رواية «تغريبة معروف الإسكافي» (7)
أ.د. حلمي القاعود
الفصل السابع
استعاد معروف ما حدث له من قبل، وتجلّت في ذاكرته قصة عفريت التوك توك الذي خرج من الجدار في بيت العادلية الخرب عند باب النصر، ونقله في عز المطر والبرد إلى كرمستان. ولكن هذا الكائن الجديد الذي ظهر مع الكنز، بثّ في قلبه الرعب، وزلزل كيانه، حين كشف عن قوته وقدرته والجن المسخرين له. وقد باغته بقوله:"إني سلطانٌ على أعوانٍ من الجان، وعدة قواتي العسكرية اثنتان وسبعون قبيلة، كل قبيلةٍ عدتها اثنتان وسبعون ألفاً، وكل واحدٍ من الألف يحكم ألف ماردٍ، وكل ماردٍ يحكم على ألف عونٍ، وكل عون يحكم على ألف شيطان، وكل شيطان يحكم على ألف جنّي، وكلهم تحت طاعتي ولا يقدرون على مخالفتي، وأنا مرصود لهذا الخاتم المسحور لا أقدر على مخالفة من يمتلكه، وأنت من امتلكه، وصرت أنا خادمك، فاطلب ما شئت، فإني سميعٌ لقولك، مطيعٌ لأمرك، وإذا احتجت إليّ في أي وقتٍ في البر والبحر فادعك الخاتم تجدني عندك، وإياك أن تدعكه مرتين متواليتين فتحرقني بنار الأسماء وتعدمني، وتندم عليّ بعد ذلك وقد عرفتك بحالي والسلام".
- ما اسمك؟
قال بصوت قوي غليظ:
- اسمي أبو السعادات.
فسأله:
- ما اسم هذا المكان يا أبا السعادات؟ ولمن هذه العلبة؟
- يا سيدي هذا المكان كنزٌ يقال له كنز شداد بن عاد الذي عمّر إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وكنت خادمه في حياته، وهذا خاتمه وقد وضعه في كنزه فكان من نصيبك.
فقال معروف متسائلا فيما يشبه القلق:
- هل تقدر أن تخرج ما في هذا الكنز على وجه الأرض؟
- بلى. أخرجه بسهولة!
تشجع معروف وقال:
- أَخْرجْ جميع ما فيه ولا تُبقِ منه شيئاً.
- لقد نقلنا جميع ما في الكنز يا سيدي.
سأله عن الغلمان الحسان، فأجابه:
- هؤلاء أولادي. رأيت أن الأمر بسيط لا يستحق
أن أجمع الأعوان، فاكتفيت بهم ليقوموا بالمطلوب،
ويتشرفوا بخدمتك.
- أيمكنك أن تحضر أحمالا من نفيس القماش؟
- أتريده قماشاً مصرياً أو شامياً أو عجمياً أو هندياً؟
قال معروف:
- هات من قماش كل بلدةٍ مائة حملٍ على مائة بغلٍ.
- أعطني مهلةً يا سيدي حتى أرتّب أعواني ليأتوا بما تريد.
- ما قدر هذه المهلة؟
- مدة سواد الليل ومع مطلع النهار تجد عندك ما طلبت.
قبل أن ينصرف أبو السعادات أمر أعوانه فنصبوا خيمةً لمعروف، وجاءوا له بسماطٍ، وعين له حرسا من أولاده في صورة المماليك لحمايته وخدمته. وبعد قليل أقبل الفلاح وهو يحمل قصعة عدسٍ كبيرةً ومخلاةً ممتلئةُ شعيراً فرأى الخيمة منصوبة في حقله، والمماليك يقفون وأيديهم على صدورهم، فظن أن السلطان قد أتى ونزل بأرضه. وقف مندهشا وقال في نفسه: "ليتني كنت ذبحت دجاجتين وحمّرتهما بالسمن البلدي من أجل عظمة السلطان". وفكر في الرجوع ليفعل ذلك. وعندما همّ رآه معروف فنادي عليه وأمر المماليك أن يساعدوه ويحملوا عنه ما معه. حضر الفلاح ووُضعتْ قصعة العدس والمخلاة أمام معروف. فسأله:
- ما هذا؟
- هذا غذاؤك وعليق حصانك. لا تؤاخذني فما
كنت أظن أن السلطان يأتي إلى هذا المكان ولو علمت
بذلك كنت ذبحت له دجاجتين وضيفته ضيافةً لائقة،
- إن السلطان لم يأت وإنما أنا صهره. وكنت على
خلاف معه فأرسل مماليكه ليصالحوني، وأستعد الآن
للرجوع إليه. إني اشكرك على هذه الضيافة الكريمة
على غير معرفة.
ثم أمر بوضع قصعة العدس في وسط السماط وأكل
منها مع الفلاح حتى شبعا، وأذن للمماليك فنزلوا على
بقية السماط وتناولوا طعامهم، ولما فرغت القصعة
ملأها ذهبا وقال له: "أوصلها إلى منزلك وتعال عندي
في المدينة وأنا أكرمك".
لم يصدق الفلاح نفسه، ولم يتصور أن هذا العابر
الجائع على ظهر حصانٍ متعبٍ، سيمنحه قصعة ذهب
لا تقدر بثمن.
فقال له تعبيرا عما يجيش في صدره:
- إني أشكرك يا سيدي. فما قدمت إليك شيئا يليق
بك، وأظنني لا أستحق هذه الهدية الثمينة.
- بل تستحقها يا رجل، فاللقمة التي تمسك الرمق
تساوي كنوز الأرض كلها.
- لقد أديت الواجب الذي تفرضه المروءة يا سيدي.
- إنك رجل طيب ومخلص، وتستحق كل خير.
- بارك الله فيك يا سيدي، وفتح طريقك.
وحمل القصعة المملوءة بالذهب ومضى مع الثورين
إلى بيته، وهو يدعو للرجل الذي لا يعرفه، ويتمتم
بقوله تعالى:
"وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ".
كانت السماء صافية والنجوم تتلألأ، والهواء عليلاً،
ونهايات الصيف والشهر العربي تعبر عن هدوء،
واعتدال وظهور القمر مكتملا مضيئا، وسكون الليل
يفيض على الكون جلالا ومهابة، ويحرك النفوس
والقلوب، ويشعل قرائح الشعراء الموهوبين لو كانوا
من الساهرين، وبات معروف ليلته داخل الخيمة
الفخمة في أنسٍ روحي وصفاءٍ نفسي، وهو يشعر أن
الحياة كتبت له من جديد. واسترد كثيرا من الأمن
والأمل، كم كان الموت قريبا منه، ولكنه نجا بفضل
الله، لم يكن شريرا ولا لصا ولا غدارا.. كانت غايته
في الحياة أن يعيش راضيا قانعا بما قسم الله، وأن يجد
الرفيق الذي يؤنسه ويجد لديه الصدر الحنون الذي
يتسع له، ويعثر عنده على الراحة من عناء الدنيا
ومتاعبها، ولكن العرّة، لم ترفق به ولم تسانده.
كانت نار الله الموقدة التي تحرق قلبه وروحه، وتنغص
عليه وجوده في غدوه ورواحه، وصحوه ومنامه، لم
تمنحه لحظة تفاهم ومودة، كانت أنانيتها أكبر من كل
عقل وفضائحها أثقل من كل احتمال.
سمع شيخ الإسلام في المسجد يردد كلاما لأحد
الصالحين ويكرره في معظم خطبه حتى حفظه:
"لا تنقل قدميك إلا حيث ترجو ثواب الله، ولا تجلس إلا
حيث تأمن من معصية الله، ولا تصاحب إلا من
تستعين به على طاعة الله، ولا تصطف لنفسك إلا من
تزداد به يقينا، وقليل ما هم ".
ولكن العرّة لم تُعِنه على الطاعة ولا زيادة اليقين بل
سوّدت أيامه. إنه لم يرتكب معصية ولم يقصر في
عمل الخير إذا استطاع إلى ذلك سبيلا.
لقد تمكنت بمكايدتها أن تدفعه إلى الهرب بجلده بعد أن
ضاق صدره، وعرّضته للوقوف أمام القضاة متهما
وهو بريء، وقسوة أب طبق الرهيب، حتى كاد أن
يغرق في دوامة من السوء لا خروج منها، وفضّل أن
ينفد بجلده قبل الوقوع فيها، كانت العرة بالنسبة له
عقلا أصمّ، ووجدانا جافّا، وقلبا ميتًا، ولسانا زفرا،
ويدا لا تعمل. لقد أدركنه رحمة الله، وأنقذته من
براثنها، ومن تصرفاتها الرعناء، أما كذبه أو فشره
الذي حرضه عليه صاحبه عليّ، وكاد يعرّضه لدفع
حياته ثمنا للكذب، فقد تاب الله عليه ومنحه فرصة
جديدة ليكون رجلا صالحا، يقول الحق ويمضي على
طريق مستقيم..
سوف يرفع رأسه أمام الملك والوزير والتجار، يسدد
ما عليه من ديون، ويرد الجميل إلى صاحب الطفولة
علي، ثم وهو الأهم يثبت جدارته أمام الأميرة زوجه
الحبيبة التي وقفت إلى جانبه ولم تخذله، ولم تبعْه
للوزير الحاقد، وأبيها الغاضب، ولم تفضحه بين
سكان المدينة.
وفكر كيف سيقابل الملك والوزير وابنته. كان يهمه ان
يثبت للملك أنه لم يكن نصابا ولا كذابا، وأنه لم يخدعه
كي يزوّجه ابنته، وأنه رجل يحترم كلمته ووعوده،
ولهذا يريد ان يمهّد لدخوله عليه بالإعلان عن عودته
مع قافلة فخمة ضخمة تحمل مالم يخطر على بال
الملك ووزيره، وتبهر التجار وأهل المدينة بما تحمله
من أقمشة وبضائع ثمينة، ومن أحمال لم يروا مثل
عددها من قبل. أما صاحبه على فلتكن المفاجأة له..
وقرر أن يكتب خطابا إلى الملك يسبق وصول الحملة.
مع تباشير الفجر، سمع صوت العصافير والطيور
والكروان تملأ الفضاء، هل يحلم بما يسمع أو يعيش
الحقيقة؟ كانت خيوط الفجر تملأ الكون، وسمع من
بعيد صوت مؤذن يدعو إلى الصلاة، فاستغفر ربه،
ونهض ليتوضأ ويصلي، ويدعو الله أن يبدأ حياة جديدة هادئة هانئة مع حبيبته التي جعلته يشعر بوجوده
ورجولته، وعوّضه الله بها عن تلك التي لا تُسمّى.
اختتم صلاته بالتسبيح والحمد والشكر متذكرا قوله
تعالى: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي
لَشَدِيدٌ"، ثم اضطجع قليلا في انتظار بدء التحرك مع
شروق الشمس.
فكّر ماذا يقول لزوجه، وأبيها، والوزير..
الأميرة جعلته إنسانا بمعنى الكلمة، بعد أن عرفت
قصته. احترمت صراحته وصدقته، ووقفت إلى
جانبه، وأقنعت أباها أنه رجل يليق بابنته، وابنته تليق
به. نعم الزوجة التي تقف إلى جانب زوجها في
السراء والضراء. لا تأخذ خيره، وتتخلى عنه في
المحن والشدائد. العرّة لم تتحمل أن يأتي لها بكنافة
دون عسل نحل، ورفضت الكنافة ذات العسل الأسود،
مع أنها تعلم أنه استدان ثمن الكنافة والخبز والجبن
والعسل الأسود. ما أبشع الأنانية والصلف. هناك فرق
بين الزوجة التي تقف مع زوجها في كل الأحوال،
وتلك التي لا تفكر فيه ولا تهتم إلا بنفسها وحدها، ولا
تشاركه همومه ومتاعبه، وتقيس الأمور بقدر ما تفيد
منه، أما ما يخصه ويخص الآخرين فلا تأبه به ولا
تعبأ.
اشرقت الشمس الصيفية، وأذن الرحيل، وشاهد معروف سحابة هائلة من الضباب الترابي تحجب الأفق، وبعد قليل علا الغبار وطار وانكشف عن بغال تحمل الأقمشة الثمينة وحولها غلمانٌ وحراس في طليعتهم أبو السعادات راكبا على بغلةٍ مميّزة بوصفه مقدم الحملة، وأمامه محفّة من الذهب الوهّاج مرصعةً بالجواهر والياقوت ومعها أربعة عساكر. توقف الركب، ونزل أبو السعادات من فوق ظهر البغلة وقبّل الأرض، وقال لمعروف:
- أحضرت الأقمشة الثمينة يا سيدي كما أمرت، وهذه المحفة فيها بدلةً لا مثيل لها من ملابس الملوك فتفضل بارتدائها، وأركب على المحفة، واطلب ما تريد.
قال له معروف:
- نظّم أولا طريقة سير الدواب التي تحمل
الجواهر والذهب، وجهز الحرّاس ليكونوا يقظين،
ومستعدين لمواجهة الأخطار، ثم عد إليّ.
- أمرك يا سيدي.
وجلس معروف يكتب بإيجاز خطابا إلى الملك، يبعث
فيه تحياته، ويشرح ظروفه وأحواله. وبعد الكتابة
ختمه بتوقيعه.. وعاد أبو السعادات ينتظر أوامر
معروف، فقال له:
- خذ هذا الكتاب واذهب به على الفور إلى
كرمستان، وادخل على جلالة الملك، ليس في
صورتك هذه، بل في صورة ساع في البلاط. ولا تقل
له من أنت. وسلمه خطابي، ثم ارجع إلينا ونحن في الطريق.
- سمعاً وطاعةً يا سيدي.
وتناول أبو السعادات الخطاب وطار إلى الملك، وعند مدخل الديوان، سمعه يقول:
- إني قلق على صهري معروف أيها الوزير، وأخشى أن يقتله قطاع الطرق!
ثم سكت الملك قليلا، وهتف في أسى:
- ليتني أعرف مكانه لأتبعه بالعساكر وأشدّ من أزره في مواجهة قطاع الطرق. ليته عرفني بمكانه قبل أن يذهب.
بدت الشماتة على محيا الوزير، وانتهز المناسبة
ليسخر من الملك بطريقة يعرفها من وزيره:
- لطف الله تعالى بك يا مولاي. فأنت تعيش في
غفلة كاملة. أحلف بحياتك يا مولاي أن هذا الرجل
ذكي جدا، وعرف كيف يستخدم ذكاءه في النصب
والاحتيال، ثم الهروب خوفا من الفضيحة والعقاب
حين عرف أن أمره سينكشف ويتضح.
ودخل الساعي أبو السعادات، فقبل الأرض بين يدي
الملك ودعا له بدوام العزّ والنعم والبقاء، فقال له
الملك:
- من أنت وما حاجتك؟
- أنا ساعٍ أرسلني إليك التاجر معروف. إنه مقبل
بالحملة وقد أرسل معي كتاباً لعظمتك، وها هو..
فرح الملك وكاد قلبه يطير من الفرح.
وتناول الكتاب وراح يقرأ ما خطه معروف بشوق
ولهفة:
" السلام عليكم يا عمي الملك العزيز.. وبعد:
فقد جئت بالحملة، بعد الانتصار على قطاع الطرق،
وفيها ما يسرّك ويرضيك بإذن الله، وأتمنى أن أسعد
بمقابلتك وأميرتي الغالية.
أطال الله عمرك وأبقاك لنا رمزا للعدل والمروءة والكرم.
ابنكم معروف"
التفت الملك إلى الوزير وقال له:
- سوّد الله وجهك أيها الوزير! تقدح في عِرض
صهري وتجعله كذاباً نصاباً وقد أتى بالحملة! إنك
لحسودٌ حاقد.
أطرق الوزير خزيا وانكسارا، وراح يعلّل أسباب
موقفه، فقال:
- يا ملك الزمان. إن طول غياب الحملة هو الذي
دفعني لهذا الموقف. خفت أن يضيع مال الخزانة
العامة، وحقوق التجار.
فقال الملك:
- لقد أعمت الغيرة والحقد بصرك. لم تفكر في
طريقة تصل بها إلى الحقيقة غير الكراهية
والتحريض. لم تضع احتمالا واحدا لصدق الرجل،
ووصول حملته وتعويضي مع التجار عما أنفقه.
ثم أمر الملك بإقامة الزينات في أرجاء المدينة، وحمل
البُشرى إلى ابنته، وقال لها:
- لك البشارة يا ابنتي. إن زوجك سيأتي بقافلته
عما قريبٍ، وقد أرسل خطابا بذلك وسأخرج مع
العساكر وكبار القوم لاستقباله.
فرحت الأميرة في أعماقها فرحاً عميقاً لعودة زوجها،
ولكنها تعجبت مما تسمع وقالت في نفسها: "إن هذا
لشيءٌ عجيبٌ هل كان يهزأ بي ويسخر مني؟ هل كان
يختبرني حين أعلمني أنه فقيرٌ؟ الحمد لله أنه لم يكن
مثلما وصفه الوزير المتآمر". وذهبت إلى جناحها
لتجهز نفسها لتكون في استقباله.
يتبع...