السبت، 31 أغسطس 2019

أيهما أقدس: السعودية أم الحرمان الشريفان؟

أيهما أقدس: السعودية أم الحرمان الشريفان؟

دين "الدولة"، وفيه تكون "الدولة" هي الإله الذي يمنح معنى القداسة، ومعنى الولاء والانتماء، ومعنى البراء والعداء والمفاصلة.

محمد إلهامي


 1-08-2019
"لا يوجد قداسة لأي وطن عندي سوى المملكة العربية السعودية، ولا قداسة لأي مسجد سوى بيت الله الحرام في مكة المُكرّمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة. أما القُدس فقداسته أدبية كبيت من بيوت الله، مثله مثل مسجد حارتنا. لا يخدعونكم بشعارات شرعية خاطئة يتم تسويقها لتكبيل العقول والقلوب".
بهذه التغريدة طالعنا الكاتب السعودي كساب العتيبي، الذي يكتب من داخل السعودية، وكونه يكتب من داخل السعودية معلومة مهمة ومؤثرة، ففي أي أمر يتعلق بالسياسة يمكن القول باطمئنان إن ما يُكتب من داخل السعودية يمثل الرأي الرسمي الحكومي، ومن فكروا في الكتابة بما قد لا يوافق (ولا أقول: يخالف) المسار الحكومي فمصيرهم بين قتيل وأسير وطريد!
وهذا الشيخ سلمان العودة سمع خبراً باتصال بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وأمير قطر تميم بن حمد فظنَّ أنه بداية تفاهم، فتعجل الصلح وكتب يدعو الله، فهو الآن منذ عاميْن في السجن يواجه قائمة من التهم التي تستوجب إعدامه!
لكن أمراً مهماً ينبغي التوقف عنده، وذلك هو البناء الفكري لهذه الرسالة، لقد صارت المساحة التي سيطر عليها عبد العزيز آل سعود "وطناً له قداسة"، فيما نُزِعت القداسة عن المسجد الأقصى الذي ذكره الله في كتابه وبارك فيه وفيما حوله، والذي أسرى إليه رسول الله وحث المسلمين على زيارته، والذي حجَّ إليه المسلمون أكثر من ألف سنة!!
هذا هو دين "الدولة"، وفيه تكون "الدولة" هي الإله الذي يمنح معنى القداسة، ومعنى الولاء والانتماء، ومعنى البراء والعداء والمفاصلة، الدولة لم تعد جهاز خدمة وتنظيم إداري لتدبير مصالح الناس ومعاشهم، بل تحولت إلى معنى روحي، يُطلب من الناس تحمل الفقر والألم والموت من أجل "ترابها"، والدولة بهذا المعنى أمر مفهوم في سياق العلمانية الغربية التي تخلت عن الدين وعن الإله وعن أي شيء غير مادي، كما أن شعور الغرب بدولته متجه نحوها كمؤسسات ووجود تاريخي سياسي، في حين يريد العلمانيون العرب سحب معنى الدولة هنا ليندمج في حاكمها، فيكون معنى الولاء للدولة الولاء للحاكم، وعلى سياسته تدور معاني الولاء والانتماء، والبراء والعداء، ولأجله تكون التضحية والفداء. 
وإذا دخلنا إلى صفحة كساب العتيبي على تويتر، فستطالعنا تغريدته المثبتة، وهي التغريدة التي عادة ما توضع لإظهار الموقف الأهم والمبدأ العام، تقول التغريدة: "أجمل القناعات: الوطن خط أحمر.. القيادة خط أحمر"، وهذا كما هو واضح موقف سلطوي توثيني تترفع عنه العلمانية الغربية التي تأسست أصلاً ضد اندماج السلطة في الشخص، وتفرق بوضوح بين الرئيس وبين الدولة، فضلاً عن موقف الإسلام الذي لم يجعل الأمير سوى وكيل عن الأمة، حتى قال خير الأمة بعد نبيها: "وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".
والدولة بهذا المعنى العقائدي المتعالي الذي هو مرجع ومعيار ما سواه نقيضٌ مباشر للإسلام، إذ هي تناقض ثوابته، وقد كان الكاتب الصحافي المصري عادل حمودة منسجماً مع هذه الفكرة حين استنكر –قبل سنوات- أن يدافع المصريون عن النبي محمد، لأن هذا عمل ينبغي أن تقوم به السعودية!!

واقعة «الآيس كريم» بين بوتين وأردوغان

واقعة «الآيس كريم» بين بوتين وأردوغان

د.فيصل القاسم
لا شيء يحدث بالصدفة في لقاء الكبار، وكل ما يحدث له رمزية خاصة مقصودة ويحمل رسائل في كل الاتجاهات. وقد احتفلت وسائل الإعلام الروسية ومعها وسائل إعلام كثيرة أخرى بواقعة الآيس كريم بين الرئيس الروسي بوتين والرئيس التركي الزائر رجب طيب أردوغان، حيث اغتنم بوتين الزيارة لاصطحاب الزعيم التركي إلى معرض ماكس للطيران في موسكو. 
  وقد أظهرت الكاميرات صورتين لافتتين الأولى للرئيسين الروسي والتركي وهما يتفقدان طائرة روسية خارقة جديدة. ومن المؤكد أن ظهور أردوغان وبوتين على متن الطائرة الروسية ليس مجرد فُرجة، بل هو رسالة روسية وربما تركية للغرب تقول: لقد نجحنا في اختراق حلف الناتو من خلال بيع صواريخ أس 400 لتركيا العضو الفاعل في الحلف الغربي، وها نحن الآن نجتذب تركيا ربما لشراء طائرات روسية تنافس طائرات أف ستة عشر الأمريكية. وقد أبدى أردوغان فعلا رغبة واضحة في اقتناء الطائرة الروسية الجديدة، بعد أن أوشك على إتمام صفقة الصواريخ المضادة للطائرات التاريخية بين تركيا وروسيا.

بالتأكيد كان مشهد أردوغان وهو بداخل الطائرة الروسية سوخوي 57 صادما للغرب. ولكن، هل تتطور الأمور إلى أكثر من ذلك؟ هل تشتري تركيا سوخوي 57؟ وماذا ستفعل الولايات المتحدة إذا حدث ذلك؟ 
لا شك أن منظر أردوغان وبوتين في معرض الطيران في موسكو مؤشر على الانزياح الذي يشهده النظام العالمي، وليس مجرد زيارة عابرة إلى معرض حربي.

أما المشهد الثاني الذي لم يكن مجرد أكل آيس كريم، فهو شراء الرئيس الروسي مثلجات وتقديمها لأردوغان في أثناء زيارة معرض الطيران. وقد رأى فيها المراقبون أكثر من رسالة، فالآيس كريم قادر على تبريد الجوف وتهدئة الأمور. 
لقد ذهب أردوغان إلى موسكو على عجل في زيارة غير مقررة مسبقا للقاء بوتين بعد سقوط مدينة خان شيخون، وبعد أن أصبحت مدينة إدلب السورية التي كانت تعتبرها تركيا تحت وصايتها في مرمى النيران الروسية، ناهيك عن نزوح مئات الألوف من سكانها. 
لقد توقع الكثيرون أن ينجح أردوغان في تبريد الاندفاعة الروسية باتجاه إدلب، فإذا ببوتين يبرّد الاندفاعة التركية باتجاه إدلب بإصبع آيس كريم. وقد وصل الحد ببعض الساخرين السوريين إلى القول إن أردوغان باع إدلب بقطعة «دوندورما»، وتعني آيس كريم.

كل شيء كان مرتبا من قبل بوتين لزيارة أردوغان. حتى بائعة الآيس كريم كانت جزءا من اللعبة ولم تكن بائعة حقيقية. لا يمكن أن يترك الرئيس الروسي بوتين أي شيء للصدفة، مستحيل. هكذا هم رجال الاستخبارات. لا يمكن أن يثقوا بأحد، وهم يحسبون كل خطوة مهما كانت صغيرة وبسيطة، ولا شك أنهم يشكون في ظلهم أحيانا، وبعضهم يموت وهو يعاني من أمراض نفسية كالوهم والخوف الشديد والرهاب؛ لأنهم أمضوا حياتهم في لعبة الخوف ذاتها.

وبما أن فلاديمير بوتين بالأصل قادم من جهاز الكي جي بي السوفياتي الرهيب، الذي أرعب العالم على مدى أكثر من سبعين عاما، فلا شك أنه يتصرف كرجل أمن في كل خطواته وليس كرئيس. وقد شاهدناه في مرات كثيرة وهو يلتقط صورا مع عمال نظافة، لنكتشف لاحقا أن عمال النظافة الذين التفوا حوله والتقطوا الصور معه ليسوا بعمال نظافة، بل لبسوا لباس عمال النظافة لمهمة محددة في مرافقة الرئيس وحمايته. وفي مرة أخرى شاهدناه يلتقط صورا مع البحارة أيضا، لنكتشف فيما بعد أن الأشخاص نفسهم الذين كانوا يرتدون لباس البحارة، هم من مرافقيه الشخصيين أو من جهاز الأمن الروسي.

لكن هذه الألاعيب الصغيرة لم تعد تنطلي على الناس في هذا العصر، حيث أصبح بمقدور أي شخص أن يسجل صور الذين كانوا بجوار الرئيس كناس عاديين مزعومين، ثم يقارن صورهم بصور المسؤولين أو المرافقين حوله، فيكتشفون أن الوجوه هي ذاتها، لكن اختلفت الملابس فقط للتمويه. وهو تمويه أصبح ساذجا جدا في عصر الصورة والموبايل ومواقع التواصل الاجتماعي التي تفضح كل شيء.

لقد ظهر بوتين بطريقة عادية عفوية وهو يشتري الآيس كريم ببساطة كما يشتريه بقية الناس العاديين، لكن هل يمكن فعلا لبوتين أن يثق بأكل الآيس كريم وتقديمه لضيفه إذا لم يكن متأكداٍ مائة بالمائة من نوعيته ومن هوية البائع أو البائعة التي قدمته له؟ مستحيل. 
لقد تمكن أحد الخبثاء أن يقارن بين صورة بائعة الآيس كريم التي باعت الآيس لبوتين وأردوغان، وصورة لسيدة روسية تظهر دائماٍ وراء بوتين في حله وترحاله، فاكتشف أن بائعة الآيس كريم ما هي إلا من أهل البيت الكرمليني، ومن أحد مرافقي الرئيس واستخباراته الخاصة.

لا بأس في ذلك أبدا، فمن حق الرؤساء والاستخبارات أن تلجأ إلى كل الطرق والأساليب والحيل الخادعة للتمويه والحماية، لكن من حق الخبثاء أيضا أن يكشفوهم، ويقرأوا الرسائل المشفرة التي يريدون إيصالها من وراء أفعالهم التي تبدو عادية وعفوية، لكنها في الواقع محسوبة بالورقة والقلم من الصعود إلى الطائرة في معرض الطيران مرورا بلعق الآيس وانتهاء بشخصية البائعة.

الجمعة، 30 أغسطس 2019

الحداثوي العربي الحزين! أ

الحداثوي العربي الحزين!

