‏إظهار الرسائل ذات التسميات روبرت فيسك. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات روبرت فيسك. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 21 يونيو 2019

الديمقراطية المصرية توفيت البارحة بقفص السجن بجانب مرسي


الديمقراطية المصرية توفيت البارحة بقفص السجن بجانب مرسي

روبرت فيسك

ويصمت الغرب على موت رجل كان قد وصفه ذات يوم بأنه الأمل الأعظم للديمقراطية العربية.

كم كان شجاعا ردنا على وفاة محمد مرسي الفظيعة داخل القفص. لربما كان سيبعث على الضجر تكرار جميع كلمات الأسف والأسى والحزن، بل والتقزز والرعب، وتعبيرات التنديد التي تخرق الآذان وهي تتوالى تعليقا على موت رئيس مصر المنتخب الوحيد، داخل محكمة بمدينة القاهرة هذا الأسبوع. 
من داونينغ ستريت (مقر الحكومة البريطانية)، من البيت الأبيض، من مقر المستشارة الألمانية إلى قصر الإليزيه – ودعونا لا ننسى البارليمونت (مقر المفوضية الأوروبية في بروكسيل) – حيث رجال وسيدات السياسة المفتخرون التابعون لنا. 
سيكون مرهقا فعلا التوقف عند كل واحد منهم والحديث عما شعروا به من حزن لموت مرسي. 

لم يوجد شيء من ذلك على الإطلاق، لم يكن هناك سوى الصمت المطبق، لم تكن هناك همسة واحدة، ولا حتى تغريدة عصفور – أو تدوينة في حساب رئيس معتوه – ولا حتى كلمة أسف عابرة. كل أولئك الذي يزعمون أنهم يمثلوننا التزموا الصمت، لم ينطقوا ببنت شفة، وكانت أصواتهم محجوبة عن السمع تماما، كما كان مرسي في قفصه داخل المحكمة، صامتون تماما كصمته داخل قبره في القاهرة.


لم يكن صمتنا الجبان والمخزي دليلا فقط على الطبيعة الكئيبة التي جُبل عليها رجال الحكم في الغرب، بل كان تشجيعا مطمئنا لكل زعيم في الشرق الأوسط بأن سيئاتهم لن يحاسبهم عليها أحد، ولن يتوقف عندها أحد، وأن العدالة ستظل غائبة، وأن كتب التاريخ ستظل مهجورة.
وكأن مرسي لم يعش، وكما لو أن شهوره القليلة في السلطة لم تكن – وهو الأمر الذي يريد عبد الفتاح السيسي – خصمه اللدود وسجانه السابق – أن تدونه كتب التاريخ. 

إذن، فلنرفع القبعة ثلاث مرات أخرى تحية لديمقراطياتنا البرلمانية، التي دائما تنطق بصوت واحد ضد الطغيان. فيما عدا حمار الأمم المتحدة القديم وفيما عدا عدد قليل من قلاع الحرية القليلة المعروفة – تركيا، ماليزيا، قطر، حماس، الإخوان المسلمون في المنفى وكل من توجه له في العادة أصابع الاتهام – كانت ذكرى مرسي ولحظات حياته الأخيرة وكأنها لم تكن يوما. كريسبين بلانت وحده هو الذي حاول أن يبقي ضمير بريطانيا على قيد الحياة، وكذلك فعلت تونس الصغيرة الشجاعة. وفي ذلك خير عميم. 

صحيح أن مرسي كان الخيار الثاني لمنصب الرئيس – حيث إن الرجل الذي اختاره الإخوان ابتداء مُنع من الترشح لأسباب فنية – كما أن من الصواب القول إن العام الوحيد الذي قضاه مرسي في الحكم كان مستوى الأداء فيه من الدرجة الثانية، غير ملهم، ومخيبا للآمال، وفي بعض الأوقات عنيفا، بل وشابه في بعض الأوقات القليل من الطموح الدكتاتوري. كان كل حين يخرج من اجتماعاته الحكومية ليتصل برفاقه في الإخوان المسلمين طلبا لنصحهم، ولا يمكن وصف ذلك بأنه إدارة شؤون الحكومة من قبل زعيم متميز.

لكنه لم يكن رجلا سيئا، لم يكن إرهابيا، ولم يحتجز وراء القضبان ما يقرب من ستين ألف سجين سياسي كما فعل خلفه – الذي يُعد، بالطبع، "شخصا عظيما" من قبل الشخص العظيم الآخر في البيت الأبيض. 

لعل من المفيد ملاحظة كم كان التعامل مع مرسي مختلفا بعد الانقلاب الذي دمره. لقد احتجز في حبس انفرادي، وحيل بينه وبين أن يتكلم مع أفراد عائلته المقربين، وحرم من الإسعاف الطبي. ولكم أن تقارنوا ذلك بالمعاملة التي لقيها سلفه حسني مبارك بعد عزله – العلاج الطبي المستمر داخل المستشفى والزيارات العائلية، والتعبير العلني عن التعاطف معه، بل وحتى السماح له بإجراء مقابلة صحفية. أما مرسي، فكانت كلماته الأخيرة، التي دافع فيها عن كونه مايزال رئيس مصر الشرعي، فقد حيل بينها وبين أن تصل إلى مسامع الناس بفعل التصميم الميكانيكي للقفص الذي احتجز فيه، والذي لم تكن جدرانه الزجاجية تسمح بعبور الصوت.

لم يكن إرهابياً، ولم يحتجز وراء القضبان ما يقرب من ستين ألف سجين سياسي كما فعل خلفه – الذي يُعدّ، بالطبع، "شخصا عظيما" من قبل الشخص العظيم الآخر في البيت الأبيض

لم يكن صمتنا الجبان والمخزي دليلا فقط على الطبيعة الكئيبة التي جُبل عليها رجال الحكم في الغرب. بل كان تشجيعا مطمئنا لكل زعيم في الشرق الأوسط بأن سيئاتهم لن يحاسبهم عليها أحد، ولن يتوقف عندها أحد، وأن العدالة ستظل غائبة، وأن كتب التاريخ ستظل مهجورة. 
إن صمتنا – ودعونا نصارح بعضنا البعض في ذلك – لن يجعل لا من هم على شاكلة ابن سلمان ولا من هم على شاكلة الأسد، ولا أمراء الخليج والمليشيات في ليبيا ولبنان وسوريا والعراق، ترتعد فرائصهم خوفا أو جزعا. ناهيك عن أن ينال ذلك شيئا من السيسي. 

ولكن نعم، لقد أصبح مرسي بالنسبة لملايين عديدة من العرب شهيدا – ولكم أن تتصوروا أن الشهداء ليسوا بلا قضية. وليكن معلوما أنه لا المحاكمات ولا الإعدامات ولا الاعتقالات الجماعية لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين، تلك التي تعدّ في عيني السيسي "منظمة إرهابية" (وكادت أن تصنف كذلك من قبل دافيد كاميرون لولا أن إمعاته الأمنيين حذروه من مغبة القيام بذلك) سوف تدمر الجماعة. ولكن هل يوجد هنالك رجال آخرون مثل مرسي على استعداد لأن يجازفوا بالموت داخل زنزانة السجن ثمنا لمقاومة الإطاحة بهم؟ وكان مرسي نفسه قد أخبر أحد كبار مستشاريه، الطبيب والأكاديمي الكندي من أصول مصرية وائل حضارة، أنه يتوقع فيما لو نجح في توجيه مصر نحو المسار الديمقراطي، أن يتعرض للاغتيال. وإذا ما أخذنا بالاعتبار ما تعرض له من معاملة سيئة وعزل ومحاكمات جائرة – فقد كان ذلك فعلا مصيره.

يبدو أن الصحيفة الغربية الوحيدة التي أتاحت الفرصة لصديق من أصدقاء مرسي لكي يتحدث عنه هي صحيفة الواشنطن بوست – ولها منا كل الإشادة، حيث سمحت لوائل حضارة بحيز، طالب من خلاله بأن تتعرض مصر للمساءلة بشأن موت الرئيس السابق. في لقاء أخير قبل أن يصبح رئيسا في حزيران/يونيو من عام 2012، طلب حضارة من مرسي أن يوقع له على علم مصري. 

وهذا ما كتبه مرسي حينها: "مصر التي تعيش في مخيلتي: مصر القيم والحضارة، مصر التنمية والاستقرار والحب، ورايتها دائما مرفوعة فوق رؤوسنا".

وأتساءل هنا ما إذا كان ذلك الرئيس المعتوه أو أولئك الساسة الجهلاء في حزب المحافظين، لدى أي منهم مثل هذه البلاغة في التعبير أو القدرة على الوقوف مثل ذلك الموقف المشرف.

ندبندنت)


الأربعاء، 19 يونيو 2019

ديمقراطية مصر ماتت مع "مرسي"

 ديمقراطية مصر ماتت مع "مرسي"

ماتت الديمقراطية المصرية مع مرسي بالأمس في قفص داخل السجن



روبرت فيسك
كان موت محمد مرسي متوقعاً، وبحق مثيراً للسخط، وفي رأيي الشخصي جريمة قتل. 

بالنسبة لي، إذا توفيت داخل سجن طاغية – وحتى لو لم تكن أول رئيس مصري منتخب – فستكون بشكل أو بآخر قد تعرضت للقتل. 
ليس مهماً إن كان السبب في ذلك هو الحبس الانفرادي، ونقص العناية الطبية أو العزل. 
ولا علاقة للأمر بكون المحكمة غير عادلة، وكون التهم سخيفة وغير مقنعة، والحكم مخزيا. 
فالسجين الذين يعيش في مثل هذه الظروف إنما هو سجين ينتظر الموت في كل يوم ما لم تفتح له أبواب الزنزانة، وهو الأمر الذي لم يكن ليحدث بالنسبة لرئيس مصر محمد مرسي. 

