ما إن تُتلى الآية الكريمة: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) (البقرة: 186)، حتى يستيقظ في القلب شعورٌ خفيّ يشبه عودة
الروح إلى أصلها الفطري؛ فليست هذه مجرد آية تُخبر عن
صفة، بل هي كلمةٌ إلهية تكشف للعبد حقيقةً كبرى لطالما
نسيها؛ أن قرب الله من عباده ثابتٌ أزليٌ لا يتغيّر، وأن البعد
الذي يعيش فيه الإنسان ليس إلا أثرَ غفلتِه هو، فالله تعالى لا
يغيب ولا يبتعد، وإنّ قربه سبحانه لا يقاس بالأماكن، أو
يُحجب بالأزمنة، فهو خالق المكان والزمان، وهو أقرب إلينا من
حبل الوريد، لكن القلوب تحتاج إلى مفتاح لإدراك هذا القرب
المطلق.
وإذا سألك عبادي عني؛ ما أعمقها من مقدمة! وما أجلها من
رعاية! إنه يكشف لعباده عن إجابة السؤال الذي لم يطرحوه
بعد، فهو البادئ بالعطاء، والسابق بالمنح، وهو فاتح باب
الدعاء، وهو من دل عليه، وهو من أطلق اللسان به، وهو من
قدر العطاء فأجرى به على اللسان الدعاء، فأي رعاية وأي
قرب وأي كرم وأي رحمة تلك!
إنه القريب سبحانه، وهذه أولُ لطائف القرب؛ أن يُعرّفك ربُّك
بنفسه قبل أن تبحث عنه، وأن يفتح لك باب الوصول قبل أن
تخطو نحوه خطوة واحدة، إنها آية يبدأ الله فيها بنفسه، لا انتظاراً
لدعاء، ولا جواباً لمسألة، بل رعاية تليق بمقامه، ورحمة تليق
بجوده، وعناية تليق بكرمه.
أين قربك من قربه؟
من هنا يبدأ طريق الفهم العميق، فإذا كان الله قريبًا
على الدوام، فالسؤال الذي يواجهك ولا يمكن الفرار منه: هل
كنتَ أنت قريبًا؟ إن الغفلة حين تتراكم لا تجعل الله بعيدًا،
بل تُطفئ في القلب القدرة على الإحساس بقربه سبحانه
فتحدث الوحشة في القلب، وتُفقد الروح حساسيتها لندائه،
فيظنّ المرء أنّ بينه وبين مولاه مسافات طويلة، بينما الحقيقة
الصارخة أنّ الحجاب حجابه هو، والظلمة ظلمته هو؛ الحجاب
في الداخل، في تراكم الذنوب، وفي الانشغال الزائف الذي
يُنسي القلب.
الحجاب في داخلك فلا تصطنع معارك وهمية في الخارج مع
الأفكار والأشخاص والأحوال والأجواء والطباع، بل عد إلى
داخلك فنادِ ربك نداءً خفياً، وتقرَّب إليه بفقرك لا بغناك،
بضعفك لا بقوتك، بانكسارك لا بتجلدك، فلربما ناداك في
محراب مناجاتك ببشارة القبول، أو فتح لك باب الوصول،
فيذيقك من لذة مناجاته ما يغنيك عن كل آمالك، وينسيك كل
آلامك.
مفارقة السعي والغفلة
تأمّل في حال الناس، فإذا بالعبد يطلب كل شيء إلا أقرب
الأشياء إليه، يبحث عن رزقه وينسى بركته، ويُحسن السعي في
دنياه وينسى طريق نجاته، ويُتقن تعليم أبنائه كل فنٍّ، ثم يعجز أن
يُعلّمهم اسم الباب الذي تُفتح به السعادة الحقيقية؛ باب ربّهم،
وسرّ قربه، وصفاء رضاه، يجهد الإنسان في إقامة عالمه المادي،
ويغفل عن عالمه الروحي الباطني الذي هو مصدر السكينة
الحقيقية، يعيش متعبًا من الركض في فضاء واسع، بينما الحل
يكمن في نقطة واحدة؛ نقطة القلب المفتوح على نور الله.
القرب ليس علماً فحسب.. بل رحمة وإجابة
عند هذه اللحظة يتجلّى المعنى الذي تُحكم به علاقة العبد بربه
وهو أن القرب الذي يعلمنا الله إياه ليس قربَ علمٍ فقط، بل
هو قرب شامل للخلق كلهم، إنه قربُ رحمة، قربُ إجابة،
قربُ لطفٍ وعناية فائقة، ولهذا جاءت الآية في نسقٍ واحدٍ لا يقبل الانفصال: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) (البقرة:
186)؛ فكأنها تقول: مَن تيقن بقربي دعا، ومَن دعا بصدق أجبته.
وليست المسألة في علو الصوت أو فصاحة اللسان، بل لأن
القلب وقف على باب الحقيقة، ولأن القرب في ذاته يمثل باباً
من أبواب الإجابة التي لا تُردّ، إن لحظة الدعاء الصادق هي
لحظة رفع الحجاب الداخلي، هي اللحظة التي يتطابق فيها
شعور العبد مع حقيقة الرب؛ أنه قريب.
سؤالٌ يعقبه عطاء
العجيب أن الإجابة ليست دائمًا على قدر السؤال الظاهري،
وهذا من تمام رحمة القرب، فالعبد يسأل بما يعرف، والربّ
يعطي بما يَعلم، فيُعطيه ما يصلحه ولو خالف ما طلبه أو تمناه،
قد يمنع عنه سؤاله لحكمة، ويُعطيه عوضاً سكينة وصبراً، وهنا
يدرك السالك أنّ الدعاء ليس حركة يدين أو فصاحة لسان،
وإنما حال عميقة بين يدي الكريم، وأن الطريق بين السماء
والأرض لا يُقاس بزمنٍ ولا مسافة، بل بصدق التوجّه وثبات
القلب، فالدعاء بوصلة القلب التي تضبط مساره الوجودي.
سرّ القرب بلا وسائط
ثم تكشف الآية عن أرقّ الأسرار وأجلّها؛ أنّ القرب الإلهي بلا
أبواب ولا وسطاء ولا حجّاب؛ فالله لم يقل: قل لهم إني قريب، بل أسقط الواسطة كلها في الخطاب المباشر وقال: (فَإِنِّي قَرِيبٌ)،
وكأنها كلمةُ محبٍّ ينادي عبده الغافل: أنا قريب فافتح قلبك،
أنا مجيب فادعُني أعطك، أنا الهادي فاستجِب لي أرشدك
وأثبتك، وحينها تنجلي الغفلة، وتتولّد الحقيقة التي يختم بها
القلب رحلته؛ أن من عرف قرب الله اهتدى، ومن ذاق حلاوة
الإجابة رُشد، ومن أقبل بقلبه فاز بقلبٍ لا يتيه بعدها أبداً.
وهكذا يصبح القرب ليس فكرة تُقرأ، وإنما حياة تُعاش، ومنهج
يُسلك، وحين يعيشها العبد، يعرف تماماً أن الله ما ابتعد عنه
يومًا، بل هو الذي يعود إلى فطرته كلما اقترب.
إن يقظة القلب هي ثمرة إدراك أن القرب صفة ثابتة
للمولى، وأن التقرّب إليه هو جهدنا الوحيد لنتذوق طعم هذا
القرب الإلهي العظيم.
وأخيراً أقول: لو أيقظتَ قلبك لبرهة، لأدركتَ أن الحجاب كله
من جلود غفلتك، وأن الغربة التي تعيشها ليست قضاءً إلهياً بل
أثرُ جفائك أنت، لقد تركك القريب لتشتاق، وبقيتَ أنت في
انشغالك حتى نُسّيت.
حين تتحقق بالقرب، لا تعود بحاجة إلى شيء؛ لأنك وصلت إلى
مُدبّر الحاجات، حيث يصبح القرب هو الإجابة الكبرى،
والوصول إلى المنادي هو كل الغاية، فماذا يطلب من يوقن أنه
في حضرة من لا يغفل؟ وماذا يسأل من ذاق أن القرب نفسه
هو النعيم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق