‏إظهار الرسائل ذات التسميات العالم الإسلامي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات العالم الإسلامي. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 2 مايو 2023

حرب تفكيك السودان

 حرب تفكيك السودان

د. هشام عليوان


 

هي أخطر حرب يواجهها السودان، على الرغم من التاريخ الطويل للتمردات العسكرية التي واجهتها الحكومة المركزية منذ الاستقلال عن بريطانيا عام 1956


فكل حروب الانفصال عن المركز، دارت رحاها في الولايات البعيدة، فنجح انفصاليو الجنوب في الاستئثار بدولة جنوب السودان عام 2011 عقب ستين سنة من التمرد، ولم تنجح الحركات الانفصالية الحديثة العهد في الغرب والشرق والجنوب (المجاور لدولة جنوب السودان) في تحقيق أهدافها. أما خطورة الصراع الحالي، فتُلمح في أن طرفيه هما الجيش، وقوات الدعم السريع المنضوية في المنظومة العسكرية الرسمية منذ عام 2017. وأن الطرف الثاني في مواجهة الجيش، تكوّن أصلاً لمواجهة تمرد ولاية دارفور المنتشر منذ عشرين عاماً، وأن تحوّل قوات الدعم السريع الدارفورية إلى قوات متمردة في قلب العاصمة، هو تطوّر بالغ الخطورة على وحدة السودان ومصيره كدولة مركزية.

صحيح أن قوات الدعم السريع خرجت من رحم الجيش السودني وعلى أعين جهاز الاستخبارات، وهي مكشوفة أمام القوات النظامية، من حيث العدد، والعدة، والتكتيكات، ومستوى التخطيط وطبيعته، ومقار القوات ومرتكزاتها في الخرطوم، والولايات الأخرى، كما أن تحركاتها الأخيرة قبيل ساعة الصفر كانت مرصودة بدقة، إلا أن تحشد قوات الدعم السريع مسبقاً في الخرطوم، ووجود قيادتها بالقرب من القيادة العامة للجيش السوداني، ومقر إقامة رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد الجيش، فضلاً عن بقية المقار العسكرية والامنية والسياسية البالغة الحساسية في بقعة ضيقة بين مطار الخرطوم والقصر الرئاسي وما حواليها، بما لا يتخطى بضعة كليومترات مربعة، وانتشار معسكراتها عل نحوٍ طبيعي في العاصمة المثلثة، جعل الهدف مغرياً لحميدتي بتنفيذ انقلاب مدعوم سياسياً من بعض مجموعات الحربة والتغيير في الداخل، ومن دول تسعى لهدم النظام القديم بمؤثراته الإسلامية وإقامة نظام مدني جديد. هذه البقعة هي مركز الثقل في النظام، فمن يسيطر عليها، يسيطر على الخرطوم وعلى السودان. وفيها تركزت المعارك منذ اللحظة الأولى، وفيها الخاتمة؛ فإما انتصار حميدتي بمعنى تمكن وحداته خارج الخرطوم من فك الحصار عنه، وتطويق الوحدات النظامية بحزام خارجي من القوات المجلوبة من الولايات المجاورة والبعيدة، وإما ضرب الجيش لطرق إمداد قوات الدعم السريع خارج العاصمة، بعد تدمير مقارها في العاصمة المثلثة، وخنق الجيب الذي تحتشد فيه قوات الدعم السريع إلى أن يستسلم حميدتي أو يقضي نحبه.

 

أبدى حميدتي تأييده لطرح النظام المدني، وهو كان يراهن أن يطول أمد دمج قواته بالجيش. لكن البرهان الذي رضخ للضغوط الخارجية والداخلية، فقبل بإخراج الجيش من السياسة، لم يتساهل مع فكرة بقاء حميدتي خارج المنظومة العسكرية

الخرطوم مسرح العمليات

الخرطوم هذه المرة، هي مسرح العمليات العسكرية الرئيسية، وهي عبارة عن مدينة كبرى تضم تجمعات سكانية متنوعة إثنياً وعرقياً، وهي التي احتضنت الفارين من الولايات المضطربة واللاجئين من الدول المجاورة، على مدى سنوات طويلة، فتضاعف سكانها ثلاث مرات في العقود الثلاثة المنصرمة، من أكثر من مليونين إلى ما يتجاوز 6 ملايين نسمة، عدا العدد الإجمالي لسكان ولاية الخرطوم أكثر من 9 ملايين، وهي التي تيلغ مساحتها أكثر من 22 ألف كلم مربع، أي ما يتخطى ضعف مساحة لبنان، أي ما يقارب ربع سكان السودان.

الخرطوم هي مركز العصب السياسي للسودان الذي يبحث عن الاستقرار منذ ولادته. فيها يلتقي نهرا النيل الأبيض والنيل الأزرق؛ ينطلق الأول من منطقة البحيرات العظمى في وسط أفريقيا، وينبع الثاني من المرتفعات الأثيوبية، وعندما يلتقيان فيها عند نقطة المقرن، يتحد اسمهما فيصبح نهر النيل الذي هو هبة مصر. التقاء رافدي النيل في الخرطوم، جعل من الكباري (الجسور) التسعة جزءاً تقليدياً من حياة المدينة، ووسيلة طبيعية لحمايتها من الهجمات الخارجية والتهديدات الداخلية. لذا، فإن أي انقلاب عسكري لا بد أن يستند على الإمساك بهذه الجسور، وأي ثورة شعبية لا تتمكن من تجاوز الجسور، لا يمكن أن تفرض إرادتها، من دون انحياز الجيش إليها. من يسيطر على الخرطوم لا تعصى عليه الولايات. وبما أن قوات الدعم السريع تتكوّن أساساً من القبائل العربية في ولاية دافور، فلن تجد حاضنة شعبية مناسبة لها في العاصمة المؤيدة تقليدياً للجيش. وهذا ما يجعل الانقلاب العسكري منحصراً في البقعة الضيقة التي توجد فيها كل المقارّ السيادية. وهي نقطة الضعف أيضاً.

ومن أجل تجاوز قيود الحركة الانقلابية، عرقياً وعسكرياً وجغرافياً، مهّد حميدتي قبل سنوات لانقلابه الأخير:

أولاً: من خلال رعايته ىعقد اتفاق السلام في جوبا بين الخرطوم وبعض الحركات المتمردة في دافور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق في 3 تشرين الأول/أكتوبر عام 2020، وهي الحركات التي قاتلتها قوات الدعم السريع منذ عام 2013 في أيام النظام السابق، وثمة أحقاد عميقة بسبب ما ارتكبته قوات الجنجويد منذ عام 2003 في دارفور، وما جنته لاحقاً قوات الدعم السريع في تلك المناطق المتمردة.

وثانياً: التقرّب من المكوّن المدني الشريك في السلطة الانتقالية متبرئاً من شراكته مع البرهان في الانقلاب الذي نفذه في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، على ما نصت عليه الوثيقة الدستورية الموقع عليها بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في 17 آب/أغسطس (آب) 2019، أي بعد أربعة أشهر من الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير في 11 نيسان/أبريل ذاك العام.

وثالثاً: إبرام عقود مع شركات علاقات عامة أجنبية للترويج له وتبييض صفحته، أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، تمهيداً لتحقيق طموحه للوصول إلى الرئاسة الأولى. لكن العقدة المركزية التي أعاقت كل هذا المسار، هي ما ورد في الاتفاق الإطاري الذي وُقع بين المكون العسكري (جيش ودعم سريع) والمكون المدني (قوى الحرية والتغيير)، في 5 كانون الأول/ديسمبر العام الماضي، وينص على دمج قوات الدعم السريع بالجيش من ضمن الإصلاح العسكري المطلوب، كما ينص على طبيعة النظام الجديد، وهو أن السودان دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية برلمانية، السيادة فيها للشعب وهو مصدر السلطات، ويسود فيها حكم القانون والتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات الحرة والنزيهة والتقسيم العادل للثروات والموارد. وأن المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات وتقوم على المساواة بين المواطنين دون تمييز نوعي ديني ثقافي إثني لغوي جهوي. وبالمقابل، تكون الدولة محايدة دينياً. أي أن السودان الجديد هو علماني. وهذا الاتفاق مبني على ما ورد في الوثيقة الدستورية قبل أربع سنوات.

 

المسار التراجعي للانقلاب مشروط بعدم تدخل أطراف أخرى في المعركة، سواء الحركات المتمردة الأخرى، أو قوى خارجية مؤيدة لحميدتي، ومنها مرتزقة فاغنر الروسية، وميليشيات اللواء حفتر في ليبيا

أبدى حميدتي تأييده لطرح النظام المدني، وهو كان يراهن أن يطول أمد دمج قواته بالجيش. لكن البرهان الذي رضخ للضغوط الخارجية والداخلية، فقبل بإخراج الجيش من السياسة، لم يتساهل مع فكرة بقاء حميدتي خارج المنظومة العسكرية، منافساً في الشأن السياسي، استناداً إلى قوات الدعم السريع. فإن كان الجيش خارج السياسة، فعلى قوات الدعم السريع أن تكون كذلك خارج السياسة، وأن تندمج بالجيش خلال سنتين، وهي مدة المرحلة الانتقالية. الخلاف على مدة الدمج هو كذلك على معاييره، لأن حميدتي برتبة عميد دون أن يتدرج في السلك العسكري، كان يطمح في الأقل إلى الترقي والحصول على منصب قائد الجيش، مقابل تخليه عن قيادة الدعم السريع. وعلى هذا، تعثّر مطلع نيسان/أبريل الحالي التوقيع على الاتفاق النهائي لنقل السلطة إلى المدنيين بانقضاء المرحلة الانتقالية بعد عامين. فتسارعت التحركات الانقلابية لقوات الدعم السريع، لجوءاً على ما يبدو إلى الخطة ب. وهو تنفيذ انقلاب عسكري هو أقرب الطرق إلى القصر الرئاسي، وليس من دون دعم من قوى داخلية وخارجية.

سيناريو الانقلاب

يتبين من متابعة سير المعارك في الأيام الأخيرة من شهر رمضان في الخرطوم بشكل رئيسي، وفي الولايات الأخرى كمسارح ثانوية ورافدة للجهد الأساسي في العاصمة، أن سيناريو الانقلاب يستند إلى استغلال نقاط القوة لدى قوات الدعم السريع (كثافة العدد، وسرعة الحركة)، ومحاولة التعويض على نقاط الضعف لديها للتغلب على القوات النظامية الأكثر احترافية وتسلحاً وشعبية. فكانت الضربة الأولى موجهة إلى المطارات في العاصمة والولايات المجاورة، مروي في الشمال، والأُبيّض، فضلاً عن مطار الخرطوم، بهدف تحييد سلاح الجو عن المعركة، لأن قوات الدعم السريع وإن كانت تضم عدداً مقارباً من الجنود (ما يقارب 100 ألف حسب بعض التقديرات)، ويمكن لوحداتها الخفيفة المناورة واحتواء الحركة البطيئة لسلاح الدبابات في الجيش، من خلال الكرّ والفرّ، إلا أنها لا تمتلك سلاح الطيران، وهو نقطة التفوق في الصراع حالياً.

وبما أن قوات الجيش موزعة في قواعدها المرتكزة في العاصمة والولايات لضمان الأمن والاستقرار، فقد حشد حميدتي جلّ قواته لمعركة الحسم في الخرطوم، وهو ما أتاح للجيش تصفية قواعد الدعم السريع في الولايات خارج الخرطوم تدريجياً، مع رصد قوافل الدعم المرسلة إلى العاصمة وقصفها بالطائرات والمسيرات. فبدلاً، من استفادة قوات التمرد من قدرتها الفائقة على الحركة والانتقال من الولاية الارتكازية لقواتها أي دارفور، إلى الخرطوم وبالعكس في حال فشل الانقلاب، وجدت نفسها عالقة في أحياء الخرطوم، وهي تستنفد ما لديها من مؤن وذخيرة.

والمسار التراجعي للانقلاب مشروط بعدم تدخل أطراف أخرى في المعركة، سواء الحركات المتمردة الأخرى، أو قوى خارجية مؤيدة لحميدتي، ومنها مرتزقة فاغنر الروسية، وميليشيات اللواء حفتر في ليبيا، والتي ساندها حميدتي في حربها على الحكومة المعترف في طرابلس الغرب عام 2019.

مصير التحول الديمقراطي

أما آثار الصراع الدائر على الاتفاق الإطاري الهادف إلى نقل السلطة إلى المدنيين، فليست واضحة تماماً، وإن كان تورط قوى مدنية ثورية بدعم قوات الدعم السريع والرهان عليه، أو مجرد الوقوف على الحياد في المعركة التي تهدد وحدة السودان، سيلقي أعباء كبيرة على المسار السياسي كما كان مقرراً قبيل إطلاق الرصاصة الأولى. فبعض الحركات المسلحة المتمردة وبعض قوى الحرية والتغيير، مسنودة بدول خارجية، ما تزال ترى في الجيش معقلاً للحركة الإسلامية التي حكمت السودان على مدى ثلاثين عاماً. ومن غير المعقول بنظر هؤلاء أن يتحول الجيش ببساطة من معسكر إلى آخر، قبل تطهيره من فلول النظام القديم، وإعادة بنائه على أسس جديدة. ولهذا يرون في حميدتي البراغماتي بديلاً ملائماً لتنفيذ برنامج تعقيم الجيش السوداني من المؤثرات الإسلامية. إلا أن القبول بفكرة انتصار ميليشا غير منضبطة على جيش نظامي هو من أعرق الجيوش الإفريقية، فقط لتحقيق هدف أيديولوجي، من أفدح الأخطاء التي ارتكبتها الأحزاب والقوى السياسية منذ الاستقلال.

ولهذا من المتوقع، أن يحظى الجيش وقيادته، بشعبية كبيرة، في نهاية الصراع، إن تمكن من حلّ قوات الدعم السريع، بأقل خسائر مدنية ممكنة. ومن ذلك الوقت، سيكون صعباً على القوى المناهضة لدور الجيش في الحياة السياسية، أن يكرروا المعزوفة نفسها. فما الجدوي من التغيير السياسي المنشود إن كان مآله تفكيك السودان إلى دويلات متناحرة، ومن بوابة إضعاف الجيش، وتدمير إمكانياته، وتحطيم معنوياته.

 

السبت، 15 أبريل 2023

تاريخ التراويح..

تاريخ التراويح.. 

أعدم الفاطميون مصليها وعطلت إقامتها الأزمات ومن أئمتها ابن تيمية وابن ميمون اليهودي والصبيان في الحرمين



محمد المختار ولد أحمد
يورد الرحالة ابن جُبير الكِناني الأندلسي (ت 614هـ/1217م) -في كتاب رحلته- معلومات مدهشة عن إمامة ‏الصبيان للتراويح في الحرم المكي والاحتفالات المصاحبة لها؛ فقد ذكر أنه في "ليلة إحدى وعشرين [من رمضان] خَتم فيها أحد أبناء أهل مكة…؛ فلما فرغوا منها قام الصبي ‏فيهم خطيبا، ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور إلى [وليمة في] منزله..؛ ثم بعد ذلك ليلة ثلاث ‏وعشرين، وكان المختتِمَ فيها أحدَ أبناء المكيين ذوي اليسار غلاما لم يبلغ سنه الخمس عشرة ‏سنة…، وحضر الإمامُ الطفلُ فصلى التراويح وختم، وقد انْحشد أهل المسجد الحرام إليه رجالا ‏ونساء، وهو في محرابه"!!

ولم يكن هذا مقتصرا على مكة فحسب؛ بل كان من عادات أهل الحجاز عموما ومصر وعدد من البلدان الاسلامية تشجيع الأطفال على إمامة التراويح، بشرط إتمام أحدهم حفظ القرآن وإكماله اثنتي عشرة سنة ليكون بذلك أهلا لتولي إمامة الصلاة النافلة.


والراصد لإمامة الأطفال سيراها بكل جلاء مؤشرا لطبيعة تعامل المسلمين مع شعيرة صلاة التراويح، حيث لا تُؤتَى باعتبارها صلاة يُتقرَّب بها إلى الله زُلفَى -والحال أنها كذلك حقا- بل ومدخلا للمسرّة وسعادة التلاقي الاجتماعي التي تضفيها الأجواء الرمضانية على كافة العبادات، وأيضا ظرفا مناسبا لتهيئة الأطفال لمهام الكبار. ولذلك اشتهر الكثير من العلماء بأنهم صلَّوْها أئمةً -وهم صغار- بتشجيع من المجتمع وفي صدارته أهلُ العلم، ولعل من أشهرهم في ذلك الإمام ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) الذي أمَّ الناس في التراويح بالحرم المكي وعمره اثنتا عشرة سنة 785هـ/1383م‏‏.

بدأ تاريخ تأدية صلاة التراويح جماعةً في المساجد مع الخليفة عمر الفاروق (ت 23هـ/645م) رضي الله عنه؛ إذ ارتأى أن تكون صلاة جماعية مسجدية بدلا من إقامتها في البيوت، وكان هدفه أن يجمع جماعة المسلمين على قارئ واحد، فعمَّمَ العمل بذلك في بلدان الخلافة. وإذا كان عمر هو أول من اسْتنّ التراويح المسجدية فأضحت بذلك سُنّة حسنة مضت عليها أغلبية المسلمين حتى اليوم؛ فإنه كذلك هو أول من باشر ربطها بأجواء البهجة والزينة والإنارة، حين قام بتعليق المصابيح الرمضانية في المساجد، فصارت بذلك التراويح والأنوار في لقاء واقتران حتى يوم الناس هذا.

جمع الفاروق المسلمين على قارئ واحد بغية الاجتماع والأنس والتآلف، ثم جاء زمن كانت فيه التراويح أحد عناوين الفرقة والتعصب المذهبي، وواقعا يكشف عن مدى تغلغل فيروسات التحلل والتفكك في الجسد الإسلامي. فقد شهد الحرمان المكي والمدني والمسجد الأقصى تعددية متزامنة في صلاة التراويح كان فيها خروج عن مبدأ وحدة المصلين وتكملة صفوف الصلاة، وبدلا من أن تكون جماعة واحدة على قارئ واحد بات لكل مذهب فقهي إمام ولكل طائفة جماعة، رغم التقاء الجميع في أكناف الكعبة وهي رمز وحدتهم، وهذا المسلك يناقض السنة العُمَرية ومقصدها الرامي لإكثار عوامل التوحد والتماسك، فتلك كانت الفكرة الأبرز من وراء إقامة التراويح في المساجد.

وطَوال حقب التاريخ الإسلامي؛ ظلت التراويح ميدانا لإظهار المواهب الممتازة في الأداء الصوتي، لما اعتاده الناس في اختيار أئمتها من انتقاء الأندى صوتا والأتقن في حفظ القرآن الكريم والأدق في فنون تجويده وتلاوته. وحتى اللحظة؛ لا تزال صلاة التراويح هي الفرصة المثلى للتعرف على الأصوات المتميزة عذوبةً في النبرة وجودةً في الأداء.


وقد جاء أئمة التراويح من كل الفئات والخلفيات؛ فكان منهم القراء الكبار وعظماء العلماء، ‏ومشاهير الرحالة والتجار، بل والسلاطين و‏الفراشون العاملون في المساجد. ومن أشهر أئمة التراويح الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) صاحب التفسير والتاريخ، وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م)، فقد جمع هذان الإمامان بين الصوت الحسن وغزارة العلم والإمامة في الدين، وسَجلتْ مهاراتِهما في كل ذلك كُتُبُ التراجم والتاريخ.

وفي هذه المقالة؛ سنقدم نبذة تاريخية عن هذه الشعيرة المحببة إلى القلوب المؤمنة في شهر ‏القرآن لما يقترن بها من تلاوة وتدبر للقرآن الكريم، واجتماع للمؤمنين -على اختلاف طبقاتهم أعمارا وأقدارا- ‏طوال لياليه المباركة في رحاب ومحاريب المساجد العامرة بذكر الله تعالى، فنروي باختصار كيف ‏بدأت منذ فجر الإسلام، ونرى بعض ما اعتراها -عبر قرونه ‏اللاحقة- من مسحات اجتماعية كادت تخرجها من حيز ‏العبادات (الدين) إلى دائرة العادات ‏‏(التدين)!!

كما سنكشف جانبا من تأثرها بتاريخ المسلمين ومؤثراته المختلفة عقديا وفقهيا ‏وسياسيا ‏واجتماعيا، ونعرض لذكر مشاهير من أعلامِ جمْعها أئمةً ومأمومين. ‏وسنكتشف -أثناء ذلك كله- أن كثيرا من ‏ممارساتنا المقترنة بهذه الشعيرة العظيمة لم تكن وليدة اليوم، بل ورثناها منذ حقب متطاولة!!



مبادرة عُمَرية
يلخِّص لنا العلامة ابن المِـبْرد الحنبلي (ت 909هـ/1503م) -في كتابه ‘محض الصواب‘- أصلَ نشأة صلاة التراويح في الإسلام ‏بقوله: "لا يتوهَّمْ متوهِّمٌ أن التراويح من وضع عمر (بن الخطاب ت 23هـ/645م) -رضي الله عنه- ولا أنه أول من وضعها، بل كانت ‏موضوعة من زمن النبي ﷺ، ولكن عمر.. أول من جمع الناس على قارئ واحد فيها، ‏فإنهم كانوا يصلون لأنفسهم فجمعهم على قارئ واحد…، وسُمِّيت ‘التراويح‘ [بهذا الاسم] لأنهم ‏يستريحون فيها بعد كلّ أربع".

وقبل ابن المِـبْرد بستة قرون؛ حدد لنا الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) تاريخ صدور أمْر عمر بجمع ‏الناس لصلاة التراويح فقال -في تاريخه- إنه كان في سنة 14هـ/636م "وكتب بذلك إلى البلدان وأمرهم به".

وقد ‏خصص عمر قارئا للصلاة بالرجال وآخر للنساء؛ لكن يبدو أن أمهات المؤمنين لم يكنّ –نظرا لمكانتهن الخاصة- يشهدن تراويح النساء العامة، كما يُفهم ذلك من الأثر القائل إن "ذَكْوان (أبا عمْرو ت 63هـ/684م) مولى [السيدة أم المؤمنين] عائشة (ت 58هـ/679م) -رضي الله عنها- كان يؤمُّها في… صلاة التراويح [وهو يقرأ] في المصحف"؛ كما في رواية الإمام أبي القاسم الأصبهاني الملقب بقوام السُّنة (ت 535هـ/1140م) في ‘سِيَر السلف الصالحين‘.

وحفظت لنا كتب الفقه والتاريخ والتراجم ‏أسماء القُرّاء الذين كلفهم عمر -في أوقات مختلفة- القيام بهذه المهمة؛ فذكرت من قُرّاء الرجال: ‏أبيّ بن كعب الأنصاري (ت 22هـ/644م) الذي "كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث، وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من الركعات"؛ وفقا لابن تيمية (ت 728هـ/1328م) في ‘مجموع الفتاوى‘.


ومن قُرّاء الرجال كذلك معاذ بن الحارث ‏الأنصاري (ت 63هـ/684م). وأما قُرَّاء النساء فهم: تميم بن أوس الداري (ت 40هـ/661م) الذي ورد أيضا أنه صلاها بالرجال، وكذلك سليمان ابن ‏أبي حَثْمَة القرشي (ت بعد 43هـ/664م)، وعمرو بن حُرَيث المخزومي (ت 85هـ/705م).



أوليات وآراء
ومن الأوّليات المتعلقة بتاريخ التراويح استحداثُ استدارة الصفوف حول الكعبة؛ فأبو عُبيد البكري الأندلسي (ت 487هـ/1094م) يروي -في ‘المسالك والممالك‘- عن الإمام سفيان بن عيينة (ت 198هـ/814م) أن "أول من أدار الصفوف حول الكعبة عند قيام رمضان [والي مكة الأموي] خالد بن عبد الله القَسْري (ت 120هـ/739م)، وكان الناس يقومون في أعلى (= بداية) المسجد؛ [فـ]ـأمر.. الأئمةَ أن يتقدموا ويصلّوا خلف المقام، وأدار الصفوف حول الكعبة".

وقد استقرّ حكم التراويح الفقهي -عند علماء أهل السُّنة- على أنها "سُنّة" لا "فَرْض"، وساقوها مثالا نموذجيا على "البدعة الحسنة" شرعا عند القائلين بها منهم؛ لكن بعض هؤلاء العلماء ذهب إلى أنه "لا يجوز ‏تركها في المساجد… لكونها [صارت] شعارا [للمسلمين]، فتلحق بفرائض الكفايات أو السُّنن ‏التي صارت شعارا… كصلاة العيد"؛ وفقا لخلاصة فقهية قررها الإمام تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1370م) في ‘طبقات الشافعية‘.

كما استحب العلماء -حسب الإمام أبي بكر البيهقي (ت 458هـ/1067م) في ‘شُعَب الإيمان‘- أن "يُزاد في شهر رمضان في أنوار ‏المساجد" بتعليق المصابيح فيها؛ قائلين أيضا إن "أول من فعله عمر بن الخطاب لما جمع الناس في ‏التراويح"؛ طبقا لمؤرخ المدينة المنورة نور الدين السمهودي (ت 911هـ/1505م) في ‘وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى‘.

وفي ذلك روَى الإمام النووي (ت 676هـ/1277م) -في ‘تهذيب الأسماء واللغات‘- أن علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م) رضي الله عنه "مرّ على المساجد في رمضان وفيها القناديل تـُزْهِر، فقال: نوّر الله على عمر قبره كما نور علينا ‏مساجدنا"!!

ومع أن جماهير المسلمين ساروا على نهج الصحابة في إقامة شعيرة التراويح في رمضان؛ فإنه ‏ظهرت آراء أنكرت شرعيتها باعتبارها "بدعة ‏عُمَرية"؛ كما ترى طوائف الشيعة باستثناء بعض أئمة الزيدية. ونسب المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘المواعظ والاعتبار‘- إلى ‏الفرقة النَّظـّامية من المعتزلة قولها إنه ‏‏"لا تجوز صلاة التراويح".‏

أئمة مشاهير
تنوعت الطبقات والفئات الاجتماعية التي جاء منها أئمة التراويح عبر حقب التاريخ الإسلامي؛ فكان منهم أساطين العلماء والقراء الكبار، ‏ومشاهير الرحالة والتجار، وحتى السلاطين بل و‏الفراشون العاملون في المساجد. فقد تولى إمامتها "شيخ ‏المفسرين" الإمام الطبري، و"شيخ المقرئين" في ‏عصره أبو بكر ابن مجاهد ‏البغدادي (ت 324هـ/936م)، و"شيخ الواعظين" الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م).

ويحكي الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) -في ‘تاريخ بغداد‘- أن ابن مجاهد هذا استمع ليلة إلى صوت معاصره وبلديِّه الطبري -وهو يؤم ‏‏الناس في التراويح بمسجده ببغداد- فقال لأحد طلابه: "ما ظننت أن الله تعالى خلق بشرا يُحسن [أن] يقرأ هذه ‏القراءة"!!‏

ويذكر الإمام ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) -في ‘تاريخ دمشق‘- أن شيخه المقرئ أبا الفتح الأنصاري المقدسي (ت ‏‏539هـ/1144م) كان "يصلي التراويح في ‏مسجد علي بن الحسن" بدمشق.

وهذا أبو جعفر ابن الفَنَكي ‏الشافعي القرطبي (ت 596هـ/1200م) "كان الناس يتزاحمون على الصلاة ‏خلفه التماسا لبركته ‏واستماعا لحسن صوته، وحين مجاورته بمكة.. كان أحدَ المتناوبين في قراءة التراويح ‏برمضان…، ‏وقراءتُه تُرِقُّ الجماداتِ خشوعًا"؛ حسب ابن جبير الكناني الأندلسي (ت 614هـ/1217م) في كتاب رحلته.‏


ومن أئمة التراويح الذين كان لهم شأن في التاريخ العلمي الإسلامي: شيخُ الإسلام ابن تيمية الحراني؛ فقد قال تلميذه ‏المؤرخ ابن الوردي المعري الكِندي (ت 749هـ/1348م) ‏‎‎أثناء ترجمته له في تاريخه: ‏‏"وصليتُ خلفه التراويح في رمضان فرأيت على قراءته ‏خشوعا، ورأيت على صلاته رقة ‏حاشية تأخذ بمجامع القلوب".‏



تنوُّع لافت
وكان من أئمتها أيضا الفقيه الرحالة الشهير المقدسي البشاري (ت 380هـ/991م)؛ فقد حدثنا -في كتابه ‘أحسن التقاسيم‘- عن زيارته لليمن فقال ‏إن أهل عدن "يختمون في ‏رمضان في الصلاة ثم يدعون ويركعون، وصليتُ بهم التراويح ‏بعدن فدعوت بعد السلام فتعجبوا ‏من ذلك"!!

ويبدو أن بعض أئمة التراويح كانوا من فئة العلماء التجار مثل أبي علي ‏الهلالي الحوراني المقرئ التاجر ‏(ت 546هـ/1151م)، والتاجر المكي الكبير الخواجا جمال الدين ابن الشيخ علي الجيلاني (ت ‏‏824هـ/1421م) ‏الذي "حفظ القرآن الكريم وصلى به التراويح في مقام الحنفية [بالحرم المكي] سنة ست عشرة ‏وثمانمئة"؛ طبقا لمؤرخ مكة المكرمة تقي الدين الفاسي المكي (ت 832هـ/1429م) في ‘العِقد الثمين في تاريخ البلد الأمين‘.

ويخبرنا الفاسي أيضا بأن من أئمة التراويح من كان ينتمي إلى فئة الفرّاشين ‏التي يعهد إليها بخدمة المسجد الحرام، وممن ذكره منهم أحمد بن عبد الله الدُّوري المكي (ت 819هـ/1416م) "الفراش بالحرم الشريف [بمكة]، وكان يصلي بالناس صلاة التراويح في ‏رمضان".‏

ومن الأمراء العلماء الذين احتفظ لنا التاريخ بذكرهم في سجلّ أئمة التراويح: السلطان عالَمْكير أورَنْكْزيب (ت 1118هـ/1706م) الذي حكم الهند 50 سنة، وُصف خلالها بأنه "ليس له في عصره من الملوك نظير في حسن السيرة"؛ وفقا لمعاصره المؤرخ المحبِّي الدمشقي (ت 1111هـ/1699م) في ‘خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر‘. ويضيف المحبي أن أورَنْكْزيب كان "مع سعة سلطانه يأكل في شهر رمضان رغيفا من خبز الشعير من كسب يمينه، ويصلى بالناس التراويح، وله نِعَمٌ بارَّةٌ وخيرات دارَّةٌ جدا"!!

ومن أغرب قصص مشاهير "أئمتها" ما أورده المؤرخ ابن شاكر الكتبي (ت 764هـ/1363م) -في ‘فوات الوفيات‘- من ‏أن الحبر اليهودي الكبير ‏موسى بن ميمون القرطبي (ت 601هـ/1204م) "أسلم بالمغرب [مُكْرَهاً أيامَ دولة الموحدين] وحفظ ‏القرآن واشتغل بالفقه؛ ولما قدم [بحراً إلى فلسطين سنة 560هـ/1165م] من ‏الغرب صلى بمَن في المركب التراويح ‏في شهر رمضان" حين أدركهم أثناء رحلتهم.

ثم سرعان ما انتقل ابن ميمون هذا من فلسطين إلى مصر، وعندما اطمأنّ به المُقام فيها -حيث كان أفقُ التعايش الديني أرحبَ في ظل الدولة الأيوبية- عاد إلى ديانته الأصلية، وصار "رئيساً على اليهود" ‏فيها وقاضيا لقضاتهم سنة 573هـ/1177م الذي يسمونه "الناجد"، وذلك أيام ‏سلطنة صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م).‏
مهارة وإتقان
ومن نماذج أئمة التراويح المهرة الذين اعتادوا ختم القرآن فيها في ليلة واحدة ونحوها؛ قاضي القضاة بدمشق أبو الحسن عماد الدين الطَّرَسُوسي الحنفي (ت 748هـ/1347م) الذي "كان يحفظ القرآن في أقل مدة، حتى إنه صلى به التراويح في ثلاث ساعات وثلثيْ ساعة بحضور جماعة من الأعيان"؛ وفقا لمحيي الدين القرشي (ت 775هـ/1373م) في ‘الجواهر المُضِيَّة في طبقات الحنفية‘. ومع أن مفهوم "الساعة" عند الأقدمين مختلف -في مقداره الزمني- عن مفهومه اليوم؛ فإن احتمال مبالغة المؤرخين في قِصَر وقت الختمات يظل واردا.

‏ويروي الإمام شمس الدين الجَزَري (ت 833هـ/1430م) -في ‘غاية النهاية في طبقات القراء‘- أن المقرئ كمال الدين أبا الحسن الحميري الإسكندري المالكي (ت 694هـ/1295م) كان "يصلي ‏التراويح في كل ليلة بختمة كامل الشهر كله"، كما كان المقرئ أبو محمد يعقوب بن يوسف الحربي (ت 587هـ/1191م) "يصلي بالناس التراويح في رمضان كل ليلة بنصف ختمة"؛ طبقا ‏‎للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في ‘لسان الميزان‘. ‎

ونجد بعض أئمتها من يخصص ختمة لكل عشر ليال من رمضان؛ فقد أخبرنا المؤرخ الأندلسي ابن بَشْكُوَالَ (ت 578هـ/1182م) -في كتابه ‘الصِّلَة‘- أن أبا القاسم خَلَف بن يحيى الفهري الطليطلي (ت 405هـ/1015م) "كان سكناه بالنَّشارين (= حيّ النجّارين)، وهو إمام ‘مسجد اليتيم‘ بقرطبة…، [و]كان يقوم في مسجده في رمضان بتسعة أشفاع (= 18 ركعة) على مذهب مالك، ويختم فيه ثلاث ختمات: الأولى ليلة عشر، والثانية ليلة عشرين، والثالثة ليلة تسع وعشرين".

وقد اعتاد كثير من أئمة التراويح صلاتها بالقراءات السبع وأحيانا العشر؛ ومنهم أبو علي الهلالي الحوراني -المتقدم ذكْرُه عند ابن عساكر في ‘تاريخ دمشق‘- الذي ‏‏"كان يصلي بجامع دمشق… صلاة التراويح ويقرأ فيها بعدة روايات يخلطها، ‏ويردد الحرف (= اللفظ) المختلَف فيه" بين القرّاء.


ويقول الإمام الذهبي (ت ‏‏748هـ/1347م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- إن أبا العباس البَرَداني البغدادي الضرير (ت 621هـ/1224م) "كان يقرأ ‏في التراويح بالشواذّ رغبة في الشُّهرة"،‏ وكذلك المقرئ ‏محمد بن أحمد المقدسي الشافعي (ت 885هـ/1480م) الذي "صلى للناس التراويح في رمضان بالقرآن بتمامه، كل عُشر منه [بقراءة] إِمام من [القراء] العَشرة"؛ حسب الإمام السخاوي (ت 902هـ/1496م) في ‘الضوء اللامع‘.

ومن مشاهير أئمتها الذين مكثوا عشرات السنين وهم يؤمون الناس فيها أبو علي الحسن بن ‏داود القرشي الأموي الكوفي (ت 352هـ/963م)، فقد كان "صاحب ألحان، صلى بالناس التراويح في ‏جامع الكوفة ثلاثا وأربعين سنة"؛ كما يخبرنا عنه المؤرخ تاج الدين ابن أنجب السَّاعي (ت 674هـ/1275م) في ‘الدر الثمين في أسماء المصنفين‘.

وكذلك أبو عبد الله النيسابوري المُزكِّي (ت 392هـ/1001م) الذي يفيدنا الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- بأنه "صلى ‏بالناس التراويح ثلاثا وستين سنة بالختمة". ومثله كريم الدين أبو جعفر العباسي الخطيب (ت ‏‏574هـ/1178م) الذي "خطب بجامع القصر [في بغداد] وصلى التراويح نحوا من خمسين سنة"؛ حسب كمال الدين ابن الفُوَطي الشيباني (ت 723هـ/1323م) في ‘مجمع الآداب في معجم الألقاب‘.‏تراويح الخاصة
كان من العادات الاجتماعية المرتبطة برمضان انتقاءُ أئمة مميزين -متانةَ حفظٍ وجودةَ أداءٍ وجمالَ صوتٍ- ‏ليصلّوا التراويح بالسلاطين ‏وذوي المكانة الاجتماعية.

ومن أمثلة ذلك ما أورده الإمام الذهبي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- من أن الخليفة العباسي "المستظهر بالله (ت ‏‏512هـ/1118م) طلب مَن يصلي به…؛ فوقع اختياره على القاضي.. ابن الدواس…؛ [و] من كثرة إعجابه به كان أول رمضان قد شرع في التراويح فقرأ في الركعتين الأولييْن آية آية، فلما سلم قال له المستظهر: زدنا من التلاوة!‎‏ فتلا آيتين آيتين، فقال له: زدنا!‎‏ فلم يزل [يستزيده] حتى كان يقوم كل ليلة بجزء" من القرآن.

كما كان المقرئ ‏أبو الخطاب الكاتب الشافعي البغدادي (ت 497هـ/1104م) ‏‏"يصلي بأمير المؤمنين المستظهر باللَّه ‏التراويح"؛ طبقا‏ للذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘. ويخبرنا الحافظ ابن عساكر بأن زين القضاة سلطان بن يحيى القرشي الدمشقي (ت 530هـ/1136م) "صلّى ‏التراويح بـ[المدرسة] النِّظامية [ببغداد]… وخلع عليه ‏الخليفة" العباسي.

وجاء في ‘ذيل طبقات الحنابلة‘ للإمام ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) أن المقرئ أبا القاسم هبة الله بن الحسن الأشقر البغدادي (ت 634هـ/1237م) كان "يؤم بالخليفة الظاهر (العباسي ت 623هـ/1226م)، ورتّبه إماما.. ‏في صلاة التراويح، وأذِن للناس في الدخول للصلاة" معهم بمسجد قصر الخليفة في بغداد.‏

وفي الأندلس؛ يترجم ابن عبد الملك المراكشي (ت 703هـ/1303م) -في ‘الذيل والتكملة‘- لابن مُقاتل القَيسي الغرناطي (ت 574هـ/1178م)؛ فيقول إنه كان "حافظا لكتاب الله تعالى، ضابطا لوجوه قراءاته، طيّب النغمة به…، مختارا للإمامة في التراويح بمسجد غرناطة الأعظم".

ويقول المراكشي أيضا أن سلطان دولة الموحِّدين المنصور يعقوب بن يوسف (ت 595هـ/1199م) استمع ذات يوم إلى تلاوة المقرئ أبي الحسن الفهمي القرطبي (ت 617هـ/1220م) "فأخذ بقلبه طِـيبُ نغمته وحُسن إيراده، فقرّبه واستخلصه، وأمره بتعليم أولاده وقراءة حزب من التراويح في رمضان".


وكان أبو بكر الأنصاري القرطبي (ت 614هـ/1217م) "حسن الصوت، يستدعيه الأمير لصلاة التراويح"؛ وفقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘. ووُصف أبو الحسن ابن واجِب القيسي البلنسي (ت 637هـ/1239م) بأنه "من أحسن الناس صوتا ‏بالقرآن، ولذلك كان يُعيَّن لصلاة ‏التراويح بالوُلاة"؛ حسب المراكشي.



أئمة للأئمة
وجاء في ترجمة ابن الوزير البلنسي (ت 624هـ/1227م) أنه "صلى التراويح بالوُلاة..، وكان من أهل التجويد والتحقق بالإقراء أحد الطُّيَّاب المحسنين من القُرّاء"؛ كما في ‘التكملة لكتاب الصلة‘ لابن الأبار القضاعي البلنسي (ت 658هـ/1260م).

وتحدث الوزير الأندلسي لسان الدين ابن الخطيب (ت 776هـ/1374م) -في ‘الإحاطة في أخبار غرناطة‘- عن معاصره المقرئ محمد بن قاسم الأنصاري الجياني (ت بعد 776هـ/1374م) فقال إنه كان "طيّب النغمة [فـ]ـاقتحم لذلك دُسُوتَ (= عروش) الملوك…، وصلّى التراويح بمسجد قصر ‏الحمراء" في غرناطة.

وأورد قاضي القضاة المؤرخ ابن خلكان (ت ‏‏681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- أن الوزير الأيوبي صفي الدين بن شكر الدميري (ت ‏‏630هـ/1233م) "أراد قارئا للمدرسة ‏التي أنشأها بالقاهرة المعزية يصلي بها التراويح، فاختير له شخصان اسم أحدهما زيادة والآخر ‏‏مرتضى".‏

وحتى كبار العلماء كانوا يختارون أحيانا غيرهم ليؤمهم في التراويح؛ فقد قال عمر بن سليمان أبو حفص ‏المؤدب (ت بعد 250هـ/864م): "صليتُ مع أحمد بن حنبل ‏‏(ت 241هـ/855م) في شهر رمضان التراويح وكان يصلي به ‏ابن عُمير"؛ حسبما في ‘طبقات الحنابلة‘ لابن أبي يَعْلَى الحنبلي (ت 526هـ/1132م).

وترجم السخاوي -في ‘الضوء اللامع‘- للمقرئ بدر الدين بن تَقِيّ القباني (ت ‏‏844هـ/1440م) فقال إنه "كان يؤم ‏شيخَنا [الحافظَ ابنَ حجر العسقلاني] في التراويح بالمدرسة المَنْكُوتَمُرية [في القاهرة] إلى أن مات".‏

وذكر الخطيب البغدادي أن الإمام القَعْنَبي (ت 221هـ/836م) -وهو أحد كبار رواة ‏‏‘الموطأ‘ عن الإمام مالك بن أنس ‏‏(ت 179هـ/795م)- كان من تلامذته ابن عباد النسائي المعروف ‏بالجلاجلي (ت 287هـ/900م) فـ"قدَّمه [إماما] في صلاة التراويح ‏فأعجبه صوته".‏


وفي المقابل؛ كان بعض أجلاء الأئمة يفضلون صلاتها بأنفسهم وفي بيوتهم، فقد "كان الشافعي (ت 204هـ/819م) لا يصلي مع الناس التراويح [في المسجد]، ولكنه كان يصلي في بيته ويختم في رمضان ستين ختمة"!؛ حسبما ذكره ابن عساكر -في ‘تاريخ دمشق‘.

أصوات مرغوبة
لطالما كان حسن الصوت أحد معايير الترجيح بين أئمة التراويح عند تعددهم في البلد أو الحي ‏الواحد؛ بل إن شرف الدين بن يحيى الحمزي المعروف بـكِبْرِيت المولوي (ت 1070هـ/1659م) يقول -في كتابه ‘رحلة الشتاء والصيف‘- إن "من محاسن الشام إحياء ‏ليالي رمضان المعظم، وإقامة التراويح بأحسن أداء يورث النشاط، فإن المكبرين يلوّنون في ‏التكبير بالأصوات الحسنة، فيبتدئون بمقام العراق ويختمون بمقام العشاق"!!‏

ومن أئمة التراويح المقصودين قديما لحسن أصواتهم أو جمال أدائهم في القراءات: المقرئُ أبو البركات بن العسّال ‏الحنبلي (ت 509هـ/1115م) الذي "كان من القراء المجوّدين، الموصوفين بحُسن الأداء، وطيب النغمة، يُقصد في ‏رمضان -لسماع قراءته في صلاة التراويح- من الأماكن البعيدة" في بغداد؛ حسب ابن رجب الحنبلي في ‘ذيل طبقات الحنابلة‘.‏

ومنهم كذلك أحمد بن حمدي أبو المظفر المقرئ (ت 576هـ/1180م) الذي "كان من القراء المجوِّدين… بالقراءات الكثيرة…، وأَمَّ.. بمسجد ابْن جردة [في بغداد]، وكان الناس يقصدونه ويسمعون قراءته في التراويح"؛ كما يرويه الخطيب البغدادي في ‘تاريخ بغداد‘.

وترجم الحافظ ابن حجر العسقلاني -في ‘الدُّرَر الكامنة في أعيان المائة الثامنة‘- لشمس الدّين الزرعي ابن البصّال المقرئ (ت 738هـ/1338م) "كان حسن الصوت جدا، وكان الناس ‏يقصدونه للصلاة خلفه في التراويح ويزدحمون" في مسجده.

وكان المقرئ محمد بن علي الشِّيرَجي المكي ‏‏(ت 827هـ/1424م) "حسن الصوت بالقراءة، وحين كان يصلي التراويح بالمسجد الحرام كان الجمعُ ‏يَكْثُر لسماع قراءته"؛ وفقا للمؤرخ الفاسي المكي في ‘العِقد الثمين في تاريخ البلد الأمين‘.‏



نغمات ساحرة
ويحدثنا المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أن إمام "المدرسة البَقَرية" بالقاهرة زين الدين أبا بكر النحوي ‏‏(ت بعد 746هـ/1345م) "كان الناس يرحلون إليه في شهر رمضان لسماع قراءته في صلاة التراويح لشجا صوته، ‏وطيب نغمته، وحسن أدائه، ومعرفته بالقراءات السبع والعشر والشواذ".

ويقول الإمام ‏السخاوي -في ‘الضوء اللامع‘- إن ناصر الدين أبا الخير محمد بن أحمد الخزرجي الأخمِيمي الحنفي (ت بعد 891هـ/1486م) "أمَّ ‏في التراويح بجامع الحاكم [بالقاهرة] وغيره.. وتزاحم الناس لسماعه والصلاة خلفه".‏

كما يخبرنا السخاوي بأن أحمد بن محمد البُلْقَيْني الشافعي القاهري (ت 838هـ/1435م) "كان حسن الصوت بالقرآن جدا، فكان الناس يهرعون إلى سماعه -سيما في قيام رمضان- من الأماكن النائية، بحيث يضيق الشارع بهم".

ويبدو أن أئمة التراويح ذوي الأصوات المُطرِبة أغْرَوْا -بحسن تغنّيهم بالقرآن- الجماهيرَ حتى من غير المسلمين، كما نجده -لدى الخطيب البغدادي- في قصة الإمام علي بن عبد الله البَرَداني (ت بعد 375هـ/984م) الذي "كان يلقب ‘مصطبانس‘"، فسأله أحدهم عن مصدر لقبه الغريب هذا فأجابه: "كنت أصلي بقوم التراويح في شهر رمضان فسمع ‏قراءتي قوم من النصارى، فاستحسنوها وقالوا: كأن قراءة هذا الرجل قراءة مصطبانس! يشيرون إِلَى قسّ لهم، فلقبني الناس بذلك"!!‏


ولم يكن حسن الصوت وحده عامل مفاضلة بين أئمة التراويح؛ بل ربما كان تخفيف أحدهم في ‏تراويحه ‏محبَّبا لدى طوائف من المصلين، ومن ذلك أن أحمد بن عبد الله الدُّوري المكي (ت ‏‏819هـ/1416م) "كان يصلي بالناس [في الحرم المكي] صلاة التراويح في رمضان، ويصلي خلفه ‏الجمع الكثير لكثرة تخفيفه، ويلقبون صلاته بالمسلوقة"!! وفقا للفاسي في ‘العقد الثمين‘.

ويفيدنا الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- بأن أبا بكر ابن حُبَيش البغدادي الضرير ‏‏(ت 314هـ/926م) كان "يقرأ بصوت شجيّ يقع في القلوب، ويصلي بالناس التراويح في الجامع" ‏ببغداد.‏حظر سياسي
أشرنا سابقا للخلاف الطائفي في مدى شرعية التراويح؛ ولكن المنع السياسي لإقامتها المؤيد بقوة السلطان كان أقوى تأثيرا من تلك الآراء الفِـرَقية التي ‏ظلت محدودة الانتشار زمانا ومكانا؛ فقد عُرف الفاطميون –وهم مؤسسو دولة الشيعة ‏الإسماعيلية- بمنع صلاة التراويح في حقب من تاريخ حكمهم الذي شمل الغرب الإسلامي ‏ومصر والشام والحجاز.‏

فقد خاطب الفاطميون أتباعهم -وهم ما زالوا في طور التنظيم قبل تأسيس الدولة- قائلين لهم عند حلول أول رمضان بعد انطلاق دعوتهم في بلاد تونس: "إن رمضان قد جاء، ومذهبنا ألا تُصلَّى التراويح لأنها ليست من سنة النبي ﷺ وإنما ‏سنّها عمر، ونحن نطوِّل القراءةَ في صلاة العشاء الأخيرة ونقرأ بالسُّور الطوال، فيكون ذلك عوضا عن التراويح"؛ حسبما يرويه ابن عِذاري المراكشي (ت بعد 712هـ/1312م) في ‘البيان المُغرب في أخبار الأندلس والمَغرب‘.

ويخبرنا سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في ‘مرآة الزمان‘- أن خليفة الفاطميين المنصور إسماعيل بن القائم بأمر ‏الله (ت 334هـ/946م) خالف سيرة أبيه وجدِّه في الحكم فـ"أقام التراويح والسُّنن" في تونس قبل مقدم خليفتهم منها إلى مصر سنة 362هـ/973م.

وأفاد المؤرخ ابن سعيد الأنطاكي (ت 458هـ/1067م) -في تاريخه- بأنه في سنة 370هـ‍/981م ‏مَنَع خليفة الفاطميين الثاني بمصر العزيزُ بالله (ت 386هـ/997م) صلاةَ التراويح بمصر فـ"عظُم ذلك على كافة ‏أهل السُّنة من المسلمين".‏

لكن خلَفـَه الحاكم بأمر الله (ت بعد 411هـ/1021م) سمح بإقامتها مؤقتا ثم منعها عشر سنوات حتى كانت عقوبة من يصليها الإعدام؛ فقد قال المقريزي ‏-في ‘اتعاظ الحنفا‘- إنه في سنة 399هـ/1011م أمر الحاكم بـ"قتل رجاء بن أبي الحسين (ت 399هـ/1010م) من أجل أنه صلى صلاة التراويح ‏في شهر رمضان".

وفي المسجد الأقصى بالقدس ضُرب الشيخ الصالح أبو القاسم الواسطي (ت القرن 4-5هـ/الـ10-الـ11م) حتى أوشك على الهلاك لأنه اعترض على "أمر السلطان [الفاطمي] بقطع صلاة التراويح"؛ طبقا لابن عساكر.

ثم سمح الحاكم الفاطمي بإقامة التراويح في المساجد مرة أخرى سنة 408هـ/1018م، وأصدر بذلك قرارا رسميا قرئ في مساجد مصر وغيرها فاستمرت إقامتها حتى وفاته؛ ‏وكانت دوامة المنع والإذن تلك للتراويح من أمثلة قرارات الحاكم المزاجية التي عُرف بها عهده المتقلب ‏المواقف والقرارات.
دوافع متعددة
وفي الجناح الشرقي من الخلافة العباسية؛ منع "الحشاشون" -وهم فصيل من الشيعة الإسماعيلية منشق عن ‏الدولة الفاطمية الأمّ بمصر- صلاة التراويح بالمناطق التي سيطروا عليها في فارس وخراسان، ‏ثم سمحوا بإقامتها في نهاية عمر كيانهم هناك.

فقد ذكر المؤرخ ابن تَغْرِي بَرْدي (ت 874هـ/1469م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- أنه ‏في سنة 608هـ/1211م "قدِم بغدادَ رسولُ جلال الدين حسن (ت 618هـ/1221م) صاحب [قلعة] ألَمُوتْ يخبر ‏الخليفة [الناصر العباسي (ت 622هـ/1225م)] بأنهم تبرؤوا من الباطنية، وبنوا الجوامع والمساجد…، ‏وصلّوا التراويح في شهر رمضان؛ فسُرَّ الخليفة والناس بذلك".‏

وربما كان تدخل السلطة في شعائر العبادات بالمساجد -ومنها التراويح- نتيجة لحسابات الصراع السياسي مع الخصوم الإقليميين أكثر من كونه اقتناعا حقيقيا باختيار مذهبي معين؛ فالإمام الذهبي يخبرنا -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه "في رمضان [سنة 494هـ/1101م] أمر المستظهر باللَّه بفتح جامع القصر [ببغداد]، وأن تصلى فيه التراويح، وأن يجهر بالبسملة، ولم تَجْرِ بهذا عادة؛ وإنّما تركوا (= العباسيون) الجهر بالبسملة في جوامع بغداد مخالفةً للشّيعة [الفاطميين] أصحاب مصر".

ولم تكن القرارات السياسية المدفوعة بالتحيزات المذهبية هي الوحيدة التي تعطلت بسببها التراويح؛ إذ ترصد كتب التاريخ بعض الأزمات العامة من جوائح الأوبئة أو الحروب التي تزامن وقوعها ببعض البلدان الإسلامية مع حلول رمضان، فتوقفت جراءها صلوات الجماعة -بما فيها التراويح- كليا أو جزئيا.


فقد أورد ابن الجوزي -في أحداث سنة 439هـ/1048م- أنه "في رمضان غلا السعر ببغداد، وورد كتاب من الموصل أن الغلاء اشتد بها حتى أكلوا الميتة، وكثر الموت حتى إنه أحصِي جميع من صلى الجمعة فكانوا أربعمئة". وإذا تعطلت الجمعة في رمضان -وهي شعيرة واجبة الأداء نصًّا وإجماعا- فمن باب أولى أن يتوقف المصلون عن إقامة التراويح وهي نافلة.

وفي الغرب الإسلامي يقدم لنا المؤرخ المغربي أبو العباس الناصري (ت 1315هـ/1897م) -في كتابه ‘الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى‘- نصا صريحا في تعطل التراويح بسبب الاضطراب الأمني؛ فيقول إنه "لما قُـتل السلطان عبد الملك بن زيدان (السّعدي سلطان المغرب ت 1040هـ/1629م).. بُويع أخوه الوليد بن زيدان (ت 1045هـ/1634م)…، وعظُمت الفتن بفاس حتى عُطلت الجمعة والتراويح من جامع القرويين مدة، ولم يصلِّ به ليلةَ القدر إلا رجل واحد من شدة الهول والحروب"!!

محاريب متعددة
كان من أغرب سمات إقامة التراويح في الحرم المكي تعددُ محاريبها وجماعاتها وفقا للمذاهب الفقهية، ‏وهو مشهد آخر من مشاهد تمزق وحدة المسلمين تاريخيا جراء جناية التعصب المذهبي والطائفي حتى وهم يجتمعون في حرم كعبتهم وقِبلتهم الموّحِّدة، ‏ويؤدون شعيرة موَّحَّدة النُّسُك، وضمن طائفة واحدة (أربعة مذاهب سنية)!!

ولذا كان من المألوف أيامها أن "يصلي إمام الشافعية في مقام إبراهيم تجاه باب الكعبة، ثم إمام الحنفية مقابل حِجْر إسماعيل تجاه الميزاب، ثم إمام المالكية بين الركنين اليماني والشامي، ثم إمام الحنابلة مقابل الحَجَر الأسْود"؛ طبقا ‏لوصف مُجير الدين العُلَيْمي الحنبلي (ت 928هـ/1522م) في كتابه ‘الأنس الجليل‘.‏

وهي عادة بدأ العمل بها على الأقل منذ سنة 497هـ/1104م، ولم تختفِ إلا بعد إكمال آل سعود سيطرتهم على الحجاز سنة 1344هـ/1923م؛ ففي سنة 497هـ/1104م حج الإمام أبو طاهر ‏السِّلَفي (ت 576هـ/1180م) فوصف تعدد محاريب المذاهب في الحرم المكي وكيف يكون ترتيبهم في ‏أداء الصلوات، وقال إن إمام الشافعية هو "أول من يصلي من أئمة الحرم.. قبل المالكية والحنفية والزيدية"؛ طبقا للفاسي في ‘شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام‘.

وبعد قرون من شهادة ‏السِّلَفي؛ تحدث مؤرخ المدينة المنورة السمهودي عن تقليد تعدد المحاريب المذهبية ‏وانتشاره في الأقطار، فقال إن حدوثه في المدينة النبوية كان -في منشئه- بسعي من الفقيه الحنفي طُوغان شيخ المحمدي (ت 881هـ/1476م) "فبرزت المراسيم [السلطانية] به بعد الستين وثمانمئة (860هـ/1456م)"، مشيرا إلى أن "هذا الأمر دَبّ إلى المدينة الشريفة من مكة المشرفة‎".‏

ويصور لنا ابن جبير -في رحلته- مظاهر الاحتفال برمضان في مكة كما ‏شاهدها؛ فيقول إنه لما دخل رمضان سنة 579هـ/1183م "وقع الاحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر ‏المبارك.. حتى تلألأ الحرم نورا وسطع ضياءً، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فِرَقاً (حسب ‏المذهب الفقهي).. كل فرقة منها قد نصبت إماما لها في ناحية من نواحي المسجد…، وكاد لا يبقى ‏في المسجد زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة خلفه، فيرتجّ المسجد لأصوات ‏القراءة من كل ناحية". وقد يتعدد أئمة تراويح المذهب الفقهي الواحد، فالمالكية مثلا قال إنها "اجتمعت على ‏ثلاثة قراء يتناوبون القراءة"!‏

ومن الحرم المكي انتقل تعدد المحاريب إلى المسجد الأقصى وغيره، إذْ "‏جرى مثله في بيت المقدس وجامع مصر"؛ وفقا للسمهودي. كما انتقل هذا التعدد أيضا إلى مسجد الخليل -عليه السلام- في فلسطين؛ حسب العُلَيْمي الحنبلي في ‘الأنس الجليل‘.
ضبط تنظيمي
ويبدو أن بروز هذه الظاهرة في الأقصى -فيما يخص التراويح تحديدا- لم يتأخر كثيرا عن تاريخ ظهورها في الحرم المكي إن لم يكن مزامنا له، بدليل أن الإمام ابن العربي المالكي (ت 543هـ/1148م) شاهد هذا الأمر في الأقصى حين زاره أواخر ثمانينيات القرن الخامس الهجري/الـ11 الميلادي.

يقول ابن العربي في تفسيره ‘أحكام القرآن‘: "وقد رأيت على باب الأسباط -فيما يقرب منه- إماما من جملة الثمانية والعشرين إماما، كان فيه يصلي التراويح في رمضان بالأتراك، فيقرأ في كل ركعة بالحمد لله وقل هو الله أحد، حتى يتم التراويح؛ تخفيفا عليهم ورغبة في فضلها".

كما يحدثنا الرحالة الأندلسي القاضي أبو البقاء البَلَوي (ت بعد 767هـ/1365م) عن مشاهداته الرمضانية ‏في "المسجد الأقصى… أعظم مساجد الدنيا" حين زاره في رحلته إلى المشرق، ويصف كثرة جماعات ‏التراويح فيه؛ فيقول: "ولقد عددت مواضع الإشفاع وصلاة التراويح بها في شهر رمضان ‏المعظم فألفينا نحو الأربعين موضعا"!!

وأحيانا تتدخل السلطات لتنظيم "فوضى" التراويح المتعددة في المسجد الواحد، وما ينتج عن هذا التعدد من ‏تداخل لأصوات الأئمة المقرئين وتشويش على المصلين المستمعين.


ولذا يذكر الإمام ابن كثير (ت ‏‏774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- أنه كان في الجامع الأموي بدمشق محاريب متعددة للمذاهب الأربعة، ولكن في زمنه ‏تدخلت السلطة لتوحيدهم "في صلاة التراويح، [فـ]ـاجتمع الناس على قارئ واحد وهو الإمام الكبير في المحراب المقدَّم عند المنبر"، كما يشير إلى واقعة تدخُّل أخرى للسلطة سبقت تلك بأكثر من قرن سنة 635هـ/1237م.‏

وجاء في كتاب ‘مفاكهة الخلان‘ لشمس الدين ابن طولون الدمشقي (ت 953هـ/1546م) أنه في رمضان سنة 926هـ/1520م أمر حاكم دمشق العثماني "إمامَ الحنفية بالجامع الأموي… بأن ‏يتروّح (= يصلي التراويح) بالمقصورة ليلة… و[يصليها الإمام] الشافعي ليلة، وفُعل ذلك وتركت ‏التراويح بمحراب الحنفية، ولم يسهل ذلك على متعصبي الشافعية" الذين لم يتقبلوا القرار بأريحية.

إمامة الصبيان
ومن الأمور الطريفة التي اقترنت -على مدى قرون- بشهر رمضان "إمامة ‏الصبيان" للتراويح في بعض جوامع الحواضر الكبرى وفي الحرم المكي خاصة؛ رغم أنه وقع ‏‏"في صلاة التراوِيح خَلْفَ الصبيان اختلافٌ" بين العلماء في صحتها؛ كما يقول ابن الضياء الحنفي (ت 854هـ/1450م) في ‘تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام‘.‏

ومن أقدم نماذج ذلك تاريخيا ما ذكره الرحالة المقدسي من أن أهل شيراز "يصلون التراويح… ‏ويقدّمون فيها الصبيان"، وما قاله ابن الجوزي (ت 595هـ/1199م) -في ‘المنتظم‘- عن اختيار سلطان البويهيين ببغداد في ‏سنة 395هـ/1006م كلا من أبي الحسين بن الرَّفَّاء وأبي عبد الله بن الزجاجي وأبي عبد الله بن البهلول ‏‏-وكانوا "من أحسن الناس قراءة"- ليكونوا أئمة رسميين "لصلاة التراويح.. وهم أحداث (= ‏غير بالغين)، وكانوا يتناوبون الصلاة.. ورغب [الناسُ] لأجلهم في صلاة التراويح".‏

وقد أصبح عادةً في الحجاز ومصر أن يَؤُمَّ الطفلُ الناسَ في التراويح إذا أكمل حفظ القرآن وأتم ‏اثنتيْ عشرة سنة من عمره، ولذلك نجد في ‘رحلة ابن جبير‘ معلومات وافرة عن إمامة ‏الصبيان في التراويح بالحرم المكي والاحتفالات المصاحبة لها، والتي جعلت بعضهم يقرّر أن من "محاسن الإسلام: يوم الجمعة ببغداد وصلاة التراويح بمكة"؛ وفقا للقاضي أبي علي التنوخي (ت 384هـ/995م) في ‘نشوار المحاضرة‘.

فقد ذكر ابن جبير أن "ليلة إحدى وعشرين خَتم فيها أحد أبناء أهل مكة…؛ فلما فرغوا منها قام الصبي ‏فيهم خطيبا، ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور إلى [وليمة في] منزله.. ثم بعد ذلك ليلة ثلاث ‏وعشرين، وكان المختتِم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار غلاما لم يبلغ سنه الخمس عشرة ‏سنة…، وحضر الإمامُ الطفلُ فصلى التراويح وختم، وقد انحشد أهل المسجد الحرام إليه رجالا ‏ونساء، وهو في محرابه".‏

وامتدت عادة إمامة الأطفال في تراويح الحرم إلى عصر الرحالة ابن بطوطة (ت 779هـ/1377م) وما بعده؛ ‏إذ يخبرنا -في رحلته- أن لكل مذهب فقهي محرابا خاصا بأصحابه، وأنهم ‏‏"في كل ليلة وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان يختمون القرآن، ويحضر الختم ‏القاضي والفقهاء والكبراء، ويكون الذي يختم بهم أحد أبناء كبراء أهل مكة؛ فإذا ختم نُصب له ‏منبر مزين بالحرير وأوقد الشمع وخطب، فإذا فرغ من خطبته استدعى أبوه الناس إلى منزله ‏فأطعمهم الأطعمة الكثيرة والحلاوات".‏

وورد في ترجمة القاضي الشافعي جلال الدين البُلْقِيني (ت 824هـ/1421م) أنه "حفظ القرآن وصلى به ‏التراويح وهو صغير"؛ حسبما في ‘رفع الإصْر عن قضاة مصر‘ لابن حجر. كما أن الإمام ابن حجر نفسه أمَّ الناس في التراويح بالحرم المكي وعمره اثنتا عشرة سنة عام 785هـ/1383م ‏‏"على جاري العادة" في مَن يُكمل حفظ القرآن من الأطفال؛ طبقا للسخاوي في ‏‘الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر‘.

ويذكر السخاوي أن شيخه ابن حجر بعد أن صار إماما عظيما "حضر ليلةً من ليالي رمضان بجامع الحاكم للصلاة ‏خلف ابن الكُويز، إذ صلّى للناس التراويح عقب ختمه القرآن على جاري عادة الأولاد". بل إن الفاسي يفيدنا -في ‘العقد الثمين‘- بأن قاضي مكة ومفتيها محب الدين ‏بن ظهيرة (ت 827هـ/1424م) "حفظ القرآن الكريم… وصلى التراويح في سنة تسع وتسعين ‏وسبعمئة (799هـ/1397م)"، وعمره حينها عشر سنوات فقط لكونه وُلد عام 789هـ/1387م.‏

مقادير ومؤلفات
أما مقادير ركعات التراويح تاريخيا فإنها اختلفت وفقا لاختيارات المذاهب الفقهية؛ وإذا أخذنا بما استقر عليه الأمر في الحرمين الشريفين فسنجد أن عدد ركعاتها ظل مختلفا فيهما طوال أكثر من ألف سنة، ولم يتّحد الأمر فيهما حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجري في ظل الحكم السعودي.

فقد كان المكيون -وفقا لابن ‏بطوطة- يصلون "التراويح ‏المعتادة وهي عشرون ركعة" ثم يتبعونها بركعات الوتر الثلاث، ‏وأما المدنيون فقد عزا النووي -حسبما ينقله عنه السمهودي في ‘وفاء الوفاء‘- إلى الإمام ‏الشافعي قوله: "رأيت أهل ‏المدينة يقومون بتسع وثلاثين ركعة، منها ثلاث للوتر".‏

ويفيدنا السخاوي -في ‘التحفة اللطيفة‘- بأنه في أواخر القرن الثامن الهجري/الـ14 الميلادي كان المحدّث الحافظ ‏زين الدين عبد الرحيم ‏العراقي الكردي (ت 806هـ/1403م) من ‏مدرسي الحرم النبوي في المدينة، وعلى يديه تغير عُرف المدنيين في عدد ركعات التراويح؛ إذ كان "يصلي التراويح ‏بالناس عقب صلاة العشاء عشرين ركعة ويوتر بثلاث، فإذا كان ‏آخر الليل صلى بالناس ست ‏عشرة ركعة. واقتدى به في ذلك الأئمة بالحرم النبوي".‏


أما عدد ركعات التراويح في مساجد مصر فقد تراوح بين الاختيار الفقهي المذهبي الحرّ والتحديد الحكومي الرسمي الملزِم؛ وفي ذلك يقول المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘: "ولم يزل أهل مصر يصلونها ستًّا (= 6 ترويحات: 12 ركعة) إلى شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين (253هـ/867م)"، ففي هذه السنة عينت السلطات العباسية ببغداد أرجوز (أو: أزجور بن أولغ التركي ت بعد 254هـ/868م) واليا على مصر فـ"أمَرَ أن تُصلَّى التراويحُ في رمضان خمس تراويح (= 10 ركعات)".

هذا وقد بينت كتب الفقه العامة وشروح الحديث النبوي أحكام صلاة التراويح ومقاديرها، كما أفردها بعض ‏العلماء بمؤلفات خاصة بها يبدو أن أغلبها لم يصلنا منه إلا عنوانه. ومن تلك المصنفات: كتاب "فضل التراويح" للحافظ أبي بكر محمد بن الحسن النقاش (ت 351هـ/962م)؛ و"كتاب التراويح" للإمام حسام الدين الشهيد ‏‏(ت 536هـ/1141م)؛ و"كتاب التراويح" لمفتي خوارزم أبي العباس أَحْمد بن إِسْمَعِيل التُّمُرْتَاشِيّ ‏الحنفي (ت قرابة 600هـ/1203م).

ومن هذه المؤلفات أيضا: كتاب "صلاة التراويح" للمحدّث ابن عبد الهادي الجمّاعيلي ‏الحنبلي (ت 744هـ/1343م)؛ و"ضوء المصابيح في صلاة التراويح" و"إشراق المصابيح في صلاة ‏التراويح" كلاهما لقاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي (ت 756هـ/1355م)؛ و"إقامة البرهان ‏على كميّة التراويح في رمضان" لأبي الضياء الغيثي الشافعي (ت 975هـ/1567م).‏


احتفاء واسع
هكذا إذن على مدى التاريخ الإسلامي؛ ظل اهتمام المسلمين بصلاة التراويح عظيما وشاملا باعتبارها أبرز ملامح احتفائهم برمضان، إذ أقبلت على تفيُّؤ ظلال إيمانياتها كافة الفئات والشرائح في المجتمعات المسلمة رجالا ونساء وأطفالا، حتى إن الرحالة ابن بطوطة يحدثنا عن "سوق المغنين" في الهند فيقول إن فيه مساجد، وإن "النساء المغنيات الساكنات هناك يصلين التراويح في شهر رمضان بتلك المساجد مجتمعات، ويَؤُمُّ بهن الأئمة وعددُهن كثير، وكذلك ‏الرجال المغنّون"!!

وفي كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘ يصف المقريزي "سوق الشمّاعين" بالقاهرة المملوكية، وما كان يشهده من رواجٍ كبير لمعروضات بضائعه من الشموع والقناديل في ليالي رمضان؛ فيذكر أنه "كان به في شهر رمضان موسم عظيم لكثرة ما يُشْتَرَى ويُكْتَرَى من الشموع الموكبية…. برسم ركوب الصبيان لصلاة التراويح، فيمرّ في ليالي شهر رمضان من ذلك ما يعجز البليغ عن حكاية وصفه"!

كما يروي لنا أبو البركات السويدي البغدادي (ت 1174هـ/1760م) -في ‘النفحة المسكية في الرحلة المكية‘- ذكرياته الرمضانية في دمشق حين زارها؛ فيقول واصفا صلاة التراويح بالجامع الأموي وما كان يرافقها من حفاوة اجتماعية تصل حد الضجيج: "ومن عجيب أمرهم أن النساء يختلطن بالرجال… وقتَ التراويح، ومرةً صليتُ التراويح في [الجامع] الأموي فرأيت الناس جلوسا بين الصفوف يتحدثون، والأولاد لهم صياح وعياط ولعب بحيث يشوشون على المصلين"!!

على أن إقامة التراويح لم تخلُ أحيانا من منغِّصات أدهى وأمرّ من صخب الأطفال وصراخهم في فضائها الروحاني المهيب؛ فمؤرخ يوميات دمشق شهاب الدين البديري (ت 1175هـ/1761م) يسجّل -في كتابه ‘حوادث دمشق اليومية‘- أنه في يوم "الاثنين [من سنة 1173هـ/1759م] ثبت رمضان المبارك، وثالث ليلة منه -والناس في صلاة التراويح- صارت زلزلةٌ مزعجِةٌ، فقطعت الناس صلاة التراويح، وتهاربت الناس وداست بعضها بعضا، وانذهلت عقولهم"!!


ولئن كان للفواجع نصيبها من تعكير صفو الجموع المحتشدة للتراويح؛ فقد أخذ الشعراء قسطهم من التوظيف الأدبي الظريف في تلك المناسبات، ومن ذلك ما يحكيه المؤرخ قطب الدين اليُونِيني (ت 726هـ/1326م) -في ‘ذيل مرآة الزمان‘- من أن الشاعر جمال الدين المصري المعروف بابن الجزّار (ت 679هـ/1278م) "بات ليلة في شهر رمضان عند الصاحب بهاء الدين أحمد بن حنّا (الوزير المملوكي ت 677هـ/1278م)..، فصلى عنده التراويح وقرأ الإمام في تلك الليلة سورة الأنعام في ركعة واحدة! فقال [ابنُ الجزار]:
ما لي على "الأنعام" من قُدرة ** لا سيما في ركــعة واحــدة
فلا تسوموني حضــوراً سوى ** في ليلة "الأنفال" و"المائدة"!!

الثلاثاء، 30 يونيو 2020

الإمام ابن حزم.. رئيس وزراء الأندلس

الإمام ابن حزم.. رئيس وزراء الأندلس الذي استشرف ضياعها وقدّم مشروعا فكريا في 80 ألف صفحة


عبد القدوس الهاشمي
30/6/2020
"والله لو علموا (= ملوك الطوائف) أن في عبادة الصُّلْبان تمشية أمورهم لبادروا إليها؛ فنحن نراهم يستمدّون النصارى فيمكنونهم من حُرُم المسلمين..، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعا فأخلوْها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم"!! هذا كلام رجل يعيش عصره أو بمعنى أدق يعيش أزمات عصره فيستشرف ما ستسبّبه من ضياع لمصره الأندلس. إنه الإمام ابن حزم (ت 456هـ) المؤسس الأبرز للمذهب الظاهري في الأندلس، وتأسيس مذهب أو التمكين له حدث حضاري كبير، وكل مذهب يواكب سياقَه متسلحا بمقولاته وأدواته الملائمة لزمانه، وهذا ما ينطبق تماما على المذهب الظاهري بالأندلس. والحقيقة أن من يَفْصِل مشروع أبي محمد الإصلاحي والإبداعي عن أزمات أندلس زمانه السياسية المتمثَّـلة في تشرذم ممالكه، والعلمية المتجلية في هيمنة التقليد؛ لن يتوصل إلى عمق هذا المشروع ومراميه البعيدة.
لقد كان السياق المؤسِّس لهذا المشروع جملة من المواقف السياسية والدينية؛ فقد اعترضت الأولى أحلامَ ابن حزم السياسية التي راودته مطلعَ حياته، وأجّجت الثانيةُ طموحاتِه الإصلاحية العلمية بعد مغادرته دهاليز السياسة، فأقبل على العلم الشرعي باعتباره البوابة التي سينفذ من خلالها إلى كل عقل، صارفا وجهه عن كل مطمع سياسي ومنصب دنيوي. وغايتنا في هذا المقال أن نعرض لك جانبا من سيرة هذه الشخصية الاستثنائية، متناولين أسباب نبوغها والسياق التاريخي والعلمي لمشروعها الإصلاحيّ الذي وقفت عليه حياتها لإحياء مرجعية نصوص الشرع؛ فلعل في سيرة هذا الإمام بوصلة هادية للعيش في زمننا هذا الذي يطبعه تيه سياسي وعلمي يكاد يطابق ما واجهه هو في عصره!
شروق من الغرب
قبل ساعة من شروق شمس نهار آخر يوم برمضان سنة 384هـ؛ شهدت قرطبة ميلاد "شمس العلوم" علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (ت 456هـ) القائل:
أنا الشمس في جوّ العلوم منيرةً ** ولكنّ عيبي أن مطلعي الغرب!
كانت طفولته عيدًا ممتدًا؛ فقد نشأ في بيت وزارة وفضل، فوالده أحمد بن سعيد "الوزير المُعَقَّل في زمانه الراجح في ميزانه" -كما يصفه ابن بسام الشنتريني (ت 542هـ) في كتابه ‘الذخيرة‘ نقلا عن ابن حيان الأندلسي (ت 469هـ)- كان مشهورًا بالفضل والأدب، ووزيرا عظيم الجاه في بلاط مدبِّر الخلافة الأموية بالأندلس المنصور بن أبي عامر (ت 382هـ).
ولا نعرف عن أمِّه كبير شيء، فلم يحدثنا أبو محمد عنها، ومردُ ذلك في تقديرنا ما باح لنا به -في ‘طوق الحمامة‘- متحدثا عن "غيرة شديدة طُبعتُ عليها". وكذلك كان الحال مع زوجته وأخواته، فلم نقف في كتبه على ذكر لهنّ. وهذه من عجائب المفارقات عند أبي محمد الذي نشأ -حسبما يقوله- في حجور النساء مكتفيًا بمجالسهنّ عن مجالس الرجال، حتى فار شبابه ونبت شعر وجهه فصحب أبناء جنسه.
أما نسبه فيخبرنا ابن حزم أنه من أرومة فارسيّة، بيد أن ابن حيان الأندلسي (ت 469هـ) لم يقنع بما أخبر به أبو محمد عن نفسه؛ فقال -فيما نقله عنه الشنتريني المتقدم- إنه "كان من غرائبه انتماؤه لفارس واتّباع أهل بيته له في ذلك بعد حقبة من الدهر..، فقد عهده الناس خامل الأبوّة مولّد الأرومة (= الأصل) من عَجَم لَبْلَة (= مدينة كانت تابعة لإشبيلية).. فكيف ينتقل من رابية لبلة إلى قلعة إصْطَخْر بفارس!". ولكن الذهبي (ت 748هـ) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- والمقّري (ت 1041هـ) -في ‘نفح الطيب‘- أثبتا له النسب الفارسي، ولم يرفعا بما قاله ابن حيان رأسًا.
ابن تيمية: كان لابن حزم من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره
نشأ أبو محمد في قرطبة وهي آنذاك عاصمة الدنيا في الترف والتحضّر، كما كانت حينها "أكثر بلاد الأندلس كُتبًا، وأهلها أشد الناس اعتناء بخزائن الكتب، وصار ذلك عندهم من آلات التعيُّن (= الوجاهة) والرياسة"؛ كما يقول المقري. فأقبل ابن حزم على تحصيل العلوم والمعارف يدفع نهمته للعلم بالمطالعة، ودع عنك ما يقوله الناس من أنه لم يطلب العلم إلا بعد السادسة والعشرين، فهذا وهمٌ واضح يدل عليه قول الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- إنه تتلمذ على الإمام المحدِّث أبي عمر ابن الجَسور الأموي (ت 401هـ)، ويعزو إلى ابن حزم قولَه عنه: "هو أول شيخ سمعتُ عليه قبل [سنة] الأربعمئة"، فهذا نص صريح منه على أنه تتلمذ على الشيوخ حتى قبل بلوغه السادسة عشرة!
ثم إن جمعه لكافة فنون العلوم التي تقدم فيها أهل الأندلس قاطبة لا يتأتّى معه تصديق هذه الرواية الغريبة عن بدايته الدراسية المتأخرة، على أن أبواب المعرفة ليست محصورة على رواية الحديث ودراسة الفقه، وخاصة في بلاد الأندلس التي كان أهلها يقدمون حفظ القرآن والشعر وإتقان معارف اللغة على الفنون الأخرى. ولم يكن ابن حزم في ذلك بِدْعًا من أبناء وطنه؛ فقد أخبرنا بنفسه أنه تلقى بداية المعارف الإسلامية الأولى من جواري قصر والده الوزير، وفي ذلك يقول: "وهنّ علمنني القرآن، وروّيْنني كثيرا من الأشعار، ودرّبْنني في الخط". وفي هذا النص تجد نافذةً تُطلُّ منها على حالة أهل الأندلس الثقافية، وترى شيوع الثقافة داخل الدور وبين ربات الخدور!
كان أبو محمد منجمَ مواهب وروضة علوم؛ ولعل خير من عبّر عن سعة معارفه هو تلميذه النابغة القاضي والمؤرخ صاعد الأندلسي (ت 462هـ) الذي قال في تاريخه حسبما نقله عنه الذهبي في ‘السِّيَر‘: "كان ابن حزم أجمعَ أهلِ الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعَهم معرفة، مع توسّعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسِّيَر والأخبار…، أخبرني ابنه الفضل (ت 479هـ) أنه اجتمع عنده بخط أبيه.. من تواليفه أربعمئة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة"!!
ومع مآخذ ابن تيمية (ت 728هـ) على ابن حزم؛ فإنه يشهد له -في ‘مجموع الفتاوى‘- بأن "له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره"!! كما نعته الذهبي (ت 748هـ) بأوصاف عديدة جامعة بينها أنه "الإمام الأوحد، البحر، ذو الفنون والمعارف.. الفقيه، الحافظ، المتكلم، الأديب، الوزير…، كان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن، وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والمِلَل والنِّحَل، والعربية والآداب والمنطق والشعر، مع الصدق والديانة.. والسُّؤْدد والثروة وكثرة الكتب".
وقد علق عبد الواحد المراكشي (ت 647هـ) -في كتابه ‘المُعْجِب‘- على كلام صاعد هذا بعد أن عزا مضمونه إلى "غير واحد من علماء الأندلس"؛ فقال عن حجم تصانيف ابن حزم: "وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في مدة الإسلام قبله، إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ)، فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفًا". ويضيف المراكشي: "ولأبي محمد بن حزم هذا منصب وافر من علم النحو واللغة وقسم صالح من قرض الشعر وصناعة الخطابة"؛ ولعل براعته في الخطابة من "بركات" صحبته للنساء، فقد ذكر رئيس وزراء بريطانيا بينجامين دزرائيلي (ت 1881م) -في مذكراته- أنه سُئل عن سرِّ فصاحته وبراعته في الخطابة، فقال لسائله: عليكَ بصحبة النساء!

مفاتيح نبوغ
يمكن تلخيص مفاتيح نبوغ ابن حزم في ثلاثة أسباب هي: الاستعداد الفطري لقوة حافظته وتعلُّق همته بالعلم؛ ثم التفرّغ لتحصيله؛ ثم البيئة العلمية الحافزة. أما حافظته فيصفها المؤرخ الأندلسي إليسع بن حزم الغافقي (ت 575هـ) فيقول: "أما محفوظه (= ابن حزم) فبحر عجّاج، وماء ثجّاج، يخرج من بحره مرجان الحِكَم..، ولقد حفظ علومَ المسلمين وأربى على أهل كل ملة ودين".
ولم يكن أبو محمد مكتفيًا بهذه الموهبة الإلهية، بل ظل متعهدًا لها متعاطيًا للأغذية المساعدة على تقوية الحافظة. قال أبو الخطاب ابن دحية (ت 633هـ) حسبما يرويه عنه الذهبي: "كان ابن حزم قد برِص من أكل اللُّبان وأصابه زَمانة (= مرض مزمن)"، كما عزا إلى الإمام الغزالي (ت 505هـ) إعجابه بابن حزم وشهادته له بـ"عِظَم حفظه وسيلان ذهنه"! على أن ثقة ابن حزم في حافظته كانت تدفعه أحيانا إلى التسرع في أحكامه على رجال الحديث جرحا وتعديلا؛ ولذلك يقول عنه الحافظ ابن حجر (ت 852هـ) -في ‘لسان الميزان‘- إنه "كان واسع الحفظ جدا، إلا أنه لثقته بحافظته كان يَهجُم على القول في التعديل والتجريح وتبيين أسماء الرواة، فيقع له من ذلك أوهام شنيعة".
وهنا نورد لك خبرين لهما دلالة واضحة على اتساع محفوظ ابن حزم وشغفه بالعلم؛ فقد قال مرة: "كنتُ معتقلًا (بين أواخر 414هـ وأوائل 415هـ) في يد [الأمير الأموي] الملقَّب بالمستكفي محمد بن عبد الرحمن (ت 417هـ) في مُطْبِقٍ (= سجن)، وكنت لا أؤمن قتله، لأنه كان سلطانًا جائرًا عاديًا قليل الدين كثير الجهل..، وكنتُ مفكرًا في مسألة عويصة.. فطالت فكرتي فيها أيامًا وليالي إلى أن لاح لي وجهُ البيان فيها..، فبالله الذي لا إله إلا هو.. لا يجوز القسم بسواه: أقسم لقد كان سروري يومئذ -وأنا في تلك الحال- بظفري بالحق فيما كنت مشغول البال به..، أشدَّ من سروري بإطلاقي مما كنت فيه"!! فهذا مقدار كَلَفِه بالعلم واستمتاعه بممارسته، حتى إنه ليقدم لذته على لذة الحياة والحريّة!
أما عن اتساع ذاكرته وكثرة محفوظاته؛ فيكفي في جلائه حفظُه -وهو الفارسي العرق- لأنساب العرب، بحيث استطاع أن يرسم خريطة نَسَبِية توضح -كما يقول في ‘جمهرة أنساب العرب‘- قوة "تواشج أرحام العرب" بجميع قبائلهم وعشائرهم. وفي إحاطته بنسب بني أمية منهم خبرٌ في غاية الغرابة، سجله لنا بقوله -في مقدمة ‘الجمهرة‘- مبينا الأهمية العملية لعلم النَّسَب: "لمّا مات بقرطبة محمد بن عُبيد الله (ينتهي نسبه إلى مروان بن الحكم الأموي ت 65هـ).. ورّثتُ أنا مالَه محمدَ بن عبد الملك بن عبد الرحمن.. بالقُعْدُدِ (= أقرب القرباء الموجودين إلى الميت) ودفعته إليه..، وما كان عند محمد بن عبد الملك هذا علمٌ بأنه مستحق لهذا المال..، فلولا علمي بالنسب لضاع هذا المال".
بلغ ابن حزم من سعة الاطلاع على كتب أهل الأديان أنه تمكن من الاحتجاج بنصوصها على أتباعها، ولذا يرى المستشرق الإسباني آسين بلاثيوس أنه سبق الأوروبيين ببضعة قرون إلى دراسة تاريخ الأديان الذي لم يُعرف في الغرب إلى في منتصف القرن التاسع عشر
لقد استكمل ابن حزم رحمه الله أدوات العلم بقوة حافظته وتوفُّر همته على التوسع فيه، فراح ينهل من مَعين مكتبات قرطبة مستعيضا بمطالعاته فيها عن الرحلة في طلب العلم، فحصّل بذلك علمًا وفيرًا ومتنوعا، ولم يترك فرعًا من فروع المعرفة الإسلاميّة إلا وخصّه بتأليف أو رسالة، حتى صار أكثر المؤلفين من علماء الإسلام تصنيفا حتى عصره؛ حسب شهادة المراكشي المتقدمة.
ولم تكن مطالعاتُ ابن حزم مطالعاتِ طالبٍ للتسليّة، وإنما مطالعات باحثٍ منقِّب ودارسٍ محقِّق، حتى إننا نراه في اطلاعه على كتب أهل الديانات قد انتهى به الضبط إلى الاحتجاج بنصوصها على أتباعها، ولذا يرى المستشرق الإسباني آسين بلاثيوس (ت 1944م) أن ابن حزم سبق الأوروبيين ببضعة قرون إلى دراسة تاريخ الأديان الذي لم يُعرف في الغرب إلى في منتصف القرن التاسع عشر.
ومن نماذج محاججته لهم بكتبهم ما جاء في رده -ضمن كتابه ‘الفصل‘- على إسماعيل ابن النغريلة اليهودي (ت 448هـ) حين ناقشه في قول نبي الله إبراهيم -عليه السلام- للنمرود عن زوجته سارة إنها "أخته"، فقد فنّد ابن حزم ما ذهب إليه ابن النغريلة من أن الأخت هنا يُقصد بها القرابة لا الأخوّة، ورد عليه قائلا: "يَمنع من صرف هذه اللفظة إلى القريبة ها هنا قوله (= إبراهيم فيما رُوي عنه في التوراة): لكنـ[ـها] ليست من أمي وإنما هي بنت أبي. فوجب أنه أراد الأخت بنت الأم..، فخلّط [ابن النغريلة] ولم يأتِ بشيء"!
ولم يكتف ابن حزم بمطالعة كتب الأوائل بل تعدى نهمُه المعرفيّ إلى مطالعة كتب خصومه التي لم يكن يرى فيها تأصيلًا ولا قوة استدلال، حيث يقول في إحدى رسائله: "فلعمري ما لشيوخهم (= أصحاب المذهب المالكي) ديوان مشهور مؤلَّف في نصِّ مذهبهم إلا وقد رأيناه". أما معرفة السُّنة التي هي أسّ مذهبه؛ فقد حاز قصب السبق فيها حتى قال: "وقد جمعنا.. صحيح أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمهور ما رواه المستورون ممن لم يبلغوا مبلغ أن يُحتجّ بنقلهم، هذا أمر نهتف به ونعلنه على رغم الكاشح (= العدوّ) وصَغار وجهه، فمن استطاع إنكارًا فليُبرز صفحته، وليناظر مناظرة العلماء".

تفرغ كامل
وأما تفرغه للعلم درساً ومدارسة ومناظرة تصنيفا فكان من أكبر عوامله السياق السياسي في الأندلس حينها؛ ففي ذي القعدة سنة 414هـ أُعدِم "الخليفة" الأموي المستظهر عبد الرحمن بن هشام -حفيد عبد الرحمن الناصر (ت 350هـ)- بعد أن دامت "خلافته" شهرين "وَزَرَ له [فيهما] ابنُ حزم الظاهري"، كما يقول الذهبي في ‘السِّيَر‘. وهنا انتهت طموحات ابن حزم السياسية التي أوصلته إلى منصب "الوزير" الذي كان أيامها يعادل في الصلاحيات التنفيذية منصب "رئيس الوزراء" اليوم، وأقبل على العلم للتدريس وإعلاء ما اندرس من منار الشرع.
وها هنا مسألة لا بد أن نعرض لها وهي السرّ وراء انكماش ابن حزم عن السياسة رغم كونه من بيت تدبير ووزارة؛ فقد كان يرى في استمرار خلافة بني أميّة استمرارًا لوحدة المسلمين السياسية في الأندلس، وباختلال أوضاعها -بدءا من سنة 399هـ- طالع ابنُ حزم أشياء في الحياة السياسية نفّرته من الانشغال بها، وخاصة بعد فشل آخر محاولة لاستعادة الحكم الأموي مع صاحبه المستظهر، فدفعه القنوط من الإصلاح السياسيّ إلى تكريس حياته للإصلاح العلمي بشتى صنوفه.
ومما عزز ذلك لديه أن الأندلس عمّها التشظّي السياسي في زمن ملوك الطوائف (422هـ-484هـ)، واستتبع الفسادُ السياسي -رغم ما رافقه من ازدهار للعلوم والآداب- فسادًا مماثلا في مواقف بعض العلماء؛ فهذا ابن حيان الأندلسي المعاصر لابن حزم يحكي لنا المشهد العلمي كما يراه، فيقول فيما يرويه عنه الشنتريني في ‘الذخيرة‘: "ولم تزل آفة الناس -مذ خُلقوا- في صنفين منهم، هم كالملح فيهم: الأمراء والفقهاء..، فالأمراء القاسطون قد نكبوا بهم عن الطريق..، والفقهاء أئمتُهم صُموتٌ عنهم، صُدوفٌ (= منصرِفون) عما أكد الله عليهم في التبيين لهم، وقد أصبحوا بين آكل من حلوائهم خائض في أهوائهم، ومُستشعِرٍ مخافتَهم..، وأولئك هم الأقلون".
وهنا ملمحٌ مهمّ وهو أن اقتصار فقهاء السلطة على كُتب الفروع في بنائهم العلمي أضعف وازعهم الأخلاقيّ، لبعدهم عن الاشتغال بالنص الشرعيّ الذي ينبض بحمولته الأخلاقيّة. ولعلّ ابن حزم رأى أن في استعادة الاعتبار للنص الشرعي وسلطته استصلاحًا لمن مال من الفقهاء عن طريق التحرّز والورع. ولذلك فإنه فلم يرتضِ لنفسه السير مع أحد فريقيْ الفقهاء السابقيْن، فلم يخالط السلاطين ولا سكت عنهم، بل كان حاسمًا كل الحسم في وصف أحوالهم وبؤس واقعهم هم وعلماؤهم.
ابن حزم: تقاتل ملوكنا فتنة سوء أهلكت الأديان -إلا من وقى الله تعالى- من وجوه كثيرة.. وعمدة ذلك أن كل مدبّر مدينة أو حصن -في شيء من أندلسنا..- محارِبٌ لله ورسوله وساعٍ في الأرض بفساد، للذي ترونه عيانًا من شنهم الغارات على أموال المسلمين
فها هو -في إحدى رسائله- يخاطب مستمعيه قائلا: "فلا تغالطوا أنفسكم ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشر شرهم الناصرون لهم على فسقهم"؛ ثم يحرضهم على مقاطعة الفريقين ومقاومتهم: "فالمخلّص لنا فيها (= الفتنة) الإمساك للألسنة جملة واحدة إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذمّ جميعهم؛ فمن عجز منا عن ذلك رجوتُ أن تكون التقية تسعه، وما أدري كيف هذا؟ فلو اجتمع كل من يُنكِر هذا بقلبه لما غُلبوا" عن إصلاح الأحوال.
ونجده يشير لنا -من طرف خفيّ- إلى سبب انكفائه على العلم ومجانبة السياسة بقوله عن انحلال الدولة الأموية: "فهذا أمر امتحنا به نسأل الله السلامة، وهي فتنة سوء أهلكت الأديان -إلا من وقى الله تعالى- من وجوه كثيرة يطول لها الخطاب. وعمدة ذلك أن كل مدبّر مدينة أو حصن -في شيء من أندلسنا..- محارِبٌ لله ورسوله وساعٍ في الأرض بفساد، للذي ترونه عيانًا من شنهم الغارات على أموال المسلمين..، ضاربين للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطين لليهود على قوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية والضريبة من أهل الإسلام"!
ويستهزئ ابن حزم بهؤلاء الأمراء المتصارعين على شرعية وهمية، فيتحدث -حسب الذهبي في ‘السِّيَر‘- عن "فضيحة [هي وجود]: أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام يسمَّوْن ‘أمير المؤمنين‘ في وقت [واحد]…، فهذه أُخْلوقة لم يُسمع بمثلها"!! ثم يعلن لنا يأسه القاطع من صلاح هؤلاء الانتهازيين المتغلبين على أمور المسلمين فيقول: "والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حُرُم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم..، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعا فأخلوْها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفا من سيوفه"!!
ولا يتوقف ابن حزم عند التشكيك في نيات ومصداقية هؤلاء الساسة، بل يصرح بأن سائر الأموال التي يتوسّعون فيها وينفقونها على وزرائهم والعاملين لديهم إنما هي أموال سُحْت، "وبرهان ذلك أني لا أعلم -لا أنا ولا غيري- بالأندلس درهمًا حلالًا، ولا دينارًا طيبًا يُقطع بأنه حلال". ولذا لا غرابة أن تدفع هذه الأحوال القاتمة ابن حزم للابتعاد عن المسرح السياسيّ ليجدّ في مشروعه الإصلاحي العلمي. وحسبك ثمرة لتفرغه أنه ترك -كما مرّ معنا- آثارا علمية تقدر بثمانين ألف صفحة في أربعمئة مجلد؛ فيا له من أثر، ويا له من تراث!!
بيئة طاردة
وأما دور البيئة العلمية الحافزة في نبوغه؛ فقد كان ابن حزم يعيش في بيئة طاردة سياسيا ومتعصبة مذهبيا؛ فدفعته بذلك أشد الدفع للإنتاج الفكري متسلحا بأدوات الجدل والمناظرة، فقد كان ذا طبيعة ناريّة تُشحذ حماسته بوجود المخالف، وتنتعش قريحته بحضور المعارض! وقد شاع عنه خبر حدّته وتكلَّم الناس في أسبابها حتى بالغوا في تفسير بعض نصوصه فيها، بل وتكلفوا في أمرها حتى قال ابن حيان إن "أكثر معايبه -زعموا- عند المُنصف له: جهله بسياسة العلم"، أي تركه ملاينة المخالفين!
ونحن نوقفك على بعض معالم البيئة الفقهية في الأندلس، وعلى تطرف بعض خصومه من أتباع المذهب المالكي الغالب على البلاد حينها؛ لتضع بعدها حدة ابن حزم وجسارته على خصومه في مكانها، وليستبين لك كيف كان في حدّته إحياءٌ للسنة بين أهل بلد لم تسعفهم هممهم في الوصول للمعين الأوّل للعلم الشرعي، فوقفوا حياتهم على كُتب مالك بن أنس (ت 179هـ) إمام مذهبهم. لقد وظّف حدته لتكون أداة فعّالة لإدارة الصراع مع المالكية، ولولاها لطمره تاريخ الأندلس المكتوب بأقلام خصومه، رغم أن الدقة تقتضي القول بأن طبيعته الناريّة الحادّة كانت تحيد عن السداد، فتنال من المذاهب الأخرى التي لم تكن ظاهرة بالأندلس مثل الحنفية والشافعية، وكذلك سائر الفرق الكلامية.
يصف لنا القاضي المالكي عياض اليحصبي (ت 544هـ) -في كتابه ‘ترتيب المدارك‘- بدايات دخول المذهب المالكي إلى الأندلس، وكيف استقر وتم تعميمه بقوة السلطان؛ فيقول: "أما أهل الأندلس فكان رأيهم -منذ فُتحت [البلاد]- على رأي الأوزاعي (ت 157هـ)، إلى أن رحل إلى مالكٍ [تلامذتُه]: زياد بن عبد الرحمن (الملقب ‘شَبَطون‘ ت 193هـ)، وقِـرْعوس بن العباس (ت 220هـ)، والغازي بن قيس (ت 199هـ) ومَن بَعدهم؛ فجاؤوا بعلمه وأبانوا للناس فضله واقتداءَ الأمّة به، فعُرف حقه ودُرّس مذهبه، إلى أن أخذ أمير الأندلس -إذ ذاك- هشام بن عبد الرحمن [الداخل] بن معاوية (ت 180هـ).. الناس جميعًا بالتزامهم مذهب مالك، وصيّر القضاء والفتيا عليه".
ويبدو أن اعتماد الأمويين لمذهب إمام المدينة النبوية مذهبا رسميا لدولتهم بالأندلس لم يكن يخلو من مناسبة سياسية يعززها تزامنه مع بداية ارتباط مذهب الحنفية بدولة بني العباس؛ فقد نمى إلى علم هشام المذكور أن الإمام مالكًا كان له مَيلٌ إليه لما سمعه من جميل سيرته من أحد تلاميذه الأندلسيين، وكان هشام -كما يقول الذهبي في ‘السِّيَر‘- "ديّناً ورعاً.. ويعدل في الرعية"؛ فقال مالك: "نسأل الله أن يزيّن حرَمَنا بمثله" من الملوك.
ابن حزم: مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة فإنه لما ولِي قضاءَ القضاة أبو يوسف كانت القضاة من قِبَله، فكان لا يولّي قضاء البلاد إلا أصحابه المنتمين إلى مذهبه؛ ومذهب مالك بن أنس عندنا في الأندلس
ثم تكتمل الخلفية السياسية للترسيم النهائي للمالكية مذهبا للدولة باستحضارنا لآثار الصدام المسلح بين النظام الأموي وبعض كبار فقهاء المالكية، والذي بلغ ذروته بـ"ثورة الربض" سنة 202هـ التي حَسم فيها الأميرُ الحَكَم بن هشام (ت 206هـ) الصراعَ لصالح النظام، ثم رأى خليفتُه ابنُه عبد الرحمن بن الحكم (ت 238هـ) أن يحتوي الأمر بعقد تحالف جديد أعمق بين الدولة وأصحاب المذهب الغالب.
وهكذا صارت الدعوة إلى الالتزام بمذهب مالك جزءًا من هُوُّيّة الدولة، فاكتسب بذلك نوعًا من ‘الحصانة الدستورية‘ حتى إنهم "حمَوْهُ بالسيف عن غيره جملة"؛ كما يقول عياض. وظل تشدد السلطة الأموية بالأندلس في التمسك بالمذهب المالكي يتصاعد بتطرف حتى أصبح من يحيد عنه يوصف بأنه ضالٌّ مبتدع؛ فالقاضي عياض يقول إن الأمير الحَكَم المستنصر (ت 366هـ) كتب رسالة جاء فيها أن "كلّ مَن زاغ عن مذهب مالك فإنه ممن رِينَ (= طُبِع) على قلبه، وزُيِّن له سوء عمله"!!
وقد لاحظ ابن حزم أن المذهب المالكي لم يتخذ طريقا طبيعيا نحو اعتناق الأندلسيين له، بل كان فرضًا بسلطان الدولة؛ وفي ذلك يقول بنبرته الجازمة المعهودة: "مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة (ت 150هـ) فإنه لما ولِي قضاءَ القضاة أبو يوسف (ت 182هـ) كانت القضاة من قِبَله، فكان لا يولّي قضاء البلاد -من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال أفريقية (= تونس)- إلا أصحابه المنتمين إلى مذهبه [الحنفي]؛ ومذهب مالك بن أنس عندنا، فإن يحيى بن يحيى (الليثي ت 234هـ) كان مكينًا عند السلطان مقبول القول في القضاء، فكان لا يلي قاضٍ في أقطارنا إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه".
ولذلك لم يسلم أتباع المذاهب الفقهية من مضايقات فقهاء مالكية الأندلس النافذين حكوميا؛ فهذا الإمام الحافظ ابن الفرضي (ت 403هـ) يحكي لنا -في ‘تاريخ علماء الأندلس‘- كيف كانت تتم دعوة فقهاء المذاهب المختلفة إلى نبذ مذاهبهم والانتقال إلى مذهب الدولة؛ فيقول إن الفقيه القرطبي أبا كنانة زهير بن مالك البَلَوِي (ت نحو 239هـ) "كان فقيها على مذهب الأوزاعي على ما كانت عليه أهل الأندلس قبل دخول بني أمية..، وأن عبد الملك بن حبيب (رأْس المالكية بالأندلس ت 238هـ) كان يعذل (= يلوم) أبا كنانة على انحرافه عن مذهب أهل المدينة وتمسكه برأي الأوزاعي"!

تقليد مطبق
وقد يقول قائل إن الاقتصار على مذهب مَرْضِيّ من مذاهب الإسلام -كمذهب مالك- ليس فيه شناعة تستوجب أن يَبري لها ابن حزم أقلامه ويُفوّق سهامه. وقائل هذا يُجاب بأن الصورة لم تكتمل لديه، فالأمر لم يتوقف عند نصرة مذهب ومعاداة سواه، وإنما خالطه إهمال للحديث عند فقهاء المالكية النافذين سلطويا، واحتفاء بكُتب الفروع على حساب كُتب السُّنة، وسنبيّن لك هذا باستعراض لبعض رؤوس المذهب المالكي بالأندلس، وبيان ضعف بضاعتهم في الحديث.
فهذا قِرعوس بن العباس -وهو من أوائل من حمل عن مالك عِلمَه إلى الأندلس- يقول عنه ابن الفرضي: "وكان علمُه المسائلَ على مذهب مالك وأصحابه، ولا علم له بالحديث". وهذا يحيى الليثي الذي انتهت إليه رئاسة المذهب في الأندلس، وكان ممن وطّد للمالكية علاقتهم بالسلطة؛ يقول عنه الحافظ ابن عبد البر المالكي (ت 463هـ) إنه "انتهى السلطان والعامة إلى رأيه…، ولم يكن له بصرٌ بالحديث"! وكأن الذهبي لم يعجبه هذا الحكم المطلق على راوي ‘الموطأ‘ الأشهر عن مالك؛ فقال معلقا: "قلت: نعم؛ ما كان من فرسان هذا الشأن، بل كان متوسطا فيه".
وهذا عبد الملك بن حبيب -وهو وريث يحيى الليثي في رئاسة المذهب وصاحب كتاب ‘الواضحة‘ المحتفى به لدى مالكية الأندلس- يقول عنه ابن الفرضي: "لم يكن لعبد الملك بن حبيب عِلمٌ بالحديث ولا كان يعرف صحيحه من سقيمه". وقد نقل الإمام المالكي عياض -في ‘ترتيب المدارك‘- شهادة ابن الفرضي هذه في ابن حبيب دون تعليق فكأنه مُقرّ بصحتها. وكذلك كان أصبع بن خليل القرطبي (ت 273هـ) وقد دارت عليه الفتيا بالأندلس خمسين عامًا؛ يقول عنه ابن الفرضي: "لم يكن له علم بالحديث ولا معرفة بطرقه، بل كان يباعده ويطعن على أصحابه". وقال عنه ابن عبد البر -فيما رواه عياض- إنه "كان معاديًا للآثار، ليس له معرفة بالحديث، شديد التعصب لرأي مالك وأصحابه، ولابن القاسم (العُتَقي ت 191هـ) من بينهم".
وقد سعى فقهاء المالكية بمحدّث الأندلس بَقِيّ بن مَخْلَد (ت 276هـ) لدى السلطان، وما زالوا يُغْرونه به حتى اتهموه بالزندقة وحرضوا على قتله، هذا وهو حامل سنة النبي (ص) إلى أهل الأندلس، ومَن يسميه الذهبي بـ"شيخ الإسلام صاحب التفسير والمسند اللذيْن لا نظير لهما". ويرسم لنا الرحالة المقدسي البشاري (ت 380هـ) -في ‘أحسن التقاسيم‘- حدود معارف الأندلسيين بمصادر التشريع في زمنه؛ فيقول: "أما في الأندلس فمذهب مالك [هو المعتمَد]، وهم يقولون: لا نعرف إلا كتاب الله وموطأ مالك، فإن ظهروا على حنفي أو شافعي نفوْه، وإن عثروا على شيعي أو معتزلي ربما قتلوه"!
وقد كان ابن حزم يعيّر خصومه من فقهاء المالكية بضعفهم في الحديث، فيقول معلقا على طعنهم في أسانيد بعض الأحاديث: "أما قولهم: لِوَهْنٍ في طريقه (= ضعف سنده) فلم يصحّ، فهذا علمٌ ما يُدرى منهم أحدٌ يَدري فيه كلمةً فما فوقها"! ويقول راداًّ على اتهامهم له بضعف علمه بالحديث: "أما قولهم عنا بضعف الرواية والتعرّي من الشيوخ، فلو كان لهم عقول لأضربوا عن هذا، لأنهم ليسوا من أهل الرواية فيعرفوا قويها من ضعيفها، ولا اشتغلوا بها قطّ ساعة من الدهر، وما يعرفون إلا المدونة على تصحيفهم لها"!
وهذا القاضي ابن العربي (ت 543هـ) يحكي حالهم وهو نجم في سماء المذهب المالكي: "فصار التقليد دِينَهم والاقتداء يقينهم، فكلما جاء أحد من المشرق بعلم.. حقّروا من أمره إلا أن يتستر عندهم بالمالكية"، ثم يضيف: "فألزموا الناس العمل بمذهب مالك…، واستمرت القرون على موت العلم وظهور الجهل، فكلّ من تخصَّص لم يقدر على أكثر من أن يتعلَّق ببدعة الظاهر (= المذهب الظاهري)…، ثمَّ حدثت حوادث لم يَلْقَوْها في منصوص المالكية فنظروا فيها بغير علم فتاهوا..، ولولا أن طائفة نفرت إلى دار العلم [بالمشرق] وجاءت بلُباب منه -كالأصيلي (ت 392هـ) والباجي (ت 474هـ)- فرشّت من ماء العلم على القلوب الميتة وعطرت أنفاس الأمّة الزفِرة؛ لكان الدين قد ذهب"!!
والإنصاف يقضي بأنه كان على القاضي ابن العربي أن يذكر ابنَ حزم -وهو شيخ والدِه وزيرِ مملكة بني عباد وسفير دولة المرابطين إلى الخليفة العباسي ببغداد- في عِداد من أحيا مواتَ الأندلسيين؛ فقد شيّد أبو محمد بناء مدرسة الأثر بكتابه ‘المحلَّى بالآثار‘ وسوّرها بـ‘إحكام أصول الأحكام‘ فأعاد بذلك الاعتبار إلى السنّة المشرَّفة، ومع ذلك فـ"لم ينصف القاضي أبو بكر.. شيخَ أبيه في العلم ولا تكلم فيه بالقسط"؛ كما يقول الذهبي.

تعصب بالغ
ومن هنا ينبغي تناول مشروع ابن حزم الإحيائي في هذا السياق المعتم من تطفيف خصومه في حقه، وتسلّط أصحاب الفروع والتقليد على المجتمع المسلم بالأندلس، وإهمالهم للأصول الشرعية التي لها وحدها صبغة الإلزام؛ فردَّ بمشروعه الاعتبارَ للأصول، وفتح باب الاجتهاد بعد إغلاقه جراء فُشُوّ التقليد، وبالغ في توسيعه حتى أدخل فيه كل مسلم.
يقول البعض: "كان لسان ابن حزم وسيف الحَجّاج شقيقيْن" ويتخذون من هذا مطعنًا عليه، والواقع أن لسان ابن حزم كان يواكبه تعصب مذهبي متسلح بسيف الحجّاج المتمثل في السلطة، وقد لاحظ الذهبي -في السِّيَر‘- الصلة بين الأمرين، فقال إن ابن حزم "تعصَّب عليه المالكية لطول لسانه ووقوعه في الفقهاء الكبار"! لكن ما عسى أن يصنع صاحب الرسالة الإصلاحية إذا كانت كفة القوة تميل لخصمه، لقد وجد ابن حزم في النضال العلمي سبيلًا لإصلاح ما أفسده النافذون من فقهاء الأندلس الذين وصفهم هو بأنهم "بُكمٌ إذا ضمَّنا وإياهم مجلس، فإذا غابوا أتوْا بمثل هذه البلاغم العَفِنة المُضحِكة"!
لقد لقي ابن حزم عَـنَـتًا من متعصبي فقهاء عصره، وصار طلابه يستخْفون بنسبتهم إليه؛ فهذا أحد مريديه يكتب إليه -في رسالة ‘الهاتف من بعيد‘- طالبا منه ألا يكشف أمره أو يصرح باسمه في رده على رسالته وسؤاله، فقد صاروا "غرباء بين المتعصبين". ويبدو أن ابن حزم أدرك مع اكتهاله أنه ينبغي أن يغير إستراتيجيته، ويخرج من بين ظهراني خصومه إلى منطقة محايدة يشتغل فيها بالبناء والتدريس، فتوجه في سنة 430هـ إلى جزيرة ميورقة شرقي الأندلس ليستقر في كَـنَـف أميرها أحمد بن رشيق (ت 440هـ)، نازحًا عن مناطق الصراع وغلبة الخصوم بقرطبة ونظائرها من الحواضر الكبرى. وقد عاد هذا القرار بالخير على مذهبه، إذ تخرج على يديه من أهالي ميورقة من سيحمل مذهبه إلى المشرق ويطير باسمه في الآفاق، ذلكم هو تلميذه الحُميدي الأَزْدي (ت 488هـ) الذي "اختص به وأكثر عنه وشُهِر بصحبته"؛ كما يقول ابن بَشْكُوال (ت 578هـ) في كتابه ‘الصلة‘.
لكن عداوة فقهاء المالكية له لم تهدأ بنجاحهم في إبعاده عن قرطبة؛ فقد بلغه -وهو بميورقة- خبرُ إحراق أمير إشبيلية المعتضد بن عباد (ت 461هـ) لكتبه بتحريض من هؤلاء الفقهاء. ثم لما توفي أمير ميورقة عاد فقهاء المالكية إلى مطاردته وتشريده، و"طفق الملوك يُقْصونه عن قربهم ويسيّرونه من بلادهم، إلى انتهوا به إلى مُنقطَع أثَرِه بتُربة بلده بادية لبلة..، وهو في ذلك غير مُرْتَدِع ولا راجع إلى ما أرادوا به، يبث علمه فيمن ينتابه من بادية بلده من عامة المقتبسين، منهم من أصاغر الطلبة الذين لا يخشون فيه الملامة، يحدثهم ويفقههم ويدربهم، ولا يدع المثابرة على العلم، والمواظبة على التأليف"؛ حسب الشنتريني.
على أن أجواء الصراعات العلمية التي خاضها ابن حزم لم تمنعه من إنصاف خصومه والاعتراف بمزاياهم؛ فالذهبي يروي -في ‘السِّيَر‘- قوله في أحدهم: "ما لقيت أشد إنصافا في المناظرة من [الفقيه القاضي] ابن بشر (المعروف بابن غرسيَّة ت 422هـ)، ولقد كان مِن أعلم مَن لقيته بمذهب مالك، مع قوته في علم اللغة والنحو ودقة فهمه". وكذلك فعل مع مجادله الأشهر الباجي؛ فقد حكى الشنتريني أن ابن حزم "كان يقول: لم يكن لأصحاب المذهب المالكي بعد عبد الوهاب (البغدادي ت 422هـ) مثل أبي الوليد الباجي! وقد ناظره بميورقة ففلَّ من غَرْبه..، ولكن أبا محمد وإن كان اعتقد خلافَه فلم يطرح إنصافَه"! بل إنه ذكر -في كتابه ‘الفصل‘- ما يشير لاستفادته من الباجي آراء عقدية لبعض الفرق الكلامية!

استثناء حميد
لم يخلُ مشهد الصراع بين ابن حزم وفقهاء المالكية من حلقات وصل بين الطرفين، تراوحت بين الصداقة الحميمة واللقاء العلمي الساخن في مجالس المناظرة الحافلة بالجمهور؛ فمن أمثلة الأولى علاقة الودّ العميقة التي ربطت ابن حزم بابن عبد البر اللذين جمعتهما وشائج عدة ربما جعلتهما يخدمان مشروعا إصلاحيا واحدا وإن بأساليب منوّعة. فقد جمعت بينهما زمالةٌ في طلب العلم على شيوخ مشترَكين، واعتناقٌ خاطف منهما للمذهب الشافعي، وتمذهبٌ مؤقَّت لابن عبد البر بالمذهب الظاهري، وعنايةٌ عظيمة منهما بالحديث جعلتهما إمامين فيه غير منافَسيْن بقُطرهما؛ فقد ذكر الذهبي أن ابن عبد البر "كان ينبسط إلى أبي محمد.. ويؤانسه، وعنه أخذ ابن حزم فن الحديث..، كان أبو عمر أعلم مَن بالأندلس في السنن والآثار..، وكان في أول زمانه ظاهري المذهب..، كان كثيرا ما يميل إلى مذهب الشافعي".
ولذلك لا غرابة إنْ قرن الذهبي -في ‘السِّيَر‘- بين الرجلين في التميز العلمي على مستوى العالم الإسلامي؛ فقد نقل قولَ العز بن عبد السلام (ت 660هـ): "ما رأيت في كُتب الإسلام في العلم مثل ‘المحلَّى‘ لابن حزم، وكتاب ‘المُغْني‘ للشيخ موفق الدين (المقدسي ت 620هـ)"؛ ثم أضاف الذهبي: "قلت: لقد صدق الشيخ عز الدين. وثالثهما: ‘السُّنن الكبير‘ للبيهقي (ت 458هـ)، ورابعها: ‘التمهيد‘ لابن عبد البر". ويلفت النظر هنا أن ثلاثة من الأربعة اشتركوا في عصر واحد، يمثله عُمُر البيهقي (384-458هـ) المضاهي قدراً لعمر ابن حزم!
وأما المناظرات العلمية فأشهرها ما جرى بين ابن حزم وأبي الوليد الباجي -وقد جمعهما التتلمذ على شيوخ منهم "شيخ الأندلس" ابن مغيث القرطبي (ت 429هـ)- من "مناظرات ومنافرات" -وفق تعبير الذهبي في ‘السِّيَر‘- في بلاط ابن رشيق. وقد وجد الباجي -الذي كان رحل إلى المشرق فاستوعب حصيلة معارف أهله في العقليات والنقليات وتمرّن على فن المناظرات- العونَ من زميله في المذهب والطلب أبي عبد الله الميورقي (ت نحو 460هـ)، فقررا القضاء على تفرد ابن حزم بالمشهد العلمي فـ"تظافرا معا وناظرا ابن حزم فأفحماه وأخرجاه، وهذا كان مبدأ العداوة بين ابن حزم والباجي". وبالطبع لا يمكن للباحث التسليم بدعوى الإفحام هذه لغياب النصوص الكاملة لهذه المناظرات.
وبقدر ما كانت هذه المناظرات سببا في عزلة ابن حزم عن المجال العام؛ كانت مدخلا واسعا للباجي نحو هذا المجال الذي سرعان ما احتلّ فيه مكانة عظيمة لنجاحه في أمور ثلاثة: أولها تحييد رأس "الظاهرة الحزمية" في الأندلس عن الصدارة، وثانيها جمعه بين علوم الأثر ومذاهب الرأي في الفقه والعقائد، وثالثها الصلة القوية بجميع سلاطين الأندلس.
ابن حزم: الحظّ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ويقرئه بقدر طاقته ويحققه ما أمكنه، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طُرُق المارّة، وتيسر له أن يهب المال لطلابه ويُجري الأجور للباحثين عنه، صابرا في ذلك على المشقة والأذى؛ لكان ذلك إحياء للعلم
ومع كل ما تقدم من مظاهر الصراع بين ابن حزم وخصومه؛ فإننا نرى لدى هذا الإمام ميلًا لجمع الكلمة وأن خصومته للفقهاء ليست عداوة لأتباعهم. فها -في ‘رسالة الإمامة‘- يجيب مَن سأله عن صحة صلاة المرء خلف إمام لا يدري مذهبه الفقهي بما يحقق وحدة المسلمين؛ فيقول: "إن البحث عن مثل هذا أحدثه الخوارج فهي التي كشفت الناس [عن] مذاهبهم وامتحنتهم في ذلك…، وما امتنع قط أحد من الصحابة.. ولا من خيار التابعين من الصلاة خلف كل إمام صلَّى بهم". ثم يختم فتواه بعبارة تبيّن لنا أنه كان يرى أن القيام بمشروعه الإصلاحي متعيِّنٌ عليه، وأنه لم يطلبه لشهوةِ شهرةٍ أو خصومةٍ أو رئاسةٍ، فيقول: "اللهُ يعلم أني غير حريص على الفتيا، ومَن عَلِمَ أن كلامه من عمله -مُحْصًى له مسؤول عنه- قلّ كلامُه بغير يقين".
وليس أبلغ في الدلالة على إحساس ابن حزم بنُبْل وأهمية مشروعه الإصلاحي من قوله الذي حكاه عنه أبو حيان الأندلسي (ت 745هـ) -في تفسيره ‘البحر المحيط‘- نقلا عن تلميذه الحافظ الحُميدي؛ وهو: "الحظّ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ويقرئه بقدر طاقته ويحققه ما أمكنه، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طُرُق المارّة ويدعو إليه في شوارع السابلة وينادي عليه في مجامع السيارة، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه ويُجري الأجور لمقتبسيه ويُعظم الأجعال (= الجوائز) للباحثين عنه ويُسني مراتب أهله، صابرا في ذلك على المشقة والأذى؛ لكان ذلك حظا جزيلا وعملا جيدا وسعدا كريما وإحياء للعلم، وإلا فقد دَرَس وطُمس ولم يبق منه إلا آثار لطيفة وأعلام داثرة"!!
لم يكن ابن حزم يعيش ترفًا فكريًا، فقد كان يرى في حياته مشروع إصلاح لاستنقاذ الشريعة من كتب الفروع الجامدة، وإعادة الناس إلى هدْي نصوص الوحي، ولعله لم يقصد أن يقوده طبعه وحدّته إلى الخصومات، وإنما وظّف بعض طباعه في معركة حياته، وشتّان بين الأمرين. وقد تركَ لنا -في رسالته ‘الأخلاق والسِّيَر في مداواة النفوس‘- ما يشير إلى مذهبه وأنه لم يتخذه ترفًا وافتعالًا؛ فقال: "وإياك ومخالفة الجليس ومعارضة أهل زمانك فيما لا يضرّك في دنياك ولا في أخراك وإن قلّ، فإنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة والعداوة… وإن لم يكن لك بُـدٌّ من إغضاب الناس أو إغضاب الله عزّ وجلّ..؛ فأغضب الناس ونافرهم، ولا تغضب ربك ولا تنافر الحق".
انتصار وحصار
وفي نهاية مسيرة علمية امتدت أربعة عقود (415-456هـ) بدأت بمأساة رجل دولة محطَّم الأحلام وانتهت بحصيلة معارف وافرة لإمام موسوعي ما زال يثير الاهتمام؛ توفي ابن حزم آخر شعبان سنة 456هـ في قرية ‘منت ليشم‘ ببادية لبلة، تاركاً مذهبًا شهد على انتشاره بالأندلس ألدُّ أعدائه، فهذا القاضي ابن العربي يتحدث -في ‘العواصم من القواصم‘- عن هيمنة مذهب الظاهرية على المشهد العلمي في الأندلس عشية مقدمه سنة 493هـ من رحلته إلى أقطار المشرق؛ فيقول: " حين عودتي من الرحلة ألفيت حضرتي (= مدينتي: إشبيلية) منهم طافحة ونار ضلالهم لافحة"!!
ومن المفارقات العجيبة أن المذهب الظاهري -ممثلا في تراث ابن حزم- وجد بعد قرن من وفاته نصيرا سلطانيا له من دولة الموحدين التي أسقطت دولة المرابطين سنة 541هـ، وخاصة في أيام المنصور يعقوب الموحدي (ت 595هـ) الذي يروي المقّري -في ‘الإحاطة‘- أنه كان معجبا بابن حزم، وأنه وقف يوما على قبره ثم قال: "كل العلماء عيال على ابن حزم"! ولعل هذا الإعجاب دفعه إلى "الثأر" لابن حزم من خصومه، فألزم الناسَ بالمذهب الظاهري وأمر سنة 591هـ بحرق كتب فروع الفقه المالكي، ليس في الأندلس فحسب وإنما في بلاد المغرب أيضا.
وعن هذه المحرقة يحدثنا شاهدُ عِيان على مشهد منها وقع في فاس، وهو المؤرخ المراكشي الذي يقول في كتابه ‘المُعجِب‘: "أمر [المنصور] بإحراق كتب المذهب [المالكي]..، لقد شهدتُ -وأنا يومئذ بمدينة فاس- يُؤتى منها بالأحمال فتوضع ويُطلق فيها النار…، وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة، وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث. وهذا المقصد بعينه كان مقصدَ أبيه (= أبو يعقوب ت 580هـ) وجده (= عبد المؤمن ت 558هـ)، إلا أنهما لم يُظهراه وأظهره يعقوب هذا".
وإثر وفاة المنصور؛ تخلى خلفاؤه عن تراث الدعوة التَّوْمرتية التي اعتنقها آباؤهم، وعادت الدولة إلى اعتماد المذهب المالكي فخضع المذهب الظاهري والميراث الحزمي مجددا لحصار خصومه حتى سقطت الأندلس بالكامل، فابن خلدون (ت 808هـ) يحدثنا -في ‘المقدمة‘- عن وضعية هذا المذهب في عصره قبل قرن من سقوط غرناطة، فيقول: "ثم دَرَس مذهبُ أهل الظاهر اليوم بدروس أئمته وإنكار الجمهور على منتحله، ولم يبق إلا في الكتب المجلدة"!
ورغم حياته العاصفة بحروب السياسة وكروب التعصب طوال نصف قرن؛ فقد كان ابن حزم -رحمه الله- سمْحًا في وصف أخلاقه، وقد أطلعنا على جانب من رقته ولطفه يتنافى مع ما اشتهر عنه من الزعارة وشدة الأخلاق، وهو اشتهار كانت عباراته القادحة في المخالفين سببا فيه؛ فهو يحكي -في ‘طوق الحمامة‘- عن خصلة الوفاء لديه والأنْس بكل قريب منه، فيقول: "لا أقول قولي هذا ممتدِحًا [نفسي]، ولكن آخذاً بأدب الله عز وجل: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ»، ولقد منحني الله عز وجل من الوفاء لكل من يمتّ إليّ بِلَقْيَة واحدة، ووهبني من المحافظة لمن يتذمم مني ولو بمحادثة ساعة، حظًا أنا له شاكر وحامد..، وما شيء أثقل عليّ من الغدر"!
ولم يقتصر هذا الخُلُق على أصحابه وطلابه، وإنما عامل به أيضا مَن وقع في غرامها من النساء، وهي حبيبته أيام الصبا جاريتُه "نُعْم" التي نراه يتوجّع عليها متفجّعا على فقدانها: "ولو قـُبِل فداءٌ لفديتها.. ببعض أعضاء جسمي العزيزة عليّ مسارعًا طائعًا، وما طاب لي عيشٌ بعدها، ولا نسيتُ ذكرها، ولا أنِسْتُ بسواها"!!
المصدر : الجزيرة