أحمد فال الدين
وقتما يكون جهدُك منصبا على نقد منافسك، والتفكير فيه، والتحذير منه فاعلم أنك فقدتَ زمام الفعل الواعي. فذاك يعني أن مَنقُودَك يكتب وأنت تُهمّش. أنت غبارٌ مُثار، وصاحبك يركض ممتطيا صهوةَ التاريخ الوثيرة.
لعل من أطرف الظواهر السياسية في ديار العرب هذه الأيام موجة الحرب المسعورة على الإسلاميين. وتأخذ هذه الحرب وجهيْن، وجهًا حسيًا بالقتل والنفي -وهو ما يقوم به الملوك والجنرالات- ووجهًا إعلاميًا يتولاه تحالف عريض من فلول القومية البائدة، والعلمانية الفاشية، واليسارية المسكونة بهموم الحرية الاجتماعية المنفصلة عن أختها السياسية.
شادي حميد الباحث الأمريكي بمعهد بروكنغز
ولا جَرَمَ أنْ لا رابط بين هذه الأطراف غير عُصَابِ الخوف من الإسلاميين، حتى لا نقول من الإسلام. ولا عجب أن لاحظ الباحث الأميركي بمعهد بروكنغز شادي حميد أن المشروع الوحيد الذي يبشر به هؤلاء هو “عداء الإسلاميين” فحسب. فتلك هي البنية الثابتة في ما يقدمون من خطاب.
لقد اتحدت هذه الفئات للحرب على الإسلاميين دون أن تجمعها رحِمٌ فلسفية أو خميرة اجتماعية. فهم أوجهٌ سياسية متشاكسة، وسُحَنٌ ثقافية متنافرة، تنادي بالويل والثبور والتحذير من الإسلاميين دون أن تبسط لمجتمعها مشروعًا منافسًا، أو تقدم ضريبة سياسية للبرهنة على استعداداها لخدمة هذا المجتمع.
 اللائكي الحزين
يلاحظ المتابع لكتابات ومواقف الحداثويين سمةً نفسية ملازمة لمعظمهم مهما اختلفت خلفياتهم وتناءت بلدانهم: سمة الاكتئاب. فلا تكاد تقرأ لأحدهم حرفًا إلا يقطر كآبة، ولا تستمع لعلَمٍ من أعلامهم إلا خيل إليك أنه واقف على حافة ثقب أسود، ينادي على البشرية بالخراب.
تأخذ هذه الحرب وجهيْن، وجهًا حسيًا بالقتل والنفي -وهو ما يقوم به الملوك والجنرالات- ووجهًا إعلاميًا يتولاه تحالف عريض من فلول القومية البائدة، والعلمانية الفاشية، واليسارية المسكونة بهموم الحرية الاجتماعية المنفصلة عن أختها السياسية.
 وإذا عايشتَ أحدًا منهم معايشة قريبة وجدتَه لا ينفكّ مقطب الجبين سيء الظن بنفسه، والناس والأيام. ولست هنا بمعرض القول الفلسفي الممجوج عن منزع التشاؤم باعتباره سمة من سمات عصر الآلة، أو نتيجة من نتائج الحداثة وما بعدها. بل أتحدث عن الحداثوي العربي الحزين ذاتًا مخصوصةً، تعيش بيننا تأكل الطعام وتمشي في الأسواق. وهي ذات فريدة (مُحنّطة وخارج تاريخ هيغل) لا تنتمي للقوالب الدارجة فلسفيًا أو فكريًا شرقًا أو غربًا.
ولعل أهم أسباب هذا الحزن الدائم تتلخص في النقاط التالية.
الخوف من المجتمع
يخاف الحداثوي العربي خوفًا مرضيًا من مجتمعه. فقد تعود على أن المجتمع لا يثق فيه ولا يعترف به فاعلًا مؤهلًا للقيادة. فلا ينتخبه ولا يقدمه في لحظات الاختيار الحر غالبا. لذا لا يجد نفسه في السلطة إلا على ظهر دبابة أو متحالفًا مع مستبد. وهو مع ذلك جزء من هذا المجتمع مضطر للتعاطي معه. فهو لا يستطيع ترشيح نفسه لقيادة المجتمع الدانماركي أو الموزمبيقي مثلا. في هذا الجو الطارد، يجلس كظيم القلب، متواصل الأحزان، متقطع الأنفاس يتلمّظ حنقا… ليمارس السياسة أو الكتابة.
في لحظات تحرر الشعوب يضج الفضاء العام بالإسلاميين والآراء المتنوعة والسُّحَن الفكرية المختلفة، وفي لحظات البطش والسجون يضج الفضاء العام بالحداثويين العرب والعساكر والمهرجين والفاسدين والضريحيين. تلك قاعدة لا تكاد تنخرم.
والحداثوي خائف لمناقضة مرجعيته الفكرية لمرجعية مجتمعه. فالعرب عمومًا (والانتخابات في أجواء الحرية هي الطريق الوحيد لكشف آراء المجتمعات) يبحثون عن حل يزاوج بين القيم السياسية الإسلامية (انتخاب الحاكم، القسط بين الناس، ومنح المجتمع حرية التدين أو عدمه مع احترام الهوية الحضارية الجامعة، إلخ..) وبين الإجراءات العالمية الدارجة لتنفيذ تلك المبادئ. أما الحداثوي العربي فلا يريد هذا، ويعيش انفصامًا مريعًا ينعكس على مزاجه حزنًا.
فهو يدعو إلى قيم الحرية والعدالة بلسانه، لكنه يعاديها واقعًا بسبب صفعات صناديق الاقتراع التي لا تفتأ تُدمي خدّيْه. وهو -لأنانيته السياسية- لا يريد ديمقراطية لا تأتي به وحده، وهي لن تأتي به بسبب حَوَلَه الحضاري النزّاع للقيم المصادمةِ لقيم المجتمع المنتخِب. ولذا كان الحداثويون العرب -غالبًا- وقودًا للثورة المضادة في دول الربيع العربي؛ بدءا بالبرادعي وحمدين صباحي في مصر، وانتهاء بحداثويي تونس وليبيا… الحَزانى.
لقد أفاق الحداثوي الحزينُ على حقيقة مريعة هي أن الانفتاح والديمقراطية يعنيان تحييده عن أماكن النفوذ ودفعه إلى الهامش بالحسنى، وأن مزيدًا من الديمقراطية يعني مزيدًا من نفوذ الإسلاميين (حسب العبارة السيارة للمختص الأميركي نوح فريدمان). ففي لحظات تحرر الشعوب يضج الفضاء العام بالإسلاميين والآراء المتنوعة والسُّحَن الفكرية المختلفة، وفي لحظات البطش والسجون يضج الفضاء العام بالحداثويين العرب والعساكر والمهرجين والفاسدين والضريحيين. تلك قاعدة لا تكاد تنخرم.
في هذا الجو وجد الحداثوي نفسَه مضطرا للعيش بشخصية انفصامية: الدعوة للديمقراطية علناً بالأقوال (فلا مسوغ سياسي لوجوده دون ذلك) ومحاربتها واقعًا بالأفعال، وهو ما تفضحه تصرفاته السياسية والثقافية اليومية. والعيش بهذا الانفصام يُخلّف شرخا عميقا في النفس البشرية يُترجم حزنا وخوفا من المجتمع وتوترًا أبديًا.
عقدة اللص
ثمة سبب تاريخي آخر لحزن الحداثوي العربي وخوفه من مجتمعه، وهو عقدته من الجرائم الإنسانية التي ارتكبها أثناء حكمه لكثير من الدول العربية. فاللص حزينٌ تعس وخائف دومًا من ضحاياه.
فجمهوريات الضباط التي حكمت العالم العربي بالنار، وجعلتْ العربياتِ أغزرَ نساء العالمين دموعًا بسبب السجون والمعتقلات؛ كانت حاكمة باسم اليسارية والعلمانية والتحديث. والنماذجُ ماثلة في الأذهان؛ بدءًا من عبد الناصر، مرورًا بالقذافي وبورقيبة، وانتهاءًا بالعائلة الباطنية: بشارًا وأباه. ولم تقدم هذه الأنظمة الحداثوية خلال تلك العقود للعرب غير السجون المعتمة، واللجان الشعبية، والبلطجية، والشبيحة، وسجون تدمر، وأبي زعبل، وبو سليم، وجماعات الهجرة والتكفير، ثم القاعدة وداعش. بالإضافة إلى حزمة طيبة من الهزائم في ميدان المعارك ما زالت قاعات الدرس في الكليات العسكرية الدولية تتلوها آياتٍ بيناتٍ في الهزائم الاستثنائية.
الحبيب بورقيبة و جمال عبدالناصر
الحداثوي الضريحي
هذه الحالة القلقة تجعل الحداثوي العربي جالسًا على كرسي زئبقيٍ أبدًا. وهو أمر يدفعه إلى تصرفات تبدو في غاية الطرافة والغرابة، وتفضحه يوميًا أمام مجتمعه مما يزيد عزلته ويفاقم عُقَدَه. فمع أنه حداثوي يعلن ضيقه بدخول الدين في المجال العام، فإنه يتحالف مع التدين الضريحي في المجال العام، ويهشُّ ويبشّ للتيارات الجامية (حالة ليبيا والسعودية، والإمارات، ومشايخ التصوف السلطاني في عدة بلدان). وكان من الطبيعي –لولا الانفصام النفسي الحاد- أن يكون الحداثوي خصيمًا للتدين الضريحي والجامي، وأقربَ للتيارات الإسلامية الحركية حاملة لواء الدفاع عن قيم الحرية والمساواة. لكن الحداثوي العربي لا يكتفي بالسكوت عن التدين الضريحي الخزعبلاتي، ولا الجامي العابدِ للقوة، بل يدافع عنهما فلسفيًا ويحالفهما سياسيًا. وإلا، فما الذي يجمع بين يساري مادي ساع للثورة، وجامي تتمحور دعوته حول تحويل الإسلام إلى إيديولوجيا لعبادة القوة؟
عقدة الوجود الافتراضي
من أسباب حزن الحداثوي العربي المفازةُ الواسعة التي يلمسها بين وجوده الافتراضي والميداني. فهو يدخل المجال الافتراضي فيجد لنفسه كينونة وهوية. يطرح أفكارًا فيناقشه مدنون حقيقيون أو وهميون، ويحس لنفسه وجودا ماديًا ما دامت لوحات المفاتيح تتحرك متفاعلةً معه، واللايكاتُ تلمع في زاوية حاسوبه. فيُخيل إليه أنه غدا شيئا مذكورًا في مجتمعه.
لكنه ما إنْ يطفئ وسيلة التواصل الاجتماعي وينزل من عالم النت كاراً إلى منزله أو جامعته أو سوقه حتى ينكر ذاته. فلا وجود حقيقي له على الأرض…. ذات الطول والعرض. 
وذلك لأن انتزاع المكانة الاجتماعية والسياسية في أي مجتمع يحتاج إلى مخالطة الناس واحترامهم، ومعرفة همومهم. لابد أن يُعرف الرمز السياسي في معمله وحيه ووسط مجاله. فيكتسب بذلك وجودًا ماديًا واعترافًا أدبيًا. أما مجرد الوجود الافتراضي فوجود افتراضي فحسب. فالمجتمع لا يمنح ثقته لكائنات غرف الدردشة الافتراضية.  
ما الذي يجمع بين يساري مادي ساع للثورة، وجامي تتمحور دعوته حول تحويل الإسلام إلى إيديولوجيًا لعبادة القوة؟
يشتد حزن الحداثوي عندما ينزل للميدان فيجد الثقة المجتمعية ممنوحة للإسلاميين بما كسبتْ أيديهم من خدمة للمجتمع وتقلّب في مصالحه، وتصالح مع هوياته. فالإسلامي هو الذي يذهب للأدغال ليلّعم الأميين كيف يقرؤون، ويبني المؤسسات التي تساهم في نزع فتيل الصراع في المجتمع، ويقدم النماذج الحية من خلال رموزه لتغيير الأنماط العنصرية البائدة (حالة موريتانيا).
والإسلامي معروف العنوان، يعرفه الناس في مسجد الحي، وعند منعرج السوق، وفي البوادي والجامعة. أما الحداثوي فمنعزلٌ في زاوية يشتم المجتمع ويعيش –بعضهم- حياةً مزْدكيةً على ضفافه.
الحداثوي مسمار المستبد؟
من خصائص الحداثوي العربي أنه كثيرًا ما يكون سلطانيًا وإنْ عارض، ومسمارًا خادما في سفينة المستبد وإن صرخ بضد ذلك. فجهده ووقته منصرفان لقدح الإٍسلاميين لا لثلب المستبدين. وكتاباتُه اليومية مُسخّرة لنقد إسلاميين وراء القضبان، لا لفضح مستبد يتسنم مقاليد الحكم. ولكثرة نقد الحداثويين للإسلاميين يخالُ المتابع أن الإسلاميين يحكمون البلاد، ويتسنَّمُون ذِروةَ السلطة بلا منازع.
غير أن ذلك دليلا آخر على الحقيقة التي يجمع عليها عقلاء الدارسين. وهي أنه لا وجود حقيقي في العالم العربي –غالبا- إلا لطرفين: سلطة مستبدة غالبة، وإسلاميين إصلاحيين يقارعونها.
ولذا، على عقلاء الحداثويين أن يعرفوا أن الإسلاميين وقود التغيير الجاد، وعلى الصادقين منهم أن يتكاتفوا معهم ليكونوا يدا واحدة لتحرير المجتمع سياسيًا وثقافيًا. ولعل نموذج أيمن نور ومنصف المرزوقي نموذج صحي وملهمٌ في هذا الباب. فقد عجزت نساء العلمانيين أن يلدن ديمقراطيين غيرهما.
منصف المرزوقي وأيمن نور
 أما الإسلاميون فهم الذين قاموا بمراجعات فكرية وسياسية –كما يقول الدكتور عزمي بشارة-  كما مدوا أيديهم مرارا للتحالف مع الجميع. ولعل الأشهر السابقة للانقلاب في مصر أكبر دليل على ذلك. يوم رفض البرادعي وصباحي الدخول في حكومة مرسي من أجل إفشال أول ديمقراطية في تاريخ مصر… ليأتوا بالسيسي.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.


فوق السلطة - جامع ريش الدجاج

برنامج فوق السلطة 
 جامع ريش الدجاج

تناولت حلقة (2019/8/30) من برنامج "فوق السلطة" موضوعاتها تحت العناوين التالية: جامع ريش الدجاج يوجه السياسة العربية. السعوديون كانوا مهددين بالغرق في البحر. نصر الله لإسرائيل: قفوا على رجل ونص. بوظة في موسكو وصواريخ في إدلب. موسى يسعّر بنزين طوكيو بـ15 دولارا.
على وقع قصف الطيران الإماراتي للجيش اليمني؛ ماذا جرى يا ترى في عدن مع الميليشيات الانفصالية الموالية لأبو ظبي؟ هل أصيبت بالعجز في الميدان فانكسر سهمها؟ وما سبب مشكلة الفر السريع عندها؟ أهو سوء تغذية من الإمارات؟ أم اضطرابات داخل البيت الواحد؟ أم إنه استبسال من الجيش الوطني في الدفاع عن شرف الدولة؟
نائب رئس شرطة دبي ضاحي خلفان الشهير بضاحي قديش بيعمل بالساعة؟ كم تغريدة؟ ألف؟ ارتفعت معنوياته بوجود رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في الإمارات فأشعل تويتر، لكن أظرف ما كتبه هذا الأسبوع هو "نحن نطلب كإماراتيين من حكومتنا أن تقطع علاقتها باليمن بتاتاً"، لتنهال عليه عشرات الطلبات من مختلف الدول: رجاء لا تنسوا دولنا.. اقطعوا أيضاً علاقاتكم بنا.
وبينما سخر ضاحي من أشكال وأوزان القادة اليمنيين "وكأنه شخصياً النجم شاروخان وليس داهي خان"؛ كتب في تغريدة أخرى: إنما الأمم الأخلاق، ثم غمز من قناة السعودية فقال: تنظيم الإخوان إما نتخذه إرهابياً وإما حليفاً كما تتخذه قطر.. لماذا ننتقد الدوحة يا ترى؟
فيرد الكاتب السعودي سليمان العقيلي الذي سئم تغريد الإماراتيين وكأنهم وكلاء عن الشعب اليمني؛ فنشر "بوست" من صفحة تعارف من أرشيف جريدة ورقية يعرض فيها ضاحي صورته ويكشف عن هوايته بجمع ريش الدجاج؛ فيكتب العقيلي: "جامع ريش الدجاج يريد أن يكون موجهاً للسياسة العربية". ولو أستاذ سليمان.. تعيره بريش الدجاج المباح!! يا ليتك عيرته بمقتل المبحوح.
غلطة آل الشيخ
وزير الشؤون الإسلامية والمحميات الخلفية عبد اللطيف آل الشيخ يخطئ في قراءة الآية القرآنية الكريمة: (إنما يَعْمُرُ مساجدَ اللهِ)، فقرأها إنما يُعَمِّرُ مساجد الله. وقد ذكر مغردون أن هذه الآية من سورة التوبة المعروفة عند أهل العلم بـ"الفاضحة"، أليس هو من يحمل دكتوراه في الشريعة؟ أليس هو الوزير والشيخ؟
الشيخ كان يتحدث خلال افتتاح مسجد "فخر المسلمين" في الشيشان الذي يوصف بأنه أكبرِ مسجد في أوروبا، ونقل هديةَ خادم الحرمين الشريفين إلى الرئيس الشيشاني "الصوفي المجاهد" -كما يصفه شعبه- رمضان قديروف.
وهي خطوة تحسب للمملكة باتجاه التقريب بين المسلمين؛ خصوصاً أن مفتي الشيشان الشيخ صالح مجييف يتهم أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقتل آل البيت النبوي الشريف.
لقد كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأئمة آخرون يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وفق الفقه المالكي، من باب الأدب بين العلماء؛ أفلم يكن حرياً بالوزير عبد اللطيف أن يشارك في الفتلة الشيشانية؟

حرية العبد في اختياره الهدى والضلال


حرية العبد في اختياره الهدى والضلال 
د. علي الصلابي
مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي

إنّ الضلال والهدى متضادان، حيث يُقال ضللت بعيري: إذا كان معقولاً فلم تهتد لمكانه، وضل عني: ضاع، وضللته: أنسيته، ويقال لكل عدول عن المنهج عمداً، أو سهواً، يسيراً كان أو كثيراً: ضلال، فإن الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعب جداً، وإضلال الله للإنسان على وجهين:
إحداهما: أن يكون سببه وهو أن يضل الإنسان فيحكم الله عليه بذلك في الدنيا، ويعدل به عن طريق الجنة إلى النار في الآخرة.
الثاني: من إضلال الله: وهو أن الله تعالى وضع جبلة الإنسان على هيئة إذا راعى طريقاً محموداً كان أو مذموماً ألفه واستطابه وتعسر عليه صرفه وانصرافه.
والمقصود بإضلال الله للعبد هو خذلانه وعدم توفيقه وإعانته وعدم خلق المشيئة المستلزمة للهداية. والله سبحانه وتعالى يجعل ذلك في عباده ويخلقه فيهم بأسباب تكون من قبلهم، فهم إذا سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختياراً، سده عليهم اضطراراً، فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوا، فيكون ذلك عقوبة لهم، كما يعاقبهم في الآخرة بدخولهم النار.

ومن رحمة الله بعباده، أن ما يفعله الله عز وجل من إضلال بعض عباده بالطبع والغشاوة والختم وغير ذلك، لا يفعله بالعبد لأول وهلة حين يأمره بالإيمان ويبينه له، وإنما يفعله به بعد تكرار الدعوة به سبحانه، والتأكيد في البيان والإرشاد وتكرار الإعراض منه، والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع الله على قلوب هؤلاء العباد، ويختم عليهم، فلا يقبل الهدى بعد ذلك، والإعراض والكفر الأول لم يكن معه ختم وطبع، بل كان اختياراً، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية. فتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ  لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ" (البقرة : 6 ـ 7) .

ويقوم الإنسان بالأعمال وفقاً لإرادته الحرة واختياره ورضاه، فالإنسان كائن عاقل مدرك مفكر، ويتميز عن غيره من المخلوقات بحرية الاختيار. قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء" (الحج : 18) . فهذه الكائنات جميعها لا حرية لها ولا اختيار، بينما الإنسان الذي يعمل بمحض إرادته الحرة ومشيئته المختارة، قد يطيع وقد يعصي، وأكد القرآن أن الإنسان الذي تحمل الأمانة والتكليف زوده الله بقوى وملكات واستعدادات لتحقيق تلك الخلافة ولأداء الأمانة، فخلق لديه الاستعداد للخير والشر، للتقوى والفجور، والهدى والضلال، ومنحه العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، والخير والشر، ووهبه القدرة التي لا يمكن عن طريقها أن يحق الحق ويبطل الباطل، أن يأتي الخير ويدع الشر، وأنزل الله الكتب، وأرسل الرسل لهداية الإنسان وإرشاده لمنهج الحق والخير، وجعل في الإنسان قوة ذاتية واعية مدركة يمكن أن يستخدمها في تزكية النفس وتطهيرها، وتنمية استعداد الخير فيها وتغليبه على استعداد الشر، فيفلح الإنسان بهذا.

مشيئة الإنسان ليست منفصلة عن مشيئة الله تعالى، ولا مستقلة عنها، بل أن الله قد شاء للإنسان أن يختار أحد الطريقتين: طريق الهداية وطريق الضلال
وقد يظلم هذه القوة ويغطيها ويضعفها فيخيب، قال تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" (الشمس : 9 ـ 10) .
وقد نطق القرآن الكريم، بإسناد الفعل إلى العبد في الكثير من آياته، مثل قوله تعالى: "جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (الأحقاف : 14) . قال تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ" (فصلت : 46) . وقال تعالى: " كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ" (المدثر : 38) .
وأثبت القرآن للعبد في غير ما آية منه في المشيئة الاختيار، فقال تعالى: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (الإنسان : 3) . إن الإنسان حر، لقد زوده الله بالعقل والإرادة، يختار ما يراه من حق أو باطل، ويفعل ما يروق له من خير أو شر، فهو مزود بوسائل الإدراك، يدرك ما في الأشياء من قيم ويحكم عليها ويختار، وهو بالخيار أن يسلك طريق الحق والخير فيكون شاكراً، أو يعوج في طريقه فيجنح نحو الشر والباطل، فيكون كفوراً.

فالإنسان حر في دائرة أعماله الاختيارية والمرتبطة بالتكليف والمسئولية، وهذه الحرية يؤكدها ما يلي:
أ ـ واقع حياة الإنسان، الذي يشعر بالفرق الواضح بين الأعمال الاختيارية وبين الأعمال التي تقع عليه اضطراراً.

ب ـ كما يؤكدها العقل الذي يقضي بأن المسئولية والتكليف، لا بد أن تكون منوطة باستطاعة الإنسان على الفعل أو الترك لأن من لا يملك هذه الاستطاعة فلا يصح عقلاً أن تتوجه إليه المسئولية أصلاً.

ج ـ وإضافة إلى ذلك لو لم يكن الإنسان مختاراً، لما كان ثمة فرق بين المحسن والمسيء، إذ أن كلاً منهما مجبر على ما قاله، ولبطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا فائدة لهما، حيث أن الإنسان مسلوب الإرادة، ولما كان ثمة معنى لتكليف الله للعباد، لأن تكليفه إياهم مع سلب اختيارهم يتنافى مع العدل الإلهي الذي أثبته لنفسه، بل لو كان الإنسان مجبراً على أفعاله، لضاعت فائدة القوانين، ولبطل معنى الجزاء من الثواب والعقاب.

د ـ وقبل هذا كله، جاءت النصوص الشرعية تنسب العمل والإختيار إلى الإنسان، وما يكتسبه نتيجة لجهده، وثبت الجزاء بالجنة لمن أطاع، والنار لمن عصى. قال تعالى: "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوعَن كَثِيرٍ" (الشورى : 30) . وقال تعالى: " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ  أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم : 41) . وقال تعالى: " وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ" (الكهف : 29) . وقال تعالى: " لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ"(التكوير : 28) .

ولكن هذه المشيئة الإنسانية محدودة مرتبطة بمشيئة الله المطلقة وتابعة لها، إذ أن الإنسان يعمل أعماله الاختيارية ويمارس حريته في العمل داخل دائرة صغرى تقع ضمن دائرة كبرى، هي نطاق النظام الكوني العام، إذ أن أعماله مهما كانت، واختياره مهما كان خيراً أم شراً حقاً أم باطلاً، لن يخرج في أدائه الأخير عن السنن الكونية التي وضعها الله في الكون، وتقوم عليها قوانين الحياة البشرية " لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (التكوير : 28 ـ 29) .
   
فمشيئة الإنسان ليست منفصلة عن مشيئة الله تعالى، ولا مستقلة عنها، بل أن الله قد شاء للإنسان أن يختار أحد الطريقتين: طريق الهداية وطريق الضلال، فإن اختار الطريق الأول، وفي نطاق المشيئة الإلهية، وإذا اختار الثاني ففي نطاقها أيضاً.

 مراجع البحث:
1. د. علي محمد محمد الصّلابيّ، الإيمان بالقدر، دار ابن كثير، بيروت، ص (126: 129).
2. د. أحمد محمد جلي، العقيدة الإسلامية دار الكتاب الجامعي، العين، 2010م،  ص 363: 365.
3. د. شريف الشيخ صالح أحمد الخطيب، السنن الإلهية في الحياة الإنسانية وأثر الإيمان بها في العقيدة والسلوك، الدار العثمانية، عمان. الأردن، الطبعة الأولى، 2004م، (1 / 100 – 101 - 102) .
4. ابن القيم، شفاء العليل، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1398هـ/1978م،  ص 173 - 186 - 209.

الخميس، 29 أغسطس 2019

29 أغسطس/آب

 29 أغسطس/آب

يصادف اليوم 29 أغسطس/آب، ذكرى وفاة رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي الذي لقي مصرعه عن عمر يناهز 51 عاما بعد أسابيع قليلة من إطلاق النار عليه في 22 يوليو/ تموز 1987.
اشتهرت رسومات ناجي العلي الكاريكاتيرية بانتقاداتها الحادة واللاذعة، لكن بلغة راقية ورسومات سلسة مشحونة وموحية في الوقت ذاته.






قال عنه الاتحاد العالمي لناشري الصحف: "إنه واحد من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر".

الليبراليون عندما يأكلون أصنامهم

الليبراليون عندما يأكلون أصنامهم

إحسان الفقيه
قال القرطبي رحمه الله: “إن أهل الجاهلية كانوا يعملون الأصنام من كل شيء، حتى أن بعضهم عمل صنمه من عجوة (تمر)، ثم جاع فأكله”.

ما أكثر هؤلاء الذين يصنعون من توجهاتهم أصنامًا يقدسونها ويملؤون الدنيا صراخًا من أجل الدفاع عنها، ويعلنون التزامهم بمقتضياتها ومبادئها، حتى إذا ما حانت ساعة اختبار واقعهم العملي أجهزوا على تلك الأصنام وأكلوها.
ومن هؤلاء ليبراليو العرب الذين استوردوا ليبراليتهم من الغرب إلى بيئة إسلامية لا تقبل بتلك المبادئ، ومع ذلك لم يلتزموا بها.


منذ أيام، توجه ولي عهد النرويج إلى زيارة مسجد قد تعرض لهجوم مسلح، فالتقى عددا من المسلمات، فاعتذرت فتاة محجبة عن مصافحته في أدب، ووضعت يدها على صدرها كتحية بديلة، لم يستنكر ولي عهد النرويج فعل الفتاة، ولم يعلق، بل خشي أن يعرض بقية الفتيات للحرج فلم يصافحهن واكتفى بوضع يده على صدره أسوة بفعل الفتاة التي رفضت المصافحة.