أستخدم لقبه الرسمي لأن الرئيس الذي يطاح به في انقلاب عسكري يبقى رئيساً منتخباً. مثلما أن الرجل الذي قاد الانقلاب ينبغي أن يسمى الآن الرئيس عبدالفتاح السيسي. يمثل اللقب في حالة الرجل الأول الشرف والكرامة بينما يمثل في حالة الرجل الثاني الحقيقة الواقعة. 

فاز مرسي بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية فقط بما يزيد قليلاً على واحد وخمسين بالمائة من الأصوات، بينما حصل السيسي في العام الماضي على سبعة وتسعين بالمائة. تعبر الأرقام عن نفسها، أليس كذلك؟ يمثل الرقم الأول الديمقراطية، بينما يمثل الرقم الثاني ما يمكن فقط وصفه بمعاملة مصر كما لو كان شعبها قاصراً. 

إن الذي جرى يعني أن ديمقراطية مصر لفظت أنفاسها أخيراً داخل قفص ذلك السجن بمدينة القاهرة. ولا غرابة إذن أن يجري دفن مرسي على عجل وبتكتم شديد. 

إلا أن الرمزية تصبح مهمة حينما يموت آخر رئيس منتخب في البلاد أمام القضاة الذين يحاكمونه داخل قفص يستخدم عادة لاحتجاز المجرمين، ثم يحرم حسبما يقوله ابنه من أن تكون له جنازة معلنة. 

بإمكاننا أن نتخيل رد الفعل على طلب العائلة: كان مرسي يحاكم بتهم التجسس لأنه كان يتواصل مع حركة حماس. ولا قيمة هنا لحقيقة أن واحدة من المهام الرئاسية كانت تنظيم وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل في غزة، وهي الوظيفة التي قام بها خلفه بامتثال تام. لن يحاكم المشير الرئيس عبدالفتاح السيسي (وهنا نمنحه لقبيه الرسميين) بتهمة التجسس لأن سياساته العسكرية كان من بينها ضمان سلامة الحدود الجنوبية لإسرائيل. 

يمكن للمرء فقط أن يتخيل رد فعل القضاة في آخر محاكمة لمرسي عندما انهار الرجل الذي انتخب رئيساً في عام 2012 وهوى فجأة على الأرض. لأن يكون المرء مستعداً لإصدار حكم بإعدام الرجل، ثم يرى المتهم ينتقل إلى جوار ربه قبل الموعد المخطط له، لا بد أن ذلك محفز على تركيز فريد من نوعه داخل العقول القضائية. 

ولكن، هل فوجئوا بذلك يا ترى؟ لطالما احتجت عائلة مرسي على حرمانه من العناية الطبية اللازمة، وهذا ما فعلته أيضاً الجماعات المدافعة عن حقوق الإنسان. لقد كان الرجل يعاني من العزل في حبس انفرادي لثلاثة وعشرين ساعة في اليوم. 

إلا أن وسائل الإعلام العالمية ورجال السياسة حول العالم تجاهلوا إلى حد كبير مثل هذه الاحتجاجات. فلقد كان نجم مرسي قد أفل، وغدا ظهوره داخل المحكمة باعثاً على الضجر، وما كان مدهشاً حقاً هو تمكنه من الكلام – أو محاولته الكلام – مع قضاته لمدة خمس دقائق قبل رحيله ومغادرته حماهم القضائي إلى الأبد. 

إذا ما علمنا أنه لم يسمح له بأكثر من ثلاث زيارات عائلية خلال ستة أعوام من العزلة في الحبس الانفرادي، ولم يسمح له باللقاء مع محاميه ولا بالعرض على طبيب – فإن الأدلة تشير إلى أن موته كان لا محالة مرجواً من قبل سجانيه ومن قبل قضاته ومن قبل الرجل الأوحد في مصر الذي لا يجرؤ أحد على مخالفته. 

لطالما حاول السيسي الخلط بين الإخوان من جهة وبين القاعدة وداعش ومن يهاجمون الكنائس ويعتدون على حياة المسيحيين من جهة أخرى. لو كانت داعش وحماس والإخوان كلهم الآن ملامين معاً على الانتفاضة الإسلامية المندلعة في سيناء وعلى الفظائع التي ترتكب في القاهرة، فهل نظن حقيقة أننا سنسمع أي تعبير عن الحزن أو الأسى بين زملاء السيسي عندما وصلهم خبر وفاة مريض السكري البالغ من العمر سبعة وستين عاماً والذي وفرت وفاته على الحكومة تكاليف شنقه؟

وبالطبع لم تنظم له جنازة علنية. ثمة فرق بين أن تستخدم كلمة "إرهابي" لوصف الإخوان المسلمين وبين أن تصم بالإرهاب كل رجل وكل امرأة يتعرضان للقتل أثناء المشاركة في جنازة. 

حتى في مصر، هنالك حدود. أم ليس هذا صحيحاً؟

ترجمته "عربي21" عن صحيفة "إندبندنت"

الاثنين، 28 نوفمبر 2016

مقابلة مع ميت

مقابلة مع ميت.. 

روبرت فيسك يجري حواراً "إنسانياً" مع رئيس المخابرات الجوية السورية

نشرت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية تقريراً لمراسلها في منطقة الشرق الأوسط روبرت فيسك، أجرى خلاله لقاءً نادراً هو الأول من نوعه مع جنرال أعلنت وفاته قبل سنوات وهو جميل حسن، مدير جهاز المخابرات الجوية السورية، الجهاز الأكثر قوة بين الأجهزة المخابراتية الأخرى: جهاز مخابرات أمن الدولة وجهاز مخابرات الأمن العسكري.
فيسك، المقرَّب من النظام السوري، والذي لا يخفي عداءه للسياسات البريطانية الأميركية في المنطقة، كثيراً ما كتب من داخل الأراضي التي يسيطر عليها النظام في سوريا منذ اندلاع الأزمة قبل أكثر 5 سنوات، حتى أنه خرج مع القوات الموالية لبشار الأسد، في حربها الشرسة ضد المعارضة المسلحة.
وفي هذا اللقاء النادر، وأمام الرجل "الوحش" الذي اعتاد السوريون أن ترتعد فرائصهم لذكر اسمه، حيث الداخل إلى معتقلاته في حكم الميت سلفاً، حاول فيسك أن يبحث عن اللمسة "الإنسانية" لدى جنرال مُتهم من المعارضة السورية ومن قوى عالمية وإقليمية بقتل آلاف السوريين.
وفيما يلي نقدم ترجمة التقرير كاملاً كما ورد في "الإندبندنت":
أن تجلس وجهاً لوجه مع مدير جهاز المخابرات الجوية السورية، وهو جهاز الاستخبارات الأقوى والأكثر وحشية وإثارة للرعب في سوريا، ليس بالأمر الذي قد يحدث كل يوم. فعبارة "المخابرات الجوية السورية" كفيلة بجعلك تلتزم الصمت. ومع أن الجيش السوري الحر "المعتدل" كان قد أعلن منذ 4 سنوات اغتيال أكثر حُماة الرئيس ولاءً وشراسةً، وما زال موقع "ويكيبيديا" يتحدث عنه بصيغة الماضي، إلا أنه يمكنني أن أؤكد لكم أن الجنرال جميل حسن، البالغ من العمر 63 سنة، حيٌّ.

بدت قبضته كالمِلزَمة أثناء مصافحتي، وعيناه، اللتان تُحَدِّقان إليك أثناء حديثه كما يحدق أحد ضباط الاستجواب الغاضبين بالمتهم، كانتا تُحَدِّقان فيَّ كضوءٍ قادم من منارة حينما سألته إن كان رجلاً قاسياً. وكان صوته يجمع بين زئير الأسود والنبرة الاستقصائية التي تميز مديري المخابرات قليلي الصبر.

سمعة سيئة


هذا ليس بالرجل الذي ينبغي عليك مواجهته. صاح فيّ بصوتٍ هادر قائلاً: "بالنسبة للإعلام الغربي، أنا مجرم حرب. لذلك لا أعلم إن كان سيُسمَح بنشر مقالك في صحيفة الإندبندنت. أنا على استعداد لمواصلة عملي، حتى وإن قادني ذلك إلى محكمة جرائم الحرب، لأن سوريا تستحق التضحية".

بالغ الجنرال حسن قليلاً في تقدير السمعة السيئة التي يتمتع بها. ففي الحقيقة، لم تسع أية محكمة لجرائم الحرب إلى اعتقاله. لكن الاتحاد الأوروبي كان قد أدانه "لتورطه في عمليات القمع ضد الانتفاضة السلمية" في سوريا عام 2011، مما تسبب في حظره من السفر وتجميد أمواله بالخارج.

أما وزارة الخزانة الأميركية فقد فرضت عقوبات ضد الجنرال بسبب "مشاركته في ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان"، وذلك بعد تهديدات الرئيس الأميركي باراك أوباما للنظام السوري. وقالت الحكومة الأميركية إنَّ المخابرات الجوية السورية - التي سُمِّيَت بهذا الاسم لأن حافظ والد بشار الأسد كان ضابطاً بالقوات الجوية الروسية - قتلت 43 متظاهراً على الأقل في أبريل/نيسان عام 2011. وهو الأمر الذي سنتحدث عنه أكثر لاحقاً.

خلال هذه المقابلة المذهلة التي دامت 3 ساعات، لم يحاول الجنرال حسن تجنب الإجابة عن أية أسئلة، حتى تلك المتعلقة بالسجون التابعة له. ومع أنه أشار مراراً وتكراراً في حديثه إلى ولائه للرئيس بشار الأسد، إلا أنه أصر على توضيح أن اتخاذ النظام إجراءات أكثر قسوة وصرامة في بدايات الثورة السورية عام 2011 ربما كان سيقضي على المعارضة المسلحة للنظام تماماً وبشكلٍ كليّ منذ البداية.

ثورة حماة



وتحدث حسن أيضاً عن سحق ثورة الإخوان المسلمين في مدينة حماة عام 1982، عندما تم قتل الآلاف من المدنيين والمقاتلين بعد ثورة الإخوان العنيفة ضد أعضاء حزب البعث في المدينة.

في تلك الفترة، كان الجنرال حسن أحد ضباط الأمن المُستَجَدِّين الذين يخدمون حكومة حافظ الأسد. وقال متحدثاً عن تلك الفترة: "كنت حينها شاباً صغيراً جداً، وكانت هناك تقارير إعلامية مبالغ فيها عن ضحايا المذبحة. ولكن إن كنا كررنا ما فعلناه حينها في حماة في بداية الأزمة الحالية، كنا سنتمكن من إنقاذ عدد كبير من السوريين". كنت متواجداً أيضاً لفترةٍ قصيرة في حماة خلال ثورة عام 1982، وأتذكر أنني سجلت حينها أن عدد الضحايا ربما يكون قد وصل إلى 20 ألف شخص.

كان لقاءً غريباً وغير متوقع وغير مرغوب فيه مع إحدى الشخصيات الأقوى في سوريا. خارج مكتب الجنرال، كان هناك علمٌ سوري و3 أعلام روسية. كان الجنرال يعلم كتب التاريخ خاصته. وبينما أشعل سيجاراً من النوع الذي كان يدخنه "تشرشل"، كان يحدثني عن هتلر ورومل ومونتغمري وتشرشل. وفي عقله، لم يشك للحظة في هوية المسؤول عن الأزمة السورية.

خلال مقابلتنا الطويلة، بدا الجنرال وكأنه يقسم حياته إلى جزأين: العشرين سنة الأولى من عمله كضابط أمن شاب، التي يقول نقاده إنَّه كان يتصف فيها بالوحشية الشديدة، والفترة الباقية التي أصبح فيها يشبه شخصية المعلم والأب، يشجع تلميذه الشاب العقيد سهيل حسن - لا قرابة بينهما - في معركته ضد المتطرفين الإسلاميين، ويشيد ببشار الأسد، مع أنه يرى أن والده حافظ الأسد كان أشد صرامةً وقسوةً في التعامل مع أعدائه.

كان العقيد سهيل حسن، والمعروف باسم "النمر"، يقاتل لتأمين الطريق الصحراوي العسكري بهدف تخفيف حصار غرب حلب العام الماضي. لكن الجنرال كشف أن سهيل كان يكافح لوقف هجمات الانتحاريين المنتسبين للتنظيمات الإسلامية في محافظة إدلب السورية عام 2005، أي قبل 6 سنوات من إدراك العالم حجم حرب الحكومة السورية ضد خصومها المسلحين.
كان الجنرال مهتماً بالحديث عن هذه الوقائع التاريخية الماضية. وكانت هناك بالفعل بعض اللحظات أثناء اللقاء التي ظننت فيها أن الجنرال، كغيره من كبار السن، لا يكترث برأي منتقديه ومسانديه عنه في الوقت الحالي، لكنه يهتم أكثر بما ستقوله عنه الأجيال القادمة.

الحوار الأول


هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الجنرال إلى مراسل غربي، بل المرة الأولى التي يقبل فيها إجراء مقابلة مع أي صحفي على الإطلاق. ولذلك أثناء الحوار الذي دار بيننا تحدث عن إخفاقاته الخاصة والأخطاء التي ارتكبتها وكالة المخابرات التي يديرها، وكذلك عن وجهة نظره القاسية بخصوص العالم العربي.
وأضاف الجنرال قائلاً إنَّ "المتشددين الإسلاميين والمتطرفين الصهاينة اجتمعوا على هدفٍ واحد وقرروا العمل على تقسيم سوريا. وكدليل على ذلك، أود التساؤل عن سبب تنسيق جبهة النصرة مع الإسرائيليين في الجولان، ولماذا توفر إسرائيل الرعاية الصحية والعلاج للميليشيات؟ حتى عندما استولى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على بضعة كيلومترات من الأرض قرب الحدود الإسرائيلية، لم تُقدِم إسرائيل على مهاجمتهم".
وأكمل الجنرال حديثه قائلاً: "إذاً، ماذا يعني ذلك؟ إنَّ هذه المسألة غاية في الأهمية. فبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل قرروا تقسيم سوريا، وذلك مع تضارب مصالحهم. يبدو أن سوريا بلدٌ كبيرٌ جداً حتى يتحد عليها كل هؤلاء. إن كانت هذه الدول بمثابة أصدقاء حقيقيين لسوريا، لساعدوا على التخفيف من حدة الخلافات الطائفية. أعتقد أن الشعوب الأوروبية ستكون الأكثر تضرراً إذا انهارت سوريا. إن الأميركيين والأوروبيين مثلهم مثل الراعي الذي يسمح للذئب بدخول منزله، هذا الذئب سيأكل في نهاية المطاف كل الخراف والدجاج".
وعاد مجدداً للحديث عن مذبحة حماة عام 1982 قائلاً إنَّه "لو كانت التكتيكات التي تم استخدامها في حماة عام 1982 تم استخدامها هذه المرة، لكنا ربما قد أنهينا هذه الحرب. كنت في حماة عام 1982، وكنت أقاتل المتطرفين داخل الأنفاق الموجودة تحت الأرض، إذ كنت ضابط أمن برتبة ملازم خلال فترة حكم حافظ الأسد. تلقّى المتطرفون في هذه الفترة بالثمانينات ضربة موجعة كادت أن تقضي عليهم. وكنت أرى هذا القرار ذكياً جداً حينها. كانت البيئة مختلفة في تلك الفترة".
وأكمل حديثه عن الفارق بين تعامل حافظ الأسد مع الاحتجاجات بحماة في الماضي وبين تعامل بشار مع الثورة السورية في بدايتها قائلاً: "كان هذا القرار صعباً جداً على الرئيس حافظ الأسد. لكن في الثورة الحالية، لو كنا قد فعلنا ذلك، لكنا قد أنهينا الحرب. الاستراتيجية التي نتبعها الآن هي قرار القيادة السورية الحالية، ولكني لديّ رأي مختلف. فالطلاب الصينيون قاموا بمظاهرةٍ في ساحة تيانانمن عام 1989، وكانوا عازمين على تغيير الصين. لو كانت الحكومة الصينية حينها لم تضع حداً لهذه المظاهرات، أين كانت ستكون الصين اليوم؟".

ثمانينات القرن الماضي


وعادت الذاكرة بالجنرال جميل حسن إلى ثمانينات القرن الماضي، وقال واصفاً الوضع حينها في العالم العربي والإسلامي، "في تلك الفترة كان الرئيس العراقي صدام حسين والعاهل الأردني الملك حسين هم رعاة الإرهاب. وكان صدام حسين يدعم الإرهاب في سوريا ليس لأنه يحب الإسلام، ولكن لأنه أراد إغضاب حافظ الأسد. دعم صدام حسين حينها الإسلاميين مع أنه لم يكن يؤيد الفكر الإسلامي المتطرف. حتى الملك حسين لم يكن من مساندي الإسلاميين، لكنه استخدمهم لتحدي حافظ الأسد، واستخدم جماعة الإخوان المسلمين".
يجب أن أقول إنَّه في بعض الأوقات كان صوت الجنرال يشبه قليلاً صوت حافظ الأسد.
تحدث الجنرال أيضاً عن غسيل المخ والضغط الأيديولوجي على فقراء الريف السوري في السنوات الأولى من الحرب الحالية. وقال إنَّ "أعمال تنظيم القاعدة - الذي يدعو نفسه الآن بجبهة النصرة - ترسخ الفكر المتشدد والقسوة داخل قلوب الناس. هذا نتيجة 10 سنوات من غسيل الدماغ الأيديولوجي، فأنا أتابعهم عن قرب". وقال إنَّ الدول الغربية هي التي تمول الإسلاميين المتطرفين بالأسلحة.

وعن المواطنين السوريين قال إنَّه "في إحدى القرى، تم إجبار المواطنين على القتال ضدنا. واضطر الناس إلى تبني تقاليد مختلفة، حتى في ملابسهم. حوالي 80% من الناس في شرق حلب يريدون مغادرة منطقتهم والقدوم إلى منطقة حلب الغربية التي تسيطر عليها الحكومة. الحل الوحيد هو توقف الدول الغربية عن دعم الإرهابيين".
وصرح الجنرال بكلماتٍ ستغضب بالتأكيد إدارة أوباما، وأيضاً خليفته ترامب، حيث قال إنَّ "تصريح الأميركيين بوجود معارضة معتدلة أمر مثير للسخرية. ومثير للاشمئزاز أيضاً. أشعر بالاندهاش من حجم المجهود الذي تبذله الولايات المتحدة الأميركية والأمم المتحدة لأجل هذه المنطقة الصغيرة جداً في شرق حلب".
وأضاف أن "اللعبة القذرة الوحيدة في حلب هي اللعبة التي يمارسها الأميركيون، إذا توقفوا عن إمداد المتشددين بالأسلحة سينتهي كل شيء. لماذا لا تولي الحكومات الغربية اهتماماً بقصف المعارضة لحلب الغربية ومقتل العديد من المواطنين هناك؟ سأقاتل للدفاع عن سوريا حتى الرمق الأخير".

قصة أطفال درعا


وتطرق الحديث للقضية الحساسة الخاصة بمدينة درعا، المكان الذي بدأت فيه الحرب السورية عام 2011، والتي كان مقتل المواطنين بها هو سبب فرض أميركا للعقوبات عليه. قال الجنرال عن ذلك إنَّه "في بداية الأزمة قالوا إنَّ أحد رجال الأمن قام باقتلاع أظافر أحد الأطفال. هذا الأمر كان مجرد إشاعة، لكن حتى المواطنين المؤيدين للرئيس صدقوها بسبب الإعلام. ولكن في الحقيقة، كان الأمر دعاية مُخَطَّطٌ لها بدقة".

أصبحت قصة أطفال مدينة درعا معروفة حالياً. إذ تم القبض على 15 طفلاً على الأقل لاتهامهم بكتابة عبارات "الشعب يريد إسقاط النظام" على أحد الجدران في مدينة درعا بجنوب سوريا في بداية عام 2011، وتم تعذيب هؤلاء الأطفال من قبل قوات أمن الدولة، وهو الأمر الذي أدى إلى خروج مظاهرات واسعة النطاق في أبريل/نيسان، أسفرت عن مقتل العشرات من المتظاهرين والجنود السوريين، وإقالة محافظ المدينة من قبل الرئيس بشار الأسد.

أكمل الجنرال حديثه عن بداية الأزمة، وهي كلماتٌ يجب أن تُقرَأ بتحفظٍ واهتمام شديدين، إذ قال إنَّ "في البداية، وعندما كان المتظاهرون بالشوارع، كانت أجهزة الأمن ممنوعة من حمل الأسلحة الثقيلة.. الأشخاص الذين حاكوا هذه المؤامرات ضدنا هم من بادروا باستخدام الأسلحة منذ البداية، لكنهم بعد ذلك اتهموا الحكومة باستخدامها ضدهم".

وأضاف الجنرال قائلاً إنَّ "معارضي الحكومة المسلحين استهدفوا المجتمع السوري المتحد. والأجهزة الأمنية هي المسؤولة عن الحفاظ على هذه الوحدة، وبالتالي صارت هذه الأجهزة هي أهدافهم الجديدة".

لكنه أضاف بعد ذلك: "هذا لا يعني أن هذه الأجهزة لم ترتكب أية أخطاء. خلال مسيرتي الطويلة لا أتذكر أنني قد أهنت أي شخص لغرض إهانته. لكن ربما أكون قد أسأت فهم بعض أفعالي التي قمت بها... فقد قضيت 40 سنة في مجال الأمن".

بعد ذلك توقفنا فترة طويلة عن الحديث، ثم طرحت السؤال البديهي على هذا الضابط المرعب: "هل أنت رجل قاسٍ؟"، فأجابني قائلاً بحدةٍ وقليلٍ من الغموض: "أنا رجلٌ قاسٍ في تعاملي مع القضايا التي تتعلق بأمور بلدي. لكن في علاقاتي بالناس لست قاسياً، والناس يحبونني". طبقاً له، هو رجل صريح. وسبب هذا هو ما حدث عام 2009 حين دخل أحد الحكماء مكتبه عندما أصبح مديراً للمخابرات الجوية السورية، وقال له أن يحرص على عدم حبس أي رجل بريء.

نصيحة حكيم



بدأ حينها في رواية قصة من تاريخه تتعلق بنصيحة هذا الرجل الحكيم، وقال إنَّه "في ذلك الوقت لم أُولِ اهتماماً كبيراً لنصيحة هذا الرجل، حتى اكتشفت بعض جرائم الفساد في أحد السجون التي كنت مسؤولًا عنها... فأجريت تحقيقاً موسعاً، وقمت بفصل العديد من حراس السجن، وطلبت من القيادة القبض على العديد من الضباط. لكني طلبت أن أكون أنا أيضاً على رأس قائمة الضباط الذين يجب معاقبتهم".

وأكمل قصته قائلاً: "أخبروني بعد ذلك بأن القائد بشار الأسد قد تعجَّب من هذا الطلب، لكنه تجاوز عن الأمر وقرَّر منحي فرصةً أخرى، لأنه كان يعرف أنني رجل مستقيم ونزيه. وقال الأسد حينها إنَّ كل البشر يخطئون، وقال للحاضرين إنَّه سيعطيني فرصةً أخرى، وسيعاقب الضباط الذين قاموا بهذه الأفعال، وذلك لأنني لم أشارك في هذا الفساد. وبعد هذا اليوم، كنت أتقصَّى يومياً ما يحدث في السجون".

كانت هذه الحادثة مهمة جداً في حياة الجنرال، لكنه لم يفسِّرها بشكلٍ كامل. وتابع الجنرال حديثه قائلاً إنه كان يأمر رجاله "بعدم قتل الإرهابيين والقبض عليهم أحياء؛ لأننا نحتاج إلى المعلومات التي لديهم، ونحتاج إلى معرفة ما يدور في عقولهم". كما أنه كان يأمر رجاله بجلب جثث المقاتلين الأجانب إلى دمشق لفحصها" من أجل التعرف على جنسياتهم ومعرفة المزيد من التفاصيل عنهم.

وروى حسن قصة أحد سجنائه "الطاجيكيين"، الذي وُجد طفله، ذو الستة أعوام، وهو يحمل سلاحاً. يقول: "طلبت من أحد موظفيَّ أن يأخذ الصبي إلى بيته ويقوم بتربيته، وصرفت راتباً شهرياً للموظف ولزوجته التي أصبحت بمثابة زوجة أب لهذا الطفل. بعد 6 أشهر أصبح هذا الطفل إنساناً آخر".

وصلنا عند هذه النقطة إلى لحظة لا يجب أن تُفوَّت في هذه المقابلة. كنت قد أجريت مقابلات مع سجناء الجنرال الأجانب في سجن المزة العسكري بدمشق مرتين.. فسألته: "هل باستطاعتك أن تعطيني وعداً بأن لا أحد من هؤلاء السجناء سيتم إعدامه؟".

فأجاب: "لن نقوم بإعدامهم". ثم أضاف: "سنبذل قصارى جهدنا؛ سأطالب بألَّا يتم إعدامهم. لكن القول الفصل يعود للمحاكم العسكرية والمدنية التي ستبتُّ في قضاياهم".

بعد حديث الجنرال، أشك الآن إذا كان القضاء السوري، مهما ادَّعي بأنه مستقل في عمله، سيرفض رسالة تزكية يرسلها رجل مثل جميل حسن. ولكن يجب أن أقرَّ بأن الجنرال هو رجل قادر على أن يفي بوعوده. وكما يقولون، سنوافيكم بالتفاصيل.

 مترجم عن صحيفة The Independent البريطانية
للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.

الاثنين، 8 فبراير 2016

اعرفوا عدوكم روبرت فيسك يقدم "روشتة" للمسلمين استعداداً لما بعد داعش




الكاتب البريطاني: شعوب هذه المنطقة العظيمة والخطيرة من العالم سعت لنيل العدالة غير أنها لم تحصد سوى الظلم من احتلال أجنبي واحتلال بالوكالة وفسادٍ ودكتاتوريات وأذرع التعذيب..

يُصاب الأوروبيون بالهلع عندما يعبر مليون لاجئ حدودهم ولا أحد يُنادي بمعالجة القضايا الأصلية لكل هؤلاء المساكين.. 

الإسلام كان في قلب كل الجامعات العريقة في الشرق الأوسط ولم تكن المعرفة خاضعة لسطوة الدين وسيطرته بل إن العلوم والمعارف هي التي عززت وأَثْرت الدين والإيمان


قال الكاتب البريطاني روبرت فيسك إن المشاكل التي يمر بها الشرق الأوسط، تكمن في الأساس في سلب الكرامة من سكان تلك المنطقة التي كانت نتاجاً طبيعياً لظلم الاحتلال الأجنبي وفسادٍ ودكتاتوريات متسلطة وعمليات تعذيب عانى منها الناس بشكل كبير.


وانتقد الكاتب البريطاني الدول الغربية لسكوتها على الظلم الذي وقع على الناس، كما حمّلهم مسؤولية تدهور الأوضاع وما وصلت له بلدان الشرق الأوسط من قتل ودمار وتخريب، واصفاً الوضع بأنه حمّام دم حقيقي، بحسب مقال له نُشر بصحيفة "الإندبندنت" البريطانية.


واختتم فيسك مقاله بروشتة للمسلمين لحل تلك الأزمات التي يعانون منها، عن طريق رجوعهم للعلم الذي أنار العالم والذي دعا إليه الإسلام الحنيف.


وإلى نص المقال:


يمر بالشرق الأوسط بأوقات تحل فيها الكوابيس والأوهام محل المأساة الواقعة والمتزايدة التي تنهش الأراضي العربية. وتتزايد دعوات السلام الصادقة بينما يتكالب المزيد من الدول على القصف الجوي من أقصى كابول إلى سواحل المتوسط مروراً بسيناء واليمن وليبيا.

إنه حمّام دم حقيقي، ومع ذلك ليس هناك أحد يخطط للمستقبل، لمستقبل المنطقة "ما بعد داعش". أرى أن 11 قوة جوية مختلفة تقصف 5 بلدان مسلمة من أجل "إضعاف وتدمير" أعدائهم، لكن ماذا بعد؟

علّمنا التاريخ أنه على مدار الـ100 عام المنصرمة سعت شعوب هذه المنطقة العظيمة والخطيرة من العالم لنيل العدالة، غير أنها لم تحصد سوى الظلم من احتلال أجنبي واحتلال بالوكالة وفسادٍ ودكتاتوريات وأذرع التعذيب، كلها سلبتهم القيمة الوحيدة التي ثارت ملايين الشارع العربي غداة صحوة 2011 العربية الكبرى من أجل استرجاعها، ألا وهي الكرامة. لكن ماذا قدمنا نحن؟ ولماذا لم نعالج قضايا الظلم التاريخية التي تسببت بهذا الزلزال الإنساني المدوّي؟

بدلاً من ذلك طفقنا نستدعي قوات وجيوشاً وهمية وكأن الحقيقية لا تخيف وترهب بما فيه الكفاية، فاختلقنا 35 ألفاً من الحرس الثوري الإيراني في سوريا، في حين أن عددهم قد لا يزيد على 1000 فقط، كما تخيلنا كذلك وجود 20 ألفاً من أفغان الهزارة الشيعة وجيش عرمرم من الميليشيات الشيعية العراقية في سوريا، و10 آلاف أخرى من مقاتلي حزب الله، وكل هذا قبل أن تحضرنا صورة جيش ديفيد كاميرون الوهمي الذي قوامه 70 ألف جندي كلهم يفدي الديمقراطية بروحه ودمه.

نسمع أن الأتراك موشكون على احتلال سوريا، لكن لا نرى من ذلك شيئاً، ثم تأتي مملكة الخليج حليفتنا لتقدم آلاف الجنود السعوديين للقتال في سوريا ضد "داعش"، لكن طبعاً عليهم أولاً ركن سياراتهم المرسيدس الليموزين المكيفة وراء خط النار الأمامي.

ماذا عن الروس؟
أتعجب أن أحداً لم يصرخ بأن الروس لبّوا النداء وحضروا إلى سوريا بسرعة حتى قبل أن يذوب الثلج عن أحذيتهم.

هذا جنون. يُصاب الأوروبيون بالهلع عندما يعبر مليون لاجئ حدودهم، لكن مع أن المجر تزيدنا من الشعر بيتاً بقولها إن حدودها هي حدود العالم المسيحي، إلا أن أحداً لم يُنادِ بمعالجة القضايا الأصلية لكل هؤلاء المساكين. مهووسون نحن بإقناع تركيا بالحد من تسرب اللاجئين وطالبي اللجوء إلى أوروبا، لكن ليست لدينا خطط طويلة الأمد لشرق أوسط جديد سيقلل أعداد هؤلاء اللاجئين.

نثرثر حول معاناتنا من أكبر تدفق للاجئين منذ الحرب العالمية الثانية، لكن في الحرب العالمية الثانية (الحقيقية) كان قادة الحلفاء يخططون لعالم ما بعد الحرب – الأمم المتحدة - قبل سنوات على وضع الحرب أوزارها. اليوم لا أجد سجلاً واحداً لقائد عربي أو عالمي تحدث عما سيبدو عليه الشرق الأوسط مستقبلاً. لماذا لا نباشر التخطيط من الآن؟

عندما انتهت الحرب العالمية الأولى - التي دمرت الإمبراطورية العثمانية وسحقت آخر خلافة بعد عدة سنوات - انطلقت أفواه وحناجر العديد من الدبلوماسيين الأميركيين في الإمبراطورية المتهالكة و"المؤسسات غير الحكومية"، غداة ذاك الزمان (التي كانت بالطبع مؤسسات تبشيرية) داعية إلى أمة عربية واحدة يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود وغيرهم من الأقليات مواطنينَ لدولة تمتد أراضيها من المغرب إلى حدود الرافدين المتاخمة لبلاد فارس (العراق وإيران حالياً).

لكن الولايات المتحدة بالطبع فقدت اهتمامها بهذه الأحلام الويلسونية المثالية، في حين كانت لدى الإنكليز والفرنسيين خطط أخرى شرعوا في تنفيذها و"انتدب" كلٌّ نفسَه على البلدان التي من اختياره.

من هنا بدأ عصر "المذلة"، عصر الاستعمار الغربي والمحتل الأجنبي وجلاديه وشانقيه الذين سلبوا الشعوب كرامتهم، والآن بعد مضي 100 عام نرى ذروته المرعبة المتمثلة في تلك "الخلافة" الرهيبة التي تتفشى مثل وباء إيبولا حول العالم.

لكن ما يحتاجه الشرق الأوسط المسكين الآن ليس المزيد من الضربات الجوية، بل جلوسَ من بقي من سكانه - إضافة إلى من غادروه - والتفكّر المستنير بحثاً عن مستقبل الوطن الذي يريدون العيش فيه.

ما المؤسسات التي في وسعها حل محل متاريس الشرق الأوسط القديم المتهالكة؟ من الذي يمكنه مثلاً استبدال الخطباء الهزليين الركيكين على شاشات الإعلام العربي الذين حركوا العديد من الشرور؟ كيف أضعف هؤلاء وأوهنوا جسد الإسلام؟
لي صديق مسلم قديم (سني المذهب إن أردت أن تعرف) لخّص لي الموقف كله بعبارة بليغة ذات يوم بقوله: "الإسلام يخشى داعش، أما داعش فلا يخشى الإسلام".

وهكذا فلنبتدئ من هنا: لم لا نبدأ في تأسيس شرق أوسط جديد أساسه ليس النفط والغاز – اللذين سيبقيان - بل التعليم؟ عماده ليس قصور الدكتاتوريات بل الجامعات، وصروحه ليست غرف التعذيب بل المكتبات.

لقد كان الإسلام في قلب كل الجامعات القديمة العريقة في الشرق الأوسط، ولم تكن المعرفة خاضعة لسطوة الدين وسيطرته، بل إن العلوم والمعارف هي التي عززت وأثرت الدين والإيمان. بالعلم والتعلم تأتي العدالة، والعدالة فقط هي التي ستدمر "داعش".

 قد يبدو ذلك أشبه بكلام خطابي واعظ، لكني على يقين بأنه كان سيروق لعرب ويهود إسبانيا الذين عاشوا في الأندلس قبل 700 عام (إلى أن طردناهم على أيدينا طبعاً).

لاحظت من قبل أن إمارة أبوظبي – على خلاف دبي - شددت على أهمية التعليم الجامعي الرفيع لمواطنيها، ونرى في الشرق الأوسط أن نقص التعليم – والتي هي سياسة غذاها القادة الدكتاتوريون بالطبع - يسري في أوصال الأمة كسرطان خبيث، حيث إن نقص التعليم في الواقع وبالٌ ووباء يتفشى وينتشر.

ولنا أن ننظر إلى أحوال عشرات الآلاف من أطفال اللاجئين السوريين في لبنان الذين سيعودون يوماً ما إلى ركام وخراب بلادهم من دون تعليم أساسي للقراءة والكتابة يمدون به الأجيال القادمة.              

لست أطيق الكليشيهات والعبارات المكررة الخاوية من المعنى مثل "عندما تصمت البنادق". لكن المدارس والجامعات ستكون أمضى وأكثر فتكاً بداعش من قصف جوي. هكذا تعالج الكوابيس.         

السبت، 21 نوفمبر 2015

فيسك: العرب ثاروا على حدود سايكس بيكو ويستخفون الآن بحدود أوروبا

Robert Fisk: We still haven’t grasped that this is war without frontiers

فيسك: العرب ثاروا على حدود سايكس بيكو ويستخفون الآن بحدود أوروبا


أكد الكاتب البريطاني روبرت فيسك أن العرب الذين أعلنوا بثوراتهم عدم رضاهم عن الحدود التي رسمها لهم الاستعمار الغربي، تعاملوا بالاستخفاف ذاته مع الحدود، عندما زحفت جيوش اللاجئين المعدمين تجاه القارة الأوروبية.

وقال فيسك في مقاله الذي نشرته صحيفة "الإندبندنت" البريطانية: "عندما ذهبت إلى اليونان لتغطية أزمتها الاقتصادية، وسافرت إلى الحدود اليونانية المقدونية، ورأيت كيف ينتقل اللاجئون من دولة أوروبية إلى جارتها، وكيف أن هؤلاء اللاجئين لا يعترفون بحدودنا أيضاً، ويخترقونها باللامبالاة ذاتها التي اخترقوا بها حدود سوريا مع لبنان وتركيا".

وأضاف "اكتشفنا اليوم، نحن الذين صنعنا الحدود في الشرق الأوسط، أن هؤلاء الناس لا يعترفون بتلك الحدود ولا بحدود بلادنا، ويسعون إلى الوصول لألمانيا أو السويد، ولو مشياً على الأقدام، ولا تستطيع عناصر الشرطة المسلحون بالغاز المسيل للدموع ثنيهم عن ذلك".

وأوضح فيسك: "سبب صدمتنا، بل وسخطنا، هو أن حدودنا الغالية لا تحترم، وتخترقها جيوش في أغلبها مسلمون فقراء، على النقيض من خرقنا ونحن سعداء للحدود العربية".

طالع نص المقال


نشرت داعش في أوائل عام 2014 أحد تسجيلاتها المصورة الأولى.
لم يشاهده غالبية الأوروبيين ولم يكن يتمتع بالاحترافية السهلة والحديثة لمقاطع الفيديو اللاحقة، كما لم تصاحبه موسيقا "النشيد" الآسرة التي نسمعها في معظم تسجيلاتها الدعائية.
بدلاً من ذلك، أظهرت كاميرا محمولة بلدوزراً يجرف حاجزاً رملياً يعلِّم الحدود بين العراق وسوريا.

وبينما تقوم الآلة بهدم الحاجز، تنزل الكاميرا لتُظهر لافتة ملقاة على الرمل تقول:
"نهاية سايكس- بيكو".

العواقب الدموية للحدود التي رسمها الديبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والديبلوماسي البريطاني مارك سايكس بشكل سري خلال الحرب العالمية الأولى- مانحةً سوريا، جبل لبنان وشمال العراق لفرنسا، وفلسطين، الأردن وبقية العراق لبريطانيا- معروفةٌ لكل عربي، مسيحي ومسلم، وبالطبع يهودي، في المنطقة. انتزعت الدولتان ولايات الإمبراطورية العثمانية المحتضرة وخلقت دولاً وهمية، حيث الحدود وأبراج المراقبة وتلال الرمل تفصل بين العشائر، العائلات والناس. كانت هذه الدول الوهمية من إنتاج الاستعمار الأنلكو- سكسوني.

في نفس الليلة التي شاهدت فيها فيديو داعش، صادف أني كنت سأزور زعيم الدروز اللبناني، كمال جنبلاط. صرخ فيَّ قائلاً: "نهاية سايكس- بيكو"، أجبته: "هراء".
لكني كنت مخطئاً بالطبع وكان جنبلاط محقاً. لقد فهم مباشرةً ما حققته داعش رمزياً- ولكن بسرعة خيالية- ما سعى إليه الكثيرون من العرب على مدى 100 عام: إزالة الحدود الوهمية التي استخدمتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، خاصة بريطانية وفرنسا، لتقسيم الشعب العربي.

كانت هذه البُنى الاستعمارية- ليس فقط الحدود التي فرضتها عليهم بريطانيا وفرنسا، بل أيضاً الإدارات والديمقراطيات الزائفة التي احتالت لفرضها عليهم، فضلاً عن الوصايات والانتدابات التي سمحت لها بحكم العرب- هي ما سمَّم حياتهم. طالب كولن باول بوصاية كهذه على نفط العراق قبل الغزو الأنكلو- أمريكي للعراق في عام 2003.

دسّت بريطانيا ملوكاً على العرب- لفّقت نسبة موافقة وصلت إلى 96% في استفتاء لاختيار الملك الهاشمي، الملك فيصل، لحكم العراق في عام 1922- ثم زوّدتهم بجنرالاتٍ وديكتاتوريات. عانت شعوب ليبيا، سوريا، العراق ومصر- التي غزاها البريطانيون في القرن التاسع عشر- من حكومات مزيفة، شرطة وحشية، صحف كاذبة وانتخابات شكلية، فقد كرر حسني مبارك أسطورةَ الفوز بنسبة 96% ذاتها مرة أخرى. لم تعن "الديمقراطية" بالنسبة للعرب حريةَ التعبير وحريةَ انتخاب قادتهم؛ بل كانت إشارةً إلى الدول الغربية "الديمقراطية" التي استمرت في دعم الديكتاتوريات الوحشية التي قمعتهم.

لذا، فإن الثورات العربية التي اجتاحت الشرق الأوسط في عام 2011- لننسَ "الربيع العربي" وهو مخلوقٌ أصله من هوليود- لم تُطالب بالديمقراطية. اللافتات التي رُفعت في شوارع القاهرة، تونس، دمشق واليمن طالبت بالكرامة والعدالة، وهما سلعتان لم يسعَ الغربُ إلى توفيرهما للعرب. العدالة للفلسطينيين- أو الكرد، أو الأرمنيين الذي قُتلوا في عام 2015، أو لكل الشعب العربي الذي يعاني- لم تكن شيئاً نسعى إليه. لكني أعتقد أنه كان على الغرب أن يمضي أبعد في بحثه المتعلق بالتغيرات الضخمة التي انجلت في عام 2011.

عندما كتبت عن الثورات في وقتها عزوتها إلى انتشار التعليم والسفر، وبينما أقر بقوة وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، فإن شيئا أعمق كان له الأثر الأهم. فقد أفاق العرب من نوم عميق، ورفضوا البقاء (أطفالاً) يحكمهم وصي كالأب، مثل عبد الناصر والسادات ومبارك والأسد والقذافي. أفاقوا ليجدوا أن حكوماتهم هي المؤلفة من أطفال أحدهم مبارك وكان عمره 83 عاماً.

لكنني الآن أظن أنني كنت مخطئاً في تحليلي، وأظن أن النقابات أدت دوراً مهماً، خاصة أنها كانت قوية في مصر وتونس، حيث كان سفك الدماء أقل بكثير من بلدان أخرى منعت حكوماتها هذه النقابات مثل ليبيا، أو استولت عليها مثل سوريا واليمن، ولكن حتى هذا لا يشرح أحداث 2011.

الآن أعتقد أن ما تجلى في ذلك العام هو قناعة عميقة لدى العرب بأن المؤسسات التي بنيناها نحن الغربيين لهم قبل مئة عام عديمة القيمة، وأن البلدان التي منحناها لشعوب مصطنعة وحدود مصطنعة لا معنى لها، فهم يرفضون البنية التي فرضناها عليهم كلها. ولا يغير هذا انتكاس مصر وعودتها إلى وصاية العسكر والإذعان الغربي المتوقع لذلك، بعد فترة قصيرة من حكومة الإخوان المسلمين المنتخبة. ومع أن الثورات بقيت في حدودها ابتداء، فإن الحدود بدأت بخسارة معناها.

لذلك بإمكان تنظيم الدولة إضعاف اقتصاد كل بلد ينتقل إليه، من شرم الشيخ، حيث إسقاط الطائرة الروسية، إلى تونس حيث وقع اعتداء متحف باردو ومنتجعات سوسة. وكان هناك وقت هاجم فيه إسلاميون معبداً في جزيرة جربة في تونس، وقتلوا 19 شخصا عام  2002، ولكن السياحة استمرت. وكانت شرطة ابن علي وقواته الأمنية قادرة على الحفاظ على الأمن الداخلي في تونس، وأبقي الجيش ضعيفاً؛ خوفاً من قيامه بانقلاب، ولذلك هو اليوم جيش شبه عاجز ولا يستطيع حماية حدود تونس.

إدراك تنظيم الدولة لذلك كان سابقاً لإدراكنا. فقد عرف حقيقة صعوبة الدفاع عن الحدود في العصر الحديث، وتزامن ذلك مع خيبة أمل العرب في بلدانهم التي فشلت. وأغرق ملايين اللاجئين الأفغان والسوريين لبنان والأردن وتركيا ثم أوروبا.

بدأت أفهم هذا في تموز/ يوليو، عندما ذهبت إلى اليونان لتغطية أزمتها الاقتصادية، وسافرت إلى الحدود اليونانية المقدونية، ورأيت كيف ينتقل اللاجئون من دولة أوروبية إلى جارتها، وهكذا لأجل الوصول إلى أوروبا الغربية. والمهم بالنسبة للغرب أن هؤلاء اللاجئين لا يعترفون بحدودنا أيضاً، ويخترقونها باللامبالاة ذاتها، التي اخترقوا فيها حدود سوريا مع لبنان وتركيا. فاكتشفنا اليوم، نحن الذين صنعنا الحدود في الشرق الأوسط، أن هؤلاء الناس لا يعترفون بتلك الحدود ولا بحدود بلادنا، ويسعون إلى الوصول إلى ألمانيا أو السويد، ولو مشيا على الأقدام، ولا يستطيع عناصر الشرطة المسلحون بالغاز المسيل للدموع ثنيهم عن ذلك.

سبب صدمتنا، بل وسخطنا، هو أن حدودنا الغالية لا تحترم، وتخترقها جيوش في أغلبها مسلمون فقراء، على النقيض من خرقنا ونحن سعداء للحدود العربية.

عدا عن المغامرة المأساوية في أفغانستان، والغزو غير القانوني عام 2003 للعراق، فقد قامت طائراتنا بضرب ليبيا والعراق وسوريا، بالتعاون مع طائرات بعض الدول التي تدعي الديمقراطية، لدرجة أن هذه الحالة أصبحت روتينية، وتقريبا عادية، ولا تستحق حتى عنواناً على الصفحة الأولى.

الفرنسيين كانوا يضربون الرقة قبل أن يقول لنا الرئيس هولاند أنه في حالة حرب، واليوم يضرب الطيران الفرنسي الرقة، بعد أن أعلن الرئيس أنه في حالة حرب. فقد اعتدنا على ضرب الأراضي العربية إلى درجة أنه لم نعلن أننا في حالة حرب، إلا عندما بدأ المسلمون بمهاجمة عواصمنا.
لا توجد في العواصم العربية حالة طوارئ حمراء وبرتقالية، فهي تعيش في حالة طوارئ حمراء طيلة الوقت، ترزح تحت تلك الحالة التي فرضها الديكتاتوريون المدعومون من الغرب، وبالطبع منذ نكبة العراق نفضل استخدام مليشيات محلية ليموتوا لأجلنا، فالأكراد هم مقاتلونا البريون ضد تنظيم الدولة، وكذلك المليشيات الشيعية والإيرانية، بل والجيش السوري وحزب الله، وإن كنا لا نحب أن نعترف بذلك.

تنظيم الدولة قام بنسخ هذه السياسة البشعة. فبالرغم من أن كثيراً من الجرائم، التي ارتكبها متطرفون تحولوا إلى التطرف في سوريا، فإنه في معظم الحالات كان مرتكبو الجرائم هم مسلمون بريطانيون أو فرنسيون أو بلجيكيون يشنون حربا بالوكالة. وأهمية هذا هو أن تنظيم الدولة يسعى لإشعال حرب أهلية داخل أوروبا، خاصة بين المسلمين -ومعظمهم من أصول جزائرية- وبين الشرطة الفرنسية.

دعمنا لإسرائيل، التي لم تعين حدودها، يتماشى منطقيا مع رفضنا الاعتراف بأي حدود عربية، إلا إذا ناسبنا، فنحن الأوروبيون من يرسم الحدود، ونحن نحدد أين تبدأ الحضارات وأين تنتهي، ورئيس وزراء هنغاريا هو من يحدد بالضبط أن يضع قواته لحماية (الحضارة المسيحية). نحن الغربيون من يقرر حماية السيادة أو الاعتداء عليها في الشرق الأوسط.

عندما يقرر العرب أن يبحثوا لأنفسهم عن مستقبل في بلادنا وليس بلادهم، تصاب هذه السياسة بخلل. وغريب كيف ننسى أن من حطم الحدود في العصر الحديث، وسعى للقضاء على اليهود كان أوروبيا، وكان ربما استمر لارتكاب محرقة ضد العرب، ولا تزال لدينا الجرأة لتسمية القتلة في باريس (فاشيين إسلاميين)، ويكتب برنارد ليفي عن تنظيم الدولة النازي، ويدعو إلى مساعدة الحلفاء الأكراد؛ لأن (عدم وجود جنود على أرضهم يعني دماء أكثر على أرضنا). وهذا ما قاله لنا بوش وبلير قبل أن يذهبا إلى مقبرة العراق، نذهب هناك كي لا يهاجمونا هنا، ولكن يبدو أن الأيام التي كان يمكننا فيها القيام بمغامرات أجنبية ونتوقع البقاء آمنين في بلادنا قد ذهبت بلا عودة.


الاثنين، 13 يوليو 2015

روبرت فيسك يكتب :العار على أبواب أوروبا

روبرت فيسك يكتب :العار على أبواب أوروبا

روبرت فيسك 

نشرت صحيفة الإندبندنت موضوعا للكاتب روبرت فيسك تحت عنوان “عصابات على الحدود المقدونية تترصد قوافل اللاجئين العرب على أبواب أوروبا”.

يقول فيسك “لقد جئت اليونان لأغطي الخروج المحتمل لليونان من الاتحاد الاوروبي أهم وحدة أوروبية قامت بعد الحرب العالمية الثانية لكني وجدت عار أوروبا على الحدود المشتركة بين اليونان ومقدونيا بدلا عن ذلك”.

ويوضح فيسك أن عشرات من اللاجئين العرب الفارين من الحروب الاهلية في بلادهم أظهروا له الجروح والندبات التى أصيبوا بها عندما اعتدى عليهم أفراد عصابات على الحدود المقدونية.

ويستطرد فيسك “دعونا لانسميهم حرس الحدود رغم أنهم رسميا كذلك لكن سأسميهم ميليشيا الحدود المقدونية”.

ويحاول فيسك أن يصف صورة الحدث موضوحا أن أفراد هذه الميليشيا كانوا يركبون سيارات نصف نقل مموهة بعضهم نصف عار بينما الأخرون بمرحون ويتحدثون في الهاتف من فوق السيارات المتمركزة قرب خط السكك الحديدية بينما اللاجئون العرب في الأحراش المحيطة بحسب موقع شبكة بي بي سي.



ويقول فيسك حاول بعض الأطباء من منظمة أطباء بلا حدود معاونة المصابين وإعطائهم بعض المعاملة الإنسانية التى لن تمنحها لهم أوروبا.

ويضيف أعطوهم الماء النظيف وضمادات الجراح وبعض الطمأنينة بأنه ليس كل الأوروبيين سيديرون لهم ظهورهم لكن في النهاية كنا في موقع للدموع والأهات.

ويوضح فيسك رجال ونساء أغلبهم من سوريا من درعا ودير الزور وحلب ودوما وغيرها فروا معا من سوريا ووصلوا إلى مقدونيا كلهم اشتكوا من السرقات التى يتعرضون لها على طول الطريق.

ويكشف فيسك عن أن اغلبهم قاموا بالسير مسافات طويلة ربما 20 ميلا في شمال اليونان في درجة حرارة تصل إلى 30 درجة مئوية لأنهم لايسمح لهم بركوب المواصلات العامة.

ويضيف بعضهم يعاني من الحروق وبعضهم من إصابات أخرى ووسط ذلك كله يقف أحدهم ليتحدث مع إحدى سيدات الإغاثة قائلا لها “إنظري.. أعرف انك تحاولين مساعدتنا لكن بالنسبة لكل هؤلاء أليس هناك ما يمكن فعل لدعمهم؟ إنهم مسالمون لم يرتكبوا إثما فقط يفرون من الحرب والموت”.


الخميس، 25 يونيو 2015

هل يلقى الاتحاد الأوربى مصير الجامعة العربية؟!


?!Could the European Union end up going the way of Arab unity

هل يلقى الاتحاد الأوربى مصير الجامعة العربية؟!



بقلم: روبرت فيسك
ترجمة: أحمد سامى

يعتبر مشروع جامعة الدول العربية هو أكثر المشاريع الميئوس منها فى منطقة الشرق الأوسط, فالأمال التى تم عقدها على اتحاد الدول العربية من المحيط الأطلنطى وحتى الخليج العربى ذهبت أدراج الرياح, تلك الأمال التى كانت تحدوا الشعوب العربية فى استغلال الثروة والسلاح المتوفران للدول العربية فى السيطرة على أكثر المناطق من حيث الأهمية الاستراتيجية على مستوى العالم – منطقة الشرق الأوسط, والموقف فى تلك المنطقة يختلف عن الدول الأوربية التى نجحت فى توحيد شتاتها حتى الآن على الأقل.

ولقد قام العديد من أصدقائى العرب بإثارة عدة أسئلة خلال الأسابيع الأخيرة حول الأزمة اليونانية, من تلك الأسئلة: هل الفساد له علاقة بما يحدث فى اليونان؟, هل هو التفاوت الطبقي بين غنى وفقير؟, أم أن اليونان قد استسلمت للأمر الواقع ووضعت تقرير مصيرها فى يد الغير.

ومن وجهة نظرى فإن السؤال الأهم هو: هل يخاطر الاتحاد الأوربى بالدخول فى مواجهة عسكرية مع روسيا من أجل ضم أوكرانيا للاتحاد الأوربى فى الوقت الذى يتنكر لليونان ويرفض مساعدتها فى محنتها وهى الدولة العضو فى الاتحاد؟.
وبالنسبة للأزمة الاقتصادية اليونانية فهناك علامة استفهام حول فشل أثينا فى التغلب على تلك الأزمة فى حين نجحت أيرلندا سلفاً فى التغلب على أزمة اقتصادية مماثلة, فأيرلندة التى ظلت تحت الاحتلال البريطانى لمدة ثمانية قرون نجحت فى نفض الغبار عن نفسها, أما اليونان التى تملك الثقافة والفن والتاريخ يصبح هكذا حالها فى الوقت الراهن.

والمشكلة اليونانية حسب تحليلى الشخصى تعود إلى الحقبة النازية التى كان يحكمها وقتها نظام موال لهتلر, ذلك النظام الذى لم يكن ليسمح بإنشاء كيان اقتصادى يونانى قابل للاستمرار, بل اقتصاد تابع للنازى بحيث يتم نهب موارد البلاد وعدم إفساح المجال أمام قيام تنمية حقيقية فى اليونان وكذا إرهاب الشعب اليونانى من قبل النازى لحمله على الخضوع والاستسلام.

أما الحكومة اليونانية فقد ادعت أن برلين مدينة لها بمائتى مليار يورو كتعويضات عن ما جرى فى الحرب العالمية الثانية, والحقيقة أن ذلك الادعاء فيه جزء كبير من الصواب حيث أرغمت البنوك اليونانية على دفع مبالغ طائلة لهتلر تحت تهديد السلاح فى الوقت الذى كانت آلة الحرب الألمانية تبذل ما فى وسعها لسحق حركات المقاومة اليونانية إبان الحرب العالمية الثانية.

وبعد انضمام اليونان للاتحاد الأوربى لم يكن من الممكن ببساطة إلقاء التاريخ فى سلة المهملات, ذلك التاريخ الذى يشهد على بشاعة ما تعرضت له اليونان وكذا إيطاليا وكرواتيا من القمع على يد "الرايخ", تلك الفرصة التى استغلتها الحكومة اليونانية فى التنصل من دفع ديونها الخارجية طالما هناك حكومة ألمانية عضو فى الاتحاد الأوربى تتمتع باقتصاد ضخم وتملك الكثير من الأموال.

والمشكلة أن الحكومة اليونانية لا تملك خطة واضحة لإيجاد حل للمعضلة الاقتصادية التى تكاد تعصف بالبلاد, بل أن تلك الحكومة تنتهج الطريق الأسهل ألا وهو التركيز على دعم دول الاتحاد الأوربى للاقتصاد اليونانى بغير خطة واضحة للحكومة اليونانية للخروج من تلك الأزمة مما جعل أثينا تُشكل عبئاً ثقيلاً على باقى دول الاتحاد خاصة ألمانيا التى لن تقم بدفع تعويضات لليونان إلى ما لا نهاية.

وإذا أضفنا إلى المشكلة اليونانية مسألة أخرى فى غاية التعقيد ألا وهى رفض بريطانيا الانضمام لمنطقة اليورو بل وتهديدها بالانسحاب من الاتحاد الأوربى سنجد أن القارة الأوربية تواجه نفس مشكلة الجامعة العربية, وهنا يثور التساؤل: هل تؤدى كل تلك التراكمات إلى أن يواجه الاتحاد الأوربى مشكلة التصدع كما هو حادث فى الجامعة العربية أم أن الدول الأوربية سوف تستطيع إيجاد حل لتلك المشكلات يقيها شر المشكلة الأكبر ألا وهى انهيار الاتحاد الأوربى بالكامل؟, فى اعتقادي أن الأيام القليلة القادمة سوف تحمل لنا الإجابة عن تلك التساؤلات.

رابط المقال:صحيفة إندبندنت

الجمعة، 29 مايو 2015

روبرت فيسك: مجرم الحرب يستقيل

روبرت فيسك: مجرم الحرب يستقيل




 نص المقال

أخيرا، أسدل الستار على نهاية زمن توني بلير، مبعوثا للشرق الأوسط، ممثلا للولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وبعد 8 سنوات من تقلده وظيفته، قدم بلير استقالته، مخلفا وراءه سؤالا مفاده: كيف لمجرم حرب أن يضحى أصلا مبعوثا للسلام؟

التساؤل السابق يدور على ألسنة شعوب الشرق الأوسط، ومعظم دول العالم، منذ تعيينه رجل اللجنة الرباعية في القدس( المحتلة)، ذي مهمة رسمية ويائسة تتلخص في تحقيق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

هل كان يفترض أن تؤدي تلك المهمة الجديدة إلى غسل يديه من الدماء بعد كارثة غزو بوش- بلير للعراق، ومئات الآلاف من الأرواح البريئة التي أزهقت جراء ذلك؟

"بالنسبة للعرب والبريطانيين، الذين فقدوا أحباءهم في تلك الحرب المخزية، كان تعيين بلير مبعوث للجنة الرباعية إهانة بالنسبة لهم.

الرجل الذي لم يعتذر أبدا عن كارثته السياسية ذهب بعدها بأربع سنوات إلى القدس مع فريق عمل، مع إهدار الملايين في الإقامة وتذاكر السفر، دون أن يحقق شيئا على الإطلاق في فترة قاربت عقدا من الزمان.

وبدا بلير لا مباليا تجاه المعاناة الهائلة للفلسطينيين، وكان عاجزا بوضوح عن درء ذلك، وقضى معظم وقته بعيدا عن مأساة الشرق الأوسط، مسديا المشورة لطغاة العالم الإسلامي، ومخبرا العالم، من أجل إرضاء إسرائيل، عن المخاطر التي تمثلها إيران.

وكلما كان بلير أكثر ادعاء بعلم الغيب، كلما أصبح أكثر انفصالا، في عيون المنطقة المفترض أنه أرسل لحمايتها.

أحد أنصار بلير دافع عنه ذات يوم على القناة الرابعة مستشهدا بسفرياته التي قاربت مائة مرة، دون أن يذكر المفارقة الساخرة الأساسية، وهو أن المسؤول البريطاني الأسبق غادر المنطقة حوالي مائة مرة قاصدا وجهات أكثر إجزاءً بالنسبة له.

كان من المفترض أن ينتج بلير ما هو أكثر من ذلك الترياق السهل الذي يخرج من شفتيه، مثل ادعائه بأن حلحلة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني قد يكون أسهل من إنهاء أزمة أيرلندا الشمالية.

لكن الفلسطينيين لديهم ما يتجاوز كثيرا هؤلاء الكاثوليكيين الأيرلنديين الذين استئصلوا من أرضهم علي أيدي المزارعين البروتستانتيين في القرن السابع العشر.

لو كان بلير قد استقال منذ عامين فحسب، بعد وصف قيادات فلسطينية لوظيفته بأنها "بلا جدوي".

أما إسرائيل، فبكل تأكيد، لم تصفه أبدا بذلك الوصف.

وأدان بلير بقوة ما سماه حملة نزع شرعية إسرائيل،معتبرا ذلك، في انحياز واضح، "سبة للإنسانية"، وهي كلمات لم يستخدمها أبدا عند حديثه عن الخسائر الهائلة في صفوف المدنيين التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين بغزة.

العرب ينتظرون الآن إذا ما كانت اللجنة الرباعية ستتكرر حماقتها بتعيين شخص غير ملائم بالمرة، في تلك المهمة الصعبة، التي يطالب الكثيرون في المنطقة بإلغائها.

ومنذ ثماني سنوات، كان هناك مجرد أمل شحيح في ظهور دولة فلسطينية إلى النور، لكن الآن انعدم ذلك البصيص.



الخميس، 11 ديسمبر 2014

"فيسك": الآن تبين سر غضب العالم الإسلامي من الغرب

"فيسك": الآن تبين سر غضب العالم الإسلامي من الغرب



 كتب روبرت فيسك في صحيفة "الإندبندنت"، معلقًا على الجرائم التي ارتكبتها وكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي إيه" في فترة ما بعد هجمات أيلول/ سبتمبر 2001، وما جاء في ملف التعذيب.
يقول الكاتب: إن "العالم الإسلامي يعرف عن هذه الجرائم منذ سنوات، وظل (الغرب) يريدها أن تبقى وحتى النهاية (سرًّا)، حتى يتأتى حماية الساديين والمرضى النفسيين الأشرار الذين أداروا معتقلات التعذيب نيابة عنا، تجب حمايتهم بل والثناء عليهم من البوشيين - نسبة إلى جورج بوش - لأنهم حموا حضارتنا".
ويضيف فيسك أن "أكاذيبهم علينا وعلى ضحاياهم أيضًا جاءت من أجل الحرية، وعلينا ألا نتحدث عن (سجناء) مسلمين يقفون على أرجل مكسرة يخرج الزبد من أفواههم بعد 82 ساعة من التعذيب بأسلوب الإيهام بالغرق، أو تم إدخال الحمص في أمعائهم عبر فتحة الشرج".
ويتحدث الكاتب عن رد فعل الجمهوريين وجماعة جورج بوش، الذين حدث التعذيب في عهدهم "فهم يشتمون رائحة كريهة حولهم.لكن التقرير الذي انبعثت منه هذه الرائحة الكريهة كلها نشر (لدواع أيديولوجية)، فما يزعمونه الآن لمنع نشره يوازي المزاعم الواهية والفاسدة عن العلاقة بين صدام حسين وتنظيم القاعدة وامتلاك النظام العراقي أسلحة دمار شامل، ويورانيوم النيجر، وغيره من الكلام التافه الذي تم نشره قبل أن نمضي في طريق الذبح الذي استمر 11 عامًا في العراق".
ويبين فيسك "في الحقيقة أنه الكلام التافه ذاته الذي باعوه لنا قبل أن تنشر صور أبو غريب الفاضحة، وقولهم: إنها (ستؤدي لتعريض حياة الأميركيين في أنحاء العالم كله للخطر) كما قال زعيم الأقلية الجمهورية ميتش ماكونيل".
ويرى فيسك أنه لهذا "قمنا بإغلاق أبواب سفارتنا ورفعنا درجة التحذير الأمني للأحمر، وأي رمز كاف لترهيب الأميركيين وأصدقائهم. وطبخنا الكذبة، التي كانت سامة مثل بقية أكاذيب (سي آي إيه) من أن العرب سيغضبون بشدة عند قراءتهم عن الفظائع التي ارتكبها رجالنا باسم الحرية والغرب. وهو الكلام ذاته الذي رددوه حول نشر صور أبو غريب. فالعرب سيغضبون عندما سيشاهدون لقطات للأطراف الإنسانية والرجل المقنع المعلق بأسلاك كهربائية، وقد يغضبون ويلجأون للعنف، وهذا الكلام ذاته الذي يرددونه حول تقرير التعذيب ودور (سي آي إيه)".
ويتابع الكاتب: "هذا كله كلام لا قيمة له. ففساد (سي آي إيه) الأخلاقي لن يغضب العالم الإسلامي؛ لأنه غاضب على هذه الجرائم ومنذ سنين. فقد كان المسلمون هم الضحايا، وكانوا الشهود، ويعرفون الحقيقة منذ مدة قبل أن نعترف بها، فهؤلاء الرجال والنساء المساكين إن ضممنا ضحايا أبو غريب، الذين لم يسمح لنا بمشاهدة صورهم، عاد معظمهم لبيوتهم وأخبروا عائلاتهم وأصدقاءهم عن الظلم الذي ارتكب بحقهم، وشهاداتهم هي الوحيدة التي نعرفها، وكانوا يقولون الصدق".
ويواصل فيسك قائلًا: إن "مخاوف أسيادنا - من رجال البنتاغون والبوشيين و(سي آي إيه) - ليس فيما إن كان العرب سيغضبون من هذا الكشف. فهم قلقون من الخزي والعار الذي سيصيبنا على ما اقترفته أيديهم باسمنا، ما سيقودنا للنظر إليهم على أنهم مجرمو حرب (وهم في الحقيقة كذلك) أو قد نقوم بوضعهم في، وهنا أحب التعبير الأميركي للسجن (مركز التصحيح). فالكثير من هؤلاء رجالًا ونساء بحاجة إلى علاج نفسي (معالجة لإبعادهم عن التشدد). ففي الوقت الذي نرغي بالقول: إنه يجب إبعاد شبابنا عن التشدد ومنعهم من الانضمام لتنظيم (داعش)، لكننا لا نلتفت إلى الأخطر وهم المجرمون الراديكاليون غير الأسوياء في (سي آي إيه) وتقبل وسائلهم في التحقيق من خدماتنا السرية".
ويقول فيسك: "نعم، نحن غاضبون وحانقون على ما كشف عنه، وهو ما قاد بعض الجمهوريين، وليس كلهم، لشجب (سي آي إيه)، رغم أن ما نشر هو نسخة تعرضت للشطب والحذف ولم ينشر الأصل، تمامًا كما حدث في صور أبو غريب التي نشر منها جزء ومنع نشر الكم الأكبر. 
نحن من نتساءل: هل ارتكبنا هذا كله؟ هل قام موظفونا بممارسة هذه الأفعال في غرف التعذيب وباسمنا؟".
ويستدرك الكاتب قائلًا: "كان يجب علينا أن نعرف هذا كله عندما بدأ ديك تشيني -نائب بوش- يتحدث عن (الجانب المظلم)، وعندما أنكرت (سي آي إيه) وجود سجون سرية في بولندا ورومانيا، وعندما بدأ المعتقلون يعودون إلى بلادهم ويحكون لنا عما عانوه. وأتذكر رد فعل أسيادنا على ما قاله هؤلاء: (هذه دعاية)، وأكدوا لنا أن هذه دعاية يقوم بها حزب البعث السابق، أو هي دعاية يقوم بها المتمردون والإرهابيون أو هي دعاية إسلامية، وقد استخدم البريطانيون الكلام نفسه عندما كانوا في نزاع مع أيرلندا الشمالية (دعاية يقوم بها الإرهابيون أو الجيش الأيرلندي الحر)، واستخدم هذا الكلام الفرنسيون في الجزائر. وفي اللحظة التي تسمح فيها لرجال (سي آي إيه) الذين تشجعوا في الفترة الأخيرة بمسلسلات لفزيونية تحض على الوحشية والاغتيالات والتعذيب ضد الإرهاب، فإنك في نفس السلة مع الرجال الأشرار. فنحن الرجال الأشرار أيضًا، وهو ما أخبرنا به تقرير لجنة الاستخبارات في الكونغرس هذا الأسبوع".
ويختم فيسك معلقًا على كلام أوباما بالقول: "بالنسبة للمسكين أوباما يمكن أن تقرأ تصريحه بالطريقة التي تريد (سأواصل استخدام سلطتي رئيسًا للتأكد من عدم اللجوء لهذه الوسائل مرة أخرى)، تمامًا كما وعد بإغلاق سجن غوانتانامو وللأبد، وتمامًا كما استخدم الطائرات دون طيار أكثر من البوشيين. حسنا فنحن لسنا سيئين مثل (داعش)، فنحن لا نقطع الرؤوس أو نغتصب النساء. وكما ذكرنا رئيس وزراء بريطاني سابق عندما كنا نملأ القبور في العراق بالجثث، فعلى الأقل نحن لسنا سيئين مثل صدام".