الثلاثاء، 4 نوفمبر 2025

التوازن في العقل لإدارة البلاد

 التوازن في العقل لإدارة البلاد

عبد السلام العمري باحث 
في الفكر والثقافة الإسلامية..
ومتخصص في اللغة العربية وآدبها.

المجتمع الذي يغزو أدمغته النشيطة المثمِرة ويحبسهم في السجون والزنزانات والمعتقلات ويعذبهم أشدّ تعذيبا، ثم يعين الجهلة السفلة مسؤولي البلاد، فلا تتوقعوا نمو المجتمع وازدهاره ورقيه في كافة الأصعدة علمياً و ثقافياً واقتصاديا وسياسياً، الذين يعتلون أريكة القادة يجب أن يكونوا مؤهلين و أكفاء ومتخصصين في مناصبهم، مع الأسف الأسيف نعيش مجتمعاً المتخصصون المؤهلون في الزنزانات والسفلة الجهلة على أريكة إدارة البلاد، كثير من الأدمغة النشيطة المتضلعة غادروا البلاد إلى أروبة وأميركا والإمارات وسلطنة عمان وقطر والبحرين………، ثم أناسٌ جهلة يديرون البلاد، المجتمع ينمو و يزدهر ويتطور حينما يديره رجالٌ أكفاءٌ متخصصون، الدراسة العالية هي التي تصنع الرجال وتنمّي البلاد و تضعها في قائمة الدول المتطورة العالمية، العقول النتنة الفاسدة التي تتغذى من مزبلة الأوهام والأكاذيب والتزوير فهي تسوق البلاد إلى شفا حفرة من الاندثار والإبادة والفشل.

اليوم، ما نشهد أن ما تسبب في الفساد والمشاكل والأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في بلدنا هو عدم التوازن في العقل وغياب المديرين الأكفاء والمناسبين في بلادنا. 

إن إدارة البلاد في أيدي أشخاص غير مؤهلين وغير مناسبين، الذين يمتلكون عقولاً بالية ومتعفنة.

إدارة أي دولة تتطلب وجود أشخاص متخصصين وباحثين ذوي معرفة واسعة، يمتلكون العقل والفكر والعلم الواسع. أي مجتمع لا يستفيد من أفراده المؤهلين والمبدعين والمفكرين، ويقمعهم في المجتمع، فإنه حتماً سيواجه مصاعب وأزمات وتحديات متنوعة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والإدارية.

النظام الذي يُدار بناءً على مأساة العنصرية والعقلية الفاسدة والمتعفنة، هو نظام يواجه الفشل.

الاثنين، 3 نوفمبر 2025

في إسرائيل، اغتصاب الأسرى الفلسطينيين أمر مبرر

في إسرائيل، اغتصاب الأسرى الفلسطينيين أمر مبرر

مديرة مكتب فلسطين وإسرائيل في موقع ميدل إيست آي، ومقرها في القدس.

لقد هز تسريب مقطع فيديو يكشف عن انتهاكات مروعة في سدي تيمان البلاد أكثر من الجريمة نفسها

عندما ظهر مقطع فيديو العام الماضي يظهر جنوداً إسرائيليين يغتصبون أسيراً فلسطينياً ، كان الغضب في إسرائيل فورياً - ولكن ليس بسبب الجريمة نفسها.

وبدلاً من ذلك، كان الغضب موجهاً نحو التسريب.

في الأسبوع الماضي، استقالت يفات تومر يروشالمي من منصبها كمحامية للجيش الإسرائيلي بعد أن أكدت تورطها في تسريب لقطات من كاميرات المراقبة من داخل معسكر الاعتقال سيئ السمعة سدي تيمان خلال الحرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل على غزة .

وفي اللقطات المصورة، يمكن رؤية جنود إسرائيليين مدججين بالسلاح وهم يمسكون بسجين فلسطيني معصوب العينين ويقتادونه بعيدًا قبل أن يحيطوه بدروع مكافحة الشغب لإخفاء عملية اغتصابهم الجماعي.

وذكرت بعض التقارير أن الرجل الفلسطيني الذي أعيد إلى غزة منذ ذلك الحين، يعاني من إصابة في فتحة الشرج، وتمزق في الأمعاء، وتلف في الرئة، وكسر في الضلوع.

وبعد ظهور التسريب، وجدت تومر يروشالمي - التي قضت حياتها المهنية بأكملها في الدفاع عن الجيش الإسرائيلي - نفسها مطاردة من قبل السياسيين اليمينيين.

وانتقد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش المحامية، قائلاً إنها تحركت ضد جنود إسرائيليين و"تعاونت في تسريبات واتهامات بالدماء ضد دولة إسرائيل".

في هذه الأثناء، عقد الجنود المتهمون في قضية الاغتصاب مؤتمرا صحفيا، مطالبين بالتعويض عن "الأضرار التي لحقت بصورتهم".

الحساب الأخلاقي


في بلدٍ يفخر باستمرار باحترامه لسيادة القانون، كان ينبغي أن تُثير هذه الحادثة محاسبةً أخلاقية. لكنها كشفت عن مدى عمق نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، وكيف أصبح العنف الجنسي والتعذيب أمرًا طبيعيًا داخل مراكز الاحتجاز الإسرائيلية.

وفي مؤتمر صحفي عقدوه خارج المحكمة العليا، تفاخر الجنود الأربعة المتهمون في قضية الاغتصاب الجماعي بأنهم ما زالوا أحرارًا.

وأعلن الرجال، الذين ارتدوا أقنعة، في محاولة واضحة لتجنب الملاحقة القضائية في المحكمة الجنائية الدولية: "سوف ننتصر".




"لقد حاولتم تحطيمنا، لكنكم نسيتم شيئاً واحداً: نحن القوة 100"، قالوا، في إشارة إلى وحدة مكافحة الإرهاب التابعة لهم.

لم يخجلوا، بل تشجعوا. كانت الرسالة جلية: في إسرائيل، حتى الاغتصاب يُمكن اعتباره بطولةً عندما تكون الضحية فلسطينية.

وفي هذه الأثناء، تضامنت قيادة البلاد مع الجناة.
غمرت وسائل التواصل الاجتماعي دعوات لـ"حرق" و"رجم" المسؤولين الذين يحققون مع الجنود.

رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إدانة هذا الهجوم، بل وصفه بأنه "ربما يكون أخطر هجوم دعائي تتعرض له دولة إسرائيل منذ تأسيسها".

كان اهتمامه منصبا على صورة إسرائيل، وليس على الرجل الذي تعرض للوحشية على الشاشة.

هذا الانقلاب الأخلاقي ليس فشلاً منفرداً. فقد وثّق تقريرٌ حديثٌ صادرٌ عن منظمة بتسيلم الإسرائيلية لحقوق الإنسان، بعنوان "أهلاً بكم في الجحيم"، الانتهاكات الممنهجة التي تعرض لها المعتقلون الفلسطينيون خلال حرب إسرائيل على القطاع.

وصف خمسة وخمسون سجينًا سابقًا تعرضهم للضرب والحرمان من النوم والعنف الجنسي. يتذكر فادي بكر، البالغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، كيف أحرقه الجنود بالسجائر ووضعوا مشابك على أعضائه التناسلية مربوطة بأشياء ثقيلة. ثم تُرك عاريًا في زنزانة شديدة البرودة لمدة يومين، على وقع موسيقى صاخبة.

وأفاد مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بمقتل العشرات من الفلسطينيين في الاحتجاز الإسرائيلي منذ بدء الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
نظام الإفلات من العقاب

ترسم هذه الشهادات صورةً لنظام احتجازٍ يحكمه الإفلات من العقاب. حتى عندما تظهر الأدلة - كما حدث العام الماضي في سجن سدي تيمان، حيث اعتُقل جنودٌ بتهمة الإساءة - يسارع السياسيون إلى الدفاع عن المتهمين.

اقتحم أعضاء من اليمين المتطرف في الكنيست قواعد عسكرية، وهددوا المدعين العامين، واتهموا السلك القانوني في الجيش بـ"خيانة" الأمة.

وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بدعوات "حرق" و"رجم" المسؤولين الذين يحققون مع الجنود.

ومنذ أن شنت إسرائيل هجومها على غزة، أصبح الاعتداء الجنسي وتعذيب الفلسطينيين منتشراً على نطاق واسع في الأراضي المحتلة، كما وثقت الأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان مراراً وتكراراً.

لقد ثبت أن التظاهر بأن الجيش الإسرائيلي هو "جيش أخلاقي" - ناهيك عن كونه "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم" - مجرد محاولة أخرى للعلاقات العامة للتغطية على جرائم إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.

وفي إسرائيل، هز تسريب الفيديو الرأي العام الإسرائيلي أكثر من الجريمة نفسها.

وقد كشفت هذه الأحداث كيف فقدت إسرائيل قدرتها على إثارة الغضب الأخلاقي عندما يكون الضحايا فلسطينيين.


 المصدر: ميدل إيست آي

لستَ سيِّدَ العالم!

 نقطة نظام

لستَ سيِّدَ العالم!

أدهم شرقاوي

حجمُ الأرض بالنسبة إلى الكون لا يزيدُ على حجم قطرة ماء في محيط، ومع هذا فإنّ أحد سكان هذا الكوكب المتخم بالغرور قال يومًا: 
«أنا ربكم الأعلى»!

المهم أنّ هذا الذي زعم أنه الرب الأعلى سقاه ربنا الأعلى من ماء البحر ثم ألقاه على الشاطئ جثة هامدة ليكون لمن خلفه آية..!

وما أكثر الآيات وأقل المعتبرين..!


فما زال هناك أشخاص يحسبون أنهم مركز الكون وعلى الجميع أن يدور في فلكهم، وكي لا تكون منهم، ضع نصب عينك ما يلي:

1 - الطريقة الوحيدة لتحصل على الحُبّ هي أن تقدمه، ولتشعر بالحبّ عليك أن تُشعر الآخرين به، إن من الحماقة أن تحمل سلَّتكَ ومنجلك وتذهب إلى أرضك التي لم تزرع فيها بذرة واحدة ثم تنتظر أن تعود إلى البيت بغلّة وافرة، لتحصد..!

عليكَ أولًا أن تزرع..

2 - الناس يتغيرون دومًا، مقاساتك السابقة عنهم تخصك ولا تخصهم، الخياط الماهر لو فصّل لك ثوبًا ثم جئته بعد شهر لأخذ مقاسك مجددًا، رغم أن مقاسك السابق عنده،

كن خياطًا ماهرًا أيضًا، أنتَ اليوم لست الشخص الذي كنته قبل سنة، فلا تتوقع أن يبقى الآخرون هم أيضًا..!

3 - الوحي الذي نزل من السماء لم يوافق عليه كثيرون من أهل الأرض، هذا وهو وحي، فلا تتوقع أن يصفّق الناس لكل ما تقوله مهما بدا في نظرك صحيحًا، وتذكر أنك ترفض كثيرًا من الأفكار التي هي أيضًا صحيحة في نظر قائليها، فلا تسلب الآخرين حقًا أنتَ ترفض أن تتنازل عن مثله.

4 - الطريق الذي تختار أن تمشيه هو طريقك أنتَ، ولا أحد من قاطني هذا الكوكب مطالب أن يخطو فيه خطوة واحدة عنك، صحيح أنه لا شيء في أن يُحسن المرء الظن بالناس، ولكن إحسان الظن بالآخرين شيء، وإلزامهم أن يكونوا عند حسن ظنك شيء آخر، فلا تتوقع من أحد أن يكون ملاكًا لمجرد أنك افترضت منه أن يكون كذلك، امشِ في طريقك كأنك تعيش على الأرض وحدك.

5 - يقول ابن خلدون: لولا اختلاف الأذواق لفسدت السلع..

أولوياتك قد تكون أمورًا ثانوية عند شخص آخر، تمامًا كما قد تكون أولوياته بالنسبة لك، حياة الآخرين هي ملكهم، ومن حقهم أن يعيشوها بالطريقة التي يرونها، عوّد نفسك أن الاختلاف جزء أساسي من هذه الحياة وليس شيءًا دخيلًا عليها.

6 - البشر أحيانًا لا يفهمون أنفسهم، فلا تستغرب عندما يُساء فهمك..

7 - أن ترى جزءًا واحدًا من الصورة في حين أن للصورة أجزاءً أخرى حتمًا أنتَ لا تراها، فلا تحكم كأنك ترى كل شيء..

عندما كنتُ طفلًا كنت أقول في نفسي: هنيئًا لأبي لا أحد يصدر له الأوامر، بينما يقوم بإصدارها لنا، أما اليوم بعد أن صرتُ أبًا فأقول ما أسهل أن يكون المرء ابنًا، وما أصعب أن يكون أبًا..!

وعندما كنتُ تلميذًا كنت أقول هنيئًا للمعلم، لا يدرس ولا يحفظ ويشرح حصته ويمضي، أما اليوم بعد أن صرتُ معلمًا فأقول هنيئًا للطالب الجالس في مقعده..!

8 - الناس يتفاوتون في عقولهم، ما تراه أنتَ بديهيًا قد يحتاج غيرك وقتًا ليدركه، أنت أيضًا قد تحتاج وقتًا لتدرك ما يدركه الآخرون، وقد لا تدركه، لهذا السبب فإن باولو كويلو هو صاحب رواية الخيميائي وليس أنتَ، وبيل غيتس هو صاحب مايكروسوفت وليس أنتَ!

9 - إذا كنتَ تستطيع فهذا لا يعني أن غيرك يستطيع..

لاعبو كرة القدم يركضون تسعين دقيقة، أنا وأنتَ نلهث بعد ربع ساعة، حتى وإن كنت تركض تسعين دقيقة فإن تسعين بالمائة من سكان الأرض لا يستطيعون فعل هذا..

10 - قلتُ لك في أول نصيحة:

إذا أردت أن تحصل على الحُبّ فعليكَ أن تقدمه، حسنًا، حان الوقت لأقول لك؛ لا تتوقع دومًا أن يعاملك الآخرون كما تعاملهم.

إضاءات منهجية سياسية في التعامل مع التجربة الواعدة في سورية

إضاءات منهجية سياسية في التعامل مع التجربة الواعدة في سورية

الاستقامة والرشد والمسؤولية تستدعي زوايا نظر ثلاثية!

مضر أبو الهيجاء

لن تفلح المعالجات الجزئية والأحادية في إنقاذ التجربة الإسلامية الواعدة في سورية، الأمر الذي يوجب على أهل الشام الكرام الاستفادة من أشكال الإخفاقات في التجارب الفلسطينية والمصرية والعراقية، كما يحمل العلماء والدعاة والقادة مسؤولية أكبر بعد كل ما حصل من حالات جزر في التجارب العربية والإسلامية في العقود الأخيرة.

 

إن نوعية وحجم التحديات التي يواجهها الشعب السوري ودولته الجديدة من جهة، ومن جهة أخرى حجم ونوعية المخاطر القادمة بشكل راجح إلى أرض الشام -وفي ظل الفشل الموجع في المسألة الفلسطينية وضياع وتفكك العراق والمخاطر المرعبة التي تنتظرها مصر بعدما تم إجهاضها كخطوة إبتدائية تسبق إتلافها وتفكيكها- تشير إلى أنه لن ينقذ التجربة الإسلامية في أرض الشام مجرد المعالجات الجزئية مهما امتلكت من صواب وسوية، لاسيما وكثير من التجارب المحيطة بسورية امتلكت حقا وصوابا ثم انتهت إلى فشل وخسران مبين!

 

وسؤال الوقت السوري العربي والإسلامي يقول:

ما هي الزوايا الثلاث التي تتكامل لتحقق شرط النجاة من خلال الجمع بين الإيمان بحقائق عالم الغيب والتعامل القويم مع حقائق عالم الشهادة؟

من المؤكد لدي ومن خلال كل تجاربي الميدانية في الحقل الإسلامي ومجموع إطلاعي وقراءاتي أستطيع القول أن معظم التجارب الإسلامية تفشل -رغم امتلاكها حقا وصوابا ومشروعية- بسبب توقفها عند النظر العميق، وعدم ترافقه مع النظر الواسع -أو العكس- الأمر الذي يبنى عليه تناول وتعامل وسلوك مختل أو قاصر يوجب الهزيمة، كهزيمة الصحابة في أحد والذين خالفوا أمر النبي المبلغ عن ربه من جهة، كما خالفوا أمر النبي القائد المدرك لتضاريس المعركة من جهة أخرى.


شرط التناول لقضايا الشأن العام ثلاثة:


1/ امتلاك نظر عميق وصحيح حول القضية.

 

2/ امتلاك نظر واسع يحيط بكل ما يتصل بالقضية وطبيعة المشاريع المعادية والمتداخلة.

 

3/ التعامل الراشد والمسؤول مع القضية بناء على الجمع بين النظرة العميقة والواسعة، واعتبار التجارب المحيطة والسابقة، الأمر الذي يمكن العلماء والقادة من قراءة راجحة لمآلات كل خيار من الخيارات المطروحة، والإبتعاد عن منهج المغامرة والمقامرة.

 

🖌 إن المسلم المنتمي العاقل الراشد والمسؤول بقدر ما يمتلك فهما عميقا بقدر ما يحدد أهدافه المرحلية والنهائية.

 

🖌 وبقدر ما يمتلك فهما واسعا بقدر ما يحقق جدارا وقائيا يحول دون نفاذ مشاريع شياطين الإنس والخصوم المتربصين.

 

🖌 وبقدر ما يتعامل مع قضاياه بناء على فهمه العميق والواسع بقدر ما يفشل خطط الخصوم في البناء على ثغرات وفجوات وتصدعات الكيان والمنظومة الاسلامية.

 

🖌 فإذا نظرنا مثلا للتجربة الفلسطينية فإننا نعاين عطبا في النظر العميق للقضية الفلسطينية لدى قادتها وروادها الإسلاميين المضحين كما الوطنيين الفدائيين!

 

🖌 وإذا نظرنا للتجربة العراقية نستطيع معاينة عطب في النظر الواسع لدى روادها الشجعان والنافذين!

 

🖌 وأما إذا نظرنا للتجربة المصرية فإننا نعاين تعاملا غير راشد ولا مسؤول من قبل رواد التجربة الإسلامية العريقة في الدعوة والإصلاح!

 

إن فشل التجارب الثلاث وانقلاب حلوها لمرارة وفتحها لعذابات لم يكن نتيجة سوء نية ولا غياب مشروعية، بل عطب في غياب اللقاء بين النظر العميق والنظر الواسع، حيث لم يسعف من آمن بالغيب وأصاب الحقيقة غياب إدراكه لحقائق الواقع ورشد مسؤوليته في التعامل مع مسائل الواقع المرتبطة بحقائق عالم الشهادة وغير القادرة على تجاوز سنن التغيير.

 

مسائل الإختلاف لا توجب التفرق والخلاف بل تستدعي مقاربة دائمة منضبطة السلوك!

 

قدر الله لحكمة أن يكون الإختلاف والخلاف جزء من مسيرة وحياة الأمة، وهو ما يتطلب تقوى وصدقا وعلما وانحيازا وإشفاقا في التعامل معها، وفي ذلك أجر عظيم ومكانة لا يبلغها إلا المصلحون المتجردون الواعون ولأمتهم منحازون.

 

ومن قضايا الخلاف الدائمة في الأمة هي الاختلافات المذهبية الفقهية والعقدية التي تتصل بالفروع، وهو ما تجسد أحد أشكاله حالة الإختلاف في مسائل فروع العقيدة بين مدرسة أهل الحديث ومدرسة أبي الحسن الأشعري رضي الله عنهما -وهما جناحا أهل السنة والجماعة- وبقدر ما تنحصر قضايا الخلاف بين المدرستين في العلماء العالمين بعلوم الشريعة بقدر ما ينضبط إيقاع شعوب الأمة وتتقدم مسيرة النهضة، والعكس بالعكس حيث ينفذ الخصوم عندما تتوسع فجوة الإختلاف وتصبح خلافا مجتمعيا يشق صفوف المصلين في المساجد ثم ينتقل لكل الميادين بين العوام، حيث يصبح كل مغرض وصاحب شهوة أو طالب مجد وساع لنجومية أو حاقد على أخيه أو ساع للنيل من جاره، متمسكا بتشدد بحالة مذهبية بعقلية القطيع الفئوي دون هداية ولا خشوع!

 

إن تثوير الشعب السوري وتذعير الدعاة والعلماء حول الإختلاف في مسائل فروع العقيدة بين المدرسة الأشعرية السائدة والمدرسة السلفية الأصيلة -مدرسة أهل الحديث- أمر غير طبيعي بل هو مفتعل تؤججه مشاريع مغرضة وتتفاعل معه العقول الأحادية والحدية التي لا تملك قدرة على التناول السليم المستوعب لمجموع الزوايا، وهو مدخل فاعل لتدمير سورية.

والسؤال يقول:

هل الأولوية وحقيقة المشكلة تدور في الساحة الشامية حول الخلافات العقدية؟

دون أدنى شك فإن الإشكال الحقيقي الذي عطب السوريين وأخرج سورية عن سكة العمران خلال قرن، لم يكن خلافا مذهبيا حول فروع العقيدة، فمن الناحية الواقعية والموضوعية يمكن توصيف الأزمة الكبرى في تاريخ سورية المعاصر بأنها أزمة سياسية استفادت من ثغرات مجتمعية ووظفتها في سياق التدمير الممنهج للشخصية السورية المتصلة بثقافة الأمة والمبنية على دينها ولغتها وتاريخها.

 

توهم الخلاف العقدي مطلب كاهن معادي!


إن تاريخ سورية وعموم الشام يشهد بحيوية سياسية كبيرة ومتفوقة، الأمر الذي دفع الغرب الصليبي لتنصيب وحش كاسر على السوريين حتى يختطف أرواحهم ويخرس ألسنتهم ويقصيهم عن الفعل السياسي المؤثر في حركة عموم الأمة العربية والإسلامية، لاسيما وأرض الشام تمتلك من مؤهلات الريادة الحضارية عناصر كثيرة، وهي في ذلك مكافئة لمصر والعراق، الأمر الذي يمكن رصده دون عناء في دور تلك الأقاليم الثلاثة في ريادة الحضارة العربية والإسلامية منذ بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

 

إن الغرب الصليبي الأوروبي الكاثوليكي والأمريكي البريطاني البروتستانتي، وكذلك الروسي الأرثوذكسي، يدرك خطورة امتلاك الإرادة السياسية المستقلة لأهل الشام ومصر والعراق، الأمر الذي يحول دونه بكافة الوسائل والأشكال، ابتداءً من تفقير وتجهيل وتجويع الشعوب، وانتهاء بالمعارك والقتل والهدم، ومرورا بإخضاع النظم السياسية القائمة فيها -وهو الحاصل الآن-.


إن محاولة تأجيج الصراع المذهبي العقدي في سورية خطة ووسيلة مجربة وقديمة، حيث تكمن فاعليتها بتصديع المجتمع -خامة البناء والنصر الحقيقية- ومنعه من بناء قوامه المتماسك كشرط لازم للعمران والتغيير والنصر والتمكين، الأمر الذي يجعل تثوير وايقاظ الفتنة المذهبية في سورية مطلبا معاديا تحتاجه جميع مشاريع الخصوم وتجمع على ضرورته للتمكن من بناء فجوات تتسع وتتبلور بين الكتلة الأكبر وأبناء المكون السني الثقافي الواحد والمؤهل لإحداث التغيير والتصدي لمشاريع التدمير.


إن كل ما يقوم به الذراع الغربي المسمى إسرائيل من استفزازات وسرقة شبر وشبرين من الأراضي السورية لا قيمة حقيقية له عند الغرب، بل القيمة الحقيقية هي بانتزاع الوحدة من عقول وقلوب السوريين، وحينها يمكن أن تمنح أمريكا للسوريين مزيدا من الأرض والاستقلالية الفئوية التي تضمن ضياع مستقبل السوريين وتلف سورية.


وبكلمة يمكن القول إن الأزمة الحقيقية في سورية هي أزمة سياسية بامتياز، وهي المسؤولة عن إتلاف حياة السوريين وهدر طاقات سورية طيلة قرن، وإن كل خطاب أو سلوك ينحو لتصوير الأزمة في سورية على أنها مذهبية هو خطاب مشبوه وعقل ملوث وفعل مجرم سيطعن سورية الجديدة في الوجه والظهر.


ومن المهم إدراك فاعلية الثورة السورية المباركة في هدم وتفكيك المنظومة الأمنية والسياسية الأسدية التي رعاها كيسنجر، وقد خضعت أمريكا وعموم الغرب وروسيا لحقيقة الإرادة الثورية بعد صلابة الثوار الأحرار فكان لابد أن تتعامل مع تلك الحقيقة وتحاول تفكيكها من مدخل مذهبي عقدي يضرب الكتلة العربية والإسلامية الأكبر في صناعة واقع أرض الشام، فلم تجد أقرب للتفتيت من أسطورة الصراع العميق بين السلفيين والأشاعرة!


السباق المطلوب في تقويم المسار السياسي وليس الإصطراع حول الأسماء والصفات!

لقد توحدت الحالة السلفية والأشعرية خلف الرئيس أحمد الشرع وحكومته، ورغم كل الملاحظات والفجوات والسقطات حول شخص الرئيس وحكومته إلا أن سلوك التغافل والتعامي -بل والتبرير- جاء انطلاقاً من إدراك متقدم جمع بين النظر العميق والواسع والتعامل مع الأمر بمسؤولية واعية بالواقع الموضوعي ومخاطر المشاريع المعادية.


لم يتحدث أحمد الشرع عن الصفات الخبرية ولا عن نزول الله سبحانه إلى السماء الدنيا، ولكنه ذهب للتفاهم مع أكبر كاهن ومجرم الرئيس الأمريكي ترامب، ثم جالس وحضن وأثنى على بن سلمان وهو يعلم أنه سجن مئات من العلماء المصلحين وأضعف دور الدين في حياة السعوديين وأطلق العنان للشهوات المجاهرة، وكذلك فقد صمت الرئيس وحكومته عمليا تجاه كل اعتداءات إسرائيل وذراعها الدرزي في سورية!


ورغم كل ما سبق من تحديات سياسية انصرف بعض السوريين لتهييج الشعب حول خلافات مذهبية عقدية موهومة .. وهو ما يريده الكاهن المتربص بسورية وأهل الشام الكرام.

 

مضر أبو الهيجاء فلسطين-جنين 1/11/2025

مذبحة الفاشر: حين امتزج دم السودان بالأطماع الإقليمية

 مذبحة الفاشر: حين امتزج دم السودان بالأطماع الإقليمية

 . أسامه عبدالرحيم   


 

يشكّل السودان اليوم ساحة لتنافس استراتيجي خفيّ، حيث تحوّلت خطوط التمويل والصراع إلى شبكة دولية معقّدة من القنوات المالية والسياسية والإعلامية التي تغذّي أطرافًا ميدانية مثل قوات الدعم السريع دون إعلان مباشر.

 

في السودان اليوم، تتقاطع الدماء بالذهب، ويمتزج التمرد بالثروة في مشهد يختزل انهيار الدولة وانكشافها أمام أطماع الداخل والخارج. لم تكن مذبحة الفاشر سوى تتويج لمسار طويل بدأ حين خرج محمد حمدان دقلو "حميدتي" من عباءة الجيش، حاملاً راية الدعم السريع ليصنع لنفسه دولةً داخل الدولة، تحرسها ميليشياته وتغذيها مناجم الذهب في جبل عامر، حيث تتشابك مصالح القوى الإقليمية الساعية وراء الثروات السودانية مع مشروع تقسيم البلاد.

وبينما تُسال الدماء في دارفور، يعود عبد الله حمدوك إلى المشهد، في محاولة لإعادة تدوير المشروع المدني بدعم خارجي يريد واجهة ناعمة لإدارة الخراب. هذا التحالف غير المعلن بين السلاح والمال والسياسة يرسم صورة جديدة للسودان: بلد تُدار حروبه بالوكالة، وتُباع ثرواته في المزاد، وتُكتب حدوده من جديد بأقلام من الخارج.

من حميدتي الذي يملك الذهب والبنادق، إلى حمدوك الذي يملك الغطاء السياسي والقبول الدولي، ومن وراءهما دعمٌ خليجي وغربي متشابك، يتبلور مشهد انقسامٍ مرعبٍ له خمسة وجوه: عسكرة السلطة، وانقسام الجغرافيا، وتهميش الهوية الدينية، واستدعاء شبح الانفصال، وتهديد الأمن القومي المصري والإفريقي.

إن ما يحدث في السودان ليس حربًا أهلية، بل هندسة جيوسياسية متعمدة، تُدار بالدم والذهب معًا.

الدعم السريع: من ذراع أمنية إلى مشروع انفصال ذهبي

تحوّلت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) من ذراعٍ أمنية أنشأها نظام البشير لقمع التمردات والاحتجاجات، إلى جيشٍ متمرّد ينازع الجيش السوداني شرعية الدولة ووحدة القرار العسكري. بدأ التحول حين منحها البشير غطاءً قانونيًا وتنظيميًا مكّنها من بناء هيكل قيادي مستقل، ثم اكتسبت استقلالًا ماليًا عبر السيطرة على مناجم الذهب في جبل عامر وطرق التهريب نحو ليبيا وتشاد، ما أدخلها في شبكة مصالح إقليمية معقّدة، حيث يختلط الذهب بالسياسة، والسلاح بالمال القادم من جهاتٍ تعرف طريقها إلى الموانئ أكثر من الخرائط.

استغل حميدتي سقوط نظام البشير عام 2019 ليثبّت موقعه في المشهد الانتقالي، ثم تحوّل لاحقًا إلى لاعبٍ يسعى لتفكيك الجيش وتأسيس سلطة موازية. ومع الدعم الخارجي غير المعلن، تمكّنت قواته من تمويل حرب طويلة المدى وتجنيد الآلاف، حتى أعلنت في أغسطس 2025 حكومة في نيالا، في خطوة تمثّل تحولها إلى كيانٍ مؤسسي يسعى لشرعية سياسية موازية.

مذبحة الفاشر مثّلت ذروة هذا المسار، إذ كشفت أن الدعم السريع لم يعد مجرد قوةٍ عسكرية، بل أداة لإعادة هندسة دارفور ديمغرافيًا وسياسيًا عبر القتل والتهجير الممنهج، في ظل صمتٍ دولي وتواطؤٍ اقتصادي يلمّع القتلة ويغسل الذهب معًا.

 

لم يعد الصراع في السودان مجرد حرب داخلية، بل منظومة مصالح تمتد من مناجم الذهب إلى العواصم الإقليمية. وكلما ازدهر اقتصاد الحرب، تراجعت فكرة الدولة.

تتجاوز خطورة الظاهرة حدود السودان؛ فوجود جيشين داخل الدولة يهدد بانهيارها الكامل، بينما يشجّع نموذج الميليشيا السيادية على تكرار التجربة في دول أخرى ذات هشاشة داخلية. ومع تمسك حميدتي بمصادر تمويله وارتباطه بشبكات مصالح عابرة للحدود، وهكذا يتحوّل الدعم السريع من أداة أمنية إلى مشروع انفصالٍ جديد، عنوانه السيطرة على الثروة وإعادة رسم الجغرافيا السياسية في قلب إفريقيا.

التدخلات الخفية في السودان:

يشكّل السودان اليوم ساحة لتنافس استراتيجي خفيّ، حيث تحوّلت خطوط التمويل والصراع إلى شبكة دولية معقّدة من القنوات المالية والسياسية والإعلامية التي تغذّي أطرافًا ميدانية مثل قوات الدعم السريع دون إعلان مباشر.

هذه الشبكة تعمل من خلال تصدير الذهب المُستخرج من مناطق النزاع في دارفور وجبل عامر إلى أسواق خارجية عبر مسارات تهريب تمر بدول الجوار، وصولًا إلى وجهات خليجية وآسيوية تشتري الذهب السوداني وتعيد تدوير عائداته لتمويل الحرب.

في موازاة ذلك، تنسج قوى إقليمية ترتيبات سياسية واقتصادية تجعل من السودان ساحة لتصفية الحسابات في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، مستندة إلى مشاريع استثمار زراعي ومعدني تمنحها نفوذًا استراتيجيًا داخل البلاد مقابل دعم ميداني غير معلن. هذه الأطراف لا تحتاج إلى إرسال جيوشها، بل تكتفي بضخ الأموال، وتأمين الغطاء اللوجستي والإعلامي الذي يُحوِّل قوات الدعم السريع إلى أداة سياسية عابرة للحدود.

أما الإعلام، فقد أصبح جزءًا من المعركة، إذ تُدار حملات دعائية عبر منصات إقليمية تُقدّم الميليشيا في صورة القوة البديلة القادرة على فرض الاستقرار، فيما تُستغل شبكات مالية في الخارج لتبييض الأموال وتمويل العمليات الميدانية تحت غطاء التجارة أو التحويلات الإنسانية.

بهذا المعنى، لم يعد الصراع في السودان مجرد حرب داخلية، بل منظومة مصالح تمتد من مناجم الذهب إلى العواصم الإقليمية. وكلما ازدهر اقتصاد الحرب، تراجعت فكرة الدولة. فالتدخلات الخفية وشبكة المصالح العابرة للحدود لا تهدف فقط إلى السيطرة على الموارد، بل إلى إعادة هندسة الجغرافيا السياسية للسودان بما يخدم القوى التي تستثمر في الفوضى وتعيد إنتاجها كل يوم.

مذبحة الفاشر في السودان:

مذبحة الفاشر تمثّل لحظة فاصلة في الحرب السودانية، إذ تجاوزت حدود النزاع على السلطة لتصبح صراعًا وجوديًا يهدد فكرة الدولة ذاتها. بعد حصار طويل، اقتحمت قوات الدعم السريع المدينة، وارتُكبت عمليات قتل جماعي واغتصاب ونهب واعتداءات داخل المستشفيات ومخيمات النزوح، في مشهد يعيد إلى الأذهان أبشع صفحات الحرب الأهلية في رواندا والبوسنة. المذبحة لم تكن عملاً انتقاميًا عابرًا، بل جزءًا من استراتيجية ممنهجة للسيطرة الكاملة على الإقليم عبر ترويع السكان وإفراغ المدينة من سكانها الأصليين.

 

المطلوب اليوم وعي مصري–إفريقي بأن الدفاع عن وحدة السودان ليس تضامنًا سياسيًا فحسب، بل ضرورة وجودية لحماية الأمن القومي المصري والعربي والإفريقي.

تؤكد شهادات الناجين والمنظمات الإنسانية أن ما جرى في الفاشر يُعبّر عن تحول الصراع العسكري، إلى ميدان لإعادة رسم الخريطة الديموغرافية، حيث تتقاطع مصالح الميليشيات مع شبكات تهريب الذهب والسلاح العابرة للحدود التي تغذي الحرب وتمنحها ديمومة اقتصادية.

تداعيات المذبحة لا تقف عند حدود الفاشر، بل تمتد لتكشف عن ضعف السلطة المركزية في الخرطوم، وعجز المجتمع الدولي عن فرض أي مسار للمساءلة أو الردع. ومع تراكم المجازر وتوسع رقعة النزوح.

إن مذبحة الفاشر لم تكن مجرد مأساة إنسانية، بل جرس إنذار عن تفكك السودان سياسيًا واجتماعيًا وجغرافيًا، وعن ولادة واقع جديد تُعاد فيه صياغة الهوية الوطنية بدماء الأبرياء، بينما يقف العالم متفرجًا على آخر مراحل الانهيار.

عودة حمدوك إلى المشهد السوداني:

تشهد الساحة السودانية في الأشهر الأخيرة عودة مثيرة للجدل لرئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك إلى المشهد السياسي، في خطوة يصفها مراقبون بأنها محاولة لإعادة تدوير المشروع المدني تحت غطاء «الانتقال الديمقراطي»، بينما يرى آخرون أنها جزء من ترتيبات دولية تهدف إلى شرعنة واقع الانقسام وتهيئة السودان لمرحلة وصاية سياسية جديدة.

تأتي عودة حمدوك بدعم واضح من دوائر غربية وإفريقية ترى في شخصه واجهة لإدارة الأزمة بعد انكشاف مأساة الحرب بين الجيش والدعم السريع. لكن هذا الدعم لا ينفصل عن مصالح استراتيجية تسعى إلى ضمان نفوذ اقتصادي طويل الأمد في مناطق التعدين والزراعة والموانئ، وتخفيف التنافس العسكري لصالح سلطة مدنية شكلية تخدم ترتيبات التقسيم أكثر مما تخدم فكرة الدولة الوطنية.

القوى المدنية واليسارية التي تصدّرت المشهد من جديد ترفع شعارات الحرية والسلام، لكنها تواجه انتقادات واسعة من الشارع السوداني الذي يعتبرها جزءًا من الأزمة وليست الحل. فقد سبق أن جُرِّبت حكومة حمدوك بين عامي 2019 و2021، وانتهت إلى فشل اقتصادي وسياسي ذريع، مع ارتهان القرار الوطني للمانحين الخارجيين ومراكز التمويل الدولية، ما جعلها فاقدة للقدرة على الإصلاح الحقيقي.

العودة الحالية تُفسَّر كجزء من مشروع لإعادة هندسة السلطة في السودان عبر واجهات مدنية محدودة الصلاحيات، تُستخدم لتمرير تسويات تُبقي على الانقسام بين المركز والهامش وتُطيل أمد الفوضى. وهكذا يتحول شعار «المدنية» إلى أداة لتجميل الوصاية، فيما يبقى الشعب السوداني عالقًا بين فشل العسكر وتدوير النخب، وبين مشاريع الخارج التي تتعامل مع بلاده كساحة نفوذ أكثر منها وطنًا يسعى إلى الاستقرار.

تفكك السودان وأمن مصر القومي:

يشكّل تفكك السودان خطرًا استراتيجيًا مباشرًا على الأمن القومي المصري والإفريقي، إذ لا يمكن فصل استقرار السودان عن استقرار مصر، فالتاريخ والجغرافيا والسياسة والأمن تشكّل في هذا السياق منظومة واحدة. السودان ليس مجرد جار جنوبي، بل هو عمق مصر الاستراتيجي منذ عقود، والدليل أن القاهرة أدركت هذه الحقيقة عمليًا خلال حرب الاستنزاف بعد هزيمة 1967، حين تم نقل الكلية الحربية إلى السودان، كما نُقلت الطائرات العسكرية المصرية إلى العمق السوداني لحمايتها من القصف الإسرائيلي، في تأكيد على وحدة المصير والمجال الأمني بين البلدين.

إن ما يجري اليوم من انقسام في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع يهدد هذه المعادلة التاريخية، ويحوّل الجنوب إلى ساحة مفتوحة أمام النفوذ الأجنبي والمشاريع الإقليمية المتنافسة. ومع تصاعد خطر الانهيار، تتزايد المخاوف من فوضى على الحدود، ومن تهريب السلاح والذهب والبشر نحو الشمال، ما يجعل الحدود الجنوبية لمصر أكثر هشاشة منذ عقود.

أما على صعيد أمن النيل، فإن تفكك السودان يعني تفكك أحد أعمدة التنسيق المائي مع القاهرة، وفتح الباب أمام أطراف أخرىمثل إثيوبيالتوسيع نفوذها على حساب المصالح المصرية. كذلك، فإن ظهور كيانات سياسية جديدة في دارفور أو كردفان قد يعقد الموقف الإقليمي ويُربك توازن القوى في القرن الإفريقي.

الدرس الواضح هو أن أمن السودان هو أمن مصر، وأن السماح بانزلاق السودان نحو التقسيم أو الفوضى لا يهدد فقط الخرطوم، بل يمتد أثره إلى القاهرة والبحر الأحمر والقرن الإفريقي بأسره. المطلوب اليوم وعي مصري–إفريقي بأن الدفاع عن وحدة السودان ليس تضامنًا سياسيًا فحسب، بل ضرورة وجودية لحماية الأمن القومي المصري والعربي والإفريقي.

الخاتمة: 

في الفاشر، حيث كانت الحياة تتشبث بأنفاسها الأخيرة، دخلت ميليشيا الدعم السريع كإعصارٍ من الدم والرماد، يقوده حميدتي بوجهٍ جامدٍ وضميرٍ من حجر. خلال أيامٍ قليلة، تحوّلت المدينة إلى مقبرةٍ مفتوحة، سقط فيها أكثر من خمسة آلاف قتيل، بينهم نساء وأطفال، بعضهم أُحرق أحياءً في البيوت أو المساجد، وبعضهم تُرك تحت الشمس لتأكله الغربان.

كان بين صفوف القتلة غرباء بلكناتٍ لا تشبه لهجة دارفور  مرتزقة جاءوا من تشاد ومالي والنيجر، يقاتلون لا من أجل وطنٍ أو قضية، بل من أجل ذهب جبل عامر وثمنٍ يُدفع بالدولار.

لم تكن الفاشر مدينةً تُقصف، بل روحًا تُصلب على عتبة الجشع. نساء يهربن حفاة عبر الدخان، ورجال يسحبون أبناءهم من تحت الركام، فيما يعلو ضحك المجرمين على أصوات الاستغاثة. في تلك الليلة، ماتت الإنسانية مرتين: مرةً بالرصاص، ومرةً بصمت العالم.