لم نسمع عن ضجة أثيرت في النرويج، ولم نر الصحف الغربية تقيم الدنيا من أجل صنيع الفتاة، بل انتقدت صفحة (النرويج بالعربية) هذا التعسف والتكلف الذي تمادى فيه خالد منتصر تعليقا على فعل الفتاة.


فقط يحدث هذا في الوطن العربي، إذ انبرت أصوات علمانية وليبرالية تنبح على الفتاة وتصف فعلها بالتخلف، ومن هؤلاء الليبرالي المصري خالد منتصر، والذي لا تكاد تجد في صفحته منشورًا إلا وفيه هجوم على الإسلام وشعائره والتهكم على كل ما هو إسلامي تحت دعاوى التنوير ومواجهة التطرف.
وهذا نص ما علق به خالد منتصر على صورة الفتاة التي امتنعت عن مصافحة ولي العهد:
“كيف تعيش البنت بتلك الثقافة المتخلفة في أرقى وأسعد بلاد العالم ؟!، الثقافة التي ترسخ في رأسها أن هناك كهرباء جنسية ستسري من يد ولي عهد النرويج إلى جسده كله فيرتعش نشوة وشبقاً من لمسة كفها المغري!!، تصرفها لا يليق ومجافٍ للذوق وفيه جلافة وغباء ، مالها مذعورة بتلك الصورة وكأن ولي العهد سيغتصبها ؟؟!، هي قد تربت على أن كل الرجال ذئاب وأنها هي مبعوث الشيطان لإغواء الذكر ، عاشت في تلك الزنزانة العفنة من أفكار الهوس الجنسي فكانت تلك النتيجة ، السؤال تموتون من أجل الهجرة إلى تلك البلاد ويغرق نصفكم في البحر وتبتلعهم الأسماك ، ثم عندما تصلون إلى هناك تبدؤون في بث كراهيتكم لهم وتحاولون غزوهم وفتح بلادهم وتحويلهم إلى أهل ذمة وغالباً بعد التمكين ستفرضون على ولي العهد نفسه الجزية!!.”
انتهى كلامه.


إن ما يسميه خالد منتصر بالثقافة المتخلفة ليس إلا التزامًا بعمل النبي صلى الله عليه وسلم القائل في الحديث الصحيح (لا أصافح النساء) وبالتالي لا تصافحه النساء، وسواء كانت المصافحة محرمة أو جائزة عند أمن الفتنة، فتبقى في النهاية في نطاق التشريع الإسلامي، وليست ثقافة يصفها هذا الليبرالي المتشدد بالمتخلفة، وأجزم أنه لم يكن ليطلق هذا الوصف على أي ملة أخرى، فلم نره يهاجم حجاب الراهبات، ولم يهاجم بعض نساء اليهود اللاتي يغطين وجوههن وفق مذهبهن، ولم يعلق على منع القادة في الجيش الصهيوني المجندات من التوجه لغرف الأكل في القواعد وقت تواجد الجنود المتدينين الذين يصرون على جو من الحشمة والتحفظ.
الأمر واضح، الرجل ينفر من كل ما هو إسلامي، ولن يرضيه إلا إذا خرج الناس من دين الله أفواجا.
لكن لغة الاستدلال بالكتاب والسنة لن نخاطب بها الرجل وأمثاله، وإنما نتحدث إليهم بما تقتضيه ليبراليتهم.
أليست الليبرالية هي الحرية المطلقة في أن نطبق القوانين التي شرعناها نحن لأنفسنا. بحسب تعريف المفكر الفيلسوف جان جاك روسو؟
أو هي كما عرفها الفيلسوف هوبز بأنها: غياب العوائق الخارجية التي تحد من قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء.
أو كما عرفها د. سيار الجميل بقوله: مذهب فكري وسياسي ينادي بالحرية المطلقة في الميدان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي؟
أليس مبدؤهم (أنت حر ما لم تضر)؟
أليس منهجهم الحريات المطلقة؟
فهنا نتساءل: ما فعلته الفتاة المحجبة، أليس حرية شخصية يجب احترامها وفق مبادئ الليبرالية؟
عجبا لهم، إذا أشرنا إلى الزنا والشذوذ مستنكرين صرخوا في وجوهنا بأنها حرية شخصية، أفلا تتسع هذه الحرية الشخصية لأن تمارس هذه الفتاة وغيرها حقها في الالتزام بما تدين به لخالقها؟
لكن هكذا هم، يتنكرون للحريات المطلقة إذا تعلق الأمر بالمظاهر والشعائر الإسلامية، {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].
ليبراليو العرب ليست لديهم مشكلة مع الأنظمة الدكتاتورية كما يزعمون، بل يعملون تحت مظلتها ويجعلون من أنفسهم رؤوس حراب لتلك الأنظمة في مواجهة الإسلاميين المعارضين، فهم كما قال الدكتور عبد العزيز الطريفي فك الله أسره وفرج الله عنه: “انعكست العقلية الليبرالية المشرقية، فأصبحت تفرض على الأفراد والمجتمعات ما تريد بواسطة السلطة ولو بالاستبداد والعقاب، وهؤلاء أخذوا تمثال الليبرالية الغربي ونصبوه منكسا على رأسه في الشرق، فالليبرالية الغربية تفرض على السلطة ما يريده الأفراد وليس بالعكس”.
لقد أكل هذا الليبرالي المتطرف المتبجح بالحريات الشخصية صنم الليبرالية الذي يخر له ساجدا ليل نهار، كعادتهم إذا تعلق الأمر بالإسلام، لذا تؤكد لنا هذه الفضائح المتتالية له ولأمثاله أنه لا مجال للتوفيق بين الإسلام والليبرالية مهما حاولوا الدمج بينهما، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.