الثلاثاء، 30 يونيو 2020

ثورة جديدة... شدَّة جديدة!!

ثورة جديدة... شدَّة جديدة!!

 

د.محمد جلال القصاص

بكلماتٍ أخر: يستدعون كأداة لتمرير (الثورة) ويتم إقصاؤهم والتنكيل بهم بعد الانتهاء من التحولات السلطوية والمجتمعية، وقد كانوا عماد ثورة 1805 (الأزهر) ، وثورة 1919 (الأزهر)، ثم ثورة 1952 (الإخوان المسلمون) بعد أن تخلت الأمة عن واجبها في القيام بالدين وتحول الأمر إلى جماعة من الناس، ثم ثورة يناير (الإخوان والسلفيين)، والآن تم طحنهم وإرجاعهم

تفسير الحدث يُغير النظرةَ إليه، كليًا أو جزئيًا. فأنت تترجم ما تراه أو تسمع به، أو يترجم لك، بناءً على منظومة من العقائد والتصورات عند من يترجم. وعلى سبيل المثال: داعش كيف تراها أنت وكيف يراها غيرك؟؛ أحداث رابعة العدوية (الاعتصام والفض): كيف تراها أنت وكيف يراها غيرك؟!، سيد البشر رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كيف تراه وكيف يراه غيرك من الكافرين.. أتباع الشياطين؟. ولذا فإن الصواب أن تفتش عن الرؤية التي ترى بها الحدث أو الرؤية التي يقدم لك من خلالها الحدث، أو على الأقل تتحرك حول الحدث وتنظر إليه من أكثر من زاوية.. بأكثر من رؤية.

فكرة الثورات من أجل تغيير السلطة الحاكمة بدأت واستمرت مع الدولة القومية. وتقوم على تحريك الشعوب من أجل إزاحة سلطة والإتيان بسلطة جديدة، وفي كل مرة نخبةٌ ما هي التي تحرك الجماهير من أجل مصلحتها الخاصة، ويكون حصاد الحراك الجماهيري (الثورة) هو تحقيق مصالح النخبة الصاعدة. فبعد كل ثورة يتم تغيير طبقات المجتمع، تذهب نخبة وتأتي أخرى ولا يتغير حال الجماهير من حيث العموم.. يصعد منها جزء للنفوذ والسلطة ويهبط إليها جزء آخر ممن كانوا من ذوي النفوذ والسلطة ويبقى حالها على ما هو عليه إلا قليلًا، مع الأخذ في الاعتبار أن غالبية النخبة تحترف التكيف مع التغيرات، وإن سقط بعض أفرادها يستدير البعض الآخر ويعاود الالتحاق، فالمال والنفوذ لهما أهل وخلان يعرفون طريقهما جيدًا.

ماذا تفعل النخبة؟

تفسر المشهد للجماهير على أنه ظلم واقع عليها، وتربط بين زوال الظلم وزوال النخبة الحاكمة، وكأن السبب هو أشخاص من يحكموا لا المنظومة العقدية وما نجم عنها من مؤسسات. وتتحرك الجماهير في مشهد مؤقت ولحظي لمساندة النخبة الثائرة ذات الأهداف الخاصة؛ وبعد أن ينتهي المشهد وتحصل النخبة المحركة للجماهير على ما تريد من سلطة ونفوذ تقدم للجماهير تفسيرًا آخر يجعلها تقبل الواقع راضية أو راغمة..!!

ويهدأ الوضع وتمر الأيام. ثم تتكون نخبة من داخل السلطة في الغالب، وتموج بالمجتمع موجة جديدة وتستخدم الجماهير من أجل الحصول على السلطة والنفوذ من خلال (ثورة جديدة).

وحين ندقق في المشهد أكثر نجد أن الثورات لها وظيفة أخرى وهي أنها قد تستخدم أداة لغسل فترة زمنية؛ بمعنى: أن الثورة تجب ما قبلها، يذهب الذين تمت الثورة عليهم بما كسبوا دون أن ترد منهم الحقوق حتى وإن حوكموا، وإن قتل بعضهم. ثم تبدأ نخبة أخرى في الجمع من أقوات الناس ومدخراتهم ...!!

والثورة بهذا المعنى ضرورة من ضروريات تطوير مجتمع الدولة القومية، فهي تزيح قومًا وتأتي بآخرين. وإذا أخذنا في الاعتبار تبعية مجتمعات الجنوب (وهي التي يحدث فيها الثورات في العقود الحالية) لدول الشمال التي تتحكم في النظام الدولي؛ وإذا تدبرنا في  المشهد قبل كل ثورة وبعدها، فسنجد أن كل ثورة هي قفزة في اتجاه التبعية للنظام الغربي، بمعنى أن الثورات تطوير للمنظومة القيم وما انبثق عنها من مؤسسات في اتجاه التبعية للغرب، وتدبر حال مصر قبل ثورة 1805حيث كانت تحاول النهوض بأدوات النظام الإسلامي القائم على تمكين المجتمع من تسعة أعشار مناحي الحياة وبقيادة أهل الرأي والحل والعقد وحالها بعد الثورة وقد تحولت لدولة قومية؛ وتدبر حال مصر قبل ثورة عرابي وقد كانت تحاول النهوض والاستقلال بذاتها وحالها بعد الثورة وقد غرقت في مستنقع الاحتلال الغربي سياسيًا وعسكريًا وثقافيًا فتراجع الأزهر وتراجع التجديد الأدبي ودبت واشتدت المنظومة الغربية في كل المجالات. وبعد ثورة 1919 تعرضنا لشدَّة أخرى باتجاههم، فانتشرت الشيوعية والليبرالية حتى عرفت الفترة التي تلت هذه الثورة بالعصر الليبرالي، وجاءت ثورة يونيو 1952 لتقضي على بقايا المجتمع الإسلامي التعاوني وتدشن مرحلة تحول كلي في اتجاه النموذج الغربي، وتقضي على بقايا السياق الأممي (أمة إسلامية) لصالح سياق (دولة) وتتالت الخطوات لتنتهي بنا إلى حيث هم في كل شيء... والآن يمد لنا حبل كي نشد إليهم شدَّة جديدة، فما يحدث هو تطوير للمجتمعات في اتجاه الإلحاد أو العلمانية الغربية، وتستخدم الثورات أدوات لجذبة جديدة في اتجاههم.

أين الإسلاميون من كل هذا؟

يمتلك الإسلاميون كثرة عددية تصل إلى ثلثي المجتمع (نتائج الانتخابات مؤشر)؛ ويتعرضون للمظلومية، ولذا يتلقون خطاب النخبة (الثائرة) ويرحبون به، ويدعمونه؛ ولذا-أيضًا- يُنكِّل بهم من في السلطة كي لا يدعمون النخبة الجديدة الثائرة؛ وإن حدث التغيير يبدأ بهم الوافد الجديد (الذي أعانوه) خوفًا من أن ينازعوه السلطة أو يعاونوا من ينازعه، وإرضاءً للخارج الرافض لهم جملةً!!
بكلماتٍ أخر: يستدعون كأداة لتمرير (الثورة) ويتم إقصاؤهم والتنكيل بهم بعد الانتهاء من التحولات السلطوية والمجتمعية، وقد كانوا عماد ثورة 1805 (الأزهر) ، وثورة 1919 (الأزهر)، ثم ثورة 1952 (الإخوان المسلمون) بعد أن تخلت الأمة عن واجبها في القيام بالدين وتحول الأمر إلى جماعة من الناس، ثم ثورة يناير (الإخوان والسلفيين)، والآن تم طحنهم وإرجاعهم. وسيتم استدعاؤهم حين تقرر نخبة سلطوية ذات نفوذ تغيير المشهد.. أو حين يقرر النظام الدولي تطوير المشهد في اتجاه غربي مرة أخرى بـ (ثورة).

إن ما يطلق عليه الآن (ثورة) أداة لتطوير المجتمعات في اتجاه غربي، وهو ما يناقض تمامًا ما يسعى إليه الإسلاميون. ولذا فإن المشاركين في كل (ثورة) يتحدثون أولًا عن (شكل الدولة) وأنها لابد أن تكون (دولة مدنية) بمعنى علمانية دور الدين فيها غائب أو محدود. وفي الواقع المعاصر نموذج عملي، تحديدًا في المجتمعات التي تسبقنا بخطوة (ما يقال له الدولة المتوسطة في أمريكا الجنوبية مثلًا) ظلت تثور وتثور حتى استقرت في ركاب الغرب: دولة اقتصادية رأسمالية ديمقراطية تعتمد على الغرب في مواردها وأسواقها، بمعنى أدق جزء من آلية إدارة النظام الدولي حاليًا (الاعتماد المتبادل المعقد)، لا تستطيع التمرد عليه، بل تسير خلفه وهي تهتف بمحبته صدقًا أو نفاقًا. والمنطقة الإسلامية العربية يتم طحنها وغرس قيم الرأسمالية وأدواتها فيها، وتشد من حين لحين باتجاه الغرب من خلال (ثورة).

محمد جلال القصاص

2018-06-30
شوال1439


المؤسسة الدينية.. والذكرى السابعة لطليعة المذبحة المصرية

المؤسسة الدينية.. 
والذكرى السابعة لطليعة المذبحة المصرية

ساري عرابي


أبدى شيخ الأزهر تمايزا واضحا عن مجمل هياكل المؤسسة الدينية المصرية، وبكلمة أدقّ ظهر الرجل أكثر رصانة من رأسيّ الأوقاف والإفتاء في مصر، سواء في المواقف الدينية تجاه أطروحات تيارات الحداثة والتغريب، بما في ذلك بعض فذلكات رأس الدولة المصريّة، أو في الشخصية المعتدّة بذاتها إزاء الشخصية السياسية، وهو الأمر الذي أثار إعجاب حتّى مناوئي النظام المصري. 
بيد أنّه لم يكن لشيخ الأزهر أن يذهب أكثر من ذلك، فالمؤسسة الدينية داخلة في سلطان الدولة، ولا تُعبّر عن حالة علمائية مستقلّة، وفي أقصى ما يمكن بلوغه من إحسان الظنّ، فإنّ المواءمات السياسيّة، وصراعات مراكز النفوذ، وادعاءات المصلحة، تدفع رأس الأزهر لمواءمات مع النظام السياسيّ، من قبيل ما نشره الأزهر أخيرا من تهنئة للسيسي، بالذكرى السابعة لما يُدعى بـ"ثورة 30 يونيو"، وهي المقدّمة الشعبية المفتعلة مخابراتيّا للانقلاب على حاكم شرعيّ، وسفك دماء الآلاف، وإدخال البلد، فالمنطقة، في نفق مظلم من الطغيان والاستبداد واستباحة حرمات الناس، بل ودينهم!

والحال هذه، لا يمكن توقّع شيء آخر، طالما أنّه لا مؤسسة علميّة مستقلّة عن سلطان الدولة الحديثة. ومهما خرج للحيّز العامّ رجل من المؤسسة الدينية أفضل حالا من سابقيه ولاحقيه، فإنّه، وبالضرورة، موظّف دولة، بما يحصره في حدوده الوظيفية المفتقرة إلى الهوامش الكافية لفرض الشخصية العلمية السنّية المستقلّة، وما ينبغي أن تحقّقه من مقاصد شرعية ضمن ظروف العلاقة الملتبسة مع الدولة وأنظمتها السياسيّة المتقلّبة.

’’إشكالية أعمق في الوسط العلميّ السنّي، تفسّر جانبا مركزيّا من المعضلة، ولا سيما في مصر ذات الثقل في هذا الجانب، لما يمثّله الحضور الأزهريّ فيها، وهي المنافسة بين ثلاث قوى تشتغل في هذا الوسط، وهي الحركية الإسلامية بتياراتها، وخاصّة الإخوانية منها، والأشعرية المذهبية، والسلفية بتجلياتها’’
وإذا أمكن فهم ذلك، فإنّه لا يمكن تجاوزه قبل استحضار إشكالية أعمق في الوسط العلميّ السنّي، تفسّر جانبا مركزيّا من المعضلة، ولا سيما في مصر ذات الثقل في هذا الجانب، لما يمثّله الحضور الأزهريّ فيها، وهي المنافسة بين ثلاث قوى تشتغل في هذا الوسط، وهي الحركية الإسلامية بتياراتها، وخاصّة الإخوانية منها، والأشعرية المذهبية، والسلفية بتجلياتها المتعددة. ومن نافلة القول، إنّ الأزهر في الجملة يندرج في التيار الأشعري، ويفترض بهذا الاعتبار أنّ يكون مؤسسة علميّة صرفة، متعالية على الانشغالات السياسيّة التي تنشغل بها عادة الحركيّة الإسلامية.

وفي حين لا يخفى الصراع السلفي الأشعري، وجذوره وحيثياته، كما لا يخفى وجود تيار ينتسب للسلفيّة لا يجعل الأشعريّة غرضه الوحيد، بل والحركيين، ولا سيّما الإخوان، وهو ما يعرف بالجامية المدخلية، فضلا عن صراعات أكثر تقاطعا والتباسا من ذلك، فإنّ الأشعريّة في فورتها الحاصلة في الآونة الأخيرة تضمّ تجلّيات تجعل من الحركيّة، ولا سيما الإخوانية منها غرضا لها، بالإضافة لاشتغالها في نقد الوهابية السلفيّة والتيمية، ومحاولة إحياء الأنماط العلميّة التراثية.

وبالرغم من كلّ ما يمكن قوله من مديح لهذه الفورة، خاصّة وهي ضرورية لمواجهة الانفلات الديني على مستوى الفكر والفتوى، وما تمثّله من مأوى مع الانهيار السياسي الحاصل والفشل الجاري حتّى اللحظة في مشاريع الإسلاميين، والحاجة للاشتغال العلمي غير المسيّس، فإنّ هذه الفورة، في بعض تلك التجلّيات أخذت صورة المحازبة، على الضدّ من الحزبيّة الحركية، فصارت وجها حزبيّا آخر، ولكن من موقع مختلف.
’’هذه الفورة، في بعض تلك التجلّيات أخذت صورة المحازبة، على الضدّ من الحزبيّة الحركية، فصارت وجها حزبيّا آخر، ولكن من موقع مختلف’’
ولا شكّ في أنّه يمكن تفسير ذلك بعوامل متعدّدة، منها الاشتغال في ساحات مشتركة، كساحة الخطاب الديني، وعدم تفهّم التنوّع الجاري، بين الحركيّ الذي لا يكاد يستوعب اشتغالا علميّا لا تظهر ثمرته في الواقع السياسي أو الاجتماعي، وبين العلميّ الذي يلحظ تسييسا سافرا للعلم، يعيد توظيفه وتغييره، خاصّة مع تضخّم السياسي في الحركة الإسلامية على حساب العلميّ والشرعيّ. وهذا بالإضافة لاتهام أوساط في التيار الأشعري للحركة الإسلامية بأنّها كانت "حصان طروادة للوهابية" في العالم السنّي، وكذا الاضطراب الحاصل في السياسة الشرعية لدى الطرفين؛ الحركيين والمتمذهبين من خارجهم، وفي فهم التاريخ، كمطابقة بعضهم الدولة الحديثة مع نماذجنا السلطوية التاريخية، وسوء الفهم، كما سلف، لحيثيات ظهور كل طرف. فالحركية في أساسها، حتّى لو تخفّفت كثيرا من تلك الأسس، ظهرت ردّا على عمليات الاستعمار والتغريب في ظلّ ضعف المؤسسة الدينية، فحلّت مكانها في وقت ما، وانطبعت بإرادة التجميع والحشد لهذا الاعتبار.

تبلورت عن ذلك اتجاهات مختلفة في الوسط العلمي الأشعري المذهبي، وبعد استثناء من ينتسب للحركة الإسلامية منه، ومن يستغرق في الانشغال العلمي الصرف دون تعليق على قضايا المجال العامّ، تبقى اتجاهات تتبنّى خطابا متفاوتا في الموقف من الحركة الإسلامية، وعلى وجه الخصوص الإخوانية منها، من النقد المعقول والمطلوب، إلى العداء الكامل، وموالاة الدولة ضدّها. وفي الوسط تتشكّل تلك الحالة من المحازبة، كأيّ حالة حزبيّة تتوسّل العلم والخطاب الديني في القضايا السياسيّة.

تظهر هذه المحازبة بجلاء، في تعظيم بعض الاتجاهات داخل هذا التيار لشخصيات دينية مشكلة، ومتورّطة بعلاقات موالاة مفضوحة لأنظمة سياسية ذات طبيعة إجرامية وتدميرية، هذه الشخصيات لم تتورّط في خطاب دعم مفتوح لتلك الأنظمة فحسب، ولا بالتموّل منها فحسب، بل وبتناقضات دينية متلوّنة، هي عينها ما يعيبه الفاعلون في التيار الأشعري المذهبي على الإسلاميين الحركيين. ويمكن لو اتسع المقام؛ سردُ العديد من المخالفات لمعتمدات المذاهب الأربعة، في فتاوى أو مسلكيّات بعض تلك الشخصيات، وهذه القضية من أهم قضايا الانشغال المذهبي الأشعري المعاصر، أيْ ضبط الفتوى وفق المنظومة السنّية المتمثلة في المذاهب الأربعة.

’’تظهر هذه المحازبة بجلاء، في تعظيم بعض الاتجاهات داخل هذا التيار لشخصيات دينية مشكلة، ومتورّطة بعلاقات موالاة مفضوحة لأنظمة سياسية ذات طبيعة إجرامية وتدميرية’’
وبالعودة إلى موقف الأزهر الموصوف أعلاه، فإنّ هذه المحازبة ستتجمع حول مثل هذا الموقف كما هي العادة، والخطير في ذلك ضرب المصداقية الدينية، بما في ذلك الإحيائية المذهبية الجديدة، التي تروم إحياء علوم أهل السنة، ورفعها فوق مستوى الانشغال السياسي. فليس الحركيّون وحدهم الذين يسيّسون العلم، أو يتناقضون في خطابهم الديني، كما أنّ موالاة الظلمة، وهو أخطر، يسيء لمفهوم أهل السنة بحصره في قضايا عقدية ومطالب فقهية محدّدة بمعزل عن المقاصد الكلّيّة الكبرى التي أنزل الكتاب لأجلها:
"لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ".. 
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".. 
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ".

twitter.com/sariorabi

خلاف حلّاق وسعيد الفلسطيني .. رأيٌ آخر

خلاف حلّاق وسعيد الفلسطيني .. رأيٌ آخر

 مهنا الحبيل

2020-06-30 |
"يوجد فلسطينيون كثيرون ليسوا تحت الاحتلال اليوم، ولكنهم ليسوا في معزلٍ عن خطر التطهير العرقي المحتمل في المستقبل. يبدو الأمر مرتبطاً (في تنفيذ التطهير) بالأولويات الإسرائيلية، وليس بتراتبية للفلسطينيين أكبر حظاً، وآخرين أقل حظاً". إيلان بابيه.
كثف أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا، إيلان بابيه، الذي انتقل فيما بعد إلى المملكة المتحدة، مؤلفاته المناهضة للصهيونية. وركّزت كتبه على تاريخ إسرائيل الآخر، الذي يعكس حقيقة كونها مشروع إبادة، كما في كتاب "التطهير العرقي لفلسطين" وأخرى غيره، وكتاب مشترك مع نعومي شومسكي. وقد تصاعد لديه تبني الوصف التاريخي الطبيعي لصعود الحركة الصهيونية وتطبيقاتها على الأرض، وهو صاحب مقولة إن الصهيونية أشد خطراً من التشدّد الإسلامي، فاصطدم بعد ذلك بالمجتمع السياسي والأكاديمي الإسرائيلي، وطالبه رئيس جامعة حيفا بالاستقالة، انتقل بعدها إلى إنكلترا، بعد تلقيه تهديدات بالقتل.
مهمة تلك الإشارة من رئيس جامعة حيفا، بناء على دعوة إيلان إلى تصعيد المقاطعة ضد إسرائيل من الخارج، وخصوصا دعوته إلى مقاطعة الأنشطة الأكاديمية، لكون أن المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية شريك مباشر، في حصيلة الفكرة الصهيونية وتطبيقاتها، فردّ عليه رئيس الجامعة: عليك أن تستقيل من هذه الأكاديمية التي تدعو إلى مقاطعتها.
مدخل الأكاديمي وائل حلاق مهم للغاية في فهم عملية الاشتباك العميقة مع مواقف المؤسسات الأكاديمية، ليس في إسرائيل، وإنما في الغرب ذاته، عن تجربة إيلان بابيه الذي يشير إلى ما 
 هو أوسع من الجامعات الإسرائيلية، وهو علاقة إسرائيل المشروع ليس بالكولونيالية فقط، ولكن أيضا بالحداثة المادية المنتجة لها، وعلاقة هذه الأكاديمية بالضرورة، ليس للتعميم على كل شخصياتها، ولا كل أقسامها، وإنما في الجوهر الغالب لحياتها ومخرجاتها الأكاديمية. وتشير هذه الزاوية إلى معضلةٍ مهمة، لفهم موقع دراسات النقد، داخل الأكاديمية الغربية التي لم تُغيّر من جوهر الفكرة النطاقية الشمولية للغرب الحديث، ونظرية التمييز التي تحدّد خريطتها، وهو الشيء ذاته هنا، فدراسات النقد في الدولة الإسرائيلية لم تغير من أن هذه الأكاديمية تخدم قوة الدولة ونظرية الإبادة التي فُعّلت في أكثر من دورة.
هذا الاستنساخ واضح المعالم، ومنها أن الدستور الأميركي لم يصنف الأميركيين شعباً، وكذلك فعلت إسرائيل مع الفلسطينيين، فتحفّز إدوارد سعيد ووائل حلاق على ربط مراجعات النقد الفلسفية اليسارية، أو الأخلاقية، بقضية فلسطين، كنموذج حي فاعل، فالعالم يشهد، في كل يوم، مشهد صراع حي بين سكان الأرض الأصليين والمستوطنين الإسرائيليين. لا في المستوطنات فقط، ولكن في حركة تجريف الأراضي القديمة، وتصفية أي آثار طبيعية أو فنية أو دينية لها علاقة بسكان الأرض، فلنلاحظ هنا أن التهمة التي يتداولها الغرب، في توصيف الموقف في حاضر العالم الإسلامي وموقفه من "الآخر" كحالة تخلف، انتهت مزايدته إلى الدعم السياسي للدولة الدينية اليهودية، وإعلان إسرائيل على عقيدة دينية شوفينية عنصرية، وهو أمر ليس  
غريبا عن تسلسل الإبادة، الذي وثقه إيلان في رصد التهجير الممنهج، وإنما كان غائباً عن منصات الاستدلال، لنماذج التوحش ضد الأرض وإنسانها الأصلي، وتشريع استبداله بشعب مميز أفضل.
قلب الصورة مستمر بين من هو صاحب الأرض أو الحق في الثروة القومية والطبيعة والإحلال الجديد لنفوذ القوة القادمة من الشمال، فالمشروع الاحتلالي نموذج يُمثّل عقيدة "التقدّم" الحداثي، تحيط به جماعات متطرّفة تهدد وجوده، وهذه الجماعات هي الشعب الأصلي ذاته من أصحاب الأرض، فعرب الـ 48 ضمن خطة التطهير "للتقدّم".
ويرصد وائل حلاق الدراسات التي وثّقت أن إسرائيل من أبرز الدول المصدّرة للسلاح، في مناطق نزاع خطرة، حيث تحولت إلى أداة مباشرة لتفجير النزاعات وتمديدها، وأن روح التزاوج بين المؤسستين، الأكاديمية والعسكرية، تظهر جلياً في انتساب ذوي الرتب العسكرية، وتقديم محاضراتهم بالزي العسكري في الجامعات الإسرائيلية، وهو كذلك في جامعات أميركية، ولكن من دون بزة عسكرية أو مرتبة، ولكن الفكرة متحدة نحو نموذج الأكاديمي الغربي، مروج مبرّرات الإبادة.
فكرة الشعوب الدونية المقابلة لإسرائيل هي نفسها المؤصلة في جوهر مجتمع الشركات، والأكاديمية الغربية، وهي الجاذبية التي تستقطب المفكرين من الفلسفة الأخلاقية وغيرها، وتؤثر على عددٍ كبيرٍ منهم لصالح إدانة تل أبيب، فيشاركها سعيد وحلاق دعماً للحقيقة التاريخية، ففلسطين الوطن الأم لكليهما. ولكن حلاق يثابر في نقده سعيدا هنا، مشيراً إلى السطحية في نقده الذي يتجنب أصول تكوّن النطاق المركزي، والاكتفاء بنقد السلوك في حالات السياسات الأميركية، بدلاً من نقد التكوين الحداثي، وهذا يُطبق على الدولة الإسرائيلية أيضاً.
إذن هذا ليس خطأً في مضماره، لكن المشكلة التي قد يقع فيها حلاق أيضاً هي الخوف من أن  
تتداخل هذه الدلالات وكثافة عرضها، فتؤثر على تراتبية المعنى الأصلي، في توصيف عهد الحداثة المادية وتفكيكها، فتُحوّل فلسطين إلى الجوهر، وسياسة إسرائيل إلى العَرَض، وهذا خطأ، فالجوهر، حتى في المعنى الفلسفي الأشمل، يظل هو النطاق المركزي الذي صُنعت له نماذج عدة ولا تزال، ليس في فلسطين المحتلة، ولكن في كل عالم آخر. وهذا كله لا يُقلل من أهمية التدليل على النموذج الفلسطيني، ولكن ضمن سياق الدلائل العامة لمخرجات الحداثة، وهو ضرورة للمتلقي لسعيد وحلاق وغيرهما، ألا تتوه الفكرة الأصلية، ويعتبر المشروع الإسرائيلي سلوكا إجراميا، لا صناعة إبادية تناسلية.
وأمام ذلك، هناك مسؤولية كبرى على الباحثين العرب، في تحليل ظواهر الإبادة الأخرى، فلا يجوز طمرها، بل تدرس في الشرق دوافعها، وعلاقته بالمركز الغربي أو بالشرق ذاته، وحالة الاستقطاب الطائفي الذي حوّل التعايش بين الأديان والأعراق إلى صراع أقليات وغالبية، فكان المشهد السوري الذي نفذ نظامه نموذج إبادة استخدم هذه الأرضية، فكيف نفهم ذلك في كوارث الشرق، إنها مسؤولية تاريخية للفلسفة الأخلاقية.

الاثنين، 29 يونيو 2020

نيل الفراعنة.. حبل الوريد الذي تهدد إثيوبيا بقطعه

نيل الفراعنة.. حبل الوريد الذي تهدد إثيوبيا بقطعه
خاص-الوثائقية
"إذا نقصت مياه مصر من النيل قطرة واحدة فدماؤنا هي البديل، إن من يتصور أن مصر وشعب مصر يمكن أن ينشغل بتحدياته وما يواجهه بعد الثورة من مشاكل أو تحديات اقتصادية أو غيرها عن حماية حدودنا ومياهنا وأرضنا هو واهم. إننا لا تقر عيوننا ولا يرتاح لنا بال أبدا لو أن قطرة ماء واحدة مست. هو ليس ماء، بل وريد الحياة وشريانها"[1].
الحديث هنا للرئيس المصري الراحل محمد مرسي أمام تجمع جماهيري ضخم دعا إليه عام 2012 المئات من الشخصيات العامة ورموز الأحزاب السياسية وممثلين للأزهر الشريف والكنائس المصرية وخبراء المياه وأعضاء النقابات المهنية.
كان أول رئيس منتخب بطريقة ديمقراطية من طرف المصريين بعد ثورة يناير 2011 حريصا على أن يكون الرد على القرار الإثيوبي الأحادي لبناء سد النهضة بحجم المكانة والأهمية التي يعنيها النيل للمصريين، وسعى إلى جعل هذا التهديد فرصة في الوقت نفسه، لاستعادة اللحمة الوطنية الداخلية.
يتعلّق الأمر بشريان حياة مصر بحضارتها ودولتها ومجتمعها، ففي خريف العام 2012 تناقلت الصحف الدولية ما تضمنته إحدى تسريبات موقع "وكيليكس" الشهير من خطة مصرية سودانية محتملة، لتفجير سدّ النهضة الإثيوبية في حال إنشائه بدون اتفاق مسبق، فالنيل ليس مجرد مياه تتدفق، بل هو بالنسبة لمصر على وجه الخصوص، يعني الحياة والوجود، وبدونه لا غذاء ولا شعب ولا دولة في مصر، أو كما قال المؤرخ اليوناني "هيرودوت" (500 ق. م): "مصر هبة النيل"[2].


لغز المنبع.. رحلات الفراعنة إلى أعالي النيل
كانت مياه النيل مصدر توترات متكررة في العقود الماضية، وتعود آخر محاولات فتح هذا الملف إلى العام 1999، حين حاولت الدول المشكلة لحوض النيل إطلاق مفاوضات جماعية من أجل وضع قواعد قانونية جديدة لاقتسام مياه النهر، إلا أنها آلت إلى الفشل بسبب رفض كل من مصر والسودان المساس بحقوقهما التاريخية والوضع القائم في هذا المجال، وتعتبر مصر أكثر الحريصين على بقاء هذا الوضع، لكونها تختلف عن بقية دول حوض النيل بجغرافيتها الجافة الخالية من أي أنهار أخرى، والمفتقرة للأمطار، على عكس باقي دول الحوض[3].
لقد سعت مصر منذ فجر التاريخ إلى الحصول على أكبر حصة من مياه النيل، كما عملت جاهدة على ضبط واستثمار هذه المياه، وتسجل المصادر التاريخية أن الفراعنة قاموا في عهود مبكرة بحملات نحو أعالي نهر النيل من أجل استكشاف أسرار منابعه وتأمينها والتأكد من سلامة مسار تدفق مياه النهر إلى مصر[4].
ورثت مصر في العهد الإسلامي هذا الاهتمام الكبير بمياه النيل ومصادرها، فكان السلاطين يحرصون على استقصاء كل ما يتعلق بمجرى النيل وأحوال جنوب مصر والنوبة، وكان نهر النيل عنصرا محددا أساسيا للعلاقة مع الحبشة التي تسيطر على قسم هام من منابع النيل.
شريان الحياة.. سيادة منذ آلاف السنين على المحك
في بداية فبراير/شباط 2020، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، تقريرا مطولا عنونته بـ"مصر سيطرت على مدى آلاف السنين على النيل، لكن سد النهضة الإثيوبية يهدد هذه السيطرة"[5].
تستهل الصحيفة الأمريكية تقريرها بمشهد فلاح مصري يشتكي ضعف صبيب المياه وقلة المنتوج الفلاحي مقارنة بالوضع السابق، وهو ما قالت إنه قد يستفحل أكثر مع إنجاز سد النهضة الإثيوبي الواقع على بعد 2000 ميل إلى الجنوب في عمق الأراضي الإثيوبية.
ويتعلّق الأمر حسب "نيويورك تايمز"، بسد ضخم تناهز تكلفته 4 مليارات ونصف مليار دولار، وسيكون الأكبر في أفريقيا، بخزان بحجم مدينة لندن البريطانية، وهو ما حوّله إلى مصدر قلق في مصر وإثيوبيا، لما يثيره من المشاعر الوطنية والمخاوف لدى الشعبين[6].
يعيش قرابة 95% من المصريين على ضفاف نهر النيل أو في منطقة "الدلتا" التي ينتهي إليها في مصبه، ويوفر هذا النهر تقريبا كامل حاجيات مصر من المياه، وهو ما يفسّر مخاوف المصريين من لحظة شروع إثيوبيا في ملء الخزان الضخم لسد النهضة الذي يحتمل أن ينعكس سلبا على صبيب المياه في مصر.
حديث الصحيفة عن سيطرة مصر على مدى آلاف السنين على مياه النيل، تفسّره بكون الفراعنة كانوا يعشقون تماسيح هذا النهر، كما استعملوه وسيلة لنقل الحجارة الضخمة التي استعملوها في بناء أهراماتهم الشهيرة.

الحلم الإثيوبي.. شبح العطش يخيم على مصر
في تقرير لموقع قناة "سي إن إن" الأمريكية، قالت إن حوض النيل يمتد على 11 دولة إفريقية، لكن مصر التي تعتبر واحدة من أقدم حضارات العالم، سيطرت منذ آلاف السنين على حصة الأسد من مياه وخيرات هذا النهر الكبير، "وهو ما قد يكون بصدد التغيير حاليا" كما يقول التقرير في إشارة إلى مشروع السد الإثيوبي[7].
أهمية المنبع الإثيوبي لنهر النيل تكمن في كونه مهد النيل الأزرق الذي يوفّر لوحده قرابة 85% من إمدادات النيل المصري من المياه، والسد الإثيوبي الآخذ في التشييد، والواقع بالقرب من الحدود مع السودان، سيحوز القسم الأكبر من المياه، لتوليد قرابة 6 آلاف غيغا وات من الكهرباء. مشروع يكاد يمثل عتبة حتمية لخروج إثيوبيا من الفقر، من خلال توليد الطاقة وري الأراضي الفلاحية الخصبة.
لكن قيمة مياه النيل لا تقل أهمية عند المصريين، بل تفوق حجم الحلم الإثيوبي بالنهوض والخروج من الفقر، ففي تقرير منظمة الزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو"، فإن حصة المواطن المصري من المياه في سنة 2014 كانت في حدود 637 متر مربع، مقابل أكثر من 9500 في حصة المواطن الأمريكي في السنة نفسها، ومع استمرار التزايد الديمغرافي في مصر، واتجاهها نحو بلوغ مستوى 120 مليون نسمة في العام 2030، فإن حصة المواطن المصري من المياه ستنزل تحت عتبة الـ500 متر مكعب، أي أنه سيدخل دائرة الخطر[8].
وإذا كان وجود مصر يرتبط تاريخيا وحاضرا ومستقبلا بنهر النيل، فإن من سوء حظ المصريين أن هذين النبعين المغذيين لهذا النهر لا يوجدان داخل الأراضي المصرية، فما يعرف بالنيل الأبيض، ينبع من بحيرة فيكتوريا كبرى البحيرات الإفريقية، وتوجد في منطقة تتوسط بين تنزانيا وكينيا وأوغندا، أما النيل الأزرق وهو النبع الثاني للنهر، فيوجد ببحيرة "تانا" في المرتفعات الإثيوبية، ويلتقي النيلان في منطقة تقع قرب العاصمة السودانية الخرطوم، ومن هناك يشق طريقه نحو الشمال ليعبر الأراضي المصرية نحو البحر الأبيض المتوسط[9].

وتقول التوقعات العلمية إن مشروع السد الإثيوبي يهدد بتصحّر قسم كبير من الأراضي القابلة للزراعة في مصر، ويتحدثون تحديدا عن مساحة تتراوح بين مليونين وأربعة ملايين هكتار زراعي ستتحول إلى صحراء قاحلة، من أصل ما بين 8 إلى 10 ملايين هكتار المتوفرة حاليا بمصر، وهذا التصحّر يعني خسارة اقتصادية كبيرة لمصر، من حيث إنتاجها الغذائي وفرص العمل والمزيد من الهجرة نحو الحواضر[10].



ورقة الضغط السياسي.. صراع الفراعنة والحبشة
يضم تاريخ مصر وإثيوبيا مسارا طويلا من العلاقات والصراعات التي يدور جلّها حول أحد أمرين: الدين والنيل. وتعتبر أول دولة قائمة الأركان في بلاد الحبشة، هي تلك التي أسستها إمارة "أكسوم"، ويختلف تحديد تاريخ تأسيسها بين الفترة السابقة للميلاد والقرن الأول بعد الميلاد، لكن هذه المملكة التي تعرف باسم الحبشة آلت إلى الأفول في القرن الثامن للميلاد.
وقد تأسست العلاقات المصرية الإثيوبية بشكل فعلي مع اعتناق الملك الأكسومي "إيزانا" للمسيحية خلال القرن الرابع للميلاد، حيث أصبحت الكنيسة الإثيوبية تحت الوصاية المباشرة لنظيرتها المصرية منذ ذلك الحين وإلى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي[11].
بعد الفتح الإسلامي لمصر في العام 640 للميلاد، أصبحت إثيوبيا في وضعية دفاعية تجاه مصدر إلهامها الروحي السابق، فالكنيسة الأرثوذوكسية المصرية باتت خاضعة لدولة إسلامية، مما جعل الدولة الإثيوبية قليلة الثقة في مرجعها الروحي بالإسكندرية، وهو ما حوّل منابع النيل الأزرق الحبشية سلاحا طالما لوّح به ملوك إثيوبيا القدامى ضد مصر.
أول من كتب عن احتمال إقدام الحبشة على تغيير مسار نهر النيل لحرمان مصر منه كان العالم القبطي "جرجيس المكين بن العميد" الذي عاش في القرن الـ13 الميلادي، كما أصبحت فكرة تحويل مسار النيل الأزرق نحو البحر الأحمر، تلهم المفكرين والمنظرين الأوربيين في القرون اللاحقة، كسلاح فعال محتمل ضد مصر[12].
ظلت العلاقة بين مصر والحبشة تدور حول مياه النيل، فقد كانت الحبشة تقدر من جانبها أهمية هذا الإشراف الذي يتعلق بمصالح حيوية بالنسبة لمصر، وكانت تتخذ هذا الإشراف على منابع النيل في أحيان كثيرة وسيلة للضغط السياسي، وتتذرع به لتحقيق بعض مصالحها ومطالبها المعلقة على إرادة مصر.

أما مصر فكانت تستخدم سلطاتها الروحية لضمان مصالحها في مياه النيل، حيث تسيطر على بيت المقدس وما به من أماكنة مقدسة في النصرانية، وبالتالي تسيطر على منبع روحاني للملايين من المسيحيين في الحبشة، إلى جانب احتضانها مركز البطريركية المرقسية التي تتبعها الحبشة من الوجهة الدينية[13].


رسالة النجاشي.. تهديد صريح بتحويل مجرى النيل
في مراحل الاضطراب او الاضطهاد، وحين يصيب المصالح النصرانية أو الرعايا النصارى شيء من الظلم أو الغبن، كان ملوك الحبشة يسعون لدى سلاطين مصر لرفع هذا الاضطهاد، أو لنيل بعض المنح كأن تعاد بعض الكنائس التي هدمت أو يطلق سراح المعتقلين أو غير ذلك من المطالب. وكان ملوك الحبشة يجدون دائما في التلميح إلى ماء النيل وإلى منابعه الواقعة تحت إشرافهم أداة لتحقيق مطالبهم، إلى جانب سيطرتهم على مصائر كثير من الرعايا المسلمين في بعض الولايات الحبشية كعامل آخر من عوامل الضغط، يعادل سيطرة السلاطين المصريين على أرواح الرعايا النصارى.
ومن أهم ما تحتفظ به المصادر التاريخي في هذا الصدد، تلك الرسالة التي بعثها نجاشي الحبشة "زرء يعقوب" في منتصف القرن 15 للميلاد إلى السلطان الظاهر جقمق في مصر، ويهدده فيها بمنع مياه النيل عن مصر.
وتقول هذه الرسالة:
"… وليس يخفي عليكم ولا على سلطانكم أن بحر النيل ينجرُّ إليكم من بلادنا، ولنا الاستطاعة على أن على أن نمنع الزيادة التي تروي بها بلادكم عن المشي إليكم، لأن لنا بلادا نفتح لها أماكن فوقانية يتصرف فيها إلى أماكن أُخر قبل أن يجيء إليكم، ولا يمنعنا عن ذلك إلا تقوى الله تعالى والمشقة على عباد الله"[14].
كان سياق هذه الرسالة وجود توتر بين النجاشي والسلطان المصري، بعد محاولة الحبشة التمرد على السلطة الروحية لمصر، وربط الكنيسة المحلية مباشرة بروما، مع ما يعنيه ذلك من تحالف مع القوى الأوروبية، وهو ما يؤكد أهمية ورقة نهر النيل ومياهه في العلاقات التاريخية بين مصر والحبشة.
سد النهضة حاجز في طريق الماء إلى مصر.. فهل تبقى مصر صامتة؟


زحف مصري إلى منابع النيل.. تهديد مصالح بريطانيا
استمر إدراك مصر لارتباط وجودها بنهر النيل في العصر الحديث، وتخلت تدريجيا عن التفسيرات الأسطورية لقوة هذا النهر بمحاولة الاحتفاظ بالسيطرة على منابع مياهه، وذلك من خلال بسط السيادة المباشرة على مناطق واسعة من السودان والحبشة، وزاوجت مصر في القرنين الماضيين بين الحملات العسكرية والرحلات الاستكشافية العلمية التي وصلت إلى المنابع الأصلية للنيل في قلب إفريقيا[15].
فقد كانت السودان حلما يراود محمد علي، وذلك لتحقيق ثلاثة أهداف، أولها القضاء على ما تبقى من المماليك الذين هربوا إلى بلاد النوبة، وثانيا كي يبحث عن الذهب والثروات، وثالثا كي يكتشف منابع نهر النيل ويبدأ في السيطرة عليها[16].
تعتبر حملة محمد علي على السودان في بداية القرن الـ19 أشهر الحملات المصرية نحو عمق نهر النيل، حيث شهدت تلك الحملة وصول الجيش المصري إلى ملتقى النهرين الأبيض والأزرق، وقد شهد وقتها تأسيس مدينة الخرطوم، ثم واصل الجيش المصري -بقيادة إسماعيل نجل محمد علي- زحفه نحو منابع النيل الأزرق الواقعة في إثيوبيا حاليا، حيث استولى على سنار، وهي مدينة في وسط السودان[17].
وأثناء وجود الجيش في سنار انتشر المرض بين الجنود، فاضطر إسماعيل إلى طلب المدد من أبيه، فأرسل إليه إمدادات بقيادة إبراهيم باشا، واتفق الأخوان على تقسيم العمل بينهما، فكانت مهمة إسماعيل الزحف بجيشه على النيل الأزرق، بينما اتجه إبراهيم لكشف منابع النيل الأبيض.
في منتصف العام 1822 أرسل محمد على جيشا ثالثا بقيادة صهره "محمد بك الدفتردار" لغزو منطقة "كردفان" السودانية، وانتقم من ملك شندي الذي كان قد حرق إسماعيل وبعض صحبه أثناء عودتهم الى مصر. وأخذت الفتوحات المصرية تمتد في عمق السودان، مما أثار مخاوف بريطانيا من وصولها إلى الحبشة، فسارع قنصل إنجلترا العام في مصر لمقابلة محمد علي، وأفضى إليه بأن إنجلترا لا ترحب بعمل كهذا، فقال له محمد علي إن الحبشة وإن كانت مملوءة ذهبا ومجوهرات وكان فتحها أمرا محققا، فإنه يؤثر العدول عن ذلك حتى لا تسوء علاقته ببريطانيا[18].
حروب تاريخية دارت بين مصر وإثيوبيا كان محورها على الدوام نهر النيل

احتلال إثيوبيا.. هزيمة الجيش المصري
بعد حملة محمد علي تعتبر حملة الخديوي إسماعيل على الحبشة في سبعينيات القرن الـ19 الأشهر من بين المواجهات المصرية الإثيوبية في العصر الحديث، وتسبب في هذه الحرب خلاف بين الخديوي إسماعيل والنجاشي "تيودروس"، حول منطقة "سنهيت" السودانية، فقد كان الخديوي إسماعيل ينوي مد خط سككي يربط السودان بالبحر الأحمر ويمرّ بهده المنطقة التي اعتبرها النجاشي تابعة لإثيوبيا[19].
في العام 1867 انفجر الخلاف من جديد، لكن هذه المرة بين الحبشة والإنجليز، حيث اعتقل النجاشي "تيودروس" قنصل إنجلترا وبعض التجار الإنجليز، وعندما اشتد الخلاف أرسل الخديوي إسماعيل إلى النجاشي يطلب إليه حسم النزاع وإطلاق سراح المعتقلين، وحذره من عاقبة إصراره على اعتقالهم، وبأنه في حالة نشوب حرب بين الإنجليز وبينه فإنه لن يمنع الإنجليز من اجتياز الأراضي المصرية لمهاجمته.
أصر النجاشي على الرفض، فأرسلت إنجلترا حملة عسكرية بقيادة اللورد "نابييه"، وأمر الخديوي عبد القادر باشا الطوبجي بمعاونة الجيش الإنجليزي في نزوله إلى البر، وبأن يكون الأسطول المصري تحت أمره، وقد احتل الإنجليز مدينة مجدلا شمال أديس أبابا، وانتهت الحرب بفوزهم وقتل النجاشي "تيودروس"، وعاد الإنجليز إلى بلادهم، وآل بعد ذلك عرش الحبشة إلى الملك "يوحنا"[20].
حاول الخديوي إسماعيل بعد ذلك مد نفوذه جنوبا داخل الأراضي الإثيوبية، وعينه على منابع النيل الأزرق، وخصّص لذلك حملات عسكرية متعددة، آخرها تلك التي خاضت معركة كبيرة في قورع يوم 7 مارس/آذار سنة 1876، وانتهت بهزيمة الجيش المصري، وأُسر من المصريين نحو 250، وكان ضمن الأسرى المصريين محمد رفعت بك رئيس القلم التركي بديوان الجهادية، فسعى في عقد الصلح مع الملك يوحنا، على أن ينسحب الجنود المصريون من أرض الحبشة ويرد الملك يوحنا الأسرى إلى مصر، ويفتح طريق التجارة بين مصوع والحبشة، وقد نجحت مساعيه وعقد الصلح، وبقيت منطقة "سنهيت" من أملاك مصر[21].
في عهد الخديوي إسماعيل هاجمت القوات المصرية إثيوبيا في محاولة للسيطرة على منبع نهر النيل

بقايا الاستعمار.. دعم بريطاني للحقوق المصرية
زاد الحضور الأوروبي المباشر في المنطقة من تعقيد الخلافات حول مياه النيل، فقد خضعت مصر للسيطرة البريطانية بدءا من العام 1882، بينما انتصرت إثيوبيا على إيطاليا التي حاولت استعمارها، وباتت مع نهاية القرن الـ19 البلد الإفريقي الوحيد الذي تصدى للحملة الاستعمارية الأوروبية وهزمها، لكن الحضور الاستعماري الأوروبي في المنطقة وما نتج عنه من ظهور دول لم تكن قائمة من قبل مثل إرتريا ورواندا وأوغندا، أنتج تنافسا إقليميا جديدا حول مصادر المياه.
وبما أن مصر كانت مفتاح السيطرة البريطانية على المنطقة، ومنصة اتصالها الأولى مع مستعمراتها الهندية، ونظرا لما يشكله النيل من أهمية خاصة بالنسبة لمصر، فقد دعمت بريطانيا الحقوق المصرية في هذا النهر.
وبعد مناوشات عسكرية بين القوات البريطانية ونظيرتها الفرنسية حول السيطرة على منابع النيل، انتهى الأمر باتفاق القوتين الأوروبيتين على تولي فرنسا منطقة نهر الكونغو، مقابل تولي بريطانيا منطقة حوض النيل، وكشف هذا الصراع الأوروبي عن جهل كبير بحقيقة حوض النيل، كيث كان الاعتقاد لا يزال سائدا أن أكثر ماء النيل يأتي من بحيرة فكتوريا[22].
معاهدات التوزيع.. فيتو مصر على حوض النيل
جرت أولى المفاوضات الدولية والإقليمية حول مياه النيل في المرحلة الاستعمارية، حيث كانت بريطانيا تحرص على تأمين أقصى ما يمكن من الواردات المائية لمنطقة دلتا النيل المصرية، وحصلت بريطانيا عام 1902 على التزام من الإمبراطور الإثيوبي "منليك الثاني" باستشارتها قبل القيام ببناء أي منشآت فوق مياه النيل الأزرق وبحيرة "تانا" التي ينبع منها.
وبعد استقلالها سنة 1922، دخلت مصر في مفاوضات مع المستعمرات البريطانية حول حصتها من مياه النيل، وقد توجت بمعاهدة 1929 التي نصت على حصة لمصر من المياه، مع حقها في ممارسة الفيتو ضد أي منشآت تقيمها دول الحوض الأخرى فوق مياهه، وبقيت إثيوبيا خارج هذه الاتفاقية لكون الجهل كان مستمرا بحجم المياه التي تأتي من النيل الأزرق، والتي تشكل في الواقع غالبية الصبيب[23].
وجاءت اتفاقية 1959 بين مصر والسودان التي حددت حصة كل منهما من مياه النهر، بينما لم تكن أغلب الدول الأخرى لحوض النيل قد حصلت على استقلالها، لكن جاء الاحتجاج الأثيوبي من خلال فتح الإمبراطور "هايلي سيلاسي" لمفاوضات فك الارتباط مع الكنيسة المصرية التي أنهت علاقات دامت أكثر من 1600 سنة. انفصال روحي ردّ عليه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بتشجيع المسلمين في كل من إرتيريا والصومال على السعي للحصول على استقلالهم عن إثيوبيا[24].
مشكلة هذه الاتفاقيات أنها لا تكفل أي حقوق واضحة لإثيوبيا الدولة التي ينبع منها النيل الأزرق، ولا لأي من الدول الثماني الأخرى التي يعبرها النيل الأبيض، ويفسّر الأكاديميون هذا الامتياز الذي حصلت عليه مصر، بما كانت تمثله من أهمية كبرى بالنسبة لبريطانيا، خاصة في مجال زراعة القطن[25].
توتر ما بعد الاستقلال.. محاولة اغتيال مبارك
يعود أول توتّر صريح ومباشر بين مصر وإثيوبيا المستقلتين حول مياه النيل إلى نهاية السبعينيات في عهد الرئيس المصري أنور السادات، حين قرر السادات مد مياه النيل لري 35 ألف فدان في سيناء، لتعتبر إثيوبيا وقتها أن هذا المشروع يهدد مصالحها، وتقدمت بشكوى إلى منظمة الوحدة الأفريقية تتهم فيها مصر بإساءة استخدام مياه النيل.
تصاعد التوتر ليصل درجة تهديد الرئيس الإثيوبي "منجستو" بتحويل مجرى نهر النيل، ومن جانبه وجه الرئيس السادات خطابا حاد اللهجة إلى إثيوبيا، وأعلن أن مياه النيل خط أحمر مرتبط بالأمن القومي المصري[26].
أما عصر الرئيس السابق محمد حسنى مبارك، فشهد مرحلة جديدة من العلاقات، خفت فيها حدة توتر الخطاب السياسي بين البلدين، وحلت محلها انفراجة في العلاقات المصرية الإثيوبية في صيغة التعاون والتفاهم في مختلف المجالات، ولم يتوقف هذا المسار إلا بعد محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا عام 1995.
وبعد أكثر من 15 عاما من الجمود، شهدت العلاقات المصرية الإثيوبية انعطافة جديدة بعد ثورة يناير 2011 التي أطاحت بنظام مبارك، فقد انتهزت إثيوبيا الوضع لتعلن شروعها في بناء سد النهضة، والشروع في التصديق على الاتفاقية الإطارية حول مياه النيل التي وقعتها خمس دول إفريقية، وهي إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وكينيا، وتعارضها مصر والسودان، لكونها تنص على التراجع عن الحصص المحددة في المعاهدات السابقة لدولتي المصب، أي 55,5 مليار متر مكعب لمصر، و18,5 مليار متر مكعب للسودان، وهو ما يعتبر إيذانا بإشعال حرب لم تبد مصر في عهد عبد الفتاح السيسي ما يكفي من العزم والتصميم لربح رهانها. فهل تخسر مصر ماء نيلها التاريخي؟

المصادر
[1]https://www.youtube.com/watch?v=ewiDfDzKot0
[2]http://origins.osu.edu/article/who-owns-nile-egypt-sudan-and-ethiopia-s-history-changing-dam
[3]https://edition.cnn.com/2018/10/19/africa/ethiopia-new-dam-threatens-egypts-water/index.html
[4]shorturl.at/lpT48
[5]https://www.nytimes.com/interactive/2020/02/09/world/africa/nile-river-dam.html
[6]https://www.nytimes.com/interactive/2020/02/09/world/africa/nile-river-dam.html
[7]https://edition.cnn.com/2018/10/19/africa/ethiopia-new-dam-threatens-egypts-water/index.html
[8]https://edition.cnn.com/2018/10/19/africa/ethiopia-new-dam-threatens-egypts-water/index.html
[9]https://edition.cnn.com/2018/10/19/africa/ethiopia-new-dam-threatens-egypts-water/index.html
[10]https://en.eipss-eg.org/ethiopian-renaissance-dam-its-implications-on-egypt/
[11]http://origins.osu.edu/article/who-owns-nile-egypt-sudan-and-ethiopia-s-history-changing-dam
[12]http://origins.osu.edu/article/who-owns-nile-egypt-sudan-and-ethiopia-s-history-changing-dam
[13]shorturl.at/gquP7
[14]أبو العباس أحمد القلقشندي، صبح الأعشى في كتابة الإنشا، در الكتب المصرية، 1922
[15]shorturl.at/nEKTX
[16]shorturl.at/anAT0
[17]http://www.faroukmisr.net/mohamed_alibasha.htm
[18]http://www.faroukmisr.net/mohamed_alibasha.htm
[19]عبد الله حسين، " السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية"، الجزء الأول
[20]https://www.hindawi.org/books/35837080/20/
[21]https://www.hindawi.org/books/35837080/20/
[22]http://origins.osu.edu/article/who-owns-nile-egypt-sudan-and-ethiopia-s-history-changing-dam
[23]http://origins.osu.edu/article/who-owns-nile-egypt-sudan-and-ethiopia-s-history-changing-dam
[24]http://origins.osu.edu/article/who-owns-nile-egypt-sudan-and-ethiopia-s-history-changing-dam
[25]https://edition.cnn.com/2018/10/19/africa/ethiopia-new-dam-threatens-egypts-water/index.html
[26]http://gate.ahram.org.eg/News/1781082.aspx

أرشيفهم وتاريخناــ ملف سقوط الأندلس

أرشيفهم وتاريخناــ ملف سقوط الأندلس


الجزء (1)

ملف سقوط الأندلس ج1

يتناول البرنامج قصة سقوط الأندلس، تاريخ طويل مملوء بأخبار الانتصارات والهزائم، تاريخ تحكيه الفرحة والبسمة وترويه الحسرة والدمعة. لماذا سقطت الأندلس؟
– مخطوط فتح الأندلس
– الأرشيف العام لسيما نكاس

– أرشيف مكتبة ميدنيا

– مخطوطة تطوان

الجزء (2)

ملف سقوط الأندلس ج

يستكمل البرنامج قصة سقوط الأندلس، بانطلاق حروب الاسترداد توالى سقوط المعاقل الإسلامية بالأندلس، واستطاع ألفونسو السادس احتلال طليطلة وإفشال الهجمات التي شنت لاسترجاعها.

الجزء (3)

ملف سقوط الأندلس ج3

يستكمل البرنامج قصة سقوط الأندلس، فبعد دخول الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا غرناطة، تم التراجع عن بنود معاهدة التسليم.

الجزء (4)

ملف سقوط الأندلس ج4

يستكمل البرنامج قصة سقوط الأندلس، فمنذ الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية أقام المسلمون هناك ثمانية قرون، بنوا خلالها مجداً وحضارة أضاءت الطريق للنهضة الأوروبية فيما بعد.

(كيف نقرأ؟) لا (ماذا نقرأ؟)

(كيف نقرأ؟) لا (ماذا نقرأ؟)

علي فريد

7إبريل 2018

اللغة كالحب.. إن ظللتَ تقرأ عن قواعدها ظللتَ كالواقف على شاطئ بحرٍ من نور ينظر إلى السابحين في نعمائه...

علومُ اللغة ليست أكثر من (علومِ) لغة؛ قد تمنحك المعرفة بقواعدها، ولكنها لا تمنحك -غالبًا- الذوق والتذوق قراءةً وكتابةً!!
فقه اللغة، والصرف، والنحو، والبلاغة، والعروض، والإملاء، ليست -غالبًا- أكثر من خُلاصات مقننة وقوانين مستخلصة من كلام العرب وطرائقهم في التعبير.. وما نشأت هذه العلوم إلا بعد انحراف اللسان واعتلال الذائقة بدخول أحبابنا الأعاجم في الإسلام واختلاط العرب بهم.
اكتفاؤك بدرس الخلاصات وتَعلّم القوانين لن يعطيك أكثرَ من خلاصات وقوانين.. سيحفظك من الخطأ واللحن غالبًا، وربما يعطيكَ حدًا أدنى من الذوق والتذوق (وأشك في ذلك مع طرائق الدرس اللغوية الحالية)!!
مع القواعد والخلاصات ستظل تقرأ (حول) اللغة وليس (في) اللغة.. فرقٌ كبيرٌ بين القراءة عن الحب والوقوع في الحب!!
حين تقرأ (عن) الحب ستشعر بشيءٍ من الشجن الجميل.. حين تقع (في) الحب لن تشعر بشيء أبدًا.. إنما هي لفحة هجير أو نفحة نسيم، ثم سلام الله على روحك أبد الدهر!!!
اللغة كالحب.. إن ظللتَ تقرأ عن قواعدها ظللتَ كالواقف على شاطئ بحرٍ من نور ينظر إلى السابحين في نعمائه كما ينظر القارئ عن الحب إلى المحبين المتقلبين في نعماء عذاباته وعذابات نعمائه.. هو خَلِيٌ شَجيٌ؛ يرى ما يتمنى من نعيم، ولا يكاد يُدرك نعيمَ ما تمنى.. وحسبك بهذا ألمًا وحسرة!!
قَعْ في الحب لتنعم بعذاباته..
وقَعْ في اللغة لتتعذب بنعيمها!!

وقد مضى عليَّ زمنٌ يُكثر الأصدقاءُ فيه من سؤالي عن: ماذا نقرأ لِندركَ اللغة؟ فأجيبهم: بل قولوا: كيف نقرأ لنقع في اللغة؟!
السؤال عن الكيف أولى؛ لأن (كيف) تخطيط لـ(ماذا)..
والوقوع في اللغة أصوب؛ لأن اللغة لا يُحيط بها- كما قيل- إلا مَلكٌ مقرب أو نبيٌ مُرسل!!
حسبك أن تقع ثم احتمل النعيم إن استطعت!!
عَلَّمنِي أشياخي.. وها أنا أنقل لك ما تعلمتُه.. قالوا:

أولًا:
ابدأ قراءتك بجزء من القرآن الكريم.. وكلما زدت فيه زادت البركة في وقتك..
ولا تظنن أن اكتفاءك بنصفِ جزءٍ مثلًا قد يمنحكَ بعضَ وقتٍ لتدركَ فيه شيئًا آخر تحرص عليه.. كلا .. فما تظنه نقصانَ زمنٍ في جزء؛ سيعوضه اللهُ لك بركةَ وقت، وكمالَ فَهمٍ، وتمامَ علم.

ثانيًا:
اقرأ شيئًا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. (ثلاثة أحاديث) بحدٍ أدنى.. ولا تزد على (الخمسة)..
ثم اقرأ شرحها ومعانيها وفقهها وأحكامها وما يُستفاد منها..

ولا بأس أن تبدأ بكتاب: رياض الصالحين.. والخيار لك في المدونات الكبرى كالبخاري ومسلم.. وغيرهما من كتب الصحاح.

ثالثًا:
اقرأ ما تيسر من شعر العرب لتعرف طرائقهم في المنظوم وتفننهم فيه، وتَطَّلِعَ على معانيهم التي تجعل الحليمَ حيرانًا.. وأمامك دواوين لا تكاد تحصى لشعراء العربية..

وإذا أردتَ نصيحتي فابدأ بالمدونات الكبرى التي جمعت شعر عددٍ من الشعراء، ولا تبدأ بديوان شاعر بعينه إلا إن أحببتَ ذلك.. فإن قراءتك لهذه المجاميع ستعطيك تصورًا عامًا عن الشاعر قبل أن تلج بيته وتنزل ساحته.. كما ستُولِّدُ في ذهنك وروحك وعقلك حس المقارنة بين الشعراء ومعرفة طرائقهم في التعبير حتى ليكاد الشاعر يتجسد أمامك شخصًا من لحم ودم في حروف وكلمات..
وليتك تبدأ بمختارات الأدباء والشعراء فإن هؤلاء يعرفون مداخل الكلام ومخارجه، وهم كالصيارفة يُحسنون معرفة الصحيح من الزائف؛ فاختياراتهم- غالبًا- أكثر فائدة لك من أن تُلقي بنفسك في لجج شاعر بعينه قد لا تعرف مواطن قوته ومواطن ضعفه..

وهاك بعض المدونات والمختارات: (المفضليات)، (الأصمعيات)، (جمهرة أشعار العرب)، (ديوان الهذليين)، (الحماسة)، ( الحماسة البصرية)، (مختارات ابن الشجري)..
وما شئت بعدها من مختارات اختارها أدباء وشعراء قدماء، أو اختارها أدباء وشعراء محدثون لشعراء قدماء.. مثل: مختارات البارودي..، أو الحماسة الصغرى لعبد الله الطيب..
ثم ما شئت بعدها من دواوين شعراء الجاهلية وصدر الإسلام والدولة الأموية ثم الدولة العباسية.. هكذا على التتابع..
ولا تجعل للشعراء المحدثين حظًا من قراءتك في ابتداء أمرك.. فإن استحكم القديم الأصيل في روحك فألقِ بنفسك حيث شئت.

رابعًا:
اقرأ شيئًا من خُطب العرب ورسائلهم، ومناظراتهم في أسواقهم وحروبهم ومجامعهم، ووصاياهم لأبنائهم وإخوانهم؛ لتعرف كيف كانوا يتأنقون في نثرهم كما كانوا يتأنقون في شعرهم؛ فإن نثر العرب لا يقل عن شعرها جمالًا وألقًا وحكمةً.. وقد جمع الأستاذ/ أحمد زكي صفوت، شيئًا كثيرًا من خطب العرب ومناظراتهم ووصاياهم ومفاخراتهم في كتابه (جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)، وجعله في ثلاثة أجزاء.. كما جمع رسائلهم في كتابه (جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة)، وجعله في أربعة أجزاء.. وفيهما كفاية في هذا الباب إن شاء الله.

خامسًا:
اختر كتابًا من كتب المدونات الجامعة في الأدب واللغة واقرأ ما تيسر لك منها، ولا تقفز من كتاب إلى كتاب فإنك إن قفزت ضيعت الأول ولم تُدرك الثاني، أما الثالث فَسَتَكُفُّ به عن القراءة لشعورك بالتيه بينها.. فالتزم كتابًا واحدًا في خريطتك هذه؛ فإن أنهيته فابدأ بالثاني.. وهكذا دواليك..
ومن هذه الكتب: البيان والتبيين للجاحظ، أدب الكاتب لابن قتيبة، الأمالي لأبي علي القالي، الأمالي للشريف المرتضى، العقد الفريد لابن عبد ربه، الكامل للمبرد، زهر الآداب للحصري... وكثيرٌ غيرها يكاد يستعصي على الحصر..
وليس الغرض هنا الحصر، بل الإشارة.. وإلا فإن كل فن من فنون العربية فيه من الكتب ما يستعصي على الحصر.. والغرض استنبات الذائقة بعد موات أو غرسها إن لم تكن..

ثم احذر كل الحذر -حين تقرأ هذه المدونات- مِنْ أنْ تظن أن كلَّ ما فيها صحيحٌ مُسلَّمٌ بصحته.. فهي -في غالبها- ليست كتبَ أسانيد ولا روايات مسانيد يتوخى فيها صاحبُها الصوابَ والصحة؛ بل اللغةَ والأدبَ والحِكَم والأخبار والمواعظ والمتعة.. وهذا ضَربٌ دَخَلَهُ كثيرٌ من الانتحال والكذب والتوسع في الرواية على عادة القُصَّاص في المساجد والمنتديات والمقاهي.. فلا تطيرنَّ بما تقرأ فيها كل مطار؛ فتستدل بواقعة من وقائعها أو خبر من أخبارها على صحة رأيٍ أو بطلانه إلا إن ثبتت في غيرها من كتب الرواية المسندة.. واعلم أن غرضك اللغة وتذوقها؛ فإن حصل الغرضُ بالصحيح المُسند فهو خيرٌ وبركة، وإن اختلط بعض الصحيح ببعض الزائف أدركتَ غرضك وحفظت عقلك من الزيف.. وفي بعض هذه الكتب ما ينافي الدين والخُلق وما تعارف عليه الناس من حياء وتذمم وتأثم.. والناس مذاهبُ شتى، والبشر على ما هُم مُذ كانوا.. فيهم الصالح التقي والفاسد الغَوِيّ .. فتخير لنفسك ما يُصلحها وجَنِّبها ما يُفسدها.. ثم لا بأس عليك أن تقرأ الكتاب الذي تُحقق به غرضَكَ ولو كان فيه (بعض) سوء إن رأيتَ في نفسك حصانة وتحصينًا، ولا توغل في ذلك فتصير كطالبِ سوءٍ يُعلل نفسه بتحقيق الغرض.. فإن السوء حلوٌ طعمُه مُرةٌ عاقبته!!

ثم أما بعد..
فلا يهولنك ما ترى.. ولا تقولن لنفسك كيف أقرأ كل هذا.. ومن أين آتي بالوقت لكل هذا.. فوالله إن هذا لن يأخذ من وقتك أكثر من ساعتين.. وربما أقل.. إن جزءًا واحدًا من القرآن الكريم.. وثلاثة أحاديث نبوية شريفة.. ومقطوعة أو مقطوعتين من شعر العرب.. وخطبة أو خطبتين من خطبهم ورسائلهم.. وصفحة أو صفحتين من كتب المدونات الأدبية واللغوية.. لن تأخذ منك أكثر من ساعة أو تزيد قليلًا.. ألا تستطيع أن تحفظ ذائقتك بساعة من الزمن تُضيع ضِعفَها بل أضعافها فيما لا يفيد!!

ولا تستبطئن الثمرة.. فإني أعرف إخوانًا بدؤوا بهذه الطريقة منذ عامٍ فأتموا بهذه الساعة: البيان والتبيين، والكامل، والحماسة، وخطب العرب بأجزائه الثلاثة.. وهم لا ينفقون من وقتهم أكثر من ساعة.. وبعضهم له كتاب يسميه (كتاب السرير) يختاره مما خف على النفس والروح كقصص العرب أو الأغاني للأصفهاني.. يضعه في غرفة نومه بجانب سريره، فإذا دخل غرفته فتح الكتاب نصف ساعة أو تزيد حتى يقع الكتاب على وجهه من النوم.. وبهذه الطريقة أنهى كتاب الأغاني في عامٍ تقريبًا.. وبعضهم يعيش بهذه الطريقة منذ عشرين عامًا لا يكاد يُسقطها حضرًا وسفرًا.

ثم إنني بعد ذلك كله لا أكاد أعرف طريقة تستنبت الذوق والتذوق قراءةً وكتابةً مثل هذه الطريقة.. وعبثًا والله تطلب كتب النحو والصرف إن كان هدفك الذوق والتذوق.. بل إن هذه الطريقة ستعطيك- شيئًا فشيئًا- قواعدَ النحو والصرف وفقه اللغة والبلاغة وما شئت من قواعد كلام العرب وقوانينه المستخلصة.. ولا يعني هذا إهمال كتب النحو والصرف وأمثالها من كتب القواعد والقوانين، بيد أن المقصد أن غاية هذا غير غاية ذاك.. ولا تتم غاية هذا إلا بالحرص على المداومة على ذاك.

وأنتَ -بعد هذا كله- قمينٌ أن تقع في اللغة فتنهض بها حين توقع بك (ونعمت الوقيعة).. تمامًا كما تقع في الحبِ فتَرِقّ به حين يقسو عليك.. (وما ألذها من قسوة)!!
نفعك الله ونفع بك.