لا تتركوا أحداً في قيد الحياة

قضت المحكمة الجنائية الدولية بالسجن 20 عاماً على أحد قادة "الجنجويد" في السودان، بتهم عدّة متعلّقة بجرائم الحرب والإبادة الجماعية.
وجد القضاة أن علي كوشيب (القائد السابق في حرب دارفور) مدان بجرائم ارتكبها بين عامي 2003 و2004.
وهي جرائم ضدّ المدنيين، وحرق قراهم، في عملية إبادة ضدّ القبائل غير العربية في غرب السودان، التهم ذاتها التي طاردت بسببها المحكمة الجنائية الدولية الرئيس السابق عمر البشير وعدداً من قيادات نظامه منذ عام 2008.
وصف الناجون من المذابح كيف أصدر كوشيب الأوامر بحرق القرى، وبذبح الذكور، وبالاستعباد الجنسي للنساء.
ذكر الشهود أن علي كوشيب قال لرجاله: "لا تتركوا أحداً في قيد الحياة".
هكذا قضى الرجل بموت مئات السودانيين بلا سبب إلا الاختلاف العرقي. لم يكونوا مقاتلين أو مصدر تهديد لأيّ أحد. كانوا مجرّد مدنيين يعيشون منذ مئات السنين في بقعةٍ نائيةٍ لا يكاد العالم يذكر وجودها. أُلقي الأطفال أحياءً في النار أمام أمّهاتهم، وبيع النساء رقيقاً.
جرائم ممنهجة ارتُكبت ضدّ مواطني إقليم دارفور برعايةٍ وتنسيقٍ من النظام السابق، الذي راهن على ولاء القبائل العربية مقابل اتهام المدنيين من القبائل الأخرى بالولاء لمشروع صهيوني يسعى إلى إقامة دولة منفصلة في غرب السودان.
بعد نحو ربع قرن من الجرائم، يدفع أحد قادة الجنجويد الثمن، بينما ما تزال الحرب تأكل إقليم دارفور، ولم يتغيّر فيها إلا التحالفات. أصبح النظام العسكري يرى في القبائل الأفريقية (بدافع الضرورة) حليفاً ضدّ القبائل العربية التي يتهمها اليوم بالسعي إلى إقامة دولة للبدو في دارفور تنفيذاً لمشروع صهيوني، وتحوّل قادة المليشيات القبلية من مجرمين يطاردهم النظام إلى حلفاء يقاتلون جنباً إلى جنب مع الجيش السوداني ضدّ حلفائه السابقين.
لم يُعلِّق طرفا الصراع الرئيسان على الإدانة، رغم أن الجيش أكّد أكثر من مرّة أنه لا يعترف بالمحكمة الجنائية الدولية، وأنها محكمة مسيّسة.
بينما لم تُبدِ قوات الدعم السريع اهتماماً بالمحاكمة، لكنّها واصلت ارتكاب ما كانت تفعله مليشيات الجنجويد سابقاً، وأُدين به كوشيب.
لا يختلف ما تفعله قوات الدعم السريع في حرب السودان الحالية عمّا فعلته "الجنجويد"، إنما هو حلقة جديدة من الصراع العرقي في المنطقة، لكنّ الجرائم تبقى هي ذاتها. تكاد شهادات الناجين تتطابق مع ما حدث في عام 2003 وما حدث في عام 2023. في مدينة الجنينة الحدودية، تعرّض الآلاف للتطهير العرقي في يونيو/حزيران 2023 بعد أسابيع من اندلاع الحرب أخيراً.
وبحسب محلّلين، فإن قوات الدعم السريع قد استخدمت الحرب في العاصمة الخرطوم لتشتيت الانتباه عن عملية الإبادة التي تقوم بها في إقليم دارفور، ومحاولة القضاء على القبائل الأفريقية.
وهو ما يتكرّر مرّة أخرى منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي في مدينة الفاشر، التي صمدت أمام حصار قاتل أكثر من عام ونصف العام، لكنّها سقطت في نهاية الأمر لتواجه مذبحةً ما زال العالم يحاول إحصاء ضحاياها.
إدانة علي كوشيب الأولى متعلّقة بالانتهاكات المُرتكَبة في إقليم دارفور. وهي أول عدالة قانونية يحصل عليها بعض الضحايا الذين سقطوا في جرائم ما زال النظام السوداني ينكر حدوثها. سمحت التحوّلات السياسية بغياب المحاسبة، ليتقلّب المتقاتلون بين المواقف والتحالفات، من دون أيّ عدالة للضحايا وأسرهم. لكن كوشيب لم يكن محظوظاً مثل بقية شركائه الذين أفلتوا من العقاب حتى اليوم. لذلك ربّما يرغب كثيرون في أن يتحمّل القائد الميداني المغمور وحده جرائم الجميع في حرب دارفور، بينما يخشى آخرون أن تجرّ محاكمة الرجل آخرين ما زالوا في مواقع النفوذ.
فالجرائم التي تنظر فيها المحكمة الجنائية الدولية يُتهم بها طرفا الحرب الحالية بعد تغيّر التحالفات. لذلك، لن يسعد النافذون في العاصمة المؤقّتة بورتسودان، أو في البديلة للمليشيا في نيالا، بإدانة الرجل الذي بقي في قيد الحياة أطول ممّا توقّع ممولوه السابقون.
غالباً لن يرى كوشيب (76 عاماً) الحرية مرّة أخرى، وستنتهي حياته خلف القضبان أوّلَ سودانيٍّ يُدان في جرائم إقليم دارفور التي بقيت بلا فاعل لربع قرن، بل إنها جرائم لا يعترف بحدوثها النظام الحاكم. لكنّها إدانة تبعث بعض الأمل بأنّ هناك عدالة ممكنة، حتى لو تأخّرت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق