا مركزًا يليق بالكارثة، مفارقة تصرخ بأعلى صوت: نحن نجيد الانفعال مع القمر، ونفشل في التفاعل مع الدم!
أما عن التبرعات، ففي دول عربية جمعت المساجد آلاف المصلين في ساعة، بينما لم تجمع حملات الإغاثة لغزة إلا القليل من الأرقام الرسمية، على الرغم من أن معاناة غزة تجاوزت حدود التصور.
إنها المقارنات التي تفضح الفارق بين دين الطقوس ودين القيم، بين عبادة تُؤدى ساعة، وواجب يُهمل عمرًا!
خسوف غزة
غزة اليوم تعيش خسوفًا أعظم من خسوف القمر، فبينما يخسف القمر لسويعات ثم يعود بدرًا منيرًا، خسفت غزة لشهور متواصلة، وما عادت تعرف النور.
أكثر من 60 ألف شهيد، نصفهم من النساء والأطفال، وفق وزارة الصحة، و120 ألف جريح، كثير منهم بلا دواء ولا أمل في علاج، مئات الآلاف شُرّدوا من بيوتهم، يفترشون المدارس أو العراء، محرومين من الماء والكهرباء والغذاء.
الصور القادمة من هناك لا تحتاج إلى شروح، طفل يخرج من تحت الركام لا يجد من يناديه باسمه، أُمٌّ تبحث عن رضيعها بين أكوام الغبار فلا تجد إلا أجزاء من ملابسه الملتصقة بقطع من لحمه، مستشفى الشفاء وقد تحوّل إلى مقبرة جماعية، إنه الخسوف الأعظم، خسوف العدالة والرحمة والإنسانية.
أمام هذه المشاهد، يبدو امتلاء المساجد بصلاة الخسوف وكأنه مرآة جارحة: نحن قادرون على الحضور، على البكاء، على الخشوع، لكننا عاجزون عن تحويل ذلك الإيمان إلى فعلٍ عملي، إلى نصرة حقيقية، إلى جهاد بالمال والموقف.
«آمين» المعطلة
قد يقول قائل: ولماذا هذه الحملة؟ أليس الأمر بصلاة الخسوف والدعاء أمراً نبوياً؟ أتريدنا ألا نتفاعل مع أوامر النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم أليست مناسبة للدعاء الجماعي لأهل غزة وغيرهم من المستضعفين والتأمين خلف أئمتنا؟ ثم ماذا نفعل نحن وأقصى ما يمكننا فعله هو الدعاء؟!
وتلك مغالطات أشنع، مغالطات مبنية على عدم فهم واضح لأولويات هذا الدين، الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبًا أقدس مكان فيه وهو بيت الله الحرام في الحديث الذي رواه عبدالله بن عمر، قال: رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يطوفُ بالكعبةِ وهو يقول: «ما أطيبَكِ وأطيبَ ريحَكِ! ما أعظمَكِ وأعظمَ حُرمَتَكِ، والذِي نَفْسُ محمدٍ بيدِهِ لَحُرمَةُ المؤمنِ أعظَمُ حُرمَةً عِندَ اللهِ منكِ؛ مالُهُ ودَمُهُ، وأنْ يُظَنَّ بهِ إلا خيراً».
ثم أي دعاء هذا الذي هو في صورته الحالية مجرد تفريغ لشحنات انفعالية بلا جدوى، أي آمين هذه التي أصابها العطب وتعطلت عن الصعود شبراً فوق رأس قائلها، جراء افتقادها إلى رافعة من عمل دؤوب يجعل القضية حية بدلاً من تخسف خسوفاً أشد من خسوف القمر.
الخسوف الكوني رغم أنه حدث عارض لساعات قليلة، لكنه كشف عن خسوفٍ أعمق في وعينا وأولوياتنا، فإذا لم يوقظنا خسوف غزة من غفلتنا، فلن يوقظنا قمر غاب ثم عاد.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق