الأحد، 27 يوليو 2025

السلطة الفلسطينية ونظرية "الضفدع المغلي"

السلطة الفلسطينية ونظرية "الضفدع المغلي"

مدير مركز رؤية للتنمية السياسية


صوّت الكنيست الإسرائيلي قبل أيام- 23 يوليو/ تموز 2025- على فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وأعاد التأكيد على رفضه قيام أي شكل من أشكال الكيانية السياسية الفلسطينية ما بين النهر والبحر.

وتُعتبر هذه المرة الأولى منذ اتفاق أوسلو 1993 التي يُقدِم فيها الكنيست الإسرائيلي على إجراءات ذات طبيعة قانونية لضم أراضٍ من الضفة الغربية، وهو ما يمكن اعتباره إعادة التأكيد على التجاوز الرسمي، وليس فقط العملي، لاتفاقية أوسلو.

لكن هذه الخطوة ليست وحيدة، وإنما تأتي في سياق سياسة طويلة الأمد ومستمرة منذ زمن طويل لتغيير الواقع على الأرض في الضفة الغربية، وقد ازدادت وتيرة هذه الإجراءات عمليًّا مع تولي هذه الحكومة الفاشية المكونة من اليمين واليمين المتطرف الفاشي، سدة الحكم.

ما يحتاج التوقف عنده وتسليط الضوء عليه هو سلوك السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، قيادةً ومؤسسات، تجاه الواقع الذي يفرضه الاحتلال.

هذا السلوك يُذكّر بما يُعرف شعبيًّا بنظرية "الضفدع المغلي"، حيث لا يدرك الضفدع الموجود في إناء الماء، أو يحاول إنكار، التغيير التدريجي الذي يحدث في درجة حرارة الماء الذي يحيط به، إذ يستمر الضفدع في التأقلم مع التغير في درجة الحرارة إلى أن تصل درجة الغليان التي لا يحتملها، مما يؤدي إلى وفاة الضفدع لعجزه عن القفز من الإناء لانهيار قواه؛ بسبب درجة الحرارة العالية. ولو كان قد استشعر خطر ارتفاع درجة الحرارة منذ البداية، لربما قفز من الماء ونجا بنفسه.

ما تسمّيه القيادة الفلسطينية في رام الله "سياسة سحب الذرائع" لا يتجاوز إيهام النفس بإمكانية النجاة عبر التأقلم مع التغيير الذي يحدث باستمرار.

إن سلسلة الإجراءات التي اتخذتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ستُفضي بالضرورة إلى تقويض، ليس فقط الحلّ السياسي وحل الدولتين، بل أيضًا القضاء على السلطة الفلسطينية، والمؤسسات السياسية الفلسطينية التي يعتقد البعض أنها ماتت وقتلها الاحتلال منذ زمن، لكنه لا يريد دفنها، كي يتلهى بها الفلسطينيون وبعض المجتمع الدولي، وليستمروا في خداع الذات.



تعاني القيادة السياسية الفلسطينية، بمستوياتها المختلفة، من جملة من الإشكاليات التي قادت إلى الضعف العام في الدور والأداء، وفي ذات الوقت سهّلت المهمة على حكومة الاحتلال لتطبيق سياساتها الاحتلالية المتطرفة وفرض الوقائع على الأرض.

فالشيخوخة هي السمة الأساسية للمؤسسة السياسية؛ قادتها السياسيون في غالبيتهم في خريف أعمارهم، والمؤسسات لم تُجدد شرعيتها أو تشكيلها منذ عقود طويلة، وبعضها لا تعلم القيادات السياسية وكوادر الفصائل، فضلًا عن الشعب الفلسطيني، عدد أعضائها أو أشخاصهم.

وإذا ما قررت القيادة العليا تغييرًا في موقع قيادي أو استحداث موقع جديد في "النظام السياسي"، يكون بناءً على طلب أطراف خارجية أو على أمل استجلاب دعم مادي من جهة ما، ولا يُعبر بحال عن تطوير أو تغيير حقيقي، فقد ظهر حجم الإملاءات الخارجية جليًّا في أكثر من تغيير في الفترة الأخيرة.

قادت الشيخوخة المؤسساتية والقيادية إلى عجز عن القيام بالحد الأدنى من واجباتها الإدارية والوظيفية، فضلًا عن الواجبات السياسية والوطنية، وصولًا إلى عدم القدرة على تسديد رواتب الموظفين وتقليص الدوام في مؤسسات السلطة إلى الحد الأدنى، وارتباك عام في أداء المؤسسات الوطنية ومؤسسات القطاع الخاص، مما جعل الوضع الإداري والمؤسساتي الفلسطيني على حافة الانهيار الكامل.

ولعل أخطر ما نتج عن هذه الحالة القيادية هو العجز الكبير عن التفاعل مع القضايا الوطنية الكبيرة والملحّة، فلا تكاد تلمح موقفًا جادًّا أو حضورًا للقيادة السياسية تجاه الإبادة الجماعية والتدمير والتجويع الذي يتعرض له قطاع غزة. وممارسات الاحتلال والمستوطنين في الضفة الغربية تؤكد الغياب السياسي والميداني للسلطة ومؤسساتها المختلفة.

ولعل هذا الأداء قد ساهم في تزايد التهميش السياسي الإقليمي والدولي للقيادة الفلسطينية حتى في القضايا المرتبطة بالقضية الفلسطينية وتطوراتها، وقد بات مألوفًا أن يُناقش الملف الفلسطيني في لقاءات إقليمية ودولية بمعزل عن الفلسطينيين.

هذا "الموت السريري" وكل مؤشرات العجز والضعف تأتي في مرحلة غليان في كل أوضاع وملفات القضية الفلسطينية، وسلوك السلطة يعيد التذكير مرة أخرى بالضفدع الذي استقر في الماء المغلي، فكيف يمكن للسلطة وقيادتها ألا تُدرك الطبيعة القاتلة لسياسات الاحتلال وإجراءاته على الأرض؟

من الوقائع الكثيرة التي كان ينبغي أن ترفع درجة حرارة البيئة السياسية الفلسطينية وتشعل الضوء الأحمر، وتدعو إلى البحث عن حلول جذرية وإستراتيجية للواقع القائم، وليس الانتظار إلى حين العجز عن القيام بأي فعل تحت عنوان سحب الذرائع والتعاطي مع الواقع القائم:

  • أولًا: تضخم الاستيطان والزيادة الكبيرة في عدد المستوطنات والبؤر الاستيطانية، حيث بلغت مؤخرًا ما يقارب 180 مستوطنة و215 بؤرة استيطانية مرشحة للتحوّل إلى مستوطنات، والشروع في بناء عشرات آلاف الوحدات السكنية الجديدة، واستمرار مصادرة مساحات كبيرة من الأراضي وشقّ الطرق بأنواعها المختلفة.

يُضاف إلى ذلك الخطط الحكومية لمضاعفة عدد المستوطنين في الضفة، حيث تعمل الحكومة الحالية على توطين مليون مستوطن إضافي، مما قد يرفع عدد المستوطنين خلال سنوات إلى مليونَي مستوطن، ما يعني أنّ عدد المستوطنين الصهاينة والمواطنين الفلسطينيين في الضفة سيكون مُتقاربًا.

  • ثانيًا: سلسلة الإجراءات القانونية والإدارية التي اتخذتها حكومة تل أبيب، والتي تهدف إلى تعزيز السيطرة القانونية على الضفة الغربية، حيث تم إلغاء سلطة الإدارة المدنية على المستوطنات، وإلغاء تصنيف منطقة B ونقل الصلاحيات الإدارية فيها، بالإضافة إلى الأمنية، إلى سلطات الاحتلال.

