الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025

مستقبل المنطقة بعد عامين من "الطوفان" والإبادة

 مستقبل المنطقة بعد عامين من "الطوفان" والإبادة

باحث في الشأن التركي والقضية الفلسطينية والشؤون الإقليمية.

الكاتب: أسلوب فرض "السلام من خلال القوة" دون مراعاة حقوق الفلسطينيين وحقائق المنطقة، سوف يبقي الأخيرة كحقل ألغام ينتظر فتيلا للاشتعال

كما كان لعملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 امتداداتها في المنطقة من خلال توسع الحرب بعدة اتجاهات، فإن تبعاتها وارتداداتها بعيدة المدى تساهم كذلك في تشكيل مستقبل المنطقة عموما.

العامل الإسرائيلي

يتأثر كل نظام إقليمي بعدة عوامل بعضها خارجي مثل طبيعة النظام الدولي، وبعضها الآخر ذاتي مثل بنية الدول والأنظمة المنضوية تحته. النظام الإقليمي العربي- أو بشكل أعم منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا- ليس بدعا ولا استثناء في هذا الإطار.

فقد تأثر بالنظام الدولي، أولا خلال الحرب الباردة التي انعكست بشكل مباشر عليه من حيث البنية والتحالفات والمحاور، ثم انتقالا للأحادية القطبية، وما تركه ذلك من آثار عميقة عليه. وكذلك تأثر بتغير بنية وتوجهات بعض الدول الكبيرة والمؤثرة في المنطقة، مثل حركات الضباط (الانقلابات العسكرية) التي حولت الممالك إلى جمهوريات والتي ظهرت في مصر، ثم انتقلت لعدة دول، وكمثال الثورة الإيرانية التي أسقطت نظام الشاه، وغير ذلك.

ولكن، وإضافة إلى هذين العاملين الأساسيين وبعض العوامل الأخرى الأقل أهمية مما تشترك به المنطقة مع باقي النظم الإقليمية، إلا أن العامل الإسرائيلي كان دائما عاملا أساسيا محددا وموجها ومغيرا للمنطقة.

بدءا من الحروب العربية- الإسرائيلية، مرورا باتفاقية "كامب ديفيد" التي أخرجت على إثرها مصر من المنظومة الرسمية العربية، وليس انتهاء بحروب الخليج وثيقة الصلة بأمن إسرائيل بغض النظر عن بعض الأسباب والسياقات والذرائع المعروفة.

في فترة ما قبل الانتفاضات أو الثورات العربية المسماة "الربيع العربي"، كانت المنطقة تنتظم وفق تصنيف شديد الارتباط بالعلاقة مع/ضد إسرائيل، حيث صنفها الكثيرون إلى محورَي "الاعتدال العربي" و"الممانعة" أو "المقاومة".

وفي عهد الثورات، كانت البصمة الإسرائيلية واضحة في محطات مهمة.

كما شهد عهد ما بعد الثورات تسارعا ملحوظا في توقيع اتفاقات التطبيع والتعاون مع إسرائيل في إطار "الاتفاقات الأبراهامية"، والتي كان ينتظر أن تنضم لها بعض الدول العربية والإسلامية الأخرى، وهو ما حالت دونه وجمدته مؤقتا عملية "الطوفان".

مع الطوفان

أظهرت الأحداث التي شهدها قطاع غزة ثم كامل فلسطين فعموم المنطقة على مدى العامين الماضيين، بما في ذلك عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وحرب الإبادة، وتوسع الحرب في المنطقة، عدة حقائق جوهرية تتصل بشكل مباشر بمستقبل المنطقة:

  • أول هذه الحقائق متعلق بحقيقة إسرائيل وجوهر المشروع الصهيوني، من حيث هو قاعدة متقدمة لمشروع إمبريالي غربي ورأس حربة له في قلب العالم العربي والإسلامي، وكذلك كونه مشروعا يقوم على إلغاء الآخر بالإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فضلا عن ثغراته وأخطائه وبالتالي إمكانية هزيمته.
  • وثانيها الشراكة الغربية، وفي مقدمتها الأميركية مع إسرائيل في الحرب، وعدم قدرة إسرائيل على البقاء وليس فقط الانتصار دون الدعم الغربي، من حيث الإسناد العسكري والاقتصادي والسياسي، والغطاء الممنوح لها في مجلس الأمن والمؤسسات الدولية، وصولا للمشاركة الأمنية والعسكرية المباشرة، مثل أعمال التجسس في قطاع غزة، وقصف المنشآت النووية الإيرانية.
  • وثالثها توزع النظام الرسمي العربي ما بين العجز والفشل والتواطؤ خلال حرب الإبادة، بالنظر للفشل في إدخال المساعدات على مدى عامين كاملين.

ولا شك أن محاولة اغتيال وفد حركة حماس المفاوض في الدوحة كان دليلا إضافيا على أن إسرائيل، وتحديدا في مرحلة ما بعد الطوفان، مستعدة لمهاجمة واستباحة سيادة كل الدول، دون أن تضع في الاعتبار مدى اشتباك هذه الدولة أو تلك معها أو مستوى علاقاتها معها أو مع الولايات المتحدة، أو حتى كونها وسيطا لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح أسراها بما يعني استفادتها منها بشكل مباشر.

وبالنظر إلى أن وقف إطلاق النار أتى بقرار أميركي، وأن ترامب يتصرف بشكل يملي على حكومة نتنياهو بعض القرارات والمسارات، فإنه من الضروري النظر لأولويات إدارته في المرحلة المقبلة، التي تبدأ من تثبيت وقف إطلاق النار وعدم العودة للوتيرة السابقة من الإبادة، وفرض "السلام من خلال القوة"، وإعادة تركيب المنطقة، وتنشيط مسار التطبيع و"الاتفاقات الأبراهامية"، وفي القلب من كل ذلك تجاوز فكرة الإبادة وإعادة دمج إسرائيل في المنطقة بشكل أكثر عمقا وتماسكا.

مستقبل المنطقة

وفق ما سبق، فإن المنطقة مقبلة على عدة مسارات وسيناريوهات، ليست بالضرورة مناقضة لبعضها البعض، فقد يتحقق أكثر من واحد منها، بل ربما جميعها بمستويات متباينة.

أول هذه السيناريوهات هو إخضاع المنطقة بالكامل للنفوذ الإسرائيلي والأميركي، وتحقيق المصالح والمكاسب الإسرائيلية من خلال السياسة والدبلوماسية والضغوط بعد أن فشلت الآلة العسكرية، بما في ذلك إبقاء مسألة التهجير من غزة على في البال ومسارات التحقيق العملية، وبما يهدد الأمن القومي والاستقرار لدول مثل مصر والأردن. وهنا تكون إسرائيل سلاح واشنطن أو العصا التي تلوح بها للجميع لإعادة فرض الأمن والضبط والتفرد الأميركي في المنطقة.

الثاني استئناف الحروب في المنطقة، في غزة، ولبنان، وإيران، وربما اليمن وسوريا وغيرها.

تتبدى مؤشرات ذلك في الرغبة الإسرائيلية في العدوان، و"استكمال المهمة" في كل من غزة (سحب سلاح المقاومة)، ولبنان (القضاء على حزب الله)، وإيران (إسقاط النظام و/أو إنهاء المشروع النووي)، خصوصا أنها ترى أنها تعرضت لذروة ما يمكن أن تتعرض له من لوم ونقد وشجب وضغوط فلا يضيرها أن تستمر في ذات الطريق.

كما ينبغي النظر لمؤشرات إضافية، مثل تحديد ميزانية جيش الاحتلال لعام 2026 بـ"34.5 مليار دولار بما يفوق ميزانية عام 2023 بـ42%، وعام 2025 (عام وقف الحرب) بنسبة تتجاوز 5%، بما يعني أنها ميزانية حرب.

وكذلك أن 2026 هو عام انتخابات "إسرائيلية" استثنائية وحاسمة، ويتوقع أن يكون مناط المزايدات فيها الدم الفلسطيني والعربي.

وأخيرا، فإن أسلوب فرض "السلام من خلال القوة" دون مراعاة حقوق الفلسطينيين وحقائق المنطقة، سوف يبقي الأخيرة كحقل ألغام ينتظر فتيلا للاشتعال، لا سيما أن كافة الجبهات التي فتح الاحتلال فيها الحرب ما زالت بمثابة ملفات مفتوحة.

وهناك مسار متوسط أو بعيد المدى، وهو احتمال عودة الاحتجاجات والثورات في عدد من الدول. فكما كانت حرب 2008-2009 ضمن عوامل الثورات السابقة في عدة دول وحضرت في شعاراتها، فإن أسباب تلك الموجة ما زالت قائمة وتفاقمت في أكثر من حالة، ونموذج الإلهام والإبادة معا في قطاع غزة ماثل أمام أعين الجميع، ومعه الفشل العربي والإسلامي الرسمي في فعل شيء لوقف الإبادة.

وهناك سيناريو التطبيع الذي يدعو ويروج له الرئيس الأميركي، ولا يدعو له فقط دولا تعد من أصدقاء بلاده وحلفائها، ولكنه تجاوز ذلك ليدعو "للاتفاقات الأبراهامية" إيران نفسها، التي تعرضت لعدوان إسرائيلي وأميركي هدفَ لإسقاط النظام قبل أشهر فقط.

وأخيرا، ثمة سيناريو إعادة النظر في أسس النظام الإقليمي القائم ومنظومة علاقاته وتحالفاته وفق المتغيرات الجديدة وخصوصا لدى دولة الاحتلال وبشكل أكثر تحديدا بعد عدوانها على الدوحة. وقد رأينا ملامح لشراكات ومسارات تعاون جديدة أو تفعيل مسارات سابقة، مثل التنسيق التركي- المصري والتفاهمات السعودية- الباكستانية، وغير ذلك.

وفي الخلاصة، فإن الجميع متأكد أن المنطقة قد دخلت في مرحلة جديدة تسعى فيها الولايات المتحدة ومعها إسرائيل لفرض مسارات جديدة عليها.

وهنا، تنتقل جملة "غزة جدار دفاع عن العالم الإسلامي" التي قالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إحدى القمم المشتركة بين جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي من مساحة الشعار لمربع توصيف الواقع.

فغزة هي النموذج الذي يراد تعميمه على المنطقة، بدءا من لبنان، وسوريا، وليس انتهاء بإيران، واليمن، وربما دول أخرى. وهنا تتبدى ضرورة منع تنفيذ الأجندة الأميركية والإسرائيلية فيها، ليس فقط من باب دعم الفلسطينيين، ولكن كذلك من زاوية المصلحة الذاتية والجمعية للمنطقة.

ولأن المسارات السياسية والأمنية والعسكرية والاجتماعية ليست سيناريوهات حتمية ولا قدرا مقدورا على الجميع، من الأهمية بمكان التأكيد على أن دول المنطقة ذاتها فاعل أساسي، وربما الفاعل الرئيس الذي سيساهم في تحديد السيناريوهات الأوفر حظا في التبلور في الواقع العملي في المستقبل المنظور، من بين السيناريوهات المذكورة أعلاه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق