‏إظهار الرسائل ذات التسميات الأستاذ محمدجلال كشك. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الأستاذ محمدجلال كشك. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 8 ديسمبر 2025

محمد جلال كشك.. شهيد الحقيقة والتاريخ

محمد جلال كشك.. شهيد الحقيقة والتاريخ

جلال كشك فيلسوف الشيوعية الأول.. وهادمها الأشهر على رؤوس أصحابها



الكاتب:د. محمود خليل..



* كشف عوار «هيكل» وفضح أكاذيبه.. فعوقب وسجن وفصل من عمله.. وظل “هيكل” يخافه حتي وهو مطارد خارج البلاد.


* كان أعداؤه يرون أن اغتياله أسهل من الرد عليه.


* لقي الله وهو يقوم بواجب الشهادة.. في كشف زيف نصر أبو زيد.. في أشهر قضية نصب علمي في العصر الحديث عام 1993م.


* أول من نادى بالجمهورية عام 1951م، وأول من طالب بتأميم القناة عام 1951، وأول من ردت عليه البرافدا السوفيتية باسمه، واعتبرت وجوده في الصحافة المصرية خطرًا شديدًا، وأول من كذّب علي صبري عام 1961 وأول من رد على ريجان عام 1980 ولقي الله وهو يفضــح أكاذيب نصر أبو زيد عام 1993م.


* أوصى جلال كشك أن تدفن معه في قبره، ثلاثة كتب.


* ما هي الكتب الثلاثة التي أوصى جلال كشك بأن تدفن معه في قبره.


* عاش المعلم جلال كشك عمره الفكري والصحفي.. وتاريخه النضالي والحركي.. وهو يستطيع أن «يذب» قلمه في عين «العفي» وقتما يريد.


ذلك لأنه كان عمله خاصة من الرجال والمفكرين والسياسيين.. وتجار السخرية بالجملة والقطاعي.


والده المرحوم الشيخ محمد علي كشك القاضي الشرعي هو أول من أصدر حكمًا شرعيًا بتكفير البهائيين في عشرينات القرن الماضي.


وجلال كشك هو أول من هتف للجمهورية عام 1951 قبل أن يعلنها الرئيس محمد نجيب بحوالي عام.


وكم كان شيخنا الجليل محمد الغزالي ينصحنا بقراءة ثلاثة كتب بصفة دائمة.. هي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي «وفقه الزكاة» ليوسف القرضاوي، و«دخلت الخيل الأزهر» لجلال كشك.


* أذكر وأنا طالب بالثانوي أنني كنت أقرأ مسرحيته المبهجة «شرف المهنة» التي عالج من خلالها معايير مهنة الصحافة وضوابطها وأخلاقياتها والعلاقة الملتبسة بين الصحافة والثورة.. ومسح بالنفاق والمنافقين الأرض من خلال أحداث المسرحية.. وحركة شخوصها..


* أذكر أن صوتي كان يعلو بالضحك.. والقهقهة وأنا أتابع «صابر البنهاوي» رئيس تحرير مجلة «أبو الهول» وعلي الطقطوقي وحسن المنياوي المحررين بالمجلة، حتى كادت أمي تشك في توازني وهي تراني أضحك وحيدًا.. فتتعوّذ حولي بصوت مسموع.. وهي لا تعلم أن طائفًا من المبهر جلال كشك يستطيع أن يفعل بقارئه العجب، ولا حرج.. فجلال كشك..هو جلال كشك والوسطاء يمتنعون..!!


* حتى أن الأديب الكبير «يحيى حقي» يقول عن هذه المسرحية: لعلها تكون المرجع الوحيد في التاريخ لهذه الفترة الهامة من حياتنا بعين بصيرة نفاذة صادقة، مؤمنة بوطنها، مخلصة له، فإنها ليست مجرد تاريخ بل استخلاص للعبرة التي تنفع على مر الأيام.


* وهذا الكتاب ينبغي أن يقرأه كل مواطن، فسيبصره بأشياء مذهلة كانت غائبة عنه.

رحلة حياة

* ولد حطيئة الصحافة السياسية المصرية محمد جلال كشك عام 1928 بقرية «المراغة» بمحافظة سوهاج لأب كان يعمل بالقضاء الشرعي، وأم من نفس العائلة.. ذات حسب ونسب، وخلق ودين.


* تلقى تعليمه الأولي والثانوي بالقاهرة، بمدرسة «بمباقادن» بمنطقة الحلمية الجديدة بالدرب الأحمر.


* تخرج من كلية التجارة بجامعة القاهرة عام 1952 بقسم العلوم السياسية وكان قد انضم إلى الحزب الشيوعي المصري عام 1946 قبل أن يلتحق بالجامعة، واعتقل على إثر ذلك حيث أدى امتحان السنة النهائية من داخل معتقل «هايكستب» الذي دخله بتهمة التحريض على قتل الملك.. حيث قاد مظاهرة من زملائه الشيوعيين وهتف ضد حافظ عفيفي رئيس الديوان الملكي كما هتفوا بالجمهورية وسقوط الملكية.. ولم يفرج عنه من هذا الاعتقال إلا بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952م.


* أخرج جلال كشك وهو طالب شاب كتابه «مصريون لا طوائف» ثم أتبعه بكتابه الذي أثار ذعرًا وقلقًا لدى دوائر الحكم حينئذ وهو كتاب «الجبهة الشعبية» الذي ظل سرًا مكتومًا إلى أن كشفه المستشار الفقيه المؤرخ طارق البشري في كتابه «الحياة السياسية في مصر (45-1952)»، حيث كان الاعتقاد السائد لدى الدوائر المختصة أن الكتاب صادر عن منظمة شيوعية تحمل نفس الاسم، وعزز من ذلك الاعتقاد أن الكتاب كان يدرس داخل الخلايا الشيوعية السرية كمنهج دراسي خاص.. حتى أشار أخيرًا.. طارق البشري إلى أن صاحب الكتاب هو الباحث المتفرد «محمد جلال كشك» والذي اعتقل بسببه بتهمة التدبير لقلب نظام الحكم ولم تسقط عنه القضية إلا بعد ثورة يوليو 1952م.


تفكيك «المانيفستو»

* بدأ المرحوم الفارس جلال كشك عمله الصحفي والفكري وهو طالب، حيث أصدر كتابين وهو ما يزال طالبًا بالجامعة، كانا بمثابة طلقتين داويتين، وكان حينئذ مغموسًا حتى أذنيه في الشيوعية منظمًا، جلابًا لشرها من كل مكان، مفكرًا ومفجرا لـ«لمانيفستو» الشيوعي..


* وكان من الخلايا السرية الشيوعية، جلابًا لشرها، ولكن القلم «الحفار» لجلال كشك.. قاده سريعًا من «درك» الشيوعيين، المتنمرين إلى درج المفكرين المتميزين.. فانتقل بكامل الوعي إلى ساحة الفكر الإسلامي بعد أن شرح وشرّح الشيوعية فكرًا وتطبيقًا..


* ثم مرّ بعدها بمرحلة عدم اتزان.. ولكنها كانت فترة كافية لالتقاطه الأنفاس وإعادة التوجه والتوجيه، وتنقل من جرائد «الجمهور المصري» إلى «الجمهورية» إلى أن أبعد عنها بعد اعتقاله لمدة عامين ونصف حين استطاع أن يجاهر عسكر يوليو 1952 برجولة ووطنية وفهم وثقافة واستشراف.. فما كان من عسكر يوليو إلى أن نقلوه للعمل بمجلة “بناء الوطن” تحت الرئاسة المباشرة من الضابط (أمين شاكر) الذي «وزّ عليه».. حتى اعتقل جلال كشك لعدة أشهر، كانت بمثابة كسر جناح، لكن جلال كشك.. هو جلال كشك.. فترك لهم «الجمل وما حمل».. وذهب للعمل «بروز اليوسف» عام 1962 كمحرر للشئون العربية وظل يعيش هذا «الكبد» حتى خرج من مصر بعد الهزيمة النكراء في 5 يونيو 1967 ليعمل بـ«الحوادث» اللبنانية.. وليتنفس بعضًا من هواء الحرية الغض الطري المنعش الفواح.. ليستطيع عن بعد، دك هذه الحصون الناصرية المتورمة كذبًا، أو الشيوعية المدعية على الأمة بالباطل. وليفكك الماركسية تفكيك الخبير الذي خبر السر، وجاس خلال الديار.. فتبر ما علت الماركسية تتبيرا، ولم يستطع شيوعي أو ماركسي واحد في المنطقة العربية بأسرها أن يرفع وجهه في وجه جلال كشك، فضلاً عن أن يرد عليه أو ينفي ما قال..


مع العمالقة

وإذا كان المودودي وسيد قطب والندوي وعبد الكريم زيدان والغزالي والقرضاوي وفتحي عثمان وإسماعيل الفاروقي ومحمد قطب.. من أوائل من فكوا شفرة الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية.. وفتشوا عن المكنون الغاض في عمق المشهد المحتدم بين الغرب والإسلام.. وأظهروا في وقت مبكر من المعركة.. معابر النجاة، وجسور التواصل، ومرافئ الأمان.. فإن جلال كشك يقف ضمن فريق لا يقل أهمية ولا مرجعية من هذا الصف الأصولي العملاق.. فكانت كوكبة أخرى يمثلها محمد المبارك والدواليبي وعبد الحليم أبو شقة وأنور الجندي وجلال كشك ومحمد عمارة ومنير شفيق وفتحي يكن وسعيد حوي.. قد خطوا بالفكرة خطوة أمامية، وخاضوا المعركة في مربعها الأمامي.. حيث قاموا بحل لغز التعويذة، وأطاحوا بالطوطم الشيوعي، والصنم الماركسي الذي ظل قومه عليه عاكفين.. فحرقوه.. ثم نسفوه في اليم نسفًا.. فردوا إلى الأمة ثقتها بنفسها وربها ومنهجها.. وأسسوا من حيث يعلمون.. لمشروعية الصحوة الإسلامية.. التي انتشلت الأمة من الخديعة الكبرى التي وقع فيها المغفلون.. وسقط في سرابها المرجفون..


وتحت غبار المعركة.. أخرج جلال كشك «54» كتابًا ومسرحية واحدة، غاية في السخرية هي (شرف المهنة)، وإن كنا نعلم أنه له ست مسرحيات أخرى مخطوطة.


ومن الملاحظ أن وأن كل كتابات جلال كشك تطفح بالسخرية والفكاكة الحارة.. والمرارة.. فهو يذوّب فكرته أحيانًا في ماء الورد والسكر.. وأحيانًا في ماء الصبر والحنظل.. وفي كلٍ.. فإنه يهندس الفكرة.. ويدبب لها سن قلمه.. ويدق جذورها في أرض البحث العلمي الرصين.. ثم يطلقها في الفضاء البعيد.. تتحدى الأعاصير والزعابيب.. وتكتسب في كل يوم أرضًا جديدة.. حتى أن أعداءه كان يرون أن اغتياله أهون من الرد عليه.. خاصة «هيكل».. «كبير صحافة القوم».. الذي قلّبه جلال كشك على قدميه.. كما يتنطط اللاعب الموهوب بالكرة الشراب على وش قدميه.. حتى يمل الناس من الفرجة والاستمتاع خاصة في كتبه الفريدة.. «ثورة يوليو الأمريكية»، «الفضيحة.. هيكل يزيف التاريخ» و«الناصريون قادمون»..، أما كتبه «كلمتي للمغفلين» و«دخلت الخيل الأزهر».. و«إيلي كوهين من جديد».. كان لها شأن آخر.


لم تكن تقف وراءه مؤسسة كالأهرام وراء هيكل.. والأخبار وراء مصطفى أمين.. ولكن النظام بأسره كان يترصده.. ويتهدده.. ويتوعده فيغلق في وجهه كل أبواب مصر..

وبعد رحلة الشقاء والعذاب.. والغربة والسجون، عاد جلال كشك في السنوات الأخيرة من عمره.. ليمتعنا بمقالاته العميقة الرشيقة في مجلة «أكتوبر».. حتى يكتب الله له هذه النهاية الشاهدة الشهيدة.. فلم يكن الرجل يعبأ بأمراضه المتوحشة ولا مظلمته الموحشة.. فكنت تراه في كل معركة.. صاحب القدح العلي.. حتى كان ما كان.. من «نصر حامد أبي زيد» وتزويره لأبحاثه العلمية.. فناظره الفارس جلال كشك حتى إذا اشتد وطيس المعركة.. فإذا بالرجل يصاب بأزمة قلبية حادة تفيض على إثرها روحه الطاهرة في 21 جمادى الآخرة 1414هـ، الموافق 12/5/1993.. ليتنفس أعداؤه الصعداء.. حيث كان المرحوم جلال كشك مثل «دكّاك الزلط والدقشوم».. الذي يسوي بهم الأرض.. فلا ترى فيهم عوجًا ولا أمتًا.. وليهنأ جلال كشك بما قدم عند ربه من كلمة صافة ضافية.. وفكرة شافية كافية.. تعصم من الزلل.. وتعين على سواء السبيل..


شهيد الحـق

لجلال كشك عدة رؤى إصلاحية.. كان فيها رائدًا وقائدًا، بل كان في بعضها مغامرًا واستشهاديًا.. يلقى بنفسه وسط حقول الألغام..


فهو أول من هتف بالجمهورية عام 1951 في العهد الملكي.. وهو أول من طالب بتأميم القناة وإلغاء الاحتكارات الأجنبية عام 1951م وهو الوحيد الذي كذب علي صبري، وكشف زيف الأرقام التي استند إليها في كتابه «سنوات التحول الاشتراكي» 1961 – 1966.. وفور نشر مقال جلال كشك تم فصله من رئاسة مجلس إدارة جريدة الجمهورية ورئاسة تحريرها..


وهو الوحيد الذي أبرق إلى الرئيس الأمريكي «رونالد ريجان» في نوفمبر 1980 يلومه ويصحح له خطأه الجسيم الذي قال فيه لمجلة التايم الأمريكية «إن المسلمين قد عادوا إلى الداء القديم، وهو الاعتقاد بأن طريقهم إلى الجنة هو قتل المسيحيين واليهود».. 

فقال له جلال كشك: 

«إن الحرب المقدسة التي دخلت التاريخ كرمز      للتعصب هي الحرب الصليبية وليست الحرب        المحمدية ولا الهلالية.. فنحن لسنا الذين اخترعوا    الحروب الدينية.. وليس ذنبنا أن المعتدين علينا وعلى بلادنا واستقلالنا من المسيحيين واليهود.. ولا جريمة اذا اعتقد المسلم الضحية أن الله يرضى عن الذين      يدافعون عن استقلال بلادهم».   


وهو الوحيد الذي كشف عوار «هيكل» وفضحه وجعله يرهب اسمه حتى وهو مطارد خارج البلاد..


وهو الرقم الصعب الذي شهدت الشيوعية والشيوعيون العرب إفلاسهم نظريًا وتطبيقيًا على يديه..، حتى نشرت «البرافدا» السوفيتية ردًا بتوقيع مايسكي تقول: إن استمرار جلال كشك في الصحافة المصرية يسيء إلى الاتحاد السوفيتي وذلك عقب نشره سلسلة مقالاته الشهيرة «خلافنا مع الشيوعية».. 

فنفى من الصحافة المصرية من 1964 إلى ما بعد 1967.. محرومًا من كل شيء 

وهو الرجل الأشهر الذي وضع ثوار يوليو.. على المجمرة.. وفتح الستار عنهم وهم بملابسهم الداخلية.. فظهرت حقيقة الأمور وانكشف المستور..


وجلال كشك من أوائل من حطموا «الطوطم» لويس عوض.. وفضح نظراته التاريخية واعتبرها امتدادًا لمدرسة التدجين الاستعماري والعمالة التاريخية لتفسير التاريخ زورًا وبهتانًا.


وهو الذي جرد «نصر حامد أبو زيد» من ملابسه المسروقة.. وأصدر حكمًا بإعدامه علميًا.. ولقي ربه شهيد الحق والحقيقة في 5/12/1993.. وهو يناظره عبر محطة التلفاز العربية الأمريكية بواشنطن.. حول أشهر قضية نصب علمي مارسها باحث في العصر الحديث، قائلاً: القضية ليست في «التطليق».. إنما في «التزوير» والتلفيق.


واحتدمت المناقشة التي أظهر فيها «كشك» جريمة اختلاق الوقائع وتلفيق الأحداث التي تورط فيها “نصر أبو زيد”.. فأصيب كشك بأزمة قلبية جراء أمراض قديمة كان يعاني منها، ففاضت روحه إثر هذه الأزمة التي دهمته في 21 جمادى الآخرة ودفن بمصر بناء على وصيته..، كما أوصى بأن تدفن معه في قبره ثلاثة كتب هي: «السعوديون والحل الإسلامي»، و«دخلت الخيل الأزهر»، و«قيل الحمد لله».


وإذا كانت القاعدة التقويمية تقول: إن الرجال مواقف، فقد كان جلال كشك.. كتيبة من الرجال تحمل شرف العشرات من المواقف..

وسلام عليه في الآخرين..

الجمعة، 8 ديسمبر 2023

ثلاثون سنة على رحيل ضيفي على الهواء

ثلاثون سنة على رحيل ضيفي على الهواء

توفي الصحفي محمد جلال كشك في 5 ديسمبر 1993 أثناء مشاركته في مناظرة إذاعية مع الدكتور نصر حامد أبو زيد



حلت أمس الذكرى الثلاثون لوفاة الصحفي محمد جلال كشك أثناء مشاركته في مناظرة مع المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد في برنامج "حصاد الأسبوع" الذي قدّمه 
@HafezMirazi
 أثناء عمله في إذاعة الشبكة العربية الأمريكية.
◀ المقال كاملا:


حافظ المرازي
منشور الأربعاء 6 ديسمبر 2023
قبل ثلاثين سنة بالضبط من تاريخ كتابة هذا المقال، الخامس من ديسمبر/كانون الأول 1993، كان الحدث الأهم بالنسبة لي سيجري داخل استوديو إذاعة الشبكة العربية الأمريكية ANA في إحدى ضواحي العاصمة الأمريكية واشنطن، حيث أقدِّم على الهواء لتسعين دقيقة برنامجي كلَّ أحد بعنوان "حصاد الأسبوع".

كان ضيفاي يومها على طرفي نقيض في مواقفهما الفكرية والسياسية؛ الأول حضر صوته فقط عبر الهاتف من القاهرة، وهو الدكتور نصر حامد أبو زيد (10 يوليو 1943 - 5 يوليو 2010)، الذي وجد نفسه وقتها في قلب جدلين؛ رَفُض لجنة علمية شكَّلتها الجامعة ترقيته لدرجة الأستاذية لخلافٍ حول دقة مادته العلمية، ودعوى رفعها محامٍ لتطليقه من زوجته بدعوى ارتداده عن الإسلام في كتاباته.

أما الثاني، فكان الكاتب الصحفي "الإسلامي" محمد جلال كشك (20 سبتمبر 1929 - 5 ديسمبر 1993)، الذي تحامل على نفسه للحضور يومها متكئًا على ابنه خالد الذي تابع الحوار عبر زجاج الغرفة معزولة الصوت من ناحية المنتجة الإذاعية، لإصراره على مواجهة خصمه على الهواء بدلًا من النقاشات الدائرة بينهما على صفحات الجرائد والمجلات.

نعم، تُوفِّي ضيفي على الهواء معي في ذلك اليوم، وأثناء منازلته الفكرية لضيفي الآخر على الهاتف من القاهرة!

 
اللقاء السابق: الحوار أو خراب الديار
كان محمد جلال كشك، الذي تخرج من كلية التجارة في جامعة القاهرة عام 1952، غزير الكتابة حتى وهو طالب، بلغت كتبه أكثر من خمسين، أولها "مصريون لا طوائف"، وأشهرها "ودخلت الخيل الأزهر" و"ثورة يوليو الأمريكية" و"أخطر من النكسة" و"السعوديون والحل الإسلامي" و"كلمتي للمغفلين"، ومن بينها مسرحية ساخرة واحدة عن مهنة الصحافة هي "منتهى الشرف" صدرت عام 1960.

أما آخر كتبه، فصدر في العام الذي التقينا فيه، بعنوان "الحوار أو خراب الديار" وبدأت به مناقشتي معه في مقابلة تليفزيونية أجريتها قبل شهر من مقابلتنا الإذاعية الأخيرة. لقاؤنا التليفزيوني كان مسجلًا في برنامجي "وجهًا لوجه" بالشبكة العربية الأمريكية نفسها في واشنطن التي كانت لها إذاعة، برامجها على الهواء، بجانب البرامج التليفزيونية المسجلة.

جانب من لقاء محمد جلال كشك وحافظ المرازي عن ثورة يوليو 1952



في المقابلة الأولى تحدثنا عن رأيه بضرورة الحوار بدلًا من الاستقطاب والاستعداء في الثقافة السياسية المصرية السائدة، موضحًا أن الدولة تقمع الإسلاميين وتسجنهم بدلًا من محاورتهم، وحذَّر من مغبَّة الانزلاق في حرب أهلية مثلما كان الوضع وقتها داميًا في الجزائر بعد إقصاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ من الحكم بالقوة العسكرية.

ربما كان الاهتمام الكبير وردود فعل الجاليات العربية في مدن أمريكا الشمالية التي يُبث الإرسال إليها فقط، دافعين للاتصال بضيفي بعد أسبوع من الحلقة التليفزيونية، لأعرض استضافته في برنامجي الإذاعي، على أن يكون مباشرًا على الهواء، ونسمح للمستمعين في نصفه الثاني بالاتصال وتوجيه أسئلتهم وتعليقاتهم بكل حرية ودون تحفظ سوى على لغة الحوار.

وزاد تشجيعي له عندما أخبرته أنني استضفت في برنامجي ذاك من قبل عبر الهاتف من نيويورك، الشيخ عمر عبد الرحمن (1938-2017)، قبل سنة من سجنه في أمريكا لإدانته بالتورط في تفجيرات مركز التجارة العالمي الأولى عام 1993، وناقشه معي وقتها ضيف في الاستوديو الكاتب الصحفي بمجلة المصور محمد وهبي.

لكنَّ صوت الأستاذ جلال في دعوتي له ليكون ضيفي الإذاعي بدا منهكًا، خلافًا لحيويته التي ظهرت طوال لقائنا التليفزيوني الأول، وأبلغني استعداده، بالرغم من مشاكل صحية لم يفصح عنها، للحضور ولو متكئًا على ابنه، لو كان هناك جديد لم نناقشه في الحلقة السابقة! وهنا اقترح الموضوع الذي لم يناقشه معي في التليفزيون واشترط ليكون الحوار مفيدًا ومحفزًا له للمشاركة أن يكون طرفًا في مناظرة على الهواء مع نصر حامد أبو زيد.

قلت لضيفي في البداية: وكيف لي أن أصل إلى أبو زيد في القاهرة لإقناعه بالمشاركة معك؟! هنا تكفَّل بإرسال رقم هاتف جريدة الأهالي، التي كان يكتب بها أبو زيد آنذاك، إن لم أجده مطبوعًا على أي عدد سابق، مؤكدًا أنني لو اتصلت بهم سيبلغونه الرسالة وسيقبل المناظرة "حين تبلغه باسمي"!

وبالفعل، صدق حدسه أو رهانه معي، فأجابني أبو زيد بمكالمة من القاهرة في اليوم التالي لتأكيد موعدنا "غدًا الأحد في الثامنة مساءً بتوقيت القاهرة" أي الواحدة ظهرًا بتوقيت واشنطن، ولا مانع عنده من مناظرة ضيفي في الاستوديو، محمد جلال كشك.

"حصاد الأسبوع" والنزال الأخير


أحضَرَت ليموزين القناة ضيفي وابنه قبل نصف ساعة من برنامجنا على الهواء، وبدا لي الأستاذ جلال شاحبًا وأكثر إعياءً وأقلَّ حيويةً بسنوات، مقارنة بحيوية صوته قبل أسبوع. لكنَّه كان بشوشًا ومبتسمًا كعادته، وسعيدًا بأنني سمعت كلامه وصدقت توقعاته بإمكانية ترتيب تلك المناظرة في ثلاثة أيام، بعد اعتقادي بأنه كان يتذرع ويشترط حضور ضيفٍ ليس من المرجح أن يوافق على تلك المواجهة!



بدأت الجولة الأولى بتقديم الضيفين للجمهور وتوضيح القضية المرفوعة ضد ضيفنا في القاهرة لتطليق زوجته منه، واستغربت موجهًا كلامي لضيفي في الاستوديو، كيف وصل الأمر بالإسلاميين إلى هذا الحد في الخصومة السياسية والفكرية؟

أجاب جلال كشك أن المسألة تتعلق "بالتلفيق وليس بالتطليق"، وشبّه ما يحدث مع نصر أبو زيد بـ"الخناقة المفتعلة"، مثل "نشال أوتوبيس أو متحرش براكبة ضبطوه فضرب راكبًا آخر بالقلم ليغيِّر سبب الخناقة"، موضحًا أنه كان ضد قضية التطليق، لكنها أثيرت لغرض التشويش والتغطية على قضية التلفيق التي ضُبط بها أبو زيد منذ العام الماضي في كتاباته التي تقدم بها للترقي لدرجة الأستاذية.

وأوضح تلك النقطة المتعلقة بجهل أستاذ يستحق الفصل وليس الترقية بقوله "الدكتور أبو زيد تقدم للترقية لدرجة أستاذ بكتابين وعدة أبحاث.. من هذين الكتابين كتاب صغير عن الإمام الشافعي ودوره في إثبات الوسطية.. وهذا الكتاب قائم على فكرة أن الإمام الشافعي متعصب للعروبة وللقرشيين، وقال: إن أهم ما يؤكد تعصب الشافعي للعروبة أنه تعاون مع الأمويين وألحَّ حتى عينه الأمويون واليًا على نجران.. عرض الكتاب على لجنة الترقية.. البعض وافق والبعض اعترض على ترقيته، عُرض الأمر على مجلس الجامعة.. وهناك أستاذ مثقف رفع صباعه، وقال: يا جماعة الإمام الشافعي اتولد بعد 18 سنة من زوال الدولة الأموية. أنا لم أصدق، فاشتريت الكتاب.. ووجدت أن الدكتور قال فعلًا بتعامل الإمام الشافعي مع الأمويين في الصفحة 16، وأنهم عينوه واليًا على نجران.. واستدل بنص زوَّره على أبو زهرة، على تعصب الشافعي للقرشيين".

وأضاف جلال كشك مستغربًا "إذا كان الإمام الشافعي ولد بعد انتهاء الدولة الأموية بأكثر من 18 عامًا.. هل تقبل الجامعات الأمريكية أن تمنح طالبًا شهادة جامعية إذا قدم بحثًا يثبت فيه تعاون جورج واشنطن مثلًا مع الاستعمار الفرنسي، بالعلاقات التي كانت تربط واشنطن بنابليون؟!* هل يمكن منحه أي درجات علمية؟!".

طلبت من الدكتور أبو زيد الرد، فقال "الأستاذ جلال عاد إلى ترديد اسطوانته المشروخة، وهو ينتهز مجرد خطأ مطبعي بين الأمويين والعلويين. ولو كان الدكتور عبد الصبور شاهين اكتشف وجود مثل هذا الخطأ المزعوم لأقام الدنيا ولم يقعدها.. وأنا أعترض على استخدام لغة الحوار التي يستخدمها الأستاذ جلال.. واستخدام عبارات مثل الجهل والتزوير…".


هنا قاطعه جلال كشك قائلًا بحدة عن أبو زيد "يقول إن ده خطأ مطبعي، أدى إلى الخلط بين الأمويين والعلويين! بينما العلويون لم تكن لهم دولة في ذلك الوقت، هذا الرجل لا يعرف ماذا يقول.. وأنا لما أقول إنه مزور فأنا أقول حقيقة". 
فيرد أبو زيد بأنَّ جلال كشك لا يقبل الحرية في الرأي بالرغم من تحوله فكريًا من ماركسي في الخمسينيات إلى إسلامي، ولم يعترض أحد على تحولاته..

ويضيف أبو زيد "المشكلة التي يحاولون التغطية عليها هو كتابي نقد الخطاب الديني.. أنا تقدمت بكتابين وثلاثة عشر بحثًا للترقية.. فلماذا كتاب الشافعي.. لنترك كتاب الشافعي علشان خاطر عيون الدكتور عبد الصبور شاهين وجلال كشك، ماذا عن أبحاثي الأخرى؟ ألا تؤهلني هذه الأبحاث للترقية لدرجة أستاذ، كما ترقى عشرات الأساتذة غيري؟! أنا حفرض جدلًا أنَّ كتاب الشافعي فيه خطأ، ألا تكفي أبحاثي الأخرى للترقية.. هذه هي القضية التي يحاولون التغطية عليها بإثارة موضوع كتاب الشافعي.. أنا مسلم وأُحسِن إسلامي أكثر من الأستاذ جلال نفسه، ولو كنت مرتدًا لأعلنت ارتدادي.. الحوار له لغة.. وليس من لغته فرش الملاية.. وهو أسلوب لن أجاري فيه الأستاذ جلال".

رد جلال كشك بأنه أحد أول من كتب ضد "حكم الردة" وأنه حكم لا يمت للإسلام، وأضاف أنَّ العلمانيين هم الذين يحتمون بالحكومة ويثيرون تلك الخلافات بينما يزعمون أن حرياتهم مهددة، وتساءل "من الذي يطالب بالحرية: العلمانيون أم الإسلاميون؟ أين اتصلت بأبو زيد؟ في منزله أو في السجن؟ الإسلاميون هم الذين الآن في السجن. لجنة حقوق الإنسان تذهب لمن في السجن؟ للعلمانيين ولا للإسلاميين؟ لماذا لا يمارس العلمانيون التنوير إلا وهم يجلسون على حجر الحكومة؟".

هنا قاطعه أبو زيد قائلًا "من منا قاعد على حجر الحكومة الآن يا جلال؟ أنا أكتب مقالاتي في صحيفة الأهالي المعارضة أما أنت فتكتب مقالاتك في مجلة أكتوبر الحكومية! من منا على حجر الحكومة؟!".

نهاية مأساوية لمناظرة فكرية

بينما واصل الدكتور أبو زيد تساؤلاته للأستاذ جلال، بدأ ضيفي في الاستوديو يشير بيديه بأنه يريد التنفس.

أشرت إلى الزميلة منتجة الاستوديو لتقطع الميكروفون عن استوديو الهواء وتترك الضيف على الهاتف يواصل حديثه حتى أتبين ما يحدث أمامي، وأشرت إلى ابنه خالد عبر زجاج الاستوديو بالدخول، فساعدنا على إنزال أبيه من فوق الكرسي إلى أرضية الاستوديو، ونحن نخفف عنه فتحة قميصه ونحاول تحريك الهواء.

لكنه لم يكن يرد علينا فسارعت المنتجة بالاتصال بالإسعاف، وطلبت منها العودة لإعطائي الميكروفون، وباب الاستوديو مفتوح يتمدد عبره جسد ضيفي ومعه ابنه. وهنا اعتذرت للضيف الآخر مقاطعًا حديثه، واعتذرت للمستمعين أنني مضطر لإنهاء الحلقة دون تكملة قبل موعدها "إذ يبدو أنَّ ضيفي في الاستوديو أستاذ محمد جلال كشك قد أصيب بنوبة قلبية ونحن في انتظار الإسعاف لنجدته.."، وأنهيت الحلقة متمنيًا أن ضيفي "الذي جاء للتأكيد على عنوان كتابه الأخير 'الحوار أو خراب الديار'، لم يؤد حواره مع ضيفي في القاهرة الدكتور نصر أبو زيد إلى خراب الديار!".

لم أكد أنتهِ من كلماتي، حتى سمعت أصوات سيارات الإسعاف أسفل مبنى المحطة الإذاعية. ولم تمر دقائق، حتى كانوا نقلوه وهم يحاولون استرجاع تنفسه دون جدوى!

وانخرطت مع ابنه خالد وعائلته وأصدقائنا في اليومين التاليين في ترتيبات نقل الجثمان إلى القاهرة ليُدفن فيها حسب وصيته!

أما مقاله الأخير الذي اكتشفته بعد وفاته بعنوان "أنعي إليكم نفسي"، وكيف أعدَّتني هذه التجربة المريرة ومعرفة الإجراءات لتجربة شخصية مررت بها بعد أشهر في نقل جثمان والدتي إلى مصر، فله حديث آخر في مذكراتي.. إن كان في العمر بقية لكتابتها.

* كان عمر نابليون بونابرت ثمانية أعوام عندما أبرم الفرنسيون تحالفهم مع جورج واشنطن في حرب الاستقلال الأمريكية عام 1777.

الثلاثاء، 30 يناير 2018

كتاب ودخلت الخيل الأزهر

كتاب ودخلت الخيل الأزهر


ودخلت الخيل الأزهر
محمد جلال كشك
مقدمة
الخلاف حول تفسير التاريخ ليس ظاهرة ترف، ولا هو مجرد خلاف حول تفسير الماضي، بل هو في الدرجة الأولى خلاف حول الطريق إلى المستقبل. ومنذ الغزو الفرنسي لمصر ظهرت مدرستان :المدرسة الاستعمارية التى تمثلها كتابات د/ لويس عوض التى تنادي بالتغريب وتعتبر أن المتعاونين مع الاستعمار هم رواد التقدم وطليعته، ومن نماذجها المعلم يعقوب والذين داروا مع جنود الاحتلال. وفي مواجهة هذه المدرسة قامت المدرسة الوطنية لتفسير التاريخ التى ترى الوطن والتقدم والحداثة من منظور واحد هو مقاومة التبعية لأوروبا؛ مقاومة الاحتلال الغربي للشرق الاسلامي، وتمثلها كتابات الأستاذ محمد جلال كشك  الذى أصدر كتابه هذا في اعقاب هزيمة 67 عندما نشطت المدرسة الاستعمارية للترويج للدور التحضيري والتحريري الذى لعبه غزو البلدان المتقدمة للشرق المتخلف، وكانوا في الحقيقة يدعون الأمة العربية وقتها لقبول التحضير الإسرائيلي !وكان صدور هذا الكتاب -وقتها - محاولة لكشف هذا التزييف، وإعادة ثقة الأمة بمستقبلها، من حلال وعيها بماضيها.
واليوم إذ يعود ورثة المعلم يعقوب، ودعاة المدرسة الاستعمارية، فيسيطرون على وسائل الإعلام، وينتهزون مناسبة الاحتفالات بالثورة الفرنسية للترويج من جديد لمفاهيمهم، فيخلطون عن عمد بين إنجازات الثورة الفرنسية وجرائم الاحتلال في بلادنا، تأتي هذه الطبعة الجديدة المزيدة من الكتاب الذي كان علامة فاصلة في دراسة وتفسير تاريخ الحملة الفرنسية بل وعلاقة الشرق بالغرب.

قراءة في الكتاب
في أكتوبر من العام 1798 دخلت خيول الاحتلال الفرنسي الأزهر وأعمل جند نابليون السيف في شيوخ الأزهر وطلبة العلم، نُهبت الكتب ومزقت المخطوطات ثم اتخذوا من المسجد والجامعة إسطبلا للخيل. حتى تشفع الشيخ “الجوهري” الذي توجه بنفسه إلى نابليون طالبا خروج الخيل من الأزهر، ليأمر نابليون بالخروج من الأزهر ثم ألقى القبض على عدد من المشايخ والطلاب وقطع رؤوسهم.
كانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ مصر، التي يهان فيها الأزهر بهذه الطريقة ويؤمر بإعدام شيوخه، وإنها المرة الأولى التي تحتل فيها مصر، وهي بداية عهدنا مع الاستعمار الأجنبي.
وما إن سقطت مصر بعد معركة إمبابة حتى أصبح المحتل وجها لوجه مع الأزهر، الذي قاد مقاومة عنيفة على مختلف المستويات من المقاومة التي قادها الشيوخ الكبار داخل المجالس التي شكلها نابليون لحكم مصر، إلى المقاومة الوطنية العنيفة التي قادها الشيوخ الصغار بالحركات السرية وأعمال المقاومة الشعبية، وتصاعد الصدام الذي انتهى بإغلاق أبواب الأزهر بعد مصرع (كليبر) على يد سليمان الحلبي أحد طلبة الازهر.
نعم فتح الأزهر أبوبه بعد ذلك لأن الحملة الفرنسية انتهت واضطرت للجلاء، ولكن حادثة إغلاق الأزهر عبرت عن طبيعة العلاقة الوحيدة الممكنة بين الاحتلال الأجنبي وقيادة الأمة.
اقتنع الاستعمار أنه ما لم يتم تصفية الدور القيادي للأزهر فلا يمكن لأي استعمار أن يستقر على ضفاف النيل، ولا تكون هذه التصفية بإغلاق أبواب الأزهر أو احتلاله بالخيل، بل بإغلاق باب قيادته الفكرية للأمة وتغريب المجتمع من حوله حتى يصبح نشازا متخلفا بل ويصبح رمزا للتخلف وسببا للسخرية والتندر، وهذا الدور الذي لعبه رجل الاستعمار الغربي “محمد باشا” الملقب “بالكبير” مؤسس مصر الحديثة ومُسلمها فريسة عاجزة إلى الاستعمار الغربي.
ويدور كتاب محمد جلال كشك حول الحملة النابليونية على مصر في دراسة لتاريخ الحملة، ودراسة علاقة الشرق بالغرب الاستعماري الذي بدأ مع هذه الحملة، واختار دخول الخيل للأزهر للرمزية التي يحملها الأزهر ولما لهذه عبارة من وقع يشير إلى عمق الهزيمة التي منيت بها الأمة في الحملة والغزوات العسكرية والفكرية التي تلتها.

الحملة الفرنسية والتاريخ العربي

بدأ كشك كتابه في مناقشة وجود مدرستين لتفسير التاريخ، أولها المدرسة الاستعمارية والتي تجعل من الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون في نهاية القرن الثامن عشر، هي بداية تاريخنا القومي وبداية الفكر العربي، أي بداية تحررنا من الاستعمار التركي وخروجنا من القرون الوسطى.
وتعتمد هذه المدرسة الاستعمارية على عدة مزاعم من هذه المزاعم محاولة عزل الحملة الفرنسية عن التاريخ الإمبريالي، باعتبارها حدث منعزل عن علاقة الشرق بالغرب وارتباطها بالثورة الفرنسية التي نشرها نابليون حيث غزا مع جيوشه في الشرق والغرب، وبالتالي التعامل مع هذه الحملة هو تعامل مع الثورة الجديدة في حينها والتي أخرجت العالم من القرون الوسطى.
يفند كشك هذا الزعم بإرجاعه إلى أصله التاريخي فهذا الادعاء لم يكن شائعا في عهد سيطرة الاستعمار ولكنه حديث متأثر بالفكر الماركسي الذي روج الاتحاد السوفيتي بحجة “المفهوم الأممي” في الثورة الشيوعية أي عالمية الفكرة الشيوعية وبالتالي إتباع القيادة الشيوعية دون اعتبارات وطنية، ولكن هذه الفكرة سقطت بسبب التناقضات القومية.
وتبين أن علاقة استعمارية حقيقية تقوم بين الدولة الشيوعية الكبرى والصغرى ومن ثم يهبط شيوعيو الدولة الصغرى إلى مرتبة العمالة للدولة الشيوعية الكبرى.
ثم يثبت من خلال مذكرات فرنسية أن استيلاء فرنسا على مصر هو جزء من سياسة فرنسا كدولة وليس ظاهرة مرتبطة بالثورة الفرنسية، بل من سياسة الدولة المتطلعة إلى السيطرة على التجارة في البحر المتوسط التي كانت تشرف عليها مصر، وهي بهذا أطماع اقتصادية بحته تؤكد صفة الإمبريالية على الحملة الفرنسية.

الفصل الأول

قبل أن يختل الناموس

يبدأ هذا الفصل بالتساؤل التالي: هل كانت مصر مستعمرة تركية؟ يعتبر كشك أنه من الجهل العلمي وصف السلطة العثمانية بالاستعمار، لأن الاستعمار حالة من التطور الاقتصادي لم تصل لها الدولة العثمانية، حتى أن بعض الإسلاميين يتمنون لو أن الدولة العثمانية وصلت لهذه الحالة لتصبح دولة عظمى إسلامية في المعاير العصرية، لكن هذا التمني في غير محله لأنه لا استعمار ممكن في دولة إسلامية، ولا الأتراك كانوا قادرين على دخول عصر الإمبريالية كإمبرياليين.
وبالتفسير العلمي لا يمكن إطلاق صفة استعمارية على دولة لم تحقق ثورتها الصناعية، ولم تكن تجارتها تشكل شيئا من التجارة المصرية بل كانت تستورد من مصر أكثر مما تصدر لها، وصادرتها لمصر خامات وصادرات مصر لها سلع مصنعة، ولا رؤوس أموال أو استثمارات تركية في مصر، ولم يكن هناك جيش تركي في مصر بل إن وصول حملة عثمانية إلى مصر يعني الحرب مع المماليك، وكانت العلاقة تقتصر على الخطبة للسلطان والدعاء له في المنابر، وحق السلطان في تعيين الباشا (الوالي) وحق الدولة العثمانية في الميري (الجزية).
ثم ذهب كشك إلى شرح الحالة السياسية في مصر بتلك الفترة وتنفذ المماليك والبكوات في مفاصل الدولة وتحكمهم هم ورئيسهم الذي يختارونه والذي يحمل لقب (شيخ البلد) في كل شيء في مصر إلى درجة عزل الباشا والي السلطان العثماني الذي لم يكن يملك سلطة فعلية تذكر في البلد، وكانوا المماليك يستطيعون عزله متى أرادوا فيقولون “قوموا بنا نعزل الوالي”، ويتخيل كشك ساخرا أن تطبق نفس الحالة على مندوب سامي لإحدى الدول الإمبريالية فيذهب رجل بسيط يحمل قرار السلطة المحلية ويقول للمندوب السامي انزل يا لورد فقد عزلت!
واستفاض كشك في شرح حال مصر بتلك الفترة وأقسام المجتمع المصري المتكون من:
– المماليك (وهم السلطة الحاكمة)
– الشيوخ (وهم قيادة العامة، وكانوا من شتى أقطار العالم الإسلامي)
– التجار والأعيان (الميسورين من المصريين والمسلمين)
– عامة المدن (وأهمهم سكان القاهرة)
– الفلاحون (وهم سكان القرى في الوادي الأخضر، وأكثر طبقات المجتمع بؤسا)
– العرب (وهم سكان الصحراء، وهم في حرب دائمة مع الفلاحين سكان الوادي)
وفي هذا الشرح الميسر تفاصيل هامة لمن أراد التعمق في دراسة التاريخ خاصة في تلك المرحلة المفصلية من التاريخ الإسلامي.

الفصل الثاني

نابليون والمهمة الحضارية

سأستعمر مصر!، هكذا قالها نابليون صريحة، سأستعمر مصر وأستورد الفنانين والعمال والممثلين والنساء وإن ست سنوات تكفي للذهاب إلى الهند لو سارت الأمور سيرا طيباً. وقد تحدث نابليون صراحة في مذكراته عن مخططه للاستعمار البشري لمصر من خلال ضبط مياه النيل وتحقيق الرخاء وتضاعف السكان أربع مرات بفعل المهاجرين الكثيرين من اليونان وفرنسا وإيطاليا وبولندا وألمانيا.
لكن الأمور لم تسر كما خطط لها نابليون الحالم بمجد كمجد الاسكندر، لأن الشعب المصري أبناء الأمة الإسلامية رفضوا مهمة نابليون الحضارية، عرفوا دون الكثير من الجدل أنه قادم (لاستعمار مصر)، فقاوموا هذا الاستعمار وأفشلوه.
وعندما قرر نابليون استعمار مصر كنقطة انطلاقة لإمبراطورتيه الشرقية، بدأ بدراسة الإسلام وطلب نسخة من القرآن الكريم وصنفه تحت قائمة الكتب السياسية، وكان كلما اقترب من الساحل الإفريقي استغرق في دراسة القرآن، وطبعا هذا سلوك طبيعي من شخص جاد يريد تحقيق أهدافه. لكن النقطة المهمة هنا التي يشير إليها كشك وهي أن حملات الغزو الفكري الغربية تبذل كل الجهود لنفي الدين ومحاولة البحث عن مكونات لشخصيتنا بعيدة عنه، لكن عندما يواجهون الحقائق ويعدون للحملات العسكرية يعرفون أن الخط الحقيقي الذي يقسم العالم إلى شرق وغرب هو الخط الديني ولا يمكن النظر للشخصية الشرقية بعيدا عن الإسلام.
انطلقت حملة نابليون بما استطاعت براعة نابليون وكليبر أن تحشده من جنود ومدفعية وعلماء ومطبعة وكتب وعملاء ومترجمين ونساء في ثياب نسائية أو متخفيات في زي جنود.
استولت الحملة على جزيرة مالطة ونهبوا كنوز فرسان المعبد ونفوا سكانها، وهنا يعرض مقارنة بين فتح الأتراك عند تفوقهم عام 1523 لجزيرة رودس والذين سمحوا لفرسان “الاسبتارية” بالجلاء عن الجزيرة حاملين معهم أسلحتهم وكنوزهم، وبين الاحتلال الفرنسي الناهب، وطبعا التاريخ زاخر بمقارنات شبيهة لجيوش المستعمرين وأسلافهم الصليبين مع جيوش الفاتحين المنتصرين وتعاملهم مع السكان وأموالهم.
وبعد أن فرغ الغزاة من الاستيلاء على جزيرة مالطة عادوا على السفن يحملون ما نهبوه وهم ينشدون الأناشيد الثورية، وهنا تظهر الازدواجية في الثورة الغربية فهم ثوريون في شوارع باريس وعلى ظهر السفن الفرنسية، لكنهم لا يجدوا تناقض بين التغني بالحرية والإخاء والمساواة وبين ذبح الجنود الشعوب غير الفرنسية ونهب ممتلكاتهم.
توجه الأسطول الفرنسي إلى الإسكندرية، وهنا يروي الكاتب حادثة مهمة وهي قصة (محمد كريم) حاكم الإسكندرية الذي رفض عرض الكابتن (هادري) من الأسطول الإنجليزي بالحماية من الأسطول الفرنسي القادم، وقال له أنه لا إقامة للأسطول الإنجليزي في الإسكندرية وإذا كان الفرنسيين قادمين حقا فنحن من يتصدى لهم، وفي رواية أخرى قال له “إنها بلاد السلطان، ولا دخل للإنجليز أو الفرنسيين بها”، وقد تشبث أنصار نظرية الصراع بين الاستعمارين التركي والغربي بهذه الرواية كدليل على أن معارضة المصريين كانت ولاء للأتراك وليس رفضا للوجود الأجنبي.
وسواء قيلت هذه العبارة فعلا أم أنها أضيفت إلى المراسلة مع القاهرة كنوع من البرتوكول، فإنها تمسح من “محمد كريم” بالسلطة الوهمية للسلطان على مصر من باب إشعار الغزاة بتدويل القضية، ومن باب رفض الاحتلال الغربي وعدم الثقة في كل ما هو أوروبي. سقطت الإسكندرية بسهولة أمام تفوق الأسطول الفرنسي وتعرض (محمد كريم) للتعذيب ثم القتل.
ويستغرق كشك في وصف أعمال التقتيل والمذابح التي قامت بها القوات الغازية كما ذكر في مذكرات الفرنسيين أثناء أداء “المهمة الحضارية”، واستمرت القوات التي تحمل العلم ثلاثي الألوان الرامز للثورة الفرنسية في أعمالها الإجرامية خلال طريقها من الإسكندرية إلى القاهرة.
وثم يتحدث كشك عن الفرق بين الغزوات الصليبية والحملة الفرنسية وهي قدرة الثانية على التملق والنفاق، فلم يسجل التاريخ أن الحملات الصليبية نشرت منشورا تتحدث عن حملها للنوايا الطيبة لسكان البلاد المنهوبة، على عكس الفرنسيين الذين ما أخمدوا مقاومة الإسكندرية بالقتل والحرق حتى وزعوا المنشور الشهير الذي يلعب على العواطف بتملق المسلمين بالبسملة وعبارة التوحيد. والنوايا الطيبة للفرنسيين “المعادين للبابا”.

الفصل الثالث

المدفع والمنشور

يبدأ هذا الفصل بشرح حالة التعبئة التي حصلت في القاهرة لمواجهة الغزاة الفرنسيين ويشبهها بالتعبئة العربية في هزيمة 1967، فقد توجه جميع العامة والشيوخ إلى بولاق حيث المعركة لمشاهدتها وارتفع سعر السلاح. وخليت الأسواق والأحياء من الرجال الذين توجهوا يحملون الطبول والزمامير إلى بولاق.
وهنا يصف كشك حال هذه التعبئة العربية التقليدية التي لم يخرج عنها (الكفاح) العربي حتى اليوم. التعبئة التي تحشد الجميع للمعركة ولا تتيح لأحد أي دور حقيقي في المعركة، تعبئة تتيح للجميع أن يصرخوا، ويهللوا، ويتألموا من أجل المعركة، دون تحقيق مساهمة حقيقية أو تحقيق أي نفع يخدم المعركة. وفي كل الأوضاع يتم إبعاد الشعب عن الفعل الإيجابي الوحيد المطلوب وهو: القتال!، وهذا الإبعاد لا يتم خلال المعركة بل هو نتيجة سياسة طويلة تجعل الجماهير عاجزة.
ثم يستفيض الكاتب في شرح مقاومة الشعب المصري بمختلف أصنافه المذكورة سابقا، وكيف كانوا يثورون في كل منطقة على الجنود الفرنسيين قبل دخولهم وبعد دخولهم للمنطقة ووقعت الثورات تلو الثورات في الريف وفي صعيد مصر في أول ثورة فلاحين عرفها الشرق، فقد كانت مصر بكرا لم تلوث بعد بالفكر الغربي لهذا ثار الجميع ورفض الوجود الأجنبي، كما هو العادة تبدأ الأعمال الانتقامية من الغزاة لإخماد الثورات فوقعت مجزرة دمنهور التي راح ضحيتها نحو 1500 من الرجال والنساء قتلا وحرقا.

الفصل الرابع

وثارت مدينتي

بعد احتلال القاهرة بدأ الغزاة مهمتهم فأخذوا يسرقون الكنوز والخبايا من القصور، ويأتون بالخدم والمهندسين فيدلونهم على الخبايا في قصور أسيادهم، وأخذ الفرنسيين يقبضون على اللصوص “غير الرسمين” بينما يؤدون مهمتهم في النهب والتفتيش.
وثارت القاهرة ليس ثورة اقتصاد فقد كان الطعام متوفرا وكانت الثورة من العامة الذين لا يدفعون الضرائب، ولم تكن ثورة من أجل دعم بقايا المماليك أو السلطان لم يكن أحد من العامة يأمن لهم أو يحاول مساعدتهم، ولكنها ثورة تحررية من المستعمر توصف بالعادة من الغزاة بالتعصب الديني وهنا نقع في هذا الفخ كما يقول الكاتب فنحاول نفي تهمة التعصب الديني عنها، وكأن تعصب الشعوب لدينها أمر غير طبيعي وكأن مقاومة المستعمر أمر شاذ بحاجة إلى تبرير!
أما التنظيم لثورتي القاهرة الأولى والثانية فقد كان في الجامع الكبير المعروف في الأزهر وقد أجمعت المصادر على أنه أنشئ تنظيم ديوان خاص بالثورة أو تنظيم سري عمل على التخطيط للثورتين ولاغتيال كليبر. وقد حافظ هذا التنظيم على سريته.
وقد اجتمع دعاة الحركة في 21 من أكتوبر 1789 لرسم الخطة، واتفقوا على إغلاق الدكاكين ودعوة التجار والصناع للذهاب بجمع كبير من الشاكين إلى مركز القيادة للاحتجاج على الضرائب، وبهذا يحدث الشغب الصدام المطلوب في المدينة، وبهذا كانت الثورة قرار والضرائب ليس أكثر من مبرر وحجة.
ويسهب الكاتب في شرح مدى سرية تنظيم الثورة وإبعاده عن جواسيس نابليون وعن القيادة الرسمية المضطرة للتعامل مع نابليون رغم تعاطفها مع الثورة، وعن الثورات التي تبعت ثورة القاهرة وحرب العصابات التي نشأت في دلتا مصر، والتي توحي بوجود تنسيق بين ثورة القاهرة التي تمتعت بتخطيط كبير وسرية والثورات في المناطق المجاورة للقاهرة.
ثم يتحدث عن وحشية الجنود في إعدام النساء الثائرات بسجن القلعة إما بحد السناكي أو إغراقاً بالنيل دون أن تُسجل حالة انهيار واحدة في صفوف المجاهدات الباسلات، وهنا يتساءل الكاتب كيف يمكن أن يبرر مؤرخ عادل هذا الفعل الشنيع للحملة الفرنسية التي توصف “بالمحررة” للمرأة!
ثم يتحدث عن طريق قوات نابليون من العريش إلى عكا نهبا وتقتيلا، فبعد معاهدة لم تُحترم مع حامية العريش وبعد نهب وسلب لغزة، فتحت يافا بنفس الأسلوب الذي فتحت فيه القدس قبل ثمانية قرون من الحملة الفرنسية، ووقعت المجزرة الشهيرة في يافا التي استمرت لأكثر من يوم في الرجال والنساء والمسيحيين وكل من له وجه إنسان. ثم أنزل الله كرمه في اليوم التالي الطاعون على رؤوس الغزاة.
وهنا يتساءل كاتب سيرة نابليون عن نوعية الرجل الذي يأمر بقتل أكثر من ألف إنسان وفي اليوم التالي يذهب لزيارة الجنود الفرنسيين المرضى ويحمل أحدهم دون تقزز، ولكن لا غريب في هذا في الحضارة الغربية التي لا ترى أي إنسانية كاملة في أي شخص غير أوروبي. وقتلنا عندهم لا يشكل جريمة ضد الإنسانية.

الفصل الخامس

المؤسسات الاستعمارية

إلى جانب عمليات القتل والتنكيل حاول نابليون وضع تنظيمات إدارية تضمن ضبط الأهالي وتنظم سرقة مواردهم، فعمل على إنشاء ديوان أو مجلس من المشايخ ثم طلب منهم جمع ضرائب باهظة من المصريين فطلب المشايخ التخفيف لكن الفرنسيين لم يوافقوا وأجبروهم على جمعها، فكان الديوان جهاز لجمع الضرائب والغرامات، وكانت مهمته الأخرى إخماد الثورات والسيطرة على الشعب.
ويشير كشك أن المدرسة الاستعمارية في تفسير الحملة الفرنسية ترى في الديوان المذكور تدريبا للمصرين على النظام البرلماني وتجربة الحكم الذاتي! كما أنشئ نابليون مجلس وزراء خاص بمصر وعين عليه سكرتيرا عاما للمجلس.
وما من شعب على طول تاريخ الاستعمار تقبّل “إصلاحات” المستعمرين أو نفذها طواعية دون إكراه، ولكن الشعوب تجرعت ذلك في السيف والمدفع، وإن مقاومة المصرين أجربت الفرنسيين على الكشف عن أنيابهم. والتصرف مثل تصرف الأسبان تجاه سكان أمريكا الأصلين.
ويروي كشك قصة محاولة نابليون الحصول على فتوى من الأزهر يأمر من خلالها العامة بحلف يمين الولاء لنابليون، وكيف ارتبك شيوخ الأزهر ثم وقف كبيرهم الشيخ شرقاوي وطلب من نابليون إعلان إسلامه ليتبعوه ويتبعهم العرب من بعدهم، فدهش الجنرال من رد الشيخ.
ويتحدث كشك عن فكرة أن نابليون سمى جيشه الذي توجه لاحتلال بلاد الشام واحتل العريش وغزة ويافا، سماه (جيش مصر) في محاولة لعزل مصرعن باقي الدول الإسلامية وكأن المصريين سينخدعون ويفرحون بانتصارات قوات الاحتلال لأن اسم الجيش (جيش مصر)!
ويدحض كشك ادعاءات تقول أن الحملة الفرنسية علمتنا التخلص من امتيازات موروثة، والمساواة أمام القانون!، في حين أن في فرنسا كان يحاكم النبلاء بمحاكم خاصة لاعتقادهم أن دم النبلاء أزرق  ويختلف عن دم الخاصة!، ولا يوجد في التاريخ الإسلامي شيء يسمى محاكم خاصة بطبقة ما، ولا يوجد في التاريخ الإسلامي امتيازات موروثة وإلا كيف وصل العديد ممن كانوا صبيان مماليك إلى مناصب قيادية عسكرية ودينية!

الفصل السادس

الثورة الخالدة

نشبت ثورة القاهرة الثانية على أثر نقض الاتفاق الذي تم بين الإنجليز والأتراك مع الفرنسيين والذي ينص على جلاء الفرنسيين عن مصر بعد عودة نابليون إلى فرنسا وتولي كليبر قيادة جيش الاحتلال في القاهرة، لكن يفشل الاتفاق ويهاجم كليبر الجيش العثماني الذي اقترب من شواطئ مصر بناء على الاتفاق ليهزم الجيش العثماني في ساعات معدودة. فيعود كليبر إلى القاهرة فيجدها مدينة يحكمها الثوار، ويحتاج إلى شهر كامل من المعارك والحرق والقصف ليستطيع دخولها من جديد على أكوام الجثث والرماد.
ونهبوا ما يستطيعون نهبه بما في ذلك النساء، جيش أجنبي يقتحم عاصمة يقتل ويحرق وينهب ويسبي النساء فيتساءل كشك هنا أين بواعث القومية في ذلك أين يجد أنصار المدرسة الاستعمارية برهانهم على المهمة الحضارية للحملة الفرنسية؟
وأخذ كشك في هذا الفصل ينفي ادعاءات عن الطائفية التي حملتها ثورة القاهرة الثانية، والتي كانت بفعل سياسات الفرنسيين الدافعة نحو إثارة النعرات وبتدخلات عملاء الفرنسيين، ونفي ما اتهمت به الثورة من الغوغائية والفوضى وهو أمر طبيعي في الثورات عموما حي في ثورة فرنسا التي كانت أكثر الثورات غوغائية.

الفصل السابع

الليمونة سحقت الشربتلي

بعد أن بطش كليبر بالمصريين قتلا وحرقا وسبياً وبعدما اعتصر البلاد “كما يعتصر الشربتلي اللمونة” على حد وصفه، حيث أفلسها بالغرامات، وبعدما زرع الأحقاد الممزقة لوحدة الأمة، ظن أن “الليمونة المعصورة” فقدت قدرتها على الحياة، فإذا بالليمونة تعصره وتقذفه إلى الفناء.
حدث في الحادي والعشرين من يونيو عام 1800 وقعت نادرة عجيبة، فتى من حلب في عمر الورد لم يتجاوز 24 عاما، تمكن سليمان الحلبي من قتل كليبر قائد الاحتلال الفرنسي في مصر كمثال على المجاهد الإسلامي وليرسخ المعنى الحقيقي للوحدة الإسلامية المتحدية لمحاولات التمزيق والتفرقة.
ويروي كشك كيف اتجه سليمان إلى الأزهر مركز الثورة وتلقفته خلية من الشوام هناك، وسواء قدم بتوجيهات من التنظيم الثوري خارج الأزهر أم أن من في الأزهر تلقفوه واستغلوا غياب المراقبة عليه لكونه قادم من خارج مصر وبالتالي خارج أعين عملاء الفرنسيين الذين يكتبون التقارير باستمرار عن الأزهر وتلاميذه فالنتيجة واحدة.
وسخر كشك من المحكمة الصورية التي أعدتها فرنسا لسليمان الحلبي ورفاقه، التي استجابت للادعاء ثم حكم على سليمان أن تقطع يده اليمين ويتخوزق ثم يبقى على الخازوق حتى تأكله الطير. وكانت هذه محكمة الحرية وليدة الثورة الفرنسية المجيدة، وذكر كشك في عدل المسلمين في قصة محاكمة ابن عمر بن الخطاب لأنه قتل ثلاثة من المجوس بعد استشهاد أمير المؤمنين في مؤامرة يهودية فارسية وكيف قدم للقصاص ثم عفي عنه أهل المقتولين.

الفصل التاسع

ولله الحمد والمنة

تابع كشك ما تبع اغتيال كليبر من فوضى في صفوف فرنسا ومحاولاتها الأخيرة في تكوين ديوان طائفي يستبعد قدر الإمكان مشايخ الأزهر والشوام، وغيرها من المحاولات حتى أفلست فرنسا وأفلست مهمتها الحضارية وخرجوا من ديار الإسلام صاغرين، وتابع في خواتيم الكتاب ما تبع هذه الحادثة من عواصف فكرية في الفكر العربي المعاصر، في أطروحات الطهطاوي والأفغاني وغيرهم، وختمها في الحديث عن مرحلة “الصحوة الإسلامية” في الفكر العربي التي تلت هزيمة القومية وفكرها في حرب 1967، الصحوة التي تتبنى صيغة الإسلام الحضارية التي تقبل كل ما في الشرق من أديان وطوائف وأعراق، فالإسلام هو التاريخ والثقافة وبطاقة الهوية وهو الخيار الحضاري الوحيد، الصحوة التي ستؤدي إلى تحرير المسلمين وعزة  الإسلام.



           فيلم وثائقي عن الأزهر