وتوسيع صلاحيات "المنسق" ليصبح هو الحاكم الفعلي للضفة الغربية ويتواصل معه المواطنون مباشرة في كل شؤونهم، وإلغاء كل إجراءات ومعاملات مسح الأراضي وتصنيفها (الطابو) التي قامت بها السلطة، وتحويل المسؤولية عن هذا الملف إلى حكومة الاحتلال، وغير ذلك الكثير من الإجراءات التي تُعزز حضور الاحتلال المباشر وتُقوّض عمل السلطة الفلسطينية على محدوديته.

  • ثالثًا: حسم النقاش الداخلي الصهيوني تجاه حل الدولتين وفكرة إقامة أي كيان سياسي فلسطيني، وذلك عبر التصويت مرتين في الكنيست: واحدة وبأغلبية ساحقة برفض إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يوليو/ حزيران.

والثانية تُؤكد على "حق الكيان" في فرض سيادته على كامل التراب الفلسطيني بما فيه الضفة الغربية، وتدعو الحكومة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لفرض السيادة عليها، ما يعني انتهاء مقاربة أوسلو السياسية تمامًا، وانتفاء وجود أي طرف إسرائيلي، ذي شأن، يمكن أن يكون شريكًا في مسار سياسي أو تسوية سياسية.

  • رابعًا: الخنق الاقتصادي الذي يُمارسه الاحتلال بحق السلطة، ووضعها في خانة العجز الاقتصادي، إلى الحد الذي لا تستطيع معه أن تلتزم برواتب موظفيها، فضلًا عن القيام بأي مشاريع اقتصادية أو تنموية.

حيث تحتجز إسرائيل ما يعادل 2.7 مليار دولار من أموال السلطة، وتُغرق السوق والمؤسسات المالية بعملة الشيكل دون السماح باستبدالها بعملات أجنبية، مما تسبب في أزمات اقتصادية متعددة الأوجه.

  • خامسًا: تهشيم الصورة الوطنية للسلطة الفلسطينية عبر إرغامها على مجموعة من الخطوات التي يمكن أن تُصنّف أنها غير وطنية، وتحظى برفض الأغلبية العظمى من الشعب الفلسطيني، مثل وقف رواتب الأسرى وأسر الشهداء، والقبول بتغيير المناهج الفلسطينية التي تحتوي على ثوابت ومفاهيم وطنية يرفضها الاحتلال، وتكثيف ما يُعرف بالتنسيق الأمني وملاحقة المقاومين في الضفة، وصولًا إلى العمل الميداني المشترك كما حدث في جنين وطولكرم.

ونظرًا لتزامن كل ذلك مع التراجع الكبير في الدور الوطني بكل تفاصيله للسلطة، وتنامي عجزها أمام غطرسة الاحتلال وجرائمه، فقد أصبحت مكانة السلطة وطنيًّا على المحك.

  • سادسًا: المسّ بالمقدسات والقيم العليا للشعب الفلسطيني. وعلى رأس هذه القيم الإنسان الفلسطيني، حيث أوغل الاحتلال في دماء الفلسطينيين وارتكب خلال العامين المنصرمين إبادة جماعية لا تتوقف حتى اللحظة، ونكّل بعشرات الآلاف منهم في السجون مستخدمًا وسائل قمع وتعذيب لم يعرفها الفلسطيني من قبل.

كما أنه تجاوز كل الحدود في التعاطي مع المقدسات، وبالذات المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي.

  • سابعًا: العمل على تقويض دور الأمم المتحدة في القضية الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص في الأراضي المحتلة، فقد خاض الاحتلال حربًا حقيقية على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، ومارس التضييق على نشاطاتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحاول المسّ بسمعتها المهنية، في محاولة منه، وبمساندة الولايات المتحدة الأميركية، لإنهاء دور الوكالة باعتبارها أداة أممية شاهدة على أحد أهم ملفات القضية الفلسطينية وعنوان عدالتها، ألا وهي قضية اللاجئين.

كما عمد، وفي ذات السياق، إلى تدمير ممنهج للمخيمات ومحاولة تفريغها من سكانها متذرعًا بالمقاومة، فأقدم على تدمير مخيمَي جنين وطولكرم، وشرد عددًا كبيرًا من سكانهما.


كل هذه الإجراءات وغيرها، تجري أمام ناظري العالم دون أن يُحرّك أحد ساكنًا، والأهم أنها تجري أمام أعين السلطة الفلسطينية، وهذا يجعل المراقب يعتقد أن القيادة السياسية الفلسطينية والسلطة الفلسطينية إما أنها تخدع نفسها، وتمني ذاتها بالسلامة المستندة إلى نزع الذرائع والتعايش مع الواقع كما هو، مهما بلغ من السوء، أو أنها لا تُدرك الواقع ولا تعلم ما يدور حولها، وحينها تكون المصيبة أعظم.

لا بد من تحسس حرارة البيئة المحيطة، والتعامل الجاد مع الواقع بما فيه من تعقيد وصعوبات، وبالذات بعد حرب الإبادة على قطاع غزة، والتوجه فورًا إلى مكونات الشعب الفلسطيني المختلفة، السياسية منها والمجتمعية، لصياغة خطة وطنية مسؤولة وجادة تواجه هذا الواقع، وتفتح فرصة أمام الشعب الفلسطيني لمواجهة هذه التحديات موحدًا.

وهو شعب مُجرّب وصاحب مراس وخبرة، ولا يحتاج إلا إلى قيادة مؤمنة وقادرة، ما سيساهم في وقوف من بقي من أشقاء وأصدقاء للشعب الفلسطيني معه وخلفه لمواجهة هذا العدو المتغطرس والفاشي، لأن الانتظار لن ينفع أحدًا ولا يخدم إلا الاحتلال وسياساته.


رسالة من داخل غزة عن معركة ما بعد انتهاء الحرب

 رسالة من داخل غزة عن معركة ما بعد انتهاء الحرب

 رئيس أكاديمية الإدارة والسياسة للدراسات العليا


مع فجر يوم جديد من أيام محرقة غزة، تسللت الشمس من بين سحب الدخان والغبار والنار، حاملة معها ما ظننّاه بصيص أمل يُنير ليل محنتنا العميقة. لكن خلف ذلك الضوء الخافت، ظل الألم والحصار والدمار والقتل مستمرًا بلا هوادة.

أمامي، كانت مئات عناصر العصابات الإجرامية تحاصر الحي، والآليات العسكرية تنتشر في المباني المجاورة التي تحولت إلى نقاط مراقبة وتدمير، في ظل قصف لا يتوقف، يُمطرنا بقذائف تهدم كل ما حولنا.
تحصّنا معًا في أماكن ضيقة، نتلو الأذكار والدعاء، نحاول كبح موجة الرعب التي تعلو مع كل انفجار يهدم عمارة، ليسحق معها أحلامنا وطموحاتنا.

ولم يقتصر الدمار على الحجر فقط، بل تعدّاه إلى إحراق المباني وتحويل المساجد والمدارس إلى مراكز تعذيب وتحقيق، عقب طرد النازحين منها بالقتل والتشريد، مما عمّق شعورنا بالعزلة والظلم.
مع تصاعد القصف والاشتباكات، أصبح منزلنا أنقاضًا تحوَّلت إلى ثكنة تتعرض للقصف من كل الاتجاهات.

نعيش لحظات رعب مستمر وسط ظلام دامس بسبب قطع الكهرباء ومنع المحروقات، فضلًا عن نقص الغذاء، في محاولة لإبادة "الحيوانات البشرية" كما أعلن كبيرهم الذي علّمهم السحر.

من شقوق الركام والخراب، رأيت- أنا وأولادي الذين استشهدوا تباعًا بعد ذلك- نساءً وأطفالًا يخرجون ملوّحين بالرايات البيضاء، بينما كان الرجال، وأحيانًا النساء، يواجهون مصير الإعدام أو الاعتقال. تبعناهم بتردد، رغم الخطر المحدق، في لحظات نادرة أمطرت فيها السماء، وأخفقت طائرات الاستطلاع في اصطياد كل متحرّك.

ومع اتساع رقعة الدمار الممنهج، تحوّل النزوح إلى حالة دائمة. وعندما عدنا إلى ما كانت شقتنا في عمارة سكنية، بدا المشهد كابوسيًا: إبادةً تامة، وركامًا متراكمًا، وأطلالًا بدت وكأنها اجتُثّت بأمواج تسونامي.

غرقنا جميعًا في بحر من الألم والهمّ، وسط صمت عالمي مريب، وانعدام تام لأي موقف فعلي، حتى بدا أن هذه المحنة الأشد في تاريخنا لن تجد سبيلًا إلى النهاية.
من موقع المسؤولية، خضنا مرارًا تجربة إعمار غزة بعد كل عدوان صهيوني، حيث واجهتنا عقبة كبرى تمثلت في منع الاحتلال دخول الأسمنت ومواد البناء الأساسية.


دفعنا ذلك إلى البحث عن حلول بديلة، فكان الركام المنتشر في كل مكان فرصة مؤلمة لكنها بداية جديدة. قمنا بإعادة تدوير أنقاض المنازل المدمرة وتحويلها إلى حجارة بناء باستخدام آلات بسيطة وجهد يدوي، كما عدنا إلى استخدام البناء الطيني (لم يصمد طويلًا مع المطر) في بعض المناطق، مستلهمين من تراثنا المعماري أدوات مقاومة صامدة في وجه الحصار والعدوان.

كانت هذه التجربة مريرة ولا توفر حلًّا شاملًا، لكنها أسست لنهج إعمار بديل لا يعتمد على شروط الاحتلال، بل على إرادة الحياة. ظهرت بذلك بدائل محلية وإبداعية تعتمد على مواد بناء محلية ومعاد تدويرها، وإستراتيجيات بناء مستدامة تقلل الاعتماد على الموارد المحظورة.

وشملت هذه البدائل تقنيات صديقة للبيئة، ومشاريع منخفضة التكلفة تلبي الاحتياجات الإسكانية والمجتمعية، معززة روح المقاومة والابتكار رغم كل العراقيل.

لم تكن معركة الإعمار أقل قسوة من الحرب ذاتها، فهي لم تكن مجرد إعادة بناء ما تهدم من منازل ومرافق، بل مجابهة شاملة لدمار البنية التحتية والنسيج الاجتماعي، وسط حصار خانق يمنع دخول مواد البناء، وتوترات سياسية داخلية تعيق التنسيق وتعرقل المبادرات.

ورغم هذه المعوقات، شهدنا جهودًا محلية ودولية صبورة لترميم المنازل، ومشاريع عربية خففت جزئيًا العبء، ساهمت في خلق فرص عمل وإنعاش محدود للاقتصاد.

ويبقى الأثر الأعمق للإعمار هو أن كل جدار يُعاد بناؤه، وكل مدرسة تُفتتح، تأكيد على حقنا في الحياة ورفضنا للفناء. فأصبح الإعمار فعل مقاومة يتجاوز الحجر إلى إرادة شعبية صلبة وتخطيط مستدام يُصر على الانبعاث من بين الركام.

لكن مع الأسف يومها، تحوّل ملف إعمار غزة إلى ساحة صراع نفوذ بين أطراف عربية ودولية، والسلطة الفلسطينية، ليست بدافع إنساني بحت، بل للاستحواذ على عوائد مالية ضخمة ومكاسب سياسية محتملة.

هذا التنافس أفضى إلى تعقيد الإجراءات، وفرض اشتراطات سياسية، وتباطؤ في التنفيذ، ما ضاعف معاناة الناس وعمّق فجوة الثقة بين السكان والمؤسسات الرسمية والدولية.

الدمار اليوم في غزة ليس كسابقاته؛ إنها إبادة شبه كاملة للحجر، حيث تجاوزت كمية المتفجرات المستخدمة قنابل نووية، مع تدمير ممنهج يشجع المقاولين الصهاينة على هدم المنازل مقابل مكافآت مالية، ما أوجد حالة تنافسية في التخريب تصل إلى حد الإبادة العمرانية.

وقد وثّقت التقارير الأممية ومنظمات حقوق الإنسان حجم الدمار الهائل الذي ناهز 75% من بنيان غزة، مؤكدين أن إعادة الإعمار واجب قانوني يقع على الاحتلال باعتباره المسؤول الأول وفق القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف وقرارات الأمم المتحدة.

ولا بد أن تتم عملية الإعمار خارج إطار الرقابة أو الاشتراطات السياسية التي يفرضها الاحتلال، لضمان العدالة والسرعة وكرامة الفلسطينيين الذين واجهوا حرب إبادة ببسالة وصبر.

في محرقة غزة المستمرة، الإعمار أكثر من بناء منازل أو مرافق؛ هو صمام أمان يحفظ وجود الفلسطينيين على أرضهم ويحول دون تفريغهم القسري. كل منزل يُعاد وكل مدرسة تُصلح يعني استمرار الحياة وتعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، في ظل سياسة الاحتلال التي تستهدف التهجير بالقوة عبر التدمير الممنهج والضغط الاقتصادي.


يُعتبر الإعمار وسيلة عملية لمواجهة هذا المخطط، إذ يحد من موجات النزوح ويعزز فرص البقاء. كما أن بناء المؤسسات التعليمية والصحية يعزز ثقة السكان بمستقبلهم ويدفعهم لرفض التهجير القسري.

في هذا الإطار، يتحول الإعمار إلى إستراتيجية مقاومة حيوية تثبت حق الفلسطينيين في العيش بكرامة على أرضهم.

يمثل إعمار غزة تحديًا متجددًا يعكس عمق المأساة الإنسانية والسياسية؛ فالدمار لا يطال فقط البنية التحتية بل يمتدّ إلى روح الجماعة ومقومات الصمود، حيث أُلحِق ضرر واسع بالمنازل، المستشفيات، المدارس، وشبكات المياه والكهرباء.

ومع كل جولة عدوان، تتفاقم الكارثة مع دمار غير مسبوق وشمولي، مخلفة كارثة إنسانية تمسّ ملايين الفلسطينيين، نصفهم أطفال.

هذه المعركة ليست هندسية أو إنشائية فقط، بل هي صراع متعدد الأبعاد: سياسي، اقتصادي، إنساني، ومجتمعي، يقوم على مقاومة التهجير والتدمير عبر إرادة البناء والتجدد. أصبح الإعمار رمزًا للصمود وتعبيرًا عن الإرادة الجماعية في مواجهة الإبادة البطيئة.

ورغم التحديات، مطلوب أن تظهر غزة مرونة كبيرة بتبني إستراتيجيات متنوعة، تشمل مساعدات إنسانية، مبادرات محلية، ومشاريع بأموال عربية، وغيرها.

ومع ذلك، هناك عقبات هيكلية ستعيق الإعمار، أبرزها استمرار الحصار المتوقع تشديده والذي يقيّد دخول مواد البناء ويشل الحركة التجارية، إلى جانب الانقسام السياسي الفلسطيني الذي يعرقل التنسيق الموحد. على الصعيد الدولي، التمويل محدود ولا يرقى إلى حجم الكارثة، مما يجعل الاستجابة دون المستوى المطلوب.

في ظل هذه الظروف، من الضروري فتح أفق الإبداع نحو إعمار مستدام، عبر استخدام تقنيات صديقة للبيئة ومواد بديلة تقلل الاعتماد على الموارد المحظورة. هذه التحولات تنعكس إيجابيًا على الواقع الاقتصادي والاجتماعي من خلال خلق فرص عمل وتحسين البيئة المعيشية.

إعمار غزة ليس مجرد استجابة إنسانية، بل معركة قانونية وأخلاقية ووجودية تتطلب شراكة دولية جريئة تضع حدًا للتقاعس وتكف يد الاحتلال عن تعطيل الإعمار.

لا يمكن النظر إلى هذا الملف كإجراء تقني معزول، بل كقضية إنسانية نضالية تستدعي حشدًا فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا لتحرير الإعمار من الحسابات السياسية، ومنحه بُعده الحقيقي كحق لشعب يستحق الحياة والكرامة.

إن إعمار غزة هو فعل مقاومة وتجديد لعقد الحياة وسط الموت، ورسالة وطنية تتحدى محاولات السحق والتغييب. مشروع جامع يتطلب إرادة فلسطينية موحدة، إدارة مهنية شفافة، وتكاملًا بين المؤسسات الرسمية، المجتمع المدني، والدول الصديقة، على قاعدة العدالة والكرامة الوطنية. نجاحه مرهون بتكثيف الضغط الدولي على الاحتلال وتحميله المسؤولية القانونية والمالية عن جرائمه.

هذه الوثيقة تمثل إستراتيجية لإعادة إعمار غزة، ترتكز على مبادئ العدالة والكرامة، وتحمل الاحتلال المسؤولية، وتدعو إلى شراكة دولية فاعلة تعيد الحياة لغزة وتؤسس لمرحلة جديدة من التعافي والبناء، تليق بتضحيات أهلها، وتحافظ على جذوة البقاء مشتعلة في وجه آلة الإبادة.

في قلب هذه الأرض التي عانت، وعلى أنقاض مدينة صمدت رغم المحن، ينبثق نور الأمل من بين ركام الدمار. غزة، المدينة التي لم تنكسر رغم كل العواصف، تقف اليوم على مفترق طرق بين الموت والبقاء، بين الخراب والنهضة. طريق إعمار غزة ليس مجرد مشروع بناء حجارة وأسمنت، بل ملحمة تُكتب فيها فصول جديدة من الصمود والعزيمة، وتحكي قصة وطن لا يقبل أن يُمحى من الذاكرة.

هذا الطريق يتطلب أكثر من الإرادة؛ يحتاج رؤية متكاملة تجمع بين العدالة والتنمية، بين التحدي والتخطيط، بين الحقوق والقوة. إنه مسار يستند إلى حقوق مشروعة وأحلام كبيرة لشعب يستحق الحياة والكرامة.



من خلال هذه الرؤية، نرسم خارطة طريق لإحياء غزة، ليس فقط كمدينة تُبنى من جديد، بل كرمز حي للمقاومة وأيقونة للبقاء في وجه محاولات الطمس والتهجير.

معًا، سننطلق على هذا الطريق، مدفوعين بإيمان راسخ بأن إعادة إعمار غزة هي انتصار للإنسانية وتجسيد لإرادة لا تنكسر مهما طال الظلام.

زجاجات الطعام والتضامن العام

 زجاجات الطعام والتضامن العام 


قلم التحرير
«سامحونا يا إخوة، ما في مقدرتنا حاجة نعملها لكم، هذه الزجاجة يمكن تكون سبب نجاتك يوم القيامة، اللهم كما حملت نوحاً في موج كالطود العظيم؛ احمل عنا هذا إلى غزة، اللهم إن البحر جند من جنودك، اللهم يا من شققت البحر لموسى اللهم احمل عناهذا إلى غزة».

هذه كلمات شاب امتلأ قلبه بالحسرة والألم بسبب سياسة الحصار والتجويع لأهل غزة، فما كان منه إلا أن أتى ببعض الأطعمة، ووضعها في زجاجات صغيرة، ووقف أمام البحر، يخاطبه أن يكون وسيلة التوصيل، سائلاً الله تعالى أن ييسر وصولها، وقد نقلت مواقع التواصل هذا الخبر بالصوت والصورة.

ما وراء الزجاجات

في زمنٍ صمتت فيه المنابر، وتخاذلت فيه الأنظمة، وخَفَتَت أصوات كانت تدّعي الدفاع عن المظلومين، ظهرت زجاجات الطعام، لتؤكد أن الأمة لا تزال حية، وأن الشعوب وإن خذلتها حكوماتها، فإنها قادرة على الانتصار بمعاني التضامن والولاء
إن هذه الزجاجات في حقيقتها أعمق من مجرد طعام؛ إنها رمز للمحبة في زمن الحصار، وبيان صامت لكنه قوي، ضد العجز والخذلان، إنها وسيلة تضامن فطري، تعبّر به الفطرة السليمة عن غضبها وولائها، هي رسائلٌ مغلَّفة، تقول لأهل غزة: لستم وحدكم، 
نحن معكم


فهل تصل زجاجات الطعام إلى الهدف الذي أُرْسِلَت

 من أجله؟!


روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ ‌يُسْلِفَهُ ‌أَلْفَ ‌دِينَارٍ فَقَالَ ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ فَقَالَ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا قَالَ فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ قَالَ كَفَى بِاللهِ كَفِيلًا قَالَ صَدَقْتَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلَا فَقُلْتُ كَفَى بِاللهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِكَ وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ.

فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ فَقَالَ وَاللهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ قَالَ هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ قَالَ أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ قَالَ فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا».

إن الله تعالى يؤدي عن فاقد الحيلة حاجته إذا صدق في نيته وبحث عن الوسيلة المستطاعة، وقال ابن حجر العسقلاني: في الحديث فَضْلُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، 
وَأَنَّ مَنْ صَحَّ تَوَكُّلُهُ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِنَصْرِهِ وَعَوْنِهِ.

لماذا ألقى الشاب الزجاجات في البحر؟

إن هذا الشاب تربى على معاني الحديث الشريف الذي سبق

 ذكره، فاتخذ هذه الوسيلة، من منطلق الإيمان بقدرة الله تعالى،

 والقيام بالواجب الذي يعذره أمام الله عز وجل.

ويضاف إلى ذلك أن إعداد الطعام ولو كان قليلاً، من أجل

 إعانة المجاهدين، ولو بفضح المتآمرين، له ثواب عند الله عز

 وجل، ومن ذلك ما يأتي:

1- الجهاد بالمال، قال تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا ‌بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة: 41).

2- تحصيل أجر الجهاد؛ روى البخاري، ومسلم، عَنْ ‌زَيْدِ بْنِ

 خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «‌مَنْ ‌جَهَّزَ

 ‌غَازِيًا فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ فَقَدْ غَزَا».

3- اتقاء النار ولو بشق تمرة؛ روى البخاري، ومسلم، عن

 ‌عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

 يَقُولُ: «اتَّقُوا النَّارَ ‌وَلَوْ ‌بِشِقِّ ‌تَمْرَةٍ».

البُعد السياسي والأخلاقي لزجاجات

 الطعام

إن هذه الزجاجات رسالة إلى أصحاب الضمائر الحية 

أن أفيقوا، فالمجاهدون الذين لم يموتوا تحت قصف سلاح الأعداء، يموتون تحت تهديد الجوع.

إن هذه الزجاجات هي احتجاج عملي على الحصار، 

وتحدٍّ لحالة التبلّد الرسمي تجاه أهل غزة، إنها إدانة لكل من صمت أو ساهم في خنق غزة.

إنها رسالة تحريك للضمير العام، ففي ظل اختطاف 

الإعلام والانحراف الثقافي، تُعيد هذه الزجاجات تذكير الشعوب بأن أبسط فعل نابع من القلب أبلغ من ألف كلمة مزيفة.

إنها رسالة تربوية للأبناء، حيث تؤكد لهم أن الرجولة
مواقف، وأن الزجاجة التي ترسل لغزة أعظم من ألف شعار، وأن التضامن ليس كلمات، وإنما أفعال ولو صغيرة، وأن صاحب الغاية النبيلة لا بد أن يجد وسيلة شريفة.

السبت، 26 يوليو 2025

الجاهل عدو نفسه (ترامب نموذجا)

 الجاهل عدو نفسه (ترامب نموذجا)

جعفر عباس


ما أقلق مرقد ترامب، هو أن أصواتا جهيرة لمناصريه من جماعة "لنجعل أمريكا عظيمة مجددا"، أعلنت عبر مختلف المنابر والمنصات أن إخفاء ترامب ووزيرة العدل لـ"القائمة" أمر مريب، يلقي ظلالا كثيفة من الشك على ترامب نفسه..

جيفري إبستين، رجل أعمال وملياردير أمريكي، كان معروفًا بعلاقاته الواسعة مع عدد من الشخصيات البارزة في الأوساط المالية والسياسية والثقافية. ثم وفي نيسان/ أبريل 2005، فتحت شرطة بالم بيتش بولاية فلوريدا تحقيقًا مع إبستين بعد بلاغ من أحد الآباء حول استدراجه لابنته البالغة من العمر 14 عامًا  إلى الفراش، نظير مبلغ مالي، وتم اعتقاله وتقديمه للمحاكمة، وصدر بحقه حكم بالسجن لعامين، ثم تم الافراج عنه بعد 13 شهرا، بموجب صفقة مع وزارة العدل، تسمح له بمزاولة عمله، مع البقاء تحت الرقابة القضائية، وفيما تلا ذلك من سنوات تقدم 36 من ذوي فتيات قاصرات ببلاغات ضد ابستين، يتهمونه بالاعتداء الجنسي عليهن، وكشفت التحقيقات أن ابستين كان يدير خلية للاتجار بالفتيات القاصرات، اللواتي كان يقدمهن لمجموعة مختارة من "ضيوفه"، وأودع السجن في تموز يوليو 2019، في انتظار جلسة النطق بالحكم عليه، وتم العثور عليه ميتا في السجن بعدها بنحو شهر، وقال تقرير الطب الشرعي، إنه مات منتحرا بشنق نفسه.

مايكل فرانزيسي، وهو رئيس عصابة، كان نزيل نفس السجن الذي كان فيه ابستين، أبلغ الصحفي في قناة نيوز نيشن الأمريكية برايان انتين، أنه قضى سبعة أشهر في الزنزانة التي كان ابستين نزيلها، وأنه لا يمكن لشخص أن ينتحر شنقا في مثل تلك الزنزانة، "فلا شيء في السقف أو الباب أو السرير يجعل شنق النفس ممكنا" حسب قوله، ومن ثم راجت معلومات بأن الرجل مات مخنوقا وليس شنقا، وعزز هذه الفرضية أن ابستين كان خاضعا للرقابة بكاميرات تلفزيون في زنزانته، وعندما أفرجت وزارة العدل الأمريكية عن شريط الفيديو للحظات الأخيرة في حياة ابستين، قبل أيام، كانت هناك فجوة مدتها دقيقتان وأربعون ثانية في الشريط، بالضبط عند "النقطة" التي كان ينبغي أن تكشف عن كيفية موته.

ثم دخل المريب، الذي يكاد يقول: خذوني، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خط القضية، عندما هدد بمقاضاة صحيفة وول ستريت جيرنال، بزعم أنها أشانت سمعته، عندما قالت إنه قدم لابستين بطاقة يهنئه فيها بعيد ميلاده، بها صورة فتاة عارية تماما، ولكنه لم يفعل رغم تمسك الصحيفة بموقفها، وإعلانها أنها لا تمانع في المثول أمام القضاء، لعرض البطاقة موضوع القضية المرتقبة.

ثم كان ما كان من أمر وزيرة العدل بام بوندي، التي كانت قد صرّحت في وقت سابق من هذا العام، بأن لديها "قائمة بعملاء إبستين"، أي شركاءه في جرائم التغرير بالقاصرات، على مكتبها، ولكن ما أن علت أصوات المطالبين بنشر ما يسمى بملفات ابستين، والتي تحوي تلك القائمة، كي يعرف الرأي العام ما إذا كان ترامب مدرجا فيها، حتى أصدرت بوندي مذكرة رسمية تقول فيها إن "مثل هذه القائمة لا وجود لها"، وكما كان متوقعا فقد بادر ترامب إلى الإعراب عن دعمه القوي لبوندي، قائلاً إنها تعاملت مع المسألة بشكل جيد.

تتألف القاعدة الجماهيرية لترامب في معظمها من أنصاف المتعلمين، والمتعصبين المسيحيين، والعنصريين الاستعلائيين، ومثل هذه الفئة، يغرّها المدح ويؤلمها القدح بقوة، ومن ثم فإن وصف ترامب لهم بالضعف والجهل، والانجرار خلف "دعاية" الحزب الديمقراطي- وهي اتهام بالغباء، أحدث شرخا في صفوف الجمهوريين، وبهذا فإن ترامب بنرجسيته المعهودة وجهالته الجهلاء، قلب أقوى مناصريه إلى خصوم، وهكذا يكون الجاهل عدوا لنفسه

ما أقلق مرقد ترامب، هو أن أصواتا جهيرة لمناصريه من جماعة "لنجعل أمريكا عظيمة مجددا"، أعلنت عبر مختلف المنابر والمنصات أن إخفاء ترامب ووزيرة العدل لـ"القائمة" أمر مريب، يلقي ظلالا كثيفة من الشك على ترامب نفسه، فما كان من الأخير إلا أن وصف أنصاره أولئك بـ"الضعفاء"، لتصديقهم ما وصفه بـ"خدعة" الديمقراطيين بشأن جيفري إبستين، الذي سبق أن مول بسخاء حملة ترامب الانتخابية عام 2016، وقال إنه لم يعد يرغب في دعمهم السياسي، ووصفهم ب"أنصاري السابقين الذين لم يتعلموا، ولن يتعلموا الدرس".

وكان رد فعل أنصار ترامب قويا وبليغا، فقد توافدت مجموعات كبيرة منهم الى نقاط مختلف في مختلف الولايات، وأحرقوا قبعات عليها شعار "لنجعل أمريكا عظيمة مجددا"، التي قام ترامب بالترويج لتسويقها لحسابه الخاص. ثم تدافع نواب في الحزب الجمهوري الذي أوصل ترامب الى البيت الأبيض، لمطالبة وزيرة العدل بوندي بنشر ملفات ابستين "لنعرف ما إذا كان ترامب فعلا من زبائن حفلات ابستين الماجنة".

واستشعر ترامب الخطر، وخطل تصريحاته الاستفزازية، وأعلن الخميس الماضي، أنه سيتم نشر ملفات ابستين ،التي سبق أن أعلنت وزيرة العدل بوندي أنها تخلو من أسماء المتواطئين مع ابستين في جرائمه، ولكن لات ساعة مندم، فقد وقع الفأس على الرأس سلفا، وبدأت الهجرات الجماعية بعيدا عن تحالف "لنجعل أمريكا عظيمة مجددا" الذي قدم لترامب شيكا على بياض، ولم يحتج عندما أصدر قراراته الرعناء بالدخول في حرب اقتصادية ضد جميع دول العالم، ولا على مشاركته لإسرائيل في هجومها على إيران، بل صفق لمطالبته بضم كندا وجزيرة غرينلاند إلى الولايات المتحدة، والاستيلاء على قناة بنما.

تتألف القاعدة الجماهيرية لترامب في معظمها من أنصاف المتعلمين، والمتعصبين المسيحيين، والعنصريين الاستعلائيين، ومثل هذه الفئة، يغرّها المدح ويؤلمها القدح بقوة، ومن ثم فإن وصف ترامب لهم بالضعف والجهل، والانجرار خلف "دعاية" الحزب الديمقراطي- وهي اتهام بالغباء، أحدث شرخا في صفوف الجمهوريين، وبهذا فإن ترامب بنرجسيته المعهودة وجهالته الجهلاء، قلب أقوى مناصريه إلى خصوم، وهكذا يكون الجاهل عدوا لنفسه.

تصاعد التوتر بين تركيا وإسرائيل في سوريا

 تصاعد التوتر بين تركيا وإسرائيل في سوريا

صحفي وباحث تركي متخصص في الشأن الإيراني

بدأت عملية دمج القوات الكردية في الدولة السورية باتفاق وُقّع 10 مارس/ آذار 2025، عقب لقاء بين الرئيس السوري أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" مظلوم عبدي.

وجرى اللقاء الثاني بين الشرع وعبدي في العاصمة دمشق بتاريخ 9 يوليو/ تموز، بمشاركة السفير الأميركي في أنقرة والمبعوث الخاص إلى سوريا، توم باراك. وقد جاء هذا اللقاء الثاني بعد أن كان الوفد الكردي قد أعلن في شهر يونيو/ حزيران عن مطلبه بدولة "ديمقراطية ولا مركزية".

وكشفت التصريحات التي أعقبت اللقاء الثاني أن المحادثات بين حكومة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية لم تسفر عن نتائج، وأن العملية لا تتقدم بشكل سليم.

وفي الوقت الذي كانت تمر فيه المفاوضات بين "قسد" وحكومة دمشق بمرحلة صعبة، أثرت الاشتباكات التي اندلعت في مدينة السويداء جنوب سوريا بين المليشيات المسلحة الموالية للزعيم الدرزي حكمت الهجري المدعوم من إسرائيل، والعشائر العربية البدوية، سلبًا على المفاوضات مع الوفد الكردي.

كما أن تدخل إسرائيل لصالح حكمت الهجري في اشتباكات السويداء، وقصفها قوات الجيش السوري ومقر هيئة الأركان العامة في دمشق، قد دفع الجماعات الكردية في شرق الفرات إلى إعادة التفكير في مواقفها.

اللقاء الثاني في دمشق

كانت تركيا تخطط لتنفيذ عملية عسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية فور سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وقد أتمت أنقرة كافة استعداداتها للعملية العسكرية.

وصرح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بأنهم "قبلوا عرض دمشق بضرورة إعطاء فرصة للمفاوضات والدبلوماسية، وبالتالي فإنهم يتابعون من كثب المفاوضات بين دمشق وقسد، لكن في حال عدم التوصل إلى نتائج، فلن يبقى خيار آخر سوى العملية العسكرية".

وقد أظهرت تركيا بوضوح عزمها على عدم القبول بوجود أي كيان مسلح على حدودها غير مندمج في حكومة دمشق.

وقد أرضى الاتفاق الذي تم توقيعه في 10 مارس/ آذار 2025 بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي تركيا. وأعرب هاكان فيدان عن ارتياحهم للاتفاق، مشيرًا إلى أنهم يتابعون من كثب عملية تنفيذه.

بيدَ أن اللقاء الثاني الذي عقد في يوليو/ تموز لم يكن إيجابيًا. فقد أصر مظلوم عبدي خلال اللقاء على إقامة دولة "لامركزية". واعتبرت حكومة دمشق هذا المقترح "محاولة لفرض واقع انفصالي" ورفضته.

وأعلن المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، الذي حضر الاجتماع الثاني، أن الخلاف بين دمشق وقسد بشأن دمج شمال شرق سوريا لا يزال قائمًا.

إن السبب الرئيسي لعدم الخروج بنتيجة إيجابية من اللقاء الثاني في دمشق، هو أن تركيا وسوريا والولايات المتحدة تدافع عن خطة "سوريا موحدة"، بينما تقف "قسد" أقرب إلى الطرح الإسرائيلي الداعي إلى "سوريا مقسمة".

تأثير أحداث السويداء

مما لا شك فيه أن الأزمة في السويداء وتدخل إسرائيل لتعميقها لا يؤثران فقط على جنوب سوريا، بل على سوريا بأكملها.

وتستغل إسرائيل الاشتباكات في السويداء بين الزعيم الدرزي حكمت الهجري المدعوم منها والجماعات المسلحة التابعة له من جهة، والعرب البدو من جهة أخرى، لتنفيذ مشروع "ممر داود"، وتتخذ خطوات لنشر الفوضى في جميع أنحاء سوريا.

إن انسحاب قوات الأمن السورية من السويداء في إطار اتفاق تم بوساطة أميركية بين الحكومة السورية وإسرائيل، قد دفع "قسد" إلى التحرك بما يتعارض مع اتفاق 10 مارس/ آذار.

وبينما كانت الاشتباكات مستمرة في السويداء وإسرائيل تقصف دمشق، تناقلت وسائل الإعلام العالمية أنباء عن استعدادات عسكرية لقوات سوريا الديمقراطية في الرقة.

ورغم أن العلاقة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وقسد مستمرة منذ أكثر من 15 عامًا، فإن "قسد" تفضل الوقوف إلى جانب إسرائيل في الملف السوري. وذلك لأنّ مشروع "ممر داود" الذي تسعى إسرائيل لتنفيذه في سوريا يشمل إقامة حكم ذاتي أو فدرالية في كل من السويداء وشرق الفرات.

وتؤدي أحداث السويداء وتدخلات إسرائيل إلى تأخير دمج قوات سوريا الديمقراطية في الدولة السورية، وتهيئ الأرضية لعودة نشاط العصابات التي تشكلت من بقايا نظام بشار الأسد في المنطقة الساحلية، مما يزعزع الأمن والاستقرار. كما أظهرت أزمة السويداء وجود علاقة وتنسيق قويين بين إسرائيل وحكمت الهجري وقسد.

فقد أجرى وزير الخارجية الإسرائيلي ساعر اتصالًا هاتفيًا مع القيادية البارزة في "قسد" إلهام أحمد في 3 يناير/ كانون الثاني، وأبلغها، بحسب صحيفة "يسرائيل هيوم"، بأن إسرائيل ستقدم الدعم للأكراد.

تركيا في حالة تأهب

تتابع تركيا بصبر عملية دمج "قسد" في الدولة السورية من جهة، وتراقب بحذر الأزمة في السويداء من جهة أخرى. وتعتقد تركيا أن أي وضع سلبي محتمل في السويداء لن يقتصر على المنطقة، بل سيمتد إلى سوريا بأكملها.

وتُقيّم المؤسسات التركية المختصة أن خروج السويداء عن سيطرة حكومة دمشق، وإقامة حكم فدرالي أو شبه فدرالي في جنوب سوريا، سيشكل سابقة للمناطق السورية الأخرى.

وهذا التقييم للمؤسسات التركية المختصة لا يعني فقط أن أي وضع قد ينشأ في منطقة "قسد" على حدود تركيا يُعتبر تهديدًا لأمن تركيا، بل يمكننا أن نستنتج أن أي وضع محتمل في السويداء سيؤثر على مناطق أخرى، وبالتالي سيشكل تهديدًا للأمن القومي التركي.

وكان تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بشأن أحداث السويداء والهجمات الإسرائيلية واضحًا جدًا. حيث شارك فيدان 22 يوليو/ تموز تصور تركيا الجديد لـ"تهديد الأمن القومي" فيما يتعلق بسوريا.

وقال فيدان في تصريحه:

"على أي جماعة ألا تتجه نحو التقسيم. لدينا الكثير لنتحدث عنه عبر الدبلوماسية. كل شيء قابل للنقاش، والمناقشات جارية مع جميع الجماعات والعناصر. لكن إذا تجاوزتم ذلك واتجهتم نحو التقسيم وزعزعة الاستقرار باستخدام العنف، فإننا سنعتبر ذلك تهديدًا مباشرًا لأمننا القومي وسنتدخل. ناقشوا ما شئتم باستثناء التقسيم. قدموا ما لديكم من مطالب. وسنساعدكم قدر استطاعتنا في هذا الشأن، لكن عندما تتجاوزون هذا الحد، فلن نعرض أنفسنا للتهديد".

"أما إسرائيل، فهي تسعى لتخريب كل هذه المبادرات الرامية لتحقيق السلام والاستقرار والأمن في سوريا. هناك حقيقة يجب قولها بوضوح: إسرائيل، التي لا تريد أن ترى دولة مستقرة في محيطها، تهدف إلى تقسيم سوريا".

وصرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أثناء عودته من جمهورية شمال قبرص التركية، في حديث للصحفيين على متن الطائرة الرئاسية، بوضوح تام حول سوريا قائلًا: "إسرائيل تسعى باستمرار لإشعال المنطقة بأكملها. الرئيس السوري أحمد الشرع أظهر موقفًا حازمًا في السويداء وحافظ على السيطرة. نحن مصممون، ولن نترك الشرع وحيدًا في سوريا. لا نريد تقسيم سوريا".

إن تصريحات كل من أردوغان وفيدان تظهر أن تركيا قد غيرت وقوّت وشددت من نهجها تجاه التهديدات التي قد تطال أمنها القومي عبر سوريا.

فبينما كانت تركيا في السابق تعتبر التطورات في شرق الفرات تهديدًا لأمنها القومي، أصبحت الآن تعتبر جميع الأعمال والتحركات الرامية إلى تقسيم سوريا بأكملها تهديدًا لأمنها القومي، وتصرح بوضوح أنها ستتدخل في مثل هذه الحالة.

إن "سياسة الأمن القومي" الجديدة التي طورتها تركيا على خلفية أزمة السويداء ستشكل عائقًا جديًا أمام انخراط "قسد" بسهولة في خطة "ممر داود" الإسرائيلية. كما أن الموقف التركي الجديد في سوريا سيجعل من الصعب على "قسد" تطبيق سياستها المماطلة والمؤجلة لعملية الاندماج في الدولة السورية.

سياسة الولايات المتحدة تجاه الأكراد في سوريا

تتبع الولايات المتحدة سياسة تدعم عملية دمج "قسد" في الدولة السورية، وتُظهر في هذه العملية تعاونًا متناغمًا مع تركيا وحكومة دمشق.

ويدافع السفير الأميركي في تركيا والمبعوث الخاص إلى سوريا، توم باراك، عن ضرورة أن تتحرك "قسد" بشكل أسرع للاندماج في الدولة السورية.

وفي مقابلة مع قناة "سي إن إن ترك" ، قال باراك: "قسد هي وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني. ليس لدينا أي التزام تجاههم بإقامة دولة مستقلة"، مُظهرًا بذلك تبنيه سياسة تركيا التاريخية.

والجدير بالذكر أنه في حين أن تركيا تؤكد أن "قسد" وحزب العمال الكردستاني كيان واحد، وأن "قسد" هي امتداد لحزب العمال الكردستاني في سوريا، فإن الولايات المتحدة، منذ عهد أوباما وحتى اليوم، كانت تعترض دائمًا على هذا الطرح التركي، مؤكدة أنها ترى "قسد" مختلفة عن حزب العمال الكردستاني وأنها أقوى حلفائها.

كما أن توم باراك صرح بوضوح في مؤتمر صحفي عقده الأسبوع الماضي في واشنطن، بأنه لا خيار أمام "قسد" سوى الاتفاق مع دمشق، وأنهم لا يدعمون سوريا مقسمة.

نرى أن تركيا والولايات المتحدة وحكومة دمشق لديها سياسات متقاربة جدًا تجاه سوريا. أما إسرائيل، فلديها ملف سوري مختلف عن الولايات المتحدة، وتتخذ خطوات على الأراضي السورية بنفسها وعبر حلفائها لتحقيق أهدافها.

في هذا الإطار، نرى أن الزعيم الدرزي حكمت الهجري يتبنى سياسة إسرائيل في سوريا، بينما تقف "قسد" أقرب إلى إسرائيل منها إلى أميركا.

في الختام

يُقدَّر أنه لا يوجد طريق بديل أمام قوات سوريا الديمقراطية سوى الاندماج في الدولة السورية، وأن إتمام عملية المفاوضات مع دمشق بسرعة سيؤدي إلى نتائج أفضل بالنسبة لقسد.

ومن الواضح أن تركيا لن تقف صامتة أمام أي تحرك عسكري محتمل من جانب "قسد" في شرق الفرات، سواء كان مرتبطًا بالتطورات في السويداء أو مستقلًا عنها، وستتدخل عسكريًا.

كذلك، يمكن القول إنه في حال تصاعد أزمة السويداء ووصولها إلى نقطة قد تؤدي إلى تقسيم سوريا، فإن تركيا لن تتردد في الاهتمام بالسويداء واستخدام إمكاناتها والتدخل.

من أوراق عالم مارشال هودجسون

  من أوراق عالم مارشال هودجسون

فاتن فاروق عبد المنعم

بأيديهم لا بيدي:

الاستشراق الذي هو دراسة الشرق والإحاطة به من كافة جوانبه خدمة للتنصير والاحتلال وهذان الاثنان اقترنا معا اقترانا أبديا، بمعنى أن مكتوبهم ما كان إلا مع سبق الإصرار والترصد، وشذ عن هذا الفعل قلة قليلة تجردوا للبحث العلمي فقط وتنزهوا عن أغراض أخرى تخدم آخرين جعلوا من المستشرقين بيادق لمآربهم المعلنة والخفية، هذه القلة القليلة رفضت أن تكون من جملة هذه البيادق، فخلدوا أسماءهم براقة أبد الدهر بين الثريا، لا يفتر بريقهم لأن الكتابة لم تكن عن هوى ولم يتخذوا إلههم هواهم، وإنما عكفوا على الوثائق والمخطوطات وبحثوا وفندوا ليخرجوا بنتيجة لا تجافي المنطق الذي احتكموا إليه والحق الأبلج الذي غشى عيونهم فأبوا إلا أن يقفوا على صراطه المستقيم بقلوب مطمئنة.

فلما أطلق المؤرخون الغربيون على عصور سيادة الحضارة الإسلامية بأنها عصور انحطاط، قامت هذه القلة تنافح عما انشغلوا به واشتغلوا عليه، من بين هؤلاء المستشرق والمؤرخ الأمريكي مارشال هودجسون.

صخب الصمت:

اقترن هودجسون بزوجة تشبهه في فكره ومعتقده واتخذا معا منزلا في منطقة ويسكنسون وأطلقا عليه “جمال ستان” بمعنى أرض الجمال واستدعاء مقطع “ستان” من بلاد شرق آسيا الإسلامية ليبوح بفتنتهما بالحضارة الإسلامية فيكونا معا تجسيدا لمعنى الجمال نفسه.

 (هذا في الوقت الذي يقوم من بيننا من هم محسوبين علينا ليتخذ من مقطع “…ستان” أداة للسخرية والتندر إذا انتشر أي مظهر أو سمت إسلامي وهم الكارهون للإسلام والتابعين له لأنهم مكسورون من داخلهم، ينبذون أي مظهر أو شكل أو سمت ديني، فهذا يعد من قبيل الرجعية والتخلف لديهم فيا لها من مفارقة، وهؤلاء نتاج لجهود المستشرقين وتلاميذهم في بلادنا، بينما هودجوسون أبى ألا يخلق أو يشتغل إلا بكل ما هو مقتنع به، فهو ليس رخيص الثمن كي يشتريه ويوجهه من يريد إلى حيث يريد كما الطابور الخامس في بلادنا)

كان هودجسون يأمل أن تخرج الولايات المتحدة من عباءة المشروع الغربي وتسييس مواقفها لتوائمه، غير أن هذا لم يحدث ما سبب له الإحباط، وفي أعقاب حرب 1967 كان مساندا للقضايا العربية وعبر عن غضبه بالقول:

“لا شأن لكم أيها اليهود في بلاد العرب”

وقد انتقد الفكر الغربي بعامة لأنه يجعل من الغرب مركزا للعالم، فهم يرون أن الخط الواصل من الإغريق إلى الرومان ثم عصر النهضة فالتنوير ثم الحداثة بالعمود الفقري للتاريخ، ومن ثم فإن تاريخ بقية الشعوب يعد في الهامش لهذا المتن وهي نظرة استعلائية انتقدها بشدة ووصفها بأنها مشوهة، وهو في ذلك يتوافق مع إدوارد سعيد، وأنور عبد الملك، كما أنه عد جعل أوروبا قارة مقابل قارة آسيا التي تماثل أوروبا أكثر من أربع مرات في الحجم لهو من المركزية الغربية الاستعلائية التي يعانيها الغرب بعامة.

وكان من الفرادة بمكان أن رفض الاستشراق الفيلولوجي:

 وهو إطلاق جملة من الصفات والركائز الثابتة على كل مجتمع من المجتمعات الإسلامية قيد الدراسة، في حين أنه يرى أن لكل جيل شكله المميز والذي به يختلف عن سابقه، وكأنهم يصنعون الأنموذج الذي يرونه في كل مجتمع متجاوزين عوامل الزمن وفعله من ديمومة التغير وعدم الثبات على صور وأشكال بعينها فيسمون بلادنا بسمات ثابتة لا تتغير وهم في ذلك يجافون المنطق، وأنا أراه في ذلك أصدق منهم، ومثل هذا الفعل أودى بالإستشراق نفسه إلى محك عدم المصداقية، ذلك أن المستشرقين في زماننا ينقلون عن السابقين ولا ينتقلون للإقامة في بلادنا والتفاعل والتبادل المعرفي مع جامعاتنا وإنما ينقلون عن السابقين وهم في مكاتبهم.

قام هودجسون بإعادة تموضع الإسلام في التاريخ الإنساني، فلم يجعله في محدودية المكان الذي نشأ فيه اتباعا للمركزية الغربية بعجرفتها، بمعنى أنه لم يتناول حياة العرب بشبه الجزيرة العربية قبل الإسلام فحسب وإنما تناول وضع الامبراطوريات والممالك الكبرى المحيطة به قبل الإسلام وبعده (الساسانية والرومانية والحبشة) وبذلك فإن نظرته أشمل وأعم من الاستعلاء الأوروبي الأجوف، لأن العالم الأرضي متصل متشابك قديما وحديثا ويتأثر بعضه ببعض.

تقاطع هودجسون مع رأي كلا من شبنجلر، وتوينبي اللذين تبنيا منهج أن لكل حضارة عمر وطور طفولي ويافع ثم تشيخ وتنتهي لتصعد أخرى، أما رأي هودجوسون أن العالم كله في حالة تماهي مع بعضه البعض، وفترات الصعود والهبوط ليست إلزاما بموت حضارة ما وولادة أخرى، ثم يتساءل مستشهدا بذلك، كيف تأثرت الحضارة الإسلامية بالثقافة الهيلينية؟

هودجوسون أكثر عقلانية ومنطقية، فالحضارة الإسلامية ورثت الرومانية والبيزنطية وهما ينحدران من الثقافة الهلينية والطبيعي أنها أثرت في الحضارة الإسلامية، فالإسلام جاء ليصحح مفهوم عقائدي لكن لا علاقة له بثقافة البشر المتغيرة بتغير الزمان والمكان طالما لا تتعارض مع نص ديني، (الثقافة هنا تعني أسلوب حياة البشر من فكر وملابس ونوع الطعام ومظاهر الحزن والفرح وكيفية الاحتفال بمناسباتهم الخاصة)

ولكن نظرا لرفضهم للحضارة الإسلامية فهم يرونها “حدث عارض” بينما هم الأصل والعمود الفقري للحضارة الإنسانية بعامة.

أي حضارة تنشأ منعزلة عن مجريات التجارب الإنسانية الأخرى فإنها تولد جنينا مشوها لا يتطور ولا يقدم أي جديد يذكر في منجز المشروع البشري الكبير وهو ما يعنيه هودجسون المتصالح مع نفسه ومع ما لديه من علم حقيقي بركائز قوية، فكل يأتي ليكمل ما ابتدأه آخرون وبهذا تستفيد البشرية جمعاء بكل جديد أيا كان من جاء به.

 وبالطبع كان هودجسون يسبح ضد التيار ورفض أن يتبنى أكاذيبهم متكأ عما لديه من حقائق علمية مدمغة من دراسته للإسلام دين وحضارة على مهل فوصفه بما يليق به وكان الجزاء من جنس العمل وهو إقصائه وتجاهل منجزه نقدا وتحليلا رغم أن مجايليه من زملائه وتلامذته يعدوه من العماليق لولا أنه انحاز للإسلام وهذا في أمريكا النزيهة بطبعها!

فماذا عن بلادنا التي فقدت كل معاني النزاهة؟!!!!!!

قسم هودجوسون منجز المسلمين إلى إسلامي وهو الملتزم بتعاليم الإسلام كدين، وإسلاماتي وهو منجز غير المسلمين في الحضارة الإسلامية أو حتى مسلمين ولكنهم غير ملتزمين بتعاليم الإسلام كدين واستدل على ذلك بوجود أدب إسلامي في الأدب العربي، ولا يعد شعر أبي نواس أدبا إسلاميا وإنما إسلاماتي وهكذا…

كما أنه شرح كيف نشأ المذهب الشيعي وكيف انقسم على نفسه، وفند ووصف المعتزلة والأشاعرة.

توفي هودجوسون عام 1968 وعكفت زوجته على نشر منجزه مدة خمسين عاما بعد وفاته حيث توفيت عام 2017

كنت أود التفاعل مع منجزه على مهل لولا ما تمر به منطقتنا وما يفعله اليهود بها ما جعلني أحجم لأواصل فضح اليهود وخططهم.