‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاندلس. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاندلس. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 14 يونيو 2020

المعتمد بن عباد.. مأساة آخر ملوك الطوائف في الأندلس

المعتمد بن عباد.. 
مأساة آخر ملوك الطوائف في الأندلس



أمين حبلا

سمت الدنيا حياة المعتمد بن عباد على غير ما تمنى، فنقلته من دار عز وملك إلى سجن وهوان، ومن قصر مترف باذخ إلى قلعة حجرية مؤلمة، ومن رفاهية ونعيم لا يزال مضرب المثل إلى شظف من العين وسوء من الأحوال لا يزال يستدر دمع الأيام كلما عرضت ذكراه.

وبين شطري الدنيا الذين عاشهما المعتمد بن عباد بين الأندلس والمغرب انتقل العيد من عنوان فرح وبذخ إلى ذاكرة مأساة لا تندمل، خصوصا عندما رأى بناته ذات عنفوان حزن وهنّ "يغزلن للناس ما يملكن قطميرا"، 
فبعد جرهن ذيول العز متبخترات في أجواء الرفاهية، لمحهن الوالد الأسير والقيد يأكل معصميه النضرين، وهن في أطمار بالية يخدمن العامة سعيا للحصول على كسرة خبز.

أي قسوة تلك التي عامل بها أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الأمير المعتمد بن عباد بعد أن لجأ إليه واستنقذ حكمه، وبعد أن رد على من لامه في اللجوء إلى ابن تاشفين قائلا "لأن أكون راعي إبل لدى ابن تاشفين أحب إلي من أكون راعي خنازير لدى ألفونسو".

وإذا كان ابن عباد قد ضيق دائرة الخيارات وحصرها في مهنة راع، فإن ابن تاشفين ضيق القيد أكثر، حتى ناشده ابن عباد في واحدة من أقسى حالات الألم في قصيدته "قيدي أما تعلمني مسلما".

إشبيلية جنة الغناء.. مملكة الشاب المغرور

في مدينة باجة التي تقع الآن في دولة البرتغال في الجزء الغربي من الأندلس، ولد محمد بن عباد (الذي لُقب لاحقا بالمعتمد)، وتولى الإمارة والزعامة السياسية وهو طفل مراهق رخو البنان لم يتجاوز 12 عاما، حيث عيّنه والده عباد واليا على مدينة "أونبة"، وعينه قائدا لجيوشه، وكلفه بالمهام الصعبة من قتال وفتح وإغارة.

وقد ارتبط الرجل بالأدب والفن والشعراء، فأقام حوله جيشا منهم يسبحون بحمده، ويحيون له ليالي السمر، مع رعيل من الجواري اللواتي أخذن جزءا أساسيا من دائرة تفكير الرجل وطموحاته ومساره العاطفي، حتى بلغ حدته مع بروز جاريته اعتماد الرميكية أسطورة الدلال الأكثر غرابة في تاريخ النسوية العربية وكواليس القصور.

ولد المعتمد ابن عباد عام 432 للهجرة (1041م) في غرب الأندلس، وكان والده عباد الملقب المعتضد بالله ملكا مهيبا مرهوب الجانب مدحه شعراء الأندلس، وهو إلى هيبته وملكه كان ماكرا، وقد وضع نصب عينيه توسيع مملكته، ولو على حساب سقوط مناطق متعددة من خارطة بلاد الإسلام في الأندلس.

تمكن المعتضد بالله قبيل وفاته من السيطرة على الكثير من أراضي ملوك الطوائف وضمها إلى دائرة ملكه المتوسع المتمدد، قبل أن يسلمه إلى ابنه المعتمد الذي تولى الحكم بعد موت والده، وكان يومها في العقد الثالث من عمره، فحوّل إِشبيلية ذات القصور الزاهية إلى جنة غناء، تحيط بقصره الفخم قصور وزرائه وجنوده وكبار مملكته ورجال حاشيته.



ملك الحرب والحب

وزّع ابن عباد حياته الملكية بين الحرب والحب، وبين الجمال والقتال، وفي كلا الجزأين أرسل ابن عباد طرفه رائدا، فأتاه بأسرى وكنوز ومدن جديدة، وجاء بأسيرات ومحظيات وعشيقات ثم كانت الهزيمة حظه من الاثنين، والنهاية المأساوية خاتمة الحب والحرب.

كان ابن عباد شاعرا وملكا سخي الكف، ولذلك احتشد حوله شعراء الأندلس مثل أبي بكر بن عمار وابن زيدون وابن حمديس وابن اللباتة الذي رافقه بوفاء منقطع النظير، وقد استأثر ابن عمار من بين حاشية وندامى ابن عباد من قلبه بالمكان السامي، فمنذ أن اكتشف المعتمد شخصية ابن عمار أثناء فتحه لمدينة شلب، توطدت العلاقة بينهما حتى صارت أٌقرب مما بين الأب وابنه، كما وصفها أحد مؤرخي الأندلس.

ولما تملك ابن عباد، ولّى ابن عمار إمارة شلب بناء على طلبه، وعاد إليها الشاعر المغرور، ليستدعي تاجرا منحه ذات مرة زكيبة من شعير بعد أن مدحه بقصيدة، وكافأه بزكيبة أخرى ولكن من دراهم ودنانير.
أس في رأس ابن عامر.. قسوة الانتقام

أخذ الشاعر المغرور أبو بكر بن عامر يدك المدن واحدة تلو أخرى، ويعلي من شأن نفسه، ويوسع مملكة ابن عباد، ويبرم باسمه الاتفاقيات حتى دون استشارته، ومن ذلك عهد بمنح 10 آلاف قطعة ذهبية لملك برشلونة الكونت "ريموند برانجيه" مقابل العون على فتح مرسية والاستيلاء عليها وإدالة ملكها أبي عبد الرحمن بن طاهر، غير أن الاتفاق ارتفع بعد ذلك إلى 30 ألف قطعة بعد أن تأخر الفتح، وكان ابن عباد مرغما على أن يدفع المبلغ المذكور، وأن يكمله من عملة مغشوشة.

ثم بدأت نار الشكوك تأكل قلبي الصديقين، وبدأ كل واحد منهما يحذر من الآخر غاية الحذر، وانتهت بفرار ابن عمار إلى مملكة ابن هود حاكم سرقسطة الأندلسية، بحثا عن مأوى وحضن بعد أن غضب عليه ابن عباد، ولم تزل العقبات والإخفاقات تتقاذف ابن عمار حتى وقع في الأسر في حصن شقورة شمالي مرسية، وهنالك عرض للبيع فقد كان مطلوبا لأكثر من طرف أندلسي بحكم شبكة العداوة التي أقامها في سنوات الحرب.

عاد المعتمد بن عباد ليوقع ابن عمار في شباك أخرى غير الإحسان والصداقة، وألقى به في غيابات السجن، ولم تستطع قصائده الباكية ومناشداته أن تمنع ابن عباد من إنهاء حياته بضربات مؤلمة بالفأس حينما خر إليه ليقبل قدميه رجاء النجاة، لكن ابن عباد قضى عليه بقسوة شديدة، ثم أمر بتجهيزه ودفنه قبل أن يجلس للبكاء على صديقه الذي صنعه بيديه وقتله بيديه.
اعتماد الرميكية.. أسطورة الدلال التي غيرت اسم الأمير

حمل ابن عباد لقب المؤيد بأمر الله، لكن تخلى عنه يوم عرف الجارية اعتماد الرميكية، فاحتلت مكانا من قلبه سميا، وخلق لها من اسمه شريكا، وقد استغلت الرميكية شغف ابن عباد بها إلى أقصى درجة، فكانت سيدة الدلال في المملكة.

وتروي قصص التاريخ وكتب الأندلس مبالغات كثيرة عن إسراف الرميكية في البذخ، حيث طلت جدران القصور بالمسك والعنبر، وأقام لها ذات مرة مستنقعا من حناء وعنبر، لتمر فيه، وهي تحمل جرار الذهب، بعد أن تذكرت أيامها وهي تعبر لجة الطين لتنقل الماء إلى بيتها الذي لم يكن مرموقا قبل أن تدخل قلب ابن عباد.


قتل سفراء "ألفونسو".. إعلان الحرب

مع مقتل ابن عمار بدأ المعتمد ابن عباد يستعيد شيئا من قوته وضميره الذي غاب لسنوات تحت وهج الحرب والحب، وبدأ يطالب ملوك الإسبان بالتوقف عن التوسع في بلاد المسلمين، رغم أنهم كانوا حلفاءه في إسقاط إمارة طُليطلة، وأمام هذه المطالبة، أصبح ابن عباد هدفا للإمبراطور الإسباني "ألفونسو السادس" ملك قشتالة الذي كان قد فرض على ابن عباد دفع الجزية، واستمر الملك في دفعها لسنوات من ذهب بعضه مغشوش.

واصل "ألفونسو" استفزاز ابن عباد مطالبا تارة باقتطاع المدن الحدودية، وأخرى بأن تلد زوجته في مسجد قرطبة وفقا لبضع الروايات التاريخية، وتارات أخرى بدفع الإتاوات، وعندها ثار ابن عباد وأرسل جنده ليقتلوا رسل ألفونسو ويطردوا مبعوثيه، وكان الأمر قرارا نهائيا بدخول الحرب مع "ألفونسو".

وكرد على المقتلة التي ارتكبها ابن عباد ضد رسل "ألفونسو" البالغ عددهم 500 شخص، أرسل له رسالة ساخرة يطلب منه أن يرسل له مروحة لرد الذباب، ورد عليه بأنها ستأتيه بأيدي فرسان المرابطين، وقد أخذت الرسالة موقعا من "ألفونسو" الذي فك الحصار عن إشبيلية، وبدأ في ضم الممالك الأخرى واحدة بعد أخرى.
أمير المسلمين.. نجدة فرسان الصحراء

كان اللجوء إلى المرابطين خيارا عاما لملوك الطوائف، وليس للمعتمد بن عباد لوحده، وقد استقر أمر ملوك وعلماء الأندلس على الاستنجاد بابن تاشفين، وكان ابن عباد أكثر المتحمسين لهذا الرأي، وكان يصف ابن تاشفين بأمير المسلمين وناصر الدين.

ولم تكن حاشية ابن عباد ومقربوه مطمئنين لهذا الاستنجاد، ولا حلف المعتمد مع ابن تاشفين، فكان يرون سيف صاحبهم أضعف السيفين، ويده السفلى وكفته الأخف في ميزان العلاقة بين الأندلس المهيض والمغرب الناهض. لكن ابن عباد كان يرد على ذلك بتصميم "تالله إني لأؤثر رعي الجمال لسلطان مراكش على أن أغدو تابعا لملك النصارى وأن أؤدي له الجزية، إنَّ رعي الجمال خيرٌ من رعي الخنازير".

وفي مرة أخرى ينهض الضمير الديني لدى ابن عباد فيرد على ابنه رشيد "والله لا يُسمَع عني أبدا أني أعدت الأندلس دار كفر ولا تركتها للنصارى، فتقوم عليَّ اللعنة في منابر الإسلام مثل ما قامت على غيري".

معركة الزلاقة.. ميلاد جديد في الأندلس

تأخر ابن تاشفين عن الوصول إلى الأندلس، حتى ظهرت حاجة ملوكها وضعفهم، ودفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون للملك "ألفونسو".

في منتصف العام 479 هـ، وصل الجيش الصحراوي بقيادة يوسف ابن تاشفين، والتأمت جيوش ملوك الطوائف مع عسكر ابن تاشفين في جيش عظيم، وكان ابن تاشفين في مؤخرة الجيش يقدمه ثلاث وحدات ضمت عشرات الآلاف، بقيادة ابن عباد وبقية ملوك الأندلس.

بدأت المعركة في 12 رجب عام 479 هـ، الموافق 23 أكتوبر/تشرين الأول 1086م، وكادت الدائرة أن تدور على المسلمين في اليوم الأول، قبل أن يلتف ابن تاشفين على جيش "ألفونسو" الذي وقع بين فكي الجيشين الإسلاميين، لتنتهي المعركة بنصر مبين للمسلمين وهزيمة مريرة لقوات "ألفونسو".

ونتيجة لهذه المعركة الفارقة في التاريخ الإسلامي، استرد المسلمون مدينة بلنسية وعادت إليهم السيادة على كثير من أطراف الجزيرة الخضراء.

ابن تاشفين.. معركة القضاء على ملوك الطوائف

أقام ابن تاشفين في إشبيلية عدة أيام كان فيها موضع احتفاء هائل من ابن عباد، ورأى الرجل الصحراوي القادم من مراكش مظاهر اللهو والترف والنعيم الذي لم يتعوّده، مما أوغر صدره واتهم ابن عباد بالظلم والجور ونهب أموال رعيته ليصنع منها ترفه وملكه.

وبعد أن كسرت شوكة الإفرنجة بعد الزلاقة، عادوا من جديد ليبدأوا حروبا انتقامية، وكان ابن تاشفين متحمسا لمواجهتهم، عكس بقية ملوك الطوائف في الأندلس، وبدأت نار الخلاف تدب بين الأطراف المتعددة في الحلف الأندلسي المغاربي.

ويذهب عدد من المؤرخين إلى أن انبهار ابن تاشفين بما رأى من عظمة الملك، واتساع العمران في إشبيلية وغيرها من المدائن الأندلسية فتح شهية الملك في نفسه، فقرر أن يتحول من منقذ إلى مالك ومسيطر، حسبما يقول البعض.

بيد أن العديد من المصادر والروايات التاريخية تؤكد أن ابن تاشفين قرر العودة إلى الأندلس في عام 483هـ حين رأى تفاقم المشكلات ذات الطبيعة الاجتماعية والدينية في الجزيرة، وتزايد حالات التنافر والتخاصم بين أمراء الطوائف، بل وعودة بعضهم لعادتهم السابقة في التحالف مع ملوك الإفرنجة. وقيل إن ابن تاشفين وصله أن بعضهم عقد اتفاقات سرية مع ملك قشتالة يتعهدون فيها بالامتناع عن نصرة المرابطين والتحالف معهم، ولأجل ذلك قرر القضاء عليهم.

بدأ ابن تاشفين من مالقة، ثم تهاوت دول الطوائف أمام جيشه الذي توزع إلى أربع جبهات قضت على ملوك الطوائف واحدا إثر الآخر، وكان من آخرها مملكة ابن عباد الذي حاول الاستنجاد بـ"ألفونسو" مرة أخرى، ولكن الفأس يومها قد وقعت في الرأس.
سجين أغمات.. قصة المنفى الأليم

نفى أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين الأمير المعتمد بن عباد وما بقي من أولاده وزوجته اعتماد الرميكية، فأقاموا فترة في طنجة قبل أن ينقلهم إلى سجن قلعة أغمات القاسية، وهنالك عانى شظف الحياة بعد سنوات النعيم.

وقد شيع الشاعر الوفي ابن اللبانة أميره ابن عباد في قصائد ومدائح ذائعة منها قوله:

حَانَ الوَدَاعُ فَضَجَّتْ كُلُّ صَارِخَةٍ
وَصَارِخٍ مِنْ مُفَدَّاةٍ وَمِنْ فَادِي

سَارَتْ سَفَائِنُهُمْ وَالنَّوْحُ يَتْبَعُهَا
كَأَنَّهَا إِبِلٌ يَحْدُو بِهَا الحَادِي

كَمْ سَالَ فِي المَاءِ مِنْ دَمْعٍ وَكَمْ حَمَلَتْ
تِلْكَ القَطَائِعُ مِنْ قِطْعَاتِ أَكْبَادِ

لم ينس ابن عباد وهو أسير منفي طباعه في الكرم، فتهافت إليه شعراء المغرب بحثا عن المال، وكان رصيده من ذلك قليلا، لكن الزمن الذي سلبه كل شيء لم يسبله نزوع نفس تواقة إلى الكرم، فأجاب الشعراء معتذرا بقلة حيلته:

شُعَراءُ طَنجَةَ كلُّهُم والمَغْرِبِ
ذَهبوا من الإِغرَابِ أبعَدَ مَذهَبِ

سَألُوا العَسيرَ مِنَ الأسِيرِ وإنَّهُ
بسُؤالِهم لأَحَقُّ مِنهُمْ فَاعجَبِ

لَولاَ الحَياءُ وعِزَّة لَخمِيَّةٌ
طَيَّ الحَشا لَحَكاهمُ في المَطْلَبِ

ولم يزل ينفد شيئا فشيئا حتى كانت النهاية في قمة الفقر، فكان يقدح زند المأساة في قصائده الذائعة التي يصف فيها حاله وحال أسرته مثل قوله يوم عيد:

فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا
فساءك العيدُ في أغمات مأسورا

ترى بناتك في الأطمارِ جائعة
يغزلْن للناس ما يملكْنَ قِطميرا

برزْن نحوَك للتسليمِ خاشعةً
أبصارُهنَّ حسيراتٍ مكاسيرا

يطأْنَ في الطين والأقدام حافية
كأنها لم تطأْ مسكا وكافورا

كان ابن عباد الجواد الأسير يناجي قيوده باكيا، متذكرا أيامه يهز الرمح فاتكا أو فاتحا، حتى أنه ناجى قيده مرة بقوله:

غنتك أغماتية الألحان
ثقلت على الأرواح والأبدان

قد كان كالثعبان رمحك في الوغى
فغدا عليك القيد كالثعبان

متمددا بحذاك كل تمدد
متعطفا لا رحمة للعاني

قلبي إلى الرحمن يشكو بثه
ما خاب من يشكو إلى الرحمن

وتارة تضعف النفس المكلومة والقلب الملكي الشجي، فيعيد مناجاة القيد بشيء من التذلل.

قيدي أما تعلمني مسلما
أبيت أن تشفق أو ترحما

دمى شراب لك واللحم قد
أكلته لا تهشم الأعظما

يبصرني فيك أبو هاشم
فينثني القلب وقد هشما

كتب عن ابن عباد الكثير من القصص والروايات المؤلمة، حتى قيل إن ابنته بثينة التي فقدت يوم قضى ابن تاشفين على ملك أبيها، راسلته بعد أن بيعت في أسواق النخاسة، وبعد أن تمنعت على سيدها الجديد، إلا بعقد يوافق عليه أبوها، فوافق مكرها وليس له غير ذلك، مع وداع لا لقاء بعده، إذ لم يعد في إمكان المعتمد واعتماد الرميكية أن يقيما عرسا أندلسيا يليق بابنتهما، فقد مضى ذلك الزمن وحل آخر صعب المراس أخذ يذوي أغصان اعتماد ويذيب زهرة نضارتها، فلم تتحمل قسوة المغرب الأقصى وودعت الدنيا قبل ابن عباد الذي لحق بها بعد ذلك سنة 488هـ/1095م، منهيا خمس سنوات من الألم الخالد في صفحات التاريخ.

الأربعاء، 27 مايو 2020

ما لا تعرفه عن محاكم التفتيش

ما لا تعرفه عن محاكم التفتيش

إني أشهدكم أني لن أشهد هذا اليوم وأقل ما نفعله هو أن نموت في سبيل الله إن كنا نؤمن به، وإن كان الإسلام قد ذهب من نفوسكم وأنتم قادة الشعب، أفلا تقاتلون عن نسائكم وأموالكم وبلادكم؟! سوف يأتي عليكم يوم تبحثون فيه عن الموت الشريف فلا تجدون وقته، لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة مَلِكِهم؛ إن الموت أقل ما نخشى.

يُريد أن هناك ما هو أصعب من الموت؛ فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق، هذا ما سوف نعاني من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة، التي تخشى الآن الموت الشريف، أما أنا فوالله! لن أراها.

كان هذا موسي بن أبي الغسان سنة “1491” عندما اشتد الحصار علي غرناطة واجتمع أبو عبد الله بقادته ومن بينهم موسي وسألهم عما يمكن فعله الآن؟! ووافق الجميع علي التسليم إلا ذلك البطل، الذي بناه الإسلام فعارض أية مبادرة للتسليم والاستسلام.

لقد فقد المسلمون روح الفروسية واستناموا للعبث؛ إنهم حريصون علي الحيـاة، وأي حياة تلك؟! لكنه حب الدُنيا، ذلك المرض القاتل الذي حذرنا منه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-. إن هذا الرجل العظيم الذي رفض وحده تسليم غرناطة للقشتالين (موسي بن أبي الغسـان)، مات مجاهدًا ومعه قلة قليلة ليلة تسليم غرناطة فلم يشهد هذا العار. وسُلِمت المدينة للملكين إيزابيلا وفرناندو وأقيم القداس النصراني في الجامع الأعظم الذي تحول منذ ذلك اليوم إلي كنيسة، ووقعت المعاهدة  التي سطرها  القشتاليون و دفعوا الرشاوي الضخمة لإمضائهـا، وتم تسليم غرناطة عام 1941م.

بنود المعاهدة


الشروط التي كُتبت ووضعها القشتاليون و الوعود الكاذبة تلك، كانت أغلب نصوص المعاهدة تهتم بالإسلام والمسلمين واحترامهم واحترام شعائرهم، وتعهد ملكي قشتالة بشرفهما الملكي بالوفاء بالمعاهدة! كما كانت مليئة بالبنود المهينة، التي تضمن كل القوة للقشتالين، ولا تضمن شيئًا للمسلمين، اللهم إلا أن يظلوا مسلمين.

ومن بنود المعاهدة
تعهدت السلطات الإسبانية باحترام عقائد المسلمين.
لا يُسمح لأي نصراني بدخول المساجد أو أماكن عبادة المسلمين دون إذن من الفقهاء، ومن يفعل ذلك يُعاقب.
لا يجوز إرغام مسلم أو مسلمة علي اعتناق النصرانية.
يجب أن يقضى في أية دعوى أو مشكلةٍ تقع بين المسلمين وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، إلا أن عليهم الخضوع للحكم السياسي للنصارى!
لا شيء يحدث اعتباطًا، كل شيء بقدر الله، واختياراتنا جزء من قدر الله عز وجل، وإنما يجري كل شيء في حياتنا وفق سنة الله التي لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحابي أحدًا لكونه من ذريةِ قومٍ صالحين!

    فلن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنة الله تحويلًا        
ومن سنن الله أنه لا يغير نعمة أنعمها علي قومٍ حتي يغيروا ما بأنفسهم، كأن ينحرفوا عن الطريق مثلًا. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول:

  “إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع       وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتي ترجعوا إلى دينكم”.                                                          

درس قاسٍ ومحنة أقسى
أما آن لنا أن نتعلم؟! لقد فهمها موسي بن أبي غسان رحمه الله جليةً واضحةً حين قال:

لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون        بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة مَلِكِهم؛ إن الموت أقل ما   نخشى.                                                            

وقد أخبرنا الله من قبل أن مثل هؤلاء لا عهد لهم ولا ذمة، بل لم يجز الإسلام أن يتولى أمرك كافر حتى لو توفر فيه كل الشروط الأُخرى. أي معاهدة تلك وأي سلامٍ مزعوم هذا؟! وأنت مكللٌ بالخزي وملطخٌ بالعار، وليس في يديك قوة، بل ليس في يديك شيء أصلًا فقد ارتضيت الذلة والهوان، فأي سلامٍ تنتظر؟! أما آن لنا أن نعي أنه لا مجال للتعايش، وأن سنة الله في الكون هي التدافع! وهذا حال المعاهدات دائمًا وأبدًا، حكامنا يسلمون أراضينا، من أجل السلام والرخاء. ثم، لا سلام، ولا رخاء، بل مزيدًا من الشقاء، والتبعية. وما معاهدة كامب ديفيد عنا ببعيد، بل إنا نتجرع مُر السلام هذا كل آن.

وبدأت المحنة الحقيقية
وبدأت أعوام من الذل والمهانة والإبادة! لكن أين كان العالم الإسلامي من هذا؟! كانت هذه المحنة أيام “بايزيد الثاني” السلطان العثماني، فاتفق هو و”قايتباي” سلطان مصر في ذلك الوقت علي مساعدتهم، وبينما التجهيزات مستمرة لتنفيذ الخطة شُغل بايزيد الثاني في فتنة قامت بين أولاده “كركود” و “أحمد” و “سليم”. وأما “قايتباي” فقد أرسل له فريناند وإيزابيلا سفيرًا يُسمي السنيور “بطره مارتير” فراح يقنع قايتباي بالعدول عن إرسال جيشه ونجح في مسعاه !

ثلاث خيارات أمام الأندلسيين

غادر الأندلس كثير من العلماء فلم تعد أرضًا للإسلام ولم يعد بها أمان ثم بدأ الضغط علي من لم يهاجر فأصبح أمامهم ثلاث خيارات:
  • التنصر

وفي هذه الحالة يكون مواطنًا من الدرجة الثانية.
  • المحاكمة والتعذيب والإهانة والقتل

ولقد أتوا ما أتوا باسم المسيح عليه السلام وهو منهم ومن إفكهم بريء. أصدر فيرناند سنة 1499 بيانًا بإغلاق المساجد وحظر إقامة شعائر المسلمين، وفي هذا العام أيضًا صدر أمر بإقامة محاكم التفتيش في غرناطة، وأصدرت إيزابيلا تأمر باعتناق المسيحية أو مغادرة البلاد والتخلي عن أطفالهم . ثم صدر بعد ذلك قانون عجيب في زمن فيليب الثاني يحظر علي المسلمين الاغتسال وتم هدم الحمامات العامة في المدن وهدم حمامات غرناطة، وأصبح الاغتسال أو وجود أي أثر للاغتسال أمرٌ يدعو إلي التعذيب والقتل! ثم أُصدر قانون بمنع الزي العربي ومن يرتدي زيًا عربيًا أو إسلاميًا يقتل لمخالفته لقانون البلاد الملكي!

إنها إبادة لهوية أمة… محاكم التفتيش

وبالرغم من كل هذه القوانين، فشلوا في القضاء علي المسلمين وفي طردهم جميعًا من بلادهم فجن جنونهم، وازداد توحشهم، وأُنشِئت هيئات كنسية وحكومية للكشف عن المسلمين الذين يخفون إسلامهم ويظهرون خلاف ذلك. وكان يكفي لإدانة أي إنسان مجرد الاشتباه به دون وجود تهمة حقيقية أو شواهد! وكانوا يقبلون شهادة الأطفال والخدم والمجانين والعبيد والسكارى. كان الطرد والحرق والتعذيب والإهانة هو وسيلة تلك المحاكم لإخراج الناس من عقيدتهم. ورغم ذلك ظل الإيمان موجودًا في الصدور.


لقد شهدت الكتب التعليمية التي يتوارثها الأندلسيون سرًا لتعليم أبنائهم الإسلام بالتطور المنحدر في اللغة العربية، ولربما تحتفظ العائلة بكتاب واحد تجمع فيه التعاليم، ثم يضيف الجيل اللاحق إلى السابق، وهنا يظهر كيف ينحدر مستوى اللغة، ومستوى الخط العربي من جيل إلى جيل، ثم لم تأت سنة ،1540 إلا وكانت قشتالة وطليطلة خاليتين تمامًا ممن يعرف اللغة العربية. ومما قد يخفي علي الكثيرين أن محاكم التفتيش لم تقم ضد المسلمين فقط، بل كانت ضد اليهود وبعض المسيحين أيضًا وكل من يثبت عليه بدليل أو بدون دليل أنه هرطوقي “يتبع غير دين المسيحية”.

محاولات التنصير أو القتل
الشيخ الصقري، أراد منه الكاردينال أن يصدر فتوي بجواز ترك الإسلام إلي المسيحية مقابل مال وفير، وقال: ستري كيف يكون كرم الكنيسة معك! فقال:

هذه الفتوي لا تصدر مني أبدًا حتي لو أعطيتني كل ما في خزائن الملكين الكاثوليكيين.                                     

فقال الكاردينال: خذوا هذا الأحمق واضربوه مائة سوط ثم سلوه الإيمان بالمسيح فان لم يفعل فكرروا. وقال للجموع الغاضبة عندما طالبت بهذا الشيخ: لقد قتلناه، رفض الإيمان بالمسيح فليذهب إلى الجحيم.

مشاهد من محاكم التفتيش
كان موكب الاوتو دافي يمر بشوارع المدينة-كل المدينة-بين الحين و الآخر. وكان هذا الموكب مشهورًا في تلك الأيام فهو موكب الإحراق. فهم يقودون المحكوم عليهم بالموت حرقًا عبر الطرقات حتي الساحة التي يتلون فيها حكم المحكمة، ثم يتم تحريقهم وسط ضجيج المتفرجين. وكانوا يأتون بأهل المحكوم عليهم ليشاهدوا، ويطمئنهم الحبر الأعظم الذي يُشرف على تنفيذ عملية الحرق وهو يبتسم لهم في وداعة و طيبة و إيمان، كل هذا من أجل خلاص روحه، يجب أن تسعدوا وتفرحوا لا أن تبكوا و تحزنوا! النار تطهره وحسنة لكل من يشعله، هيا تقدموا و افعلوا.


وكانوا أحيانا يرغمون الأهل ع فعل ذلك. وكان الإحراق بطيئا حتي لا يتم الموت بسرعة، فتأخذ الروح فرصة للتطهر والسمو؛ فالألم أعظم ما يتغلب به الإنسان على الشيطان. وكان الإحراق حتي لا يُراق الدم، فإراقة الدم في نظرهم حرام. هكذا كانوا يفعلون بالمسلمين، وكذا يُفعل بالمجرمين يوم القيامة. وكان فرناندو الخامس يقول للأحبار و الرهبان :

"أنتم تقدمون أعظم خدمة للمسيح و الكنيسة، و لترتح    ضمائركم الحية، فموت مائة بريء خير من نجاة مذنب واحد،. أجبروهم على الإيمان فهكذا تحدث الإنجيل!"    

وكانت من وسائل التعذيب: تقديم الطعام والشراب لهم في رمضان، والويل كل الويل لمن يرفض أو يتحجج، تقديم لحم ميتة لم تذبح.

ومن أسباب إدانة المتهمين: الامتناع عن أكل لحم الخنزير، وقول بسم الله، تسمية أولادهم بأسماء عربية.

ويذكر المؤرخ محمد إلهامي قصة مأساوية لامرأة أندلسية
ولدت ماريا لويز لعائلة أندلسية في قرية غرناطية، وعلمها أهلها الإسلام بعد الحادية عشرة كما كانت عادتهم، وذلك أن القساوسة كانوا يحاولون استدراج الأطفال لمعرفة إخلاص أهليهم فحملهم ذلك على تأخير تعليم الإسلام لأبنائهم حتى سنّ التمييز. 
وهكذا نشأت ماريا وتعلمت وفهمت وأخلصت للإسلام كما تعلمت كيف تخفي دينها وتراوغ في الاحتفاظ به. وحيث كانت ضمن قرية غرناطية فقد كانت الحياة هادئة، إلا في الأيام التي يفاجئهم فيها القساوسة.

وصارت تصلي في المساء وتصوم رمضان كغيرها من أهل القرية، إلا أن تطورًا مثيرًا حدث في حياتها لا نملك تفاصيله، إذ تزوجت في الرابعة عشرة من أحد “النبلاء” وأخذها معه إلى أمريكا، إلا أنها استمرت محتفظة بدينها حتى السابعة والعشرين، ولما طال عليها الأمد، وبلغت الخامسة والأربعين اعترفت للكاهن في جلسة الاعتراف بأنها كانت مسلمة وأنه لم يزل في نفسها بعض آثار من تعلقها به، وطالبت بأن تُحرق إن كان هذا يطهر روحها. إلا أنهم–ولأسباب اجتماعية سياسية-قرروا عليها غرامة بسيطة، إذ استوثقوا من صدق توبتها. فمن منا يرضى لبناته هذا المصير؟

"هذا المصير ليس مستحيلًا ولا بعيدًا، فقط لو استقر في  بلاد الإسلام نظام علماني استبدادي يُطارد الدين وأهله    وينشر الكفر ويعمل له."                                        

من ألوان التعذيب

تعذيب الماء
يتم توثيق المتهم في آلة شبيهة بالسلم ويخفض رأسه ويفتح فمه ويصب فيه الماء صبًا بكميات كبيرة وقد تنفجر معدته.

تعذيب التعليق
يوضع ذراع المتهم خلف ظهره ثم يعلق منها ويوضع ثقل من الحديد في جسده وقد تنخلع ذراعاه أحيانًا.

ألوان أخرى من العذاب

تعذيب الأسياخ المحمية في القدم وطحن العظام وتفسيخ الأرجل وخلع الفك وآلات لسل اللسان، ولتمزيق أثداء النساء، وسحبها من الصدور بواسطة كلاليب حديدية، ومجالد من الحديد الشائك لجلد المعذبين وهم عرايا حتي يتناثر اللحم من العظم، والكثير والكثير ولم يكن هناك حد معين للتعذيب! وانتهي الأمر عندما أصدر فيليب الثالث مرسومًا بنفي جميع المسلمين عام 1906 ولم يتم التنفيذ إلا عام 1915.

ختامـــا
"كنت أود أن أُنهي مقالتي بعبارة “ما أشبه الليلة              بالبارحة”، لكني أستميحكم عذرًا، نعم، بكل مرارة ما أشبه الليلة بالبارحة، مع فارق ضئيل، أن التعذيب اليوم يتم علي يدي من يدَّعون أنهم أبناء دينك!"                               

وكما ذكرنا سابقًا أن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم، وتلك من سننه سبحانه التي لا تتبدل فلنعمل جاهدين علي التغيير، الأمر ثقيل وكل المعالي ثقيلات، لكن الخطوات يسيرة إن شاء الله، الأمر كله جهاد، حتي لو كان دورك الآن هو جهاد نفسك، أو نشر الوعي بين الناس وفضح الظلم والفساد، فافعل والزم ثغرك ورسالتك.

إعداد: ليلى أحمد