الجمعة، 19 ديسمبر 2025

"مش لسة بدري يا حورية؟"

 "مش لسة بدري يا حورية؟"

يوسف الدموكي

صحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة


مش لسة بدري يا حبيبي؟! 

كانت تسألني كلّ صباح، وكلّ ليلة، كلّما هممت بخروج، أو اختفيت فجأة. 

كانت قريبتنا الخمسينية، ذات الوجه الملائكي، والقلب الأموميّ، والعيون العسلية، تُسائلني بعاطفةٍ تسبق عاطفة أمي، تسألني سؤالاً لم تسأله في حياتها، وهي التي لم تُنجب طيلة ثلاثين سنة قبل أن آتي إليها على عجَل، أقول: "آويني" يا حورية! 

كنتُ في منتصف العقد الثاني من عمري، صبيّاً يغادر طفولته توّاً، ويغادر معها بيته بالكامل، مُطارَداً من وحوش ليلٍ ضارية، لا يأمن منها مؤمن، بل "المؤمن" نفسه ضالتهم، ويكفيك إيمانك بكونك إنساناً، له صوت، وصورة، له حقّ، وكلمة، له هتاف، وأغنية، كان كلّ ذلك مُخالفاً لأمن الدولة، وتهديداً لسلامتها القومية، وتكديراً لسلمها العام، وقلباً لنظام الحكم.

أما قلب حورية، فكان بكراً، يشتاق إلى البكر، خصباً، عذباً، يريد أن يحبّ مولوده الأوّل، يريد أن يرزقَ بابنٍ يشقّ طريقه إلى الدنيا، فكنت ذلك الولدَ الذي أتاها من حيث لا تَحتسب، يحتاج إلى رعايةٍ، وإلى مهرب، وإلى مخبأ، وكم كانت قاسية المخابئ القلقة، وكم كانت تضنّ أحياناً بالأمن حين أرمق النافذة فأجد المدرّعات قريبة، لو نظر أحدهم فوق رأسه لرآني، إلّا عند "حورية"، كان المكان "محروساً" بحنانها، وكانت الأرض ممهّدةً بأهدابها، وكان "جدي عبد الستار" زوجها، وأحد أعمام والدي، صديقي الذي يكبرني بنحو نصف قرن، وكانت حورية، هي أمي التي رزقتها على كبَر، كما كانت تقول أمي التي ولدتني منذ الصغر.

 لو نظر أحدهم فوق رأسه لرآني، إلّا عند "حورية"، كان المكان "محروساً" بحنانها، وكانت الأرض ممهّدةً بأهدابها

أخالها مولودةً في لُفافتها، لم يقرّروا اسمها بعد، حتى رأوا مُحيّاها واستشعروا روحها فسمّوها "حورية". كبرت حورية، ولم يتغيّر بداخلها شيء، تلك الصغيرة شديدة البراءة، ناصعة الصفاء، أنظر في عيونها فأجد والدةً بلا ولد، وأنا لديها في ثلاث سنوات من الركض أمام المجهول، ولد بلا والدة، فكانت أمّي، وأقولها لها "أمي" فتطرب أذناها، وتغرورق عيناها، أيُبشر المرء بالولادة في هذا العمر؟ أجل، ومن قبلك أمّنا سارة.

تأتي لي حورية كلّ صباح بالإفطار، قبل أن يرتد إليّ طرفي، أو أقوم من مقامي. 

تعدّ لي الشاي والقهوة قبل أن أشعر بتنميلة رأسي، تطهو لي العشاء ألواناً وأصنافاً قبل أن يقرقر بطني، تُجالسني وهي عمّة أمّي، وزوجها وهو عم أبي، يجالساني كأنما يجالسان طفلهما الذي يضحكان على كلّ توافهه، يعيدان الكرّة من الأوّل. 

لم يكن ينقص المكان إلّا أرجوحة لي، حتى يستعيدا طفولة طفلهما كاملة، وأنا، في هنائي رغم الشقاء الذي يلفّني، كنت أشعر أنني أطارَد حين أكون في الخارج، وما إن أصل بيتهما حتى أخلع عني قلقي، وأنفي ملاحقتي، وأستشعر خلودي إلى قطعة من الزمان والمكان، مستثناةٍ من تلك المهزلة، إلى أن غبتُ عن حورية، وواصلت الركض بين المخابئ والمهارب، حتى عُدتُ بعد شهور من التعب، لأبيت الليلة التي قُبض عليّ فيها عندها، أمسكوا بي أمام عينيها، وقد فشلت الخطط التي أعدتها لي سابقاً، ليبدأ أسري منذ لحظة رأيت عينيها ترمقانني بنظرة مودِّع باكٍ.

بعد فترة السجن، عدت، ثم تغرّبت، تسع سنين، وأنا على العهد مع حورية، أنتظر "يا أمي" التي أقولها لها مباشرةً، وتنتظر "يا ابني" التي تقولها لي من دون حواجز، وبعيداً عن سماعة الهاتف. تسع سنين يا حورية، وأسألك اليوم: "مش لسة بدري؟"، تقولين: "بدري من عمرك يا حبيبي"، وقبل أن أقول "من عمرك أنت"، يأتيني الهاتف، يقول لي: "توفيت... حورية".



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق