السبت، 30 نوفمبر 2019

ماذا تفعل عصابات المرتزقة الروسية في ليبيا؟


ماذا تفعل عصابات المرتزقة الروسية في ليبيا؟

د.فيصل القاسم

مهمة الروس في ليبيا لا تختلف مطلقاً عن مهمتهم في سوريا
الرهان الروسي على حفتر فاشل لأن الرجل بلغ من العمر عتياً
رغم أن وسائل الإعلام العربية والدولية لا تغطي التغلغل الروسي المتصاعد في ليبيا، إلا أن ذلك لا ينفي أن الروس بدأوا يغزون ليبيا فعلياً كما يؤكد أشرف الشح مستشار المجلس الأعلى للدولة في ليبيا. وقد اعترف الشح على قناة الجزيرة بأن حكومة الوفاق ألقت القبض على عناصر روس تابعين لشركة المرتزقة الروسية سيئة الصيت "فاغنر". وقد اعترفوا بمدى التغلغل والدور الروسي القذر في البلاد. وزادت سمعة هذه الشركة الشيطانية سوءاً قبل أيام عندما قطع مرتزقتها رأس شاب سوري ثم لعبوا كرة قدم، وهو فعل لم يقدم عليه حتى الدواعش. وقد أصبحت "فاغنر" المرادف الروسي لشركة "بلاك ووتر" الأمريكية صاحبة المهمات القذرة. 
لكن بينما الشركة الأمريكية شركة خاصة تستأجرها الدول، فإن الشركة الروسية تتبع للرئيس الروسي مباشرة، أي أنها من صناعة الكرملين نفسه. 
ويبدو أن تلك الشركة بدأت تنشط في ليبيا بشكل رهيب تمهيداً لغزو روسي كامل الأوصاف كما يؤكد الليبيون.

وعلى الرغم بأن الروس يقدمون أنفسهم في كل مكان يتدخلون فيه على أنهم ينظفون الساحات بعد التخريب الأمريكي، ويحاولون الظهور بمظهر المصلح بين الفصائل المتصارعة إن كان في سوريا أو ليبيا أو غيرهما، إلا أنهم في واقع الأمر قوة استعمارية امبريالية صاعدة بدأت تنافس بقية ضباع العالم على احتلال الدول ونهب خيراتها وتحويلها إلى محميات روسية كما فعل بوتين في سوريا.

 وهناك لوحة على مدخل مطار حميميم السوري كتب عليها " لا حدود لروسيا العظمى" وعليها توقيع بوتين نفسه. ولا شك أن مهمة الروس في ليبيا لا تختلف مطلقاً عن مهمتهم في سوريا، فكما استغلوا الكارثة السورية لاحتلال سوريا والهيمنة على ثرواتها، ها هم يخططون للأمر نفسه في ليبيا بمساعدة الجنرال الليبي خليفة حفتر الذي تحول إلى صورة طبق الأصل عن طرطور الشام بشار الأسد، فحفتر مستعد أن يبيع ليبيا والليبيين ويدمر البلد ويقتل العباد مقابل الوصول إلى رئاسة ليبيا تماماً كما فعل نظيره في الشام، فقد باع سوريا للروس والإيرانيين والصينيين مقابل الكرسي.
وقد وجدت موسكو في الجنرال حفتر الشريك الذي يمكن التعويل عليه والذي كانت تفتقده في ليبيا ما بعد القذافي. وتؤكد الزيارتان اللتان قام بهما للعاصمة الروسية في حزيران/ يونيو وتشرين الثاني/نوفمبر 2016، ثم ظهوره على متن حاملة الطائرات أميرال كوزنيتسوف ـ التي كانت تعبر قبالة المياه الليبية في كانون الثاني/يناير 2017ـ الاهتمام الذي يوليه الكرملين لرجل له ميل سياسي عسكري محبب جدا لدى موسكو. 

كما أخذ موقف الكرملين منذ مايو /أيار2016 منحى أكثر نشاطاً حيث قامت روسيا بطبع أحد عشر مليار دينار ليبي لصالح حكومة طبرق مما أثار احتجاجات البنك الليبي المركزي المتواجد بطرابلس حيث تقيم حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها من طرف المجتمع الدولي.

ولا يقتصر التدخل الروسي النشط في ليبيا على مرتزقة فاغنر التي كشف عنها تقرير بلومبرغ بوصول تقريبا 300 مرتزق برئاسة يفغيني بريجوزين، المقرّب من الرئيس الروسي، إلى قاعدة أمامية في ليبيا لدعم قائد مُسمى الجيش الليبي، وإدارة حربه والذي تعثرت قواته في ضواحي العاصمة منذ أبريل 2019، بل تفاقمت مظاهر التوّرط فيما ذكرته صحيفة "ذي تليغراف" البريطانية بتزويد القوّات المهاجمة بالذخائر والقذائف والدبابات والطائرات المسيرة. 

والأخطر بث عناصر مرتبطة بالمخابرات العسكرية الروسية للعمل بإدارة الهجوم من قاعدة الرجمة في شرق ليبيا. وذكرت نيويورك تايمز الأمريكية، في تقرير نشرته في عددها ليوم 5 تشرين الثاني/نوفمبر، أن "نحو 200 مقاتل روسي وصلوا إلى ليبيا خلال الأسابيع الماضية لمساندة (حفتر)، في إطار حملة من جانب الكرملين لتأكيد النفوذ بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا". 

وقد أثبتت الدلائل أن مشاركة مرتزقة "فاغنر" في القتال ضد حكومة الوفاق يتجاوز مسألة تدريب قوات حفتر وتزويدها بأسلحة متوسطة وثقيلة، فهؤلاء المرتزقة أصبحوا يلعبون أدواراً أكبر في قيادة العمليات ضد حكومة الوفاق، وقد أكدت الوفاق عثورَها على وثائق وخطط عسكرية مكتوبة باللغة الروسية بخط اليد، إضافة إلى ظهور صور شخصية وهواتف نقالة وبطاقات ائتمان لمرتزقة من شركة "فاغنر" الأمنية الروسية.
 
ومن أشكال الدعم الروسي المختلفة كذلك لحفتر، دعمه إعلاميًا، إذ دشن مالك "فاغنر" حملة أطلق عليها اسم "الشركة" تنفذ خطة إعلامية للتعامل مع الملف الليبي، تقوم تلك الخطة على الاعتماد على دعاية مدفوعة الأجر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تهدف إلى زيادة شعبية قوات حفتر، وكذلك تقديم خدمات الاستشارات السياسية لحفتر.
ويلعب مرتزقة "فاغنر" كذراع خلفي لروسيا، ويشاركون في القتال وفي تهريب البشر وبيع النفط وتجارة المخدرات والعمل مع التنظيمات الإرهابية، ويشكل هؤلاء خطورة على النفط الليبي والهجرة غير الشرعية وتنامي "داعش" في ليبيا، وقد يكون حفتر وعدهم بالنفط الليبي والموارد الطبيعة واقامة قاعدة عسكرية روسية على الأراضي الليبية.

هل ينجح الغزو الروسي في ليبيا كما نجح في سوريا حتى الآن، أم أن الوضع مختلف في ليبيا، وأن الرهان الروسي على حفتر رهان فاشل، لأن الرجل بلغ من العمر عتيا وشارف على الثمانين من العمر؟ وبالمقابل، لا يمكن للروس تنصيب سيف الإسلام القذافي رئيساً لليبيا، لأن عليه عقوبات دولية. 

ويتساءل الليبيون: هل يجرؤ خليفة حفتر في ليبيا على الاستعانة بالروس وبمرتزقة فاغنر لولا الموافقة الأمريكية؟ وهل روسيا تخوض حروب أمريكا بالوكالة وهي ليست سوى بلطجي مستأجر؟ أم على الليبيين أن يخشوا من الغزو الروسي الذي وصفه مسؤول ليبي بأنه بلا قيم وأن الوحشية الأمريكية على بشاعتها لا تنافس الدب الروسي في الهمجية والبربرية؟.



kasimf@aljazeera.net
عن صحيفة الشرق القطرية

المذكرات بين سيد قطب وطه حسين

المذكرات بين سيد قطب وطه حسين

محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية


طفل من القرية
سيرة ذاتية عذبة.. وهي تزداد عذوبة كلما اقتربت من آخرها
وفيها تصوير متميز للقرية المصرية الصعيدية في العقد الثاني من القرن العشرين، أفراحها وأتراحها وأفكارها ومواسم سرورها وطبقاتها الاجتماعية.. وهي فرصة لأكرر قولا قلتُه كثيرا: أني لا أنصح بقراءة الروايات كي لا يتكون عقل القارئ من مادة خيالية صاغها قلم مؤلف، والبديل الأفضل لهذا هو قراءة المذكرات الشخصية لا سيما مذكرات الأدباء حيث يجتمع في هذا اللون من الكتابة المتعة القصصية مع الواقعية التاريخية..
ومن المهم لفت النظر أن سيد قطب كتب مذكراته وهو في الأربعين من عمره، وقبل أن يتحول إلى الفكر الإسلامي، إذ صدرت هذه المذكرات عام 1946.. كما أنها تناولت نشأته في القرية حتى مغادرتها فلم تتناول حياته في مصر وما فيها من الأفكار والمذاهب والاتجاهات.
ويبدو في هذه المذكرات التأثر الكبير بمذكرات طه حسين (الأيام) من خلال سرد القصة كأنها حديث عن غائب، ولم يخف سيد قطب هذا بل كتب إهداء هذه المذكرات لطه حسين منوها بكتابه “الأيام”، مع أنه كان قد سبق ورد على كتاب طه “مستقبل الثقافة في مصر”.. لكن هناك فرقا يجب التركيز عليه:
إذا تحدثنا عن السلاسة والأسلوب فلا شك عندي أن أسلوب طه حسين ألذ وأمتع وأسلس، ففي أسلوب سيد قطب بعض التركيب والتفلسف والالتفاف حول المعنى..
وأما إذا تحدثنا عن المحتوى والمضمون فالفارق واسع، فطه حسين ساخط على مجتمعه متشوق لمفارقته يكثر من إدانته والسخرية منه وقد كانت حياته مثالا على هذا فقد تحول من الفتى الأزهري إلى الأديب المتفرنس، ومن ابن القرية إلى مثقف السلطة.
وأما سيد قطب فمعدن آخر، إنه الذي يحنو على مجتمعه مهما رفض أفكاره وعادات راسخة فيه، ليس في حديثه إدانة للناس ولا حطا من شأنهم بل تفهما لهم، بل ما هو فوق التفهم من الشفقة والرحمة .. وإن حديثه عن عمال محافظتي قنا وأسوان حين يعملون في أرضهم هو من أكثر ما يؤلم في هذه المذكرات، وقد كانت حياة سيد قطب مثالا على هذا الانتماء العميق لمجتمعه، فهو من قبل أن يتحول إلى الاتجاه الإسلامي ومن بعده ابن بار لهذا الشعب.. ينقد توفيق الحكيم لأنه يكتب بروح الغربي عن أساطير اليونان ولا يكتب بروح المصري الشرقي، ثم هو فيما بعد التحول إلى الإسلام يعد رأسا في الأصالة والتمسك بالدين والشريعة والمنافحة عنها.
وكان سيد قطب -من قبل التحول إلى الفكر الإسلامي وبعده- ابن المجتمع لا ابن السلطة، قاومها منذ مطلع حياته إلى آخرها، شارك صبيا في ثورة 1919 يخطب في أهله محرضا عليها، ثم ينهي حياته بوقفته أمام الجبار الطاغية عبد الناصر الذي خنع له كل الأدباء بمن فيهم العقاد صاحب الصولة والجولة أيام الملكية!
الناس معادن، ومعدن سيد قطب غير معدن طه حسين.. كان معدن سيد قطب أصيلا!

السلطان عبد الحميد الثاني مهندس فكرة الجامعة الإسلامية.. المقومات والأهداف

السلطان عبد الحميد الثاني مهندس فكرة الجامعة الإسلامية.. المقومات والأهداف



د. علي الصلابي 
لم تظهر فكرة الجامعة الإِسلاميَّة في معترك السِّياسة الدَّوليَّة إِلا في عهد السُّلطان عبد الحميد، وبالضَّبط بعد ارتقاء السُّلطان عبد الحميد عرش الدَّولة العثمانيَّة عام 1876م. فبعد أن التقط السُّلطان عبد الحميد أنفاسه، وجرَّد المتأثِّرين بالفكر الأوربيِّ من سلطاتهم، وتولَّى هو قيادة البلاد قيادةً حازمةً؛ اهتمَّ السُّلطان عبد الحميد بفكرة الجامعة الإِسلاميَّة، وقد تكلَّم في مذكَّراته عن ضرورة العمل على تدعيم أواصر الأخوَّة الإِسلاميَّة بين كلِّ مسلمي العالم في الصِّين، والهند، وأواسط أفريقية، وغيرها، وحتَّى إِيران، وفي هذا يقول: (عدم وجود تفاهم مع إِيران أمرٌ جديرٌ بالتَّأسُّف عليه، وإِذا أردنا أن نفوِّت الفرصة على الإِنجليز، وعلى الرُّوس؛ فإِنَّنا نرى فائدة تقارب إِسلامي في هذا الأمر).
وتحدَّث عن علاقة الدَّولة العثمانيَّة بإِنجلترا الَّتي تضع العراقيل أمام الوحدة العثمانيَّة، يقول عبد الحميد الثَّاني: (الإِسلام والمسيحيَّة نظرتان مختلفتان، ولا يمكن الجمع بينهما في حضارةٍ واحدةٍ) لذلك يرى: أنَّ (الإِنجليز قد أفسدوا عقول المصريِّين؛ لأنَّ البعض أصبح يقدِّم القوميَّة على الدِّين. ويظنُّ: أنَّه يمكن مزج حضارة مصر بالحضارة الأوربيَّة، وإِنجلترا تهدف من نشر الفكر القومي في البلاد الإِسلاميَّة إِلى هزِّ عرشي... وأنَّ الفكر القوميَّ قد تقدَّم تقدُّماً ملموساً في مصر. والمثقَّفون المصريُّون أصبحوا من حيث لا يشعرون ألعوبةً في يد الإِنجليز، إِنَّهم بذلك يهزُّون اقتدار الدَّولة الإِسلاميَّة، ويهزُّون معها اعتبار الخلافة).
ويقول عن السِّياسة الإِنجليزيَّة تجاه الخلافة: (قالت صحيفة ستاندرد الإِنكليزيَّة ما نصُّه: (يجب أن تصبح الجزيرة العربيَّة تحت الحماية الإِنجليزيَّة، ويجب على إِنكلترا أن تسيطر على مدن المسلمين المقدَّسة)... إِنَّ إِنجلترا تعمل لهدفين: إِضعاف تأثير الإِسلام، وتقوية نفوذها.. لذلك أراد الإِنجليز أن يكون الخديوي في مصر خليفة للمسلمين، ولكن ليس هناك مسلمٌ صادقٌ واحدٌ يقبل أن يكون الخديوي أميراً للمؤمنين؛ لأنَّه بدأ دراسته في جنيف، وأكملها في فيينا، وتطبَّع بطابع الكفَّار).
وعندما ظهر اقتراح إِنكلترا (لإِعلان الشَّريف حسين أمير مكَّة خليفة للمسلمين) ويعترف السُّلطان عبد الحميد الثَّاني بأنَّه لم يكن لديه الطَّاقة، ولا القوَّة لمحاربة الدُّول الأوربيَّة.. (ولكنَّ الدُّول الكبرى كانت ترتعد من سلاح الخلافة، وخوفهم من الخلافة جعلهم يتَّفقون على إِنهاء الدَّولة العثمانيَّة) ، و(أنَّ الدَّولة العثمانيَّة تضمُّ أجناساً متعدِّدةً من أتراكٍ، وعربٍ، وألبان، وبلغار، ويونانيِّين، وزنوج، وعناصر أخرى، ورغم هذا فوحدة الإِسلام تجعلنا أفراد أسرةٍ واحدةٍ).
ويُعبِّر عبد الحميد الثَّاني عن ثقته في وحدة العالم الإِسلامي بقوله: (يجب تقوية روابطنا ببقيَّة المسلمين في كلِّ مكانٍ، يجب أن نقترب من بعضنا البعض أكثر، وأكثر، فلا أمل في المستقبل إِلا بهذه الوحدة، ووقتها لم يحن بعد؛ لكنَّه سيأتي، سيأتي اليوم الَّذي يتَّحد فيه كلُّ المؤمنين، وينهضون فيه نهضةً واحدةً، ويقومون قومة رجلٍ واحدٍ، وفيه يحطِّمون رقبة الكفَّار).
كانت فكرة الجامعة الإِسلاميَّة في نظر السُّلطان عبد الحميد يمكن بها أن تحقِّق أهدافاً، منها:
ـ مواجهة أعداء الإِسلام المثقَّفين بالثَّقافة الغربيَّة، والَّذين توغَّلوا في المراكز الإِداريَّة، والسِّياسيَّة الحسَّاسة في أجهزة الدُّول الإِسلاميَّة عموماً، وفي أجهزة الدَّولة العثمانيَّة خصوصاً، وإِيقافهم عند حدِّهم، عندما يجدون: أنَّ هناك سدَّاً
إِسلاميَّاً ضخماً، وقويَّاً يقف أمامهم.
ـ محاولة إِيقاف الدُّول الاستعماريَّة الأوربيَّة، وروسيا، عند حدِّها عندما تجد: أنَّ المسلمين قد تكتَّلوا في صفٍّ واحدٍ، وقد فطنوا إِلى أطماعهم الاستعماريَّة، ووقفوا ضدَّها بالوحدة الإِسلاميَّة.
ـ إِثبات أنَّ المسلمين يمكن أن يكونوا قوَّةً سياسيَّةً عسكريَّة، يحسب لها حسابها في مواجهة الغزو الثَّقافي، والفكريِّ، والعقديِّ الرُّوسي، الأوربيِّ النَّصراني.
ـ تأخذ الوحدة الإِسلاميَّة الجديدة دورها في التَّأثير على السِّياسة العالميَّة.
ـ تستعيد الدَّولة العثمانيَّة بوصفها دولة الخلافة قوَّتها، وبذلك يمكن إِعادة تقويتها، وتجهيزها بالأجهزة العلميَّة الحديثة في الميادين كافَّةً، وبذلك تستعيد هيبتها، وتكون درساً تاريخيَّاً. يقول: (إِنَّ العمل على تقوية الكيان السِّياسي، والاجتماعي الإِسلامي، أفضل من إِلقائه أرضاً، وتكوين كيانٍ غريبٍ فكريَّاً، واجتماعيَّاً على نفس الأرض).
ـ إِحياء منصب الخلافة، ليكون أداةً قويَّةً، وليس صوريَّاً كما حدث لفترة، وبذلك لا يكون السُّلطان وحده فقط هو الَّذي يقف في مواجهة أطماع الغرب، وعملائه في الدَّاخل، وإِنَّما هي وحدةٌ شعوريَّةٌ بين شعوب المسلمين جميعاً. يكون هو الرَّمز، والموجِّه، والموحِّد.
وإِلى هذا أشار المؤرِّخ البريطاني (آرنولد توينبي) في قوله: (إِنَّ السُّلطان عبد الحميد، كان يهدف من سياسته الإِسلاميَّة، تجميع مسلمي العالم تحت رايةٍ واحدةٍ، وهذا لا يعني إِلا هجمةً مضادَّةً، يقوم بها المسلمون ضدَّ هجمة العالم الغربيِّ الَّتي استهدفت عالم المسلمين).
ولذلك استخدم السُّلطان عبد الحميد كلَّ الإِمكانيَّات المتاحة في ذلك الوقت من اتِّخاذ الدُّعاة من مختلف جنسيَّات العالم الإسلامي، من العلماء، والمبرِّزين في مجالات السِّياسة، والدُّعاة الَّذين يمكن أن يذهبوا إِلى أرجاء العالم الإِسلامي المختلفة للالتقاء بالشُّعوب الإِسلاميَّة، وفهم ما عندهم، وإِبلاغهم بآراء وتوجيهات السُّلطان الخليفة، ونشر العلوم الإِسلاميَّة، ومراكز الدِّراسات الإِسلاميَّة في الدَّاخل، والخارج، وطبع الكتب الإِسلاميَّة الأساسيَّة، ومحاولة اتِّخاذ اللُّغة العربيَّة لأوَّل مرَّة في تاريخ الدَّولة العثمانيَّة لغةً للدَّولة، أو ما يسمَّى بالتَّعبير المعاصر «تعريب» الدَّولة العثمانيَّة، والعناية بالمساجد، والجوامع من تجديدٍ، وترميمٍ، وبناءِ الجديد منها، والقيام بحملات تبرُّعٍ لإِحياء المساجد في العالم، والاهتمام بالمواصلات لربط أجزاء الدَّولة العثمانيَّة، واستمالة زعماء القبائل العربيَّة، وإِنشاء مدرسة في عاصمة الخلافة لتعليم أولاد رؤساء العشائر، والقبائل، وتدريبهم على الإِدارة، واستمالة شيوخ الطُّرق الصُّوفيَّة، والاستفادة من الصَّحافة الإِسلاميَّة في الدِّعاية للجامعة الإِسلاميَّة، واتِّخاذ بعض الصُّحف وسيلةً للدِّعاية لهذه الجامعة، والعمل على تطوير النَّهضة العلميَّة، والتِّقنيَّة في الدَّولة العثمانيَّة، وتحديث الدَّولة فيما هو ضروريٌّ.
ولقد التفَّت مجموعةٌ من العلماء، ودعاة الأمَّةً الإِسلاميَّة إِلى دعوة الجامعة الإِسلاميَّة من أمثال جمال الدِّين الأفغاني، ومصطفى كامل من مصر، وأبي الهدى الصَّيادي من سورية، وعبد الرَّشيد إِبراهيم من سيبيريا، والحركة السَّنوسيَّة في ليبيا، وغيرها.
جمال الدِّين الأفغاني والسُّلطان عبد الحميد:
أيَّد جمال الدِّين الأفغاني دعوة السُّلطان عبد الحميد إِلى الجامعة الإِسلاميَّة، وقدَّم مشروعاتٍ أكبر بكثير من طموح السُّلطان. ولم يكن السُّلطان يأمل في أكثر من وحدة هدفٍ بين الشُّعوب الإِسلاميَّة، ووحدة حركة بينها، وهي وحدةٌ شعوريَّةٌ عمليَّةٌ، في نفس الوقت، تكون الخلافة فيها ذات هيبةٍ، وقوَّةٍ، لكنَّ الأفغاني عرض على السُّلطان مشروعاً، يرمي إِلى توحيد أهل السُّنَّة مع الشِّيعة، وكانت نظرة السُّلطان عبد الحميد لا ترمي في هذا الصَّدد أكثر من توحيد الحركة السِّياسيَّة بين الفريقين لمواجهة الاستعمار العالمي.
واستفاد السُّلطان عبد الحميد كثيراً من الأفغاني، في الدِّعاية إِلى الجامعة الإِسلاميَّة، رغم الاختلاف بين فكر السُّلطان، وفكر الأفغاني، ومن أسباب الاختلاف:
1 ـ إِيمان الأفغاني بقضيَّة وحدة المسلمين، وتأييده في نفس الوقت للثُّوَّار ضدَّ السُّلطان عبد الحميد من القوميِّين الأتراك، والعثمانيِّين عامَّةً.
2 ـ دعوة الأفغاني لوحدة الشُّعوب الإِسلاميَّة، بحيث تكون كالبنيان الواحد، وبقلبٍ واحدٍ في مواجهة الدُّول الأوربيَّة الرَّامية إِلى تقسيم الدَّولة العثمانيَّة العاملة على انهيارها، وفي نفس الوقت، لم يتعرَّض الأفغاني للاستعمار الفرنسي، ولو بكلمة تنديد. في وقت احتاج فيه السُّلطان عبد الحميد إِلى مقاومة الفرنسيِّين في شمال أفريقية.
3 ـ تنديد جمال الدِّين بالاستعمار الإِنكليزي، في حين يذكر السُّلطان عبد الحميد: أنَّ المخابرات العثمانيَّة، حصلت على خطَّةٍ أعدَّت في وزارة الخارجيَّة الإِنكليزيَّة، واشترك فيها جمال الدِّين الأفغاني، وبلنت الإِنكليزيِّ، وتقضي هذه الخطَّة بإِقصاء الخلافة عن السُّلطان عبد الحميد، وعن العثمانيِّين عموماً. وبلنت هذا سياسيٌّ إِنكليزيٌّ يعمل في وزارة الخارجيَّة الإِنكليزيَّة، ومؤلِّف كتاب «مستقبل الإِسلام» ودعا فيه صراحة إِلى العمل على نزع الخلافة من العثمانيِّين، وتقليدها للعرب. وقد ردَّ مصطفى كامل باشا زعيم الحركة الوطنيَّة في مصر على «بلنت» في كتاب مصطفى كامل باشا المشهور (المسألة الشَّرقيَّة) قائلاً: (وبالجملة، فإنَّ حضرة مؤلِّف كتاب مستقبل الإِسلام يرى ـ وما هو إِلا مترجم عن آمال بني جنسه ـ أنَّ الأليَق بالإِسلام أن ينصِّب إِنكلترا دولة له، بل إِنَّ الخليفة يجب أن يكون إِنكليزيَّاً).
4 ـ رغم الأطماع الرُّوسيَّة، والحروب الرُّوسيَّة ضدَّ الدَّولة العثمانيَّة واقتطاع الرُّوس لأجزاءٍ من الأراضي العثمانيَّة، فقد كان موقف السَّيِّد جمال الدِّين الأفغاني من مبدأ التَّوسُّع الرُّوسي غريباً على مفهوم الجامعة الإِسلاميَّة؛ لأنَّه يعترف بما للرُّوس من مصالح حيويَّة، واستراتيجيَّةً في الهند، تدفعهم لاحتلالها، وأنَّه ليس لدى الأفغاني اعتراضٌ على هذا الاحتلال إِذا حدث، بل ينصح الرُّوس باتِّباع أسلم السُّبل، وأسهلها لتنفيذه، وذلك بأن يستعينوا بدولة فارس، وبلاد الأفغان، لفتح أبواب الهند، شريطة أن تسهمهما في الغنيمة، وتشركهما في المنفعة.
5 ـ الخلاف العقدي الَّذي ظهر بين العلماء في إِستانبول وبين جمال الدِّين الأفغاني، وظهور كتاب الشَّيخ (خليل فوزي الفيليباوي) المُعَنْوَن: (السُّيوف القواطع) للرَّدِّ على عقيدة الأفغاني، وسكوت الأفغاني عن هذا، وعدم دفاعه عن نفسه. والكتاب باللُّغة العربيَّة، ومترجمٌ وقتها إِلى اللُّغة التُّركيَّة.
مالَ السُّلطان عبد الحميد إِلى تركيز كلِّ السُّلطات في يده بعد أن ذاق الأمرَّيْن من وزرائه، وضبَّاط جيشه، وصدوره العظام المتأثِّرين بالفكر الغربيِّ، والَّذين هدفوا إِلى إِقامة ديمقراطيَّة أوربيَّة، تضمُّ مجلساً منتخباً يمثِّل كلَّ شعوب الدَّولة العثمانيَّة، ومعارضة السُّلطان عبد الحميد لهذا بحجَّة: أنَّ عدد النُّوَّاب المسلمين سيكون حوالي نصف العدد الكلِّي للبرلمان. في حين أنَّ جمال الدِّين الأفغاني يميل إِلى الدِّيمقراطيَّة، وعدم تركيز السُّلطات في يد شخصٍ واحدٍ بعينه، ويميل الأفغاني إِلى الحرِّيَّة في التَّعبير عن الرَّأي.
ولقد ذكر السُّلطان عبد الحميد في مذكَّراته بأنَّ جمال الدِّين الأفغاني مهرِّجٌ، وله علاقةٌ بالمخابرات الإِنكليزيَّة: (وقعتْ في يدي خطَّةٌ أعدَّها في وزارة الخارجيَّة الإِنكليزيَّة مهرِّجٌ اسمه: جمال الدِّين الأفغاني، وإِنكليزيٌّ يُدعى: بلنت قالا فيها بإِقصاء الخلافة عن الأتراك. واقترحا على الإِنكليز إِعلان الشَّريف حسين أمير مكَّة خليفةً على المسلمين).
كنت أعرف جمال الدِّين الأفغاني عن قرب. كان في مصر، وكان رجلاً خطيراً، اقترح عليَّ ذات مرَّةٍ ـ وهو يدَّعي المهديَّة ـ أن يثير جميع مسلمي اسيا الوسطى، وكنت أعرف: أنَّه غير قادرٍ على هذا، وكان رجل الإِنكليز، ومن المحتمل جدَّاً أن يكون الإِنكليز قد أعدُّوا هذا الرَّجل لاختباري، فرفضت فوراً، فاتَّحد مع بلنت.استدعيته إِلى إِستانبول عن طريق أبي الهدى الصَّيادي الحلبي، الَّذي كان يلقى الاحترام في كلِّ البلاد العربيَّة.قام بالتَّوسُّط في هذا كلٌّ من: منيف باشا، حامي الأفغان القديم، والأديب الشَّاعر عبد الحق حامد، وجاء جمال الدِّين الأفغاني إِلى إِستانبول، ولم أسمح له مرَّةً أخرى بالخروج منها...).
أمَّا رأي جمال الدِّين الأفغاني في السُّلطان عبد الحميد؛ فإِنَّه يقول: (إِنَّ السُّلطان عبد الحميد لو وزن مع أربعة من نوابغ رجال العصر؛ لرجحهم ذكاءً، ودهاءً، وسياسةً، خصوصاً في تسخير جليسه، ولا عجب إِذا رأيناه يذلِّل لك ما يقام لملكه من الصِّعاب من دول الغرب، ويخرج المناوئ له من حضرته راضياً عنه، وعن سيرته، وسيره، مقتنعاً بحجَّته سواءٌ في ذلك: الملك، والأمير، والوزير، والسَّفير...).
وقال: (ورأيته يعلم دقائق الأمور السِّياسيَّة، ومرامي الدُّول الغربيَّة، وهو معدٌّ لكلِّ هوَّةٍ تطرأ على الملك مخرجاً، وسلماً، وأعظم ما أدهشني ما أعدَّه من خفيِّ الوسائل، وأمضى العوامل، كي لا تتَّفق أوربَّة على عملٍ خطيرٍ في الممالك العثمانيَّة، ويريها عياناً محسوساً أن تجزئة السَّلطنة العثمانيَّة لا يمكن إِلا بخرابٍ يعمُّ الممالك الأوربيَّة بأسرها).
ويقول: (أمَّا ما رأيته من يقظة السُّلطان، ورشده، وحذره، وإِعداده العدَّة اللازمة لإِبطال مكائد أوربَّة، وحسن نواياه، واستعداده للنُّهوض بالدَّولة الَّذي فيه نهضة المسلمين عموماً، فقد دفعني إِلى مدِّ يدي له، فبايعته بالخلافة، والملك عالماً علم اليقين: أنَّ الممالك الإِسلاميَّة في الشَّرق لا تسلم من شراك أوربَّة، ولا من السَّعي وراء إِضعافها، وتجزئتها، وفي الأخير ازدراؤها واحدةً بعد أخرى إلا بيقطةٍ، وانتباهٍ عموميٍّ، وانضواءٍ تحت راية الخليفة الأعظم...).
إِنَّ جمال الدِّين الأفغاني أمره محيِّر، فهناك من يدافع عنه، وهناك من يتَّهمه بالعمالة، والانضمام إِلى المحافل الماسونيَّة، فمثلاً: كتاب «دعوة جمال الدِّين الأفغاني في ميزان الإِسلام» للمؤلِّف مصطفى فوزي عبد اللَّطيف غزال يرى: أنَّه كان من عوامل الهدم في الأمَّة في تاريخها الحديث. أمَّا كتاب «جمال الدِّين الأفغاني المصلح المفترى عليه» للدُّكتور محسن عبد الحميد، فيراه من المصلحين.
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى1424ه، 2003م، ص (337-341).
عبد الحميد الثاني، مذكَّرات السُّلطان عبد الحميد، تقديم د. محمَّد حرب، دار القلم، الطَّبعة الثَّالثة، 1412هـ،1991م.ص (160). ص (148).
محسن عبد الحميد، جمال الدِّين الأفغاني المصلح المفترى عليه، مؤسَّسة الرِّسالة، الطَّبعة الأولى 1403هـ/1983م. ص(137).
أحمد عبد الرحيم مصطفى، في أصول التَّاريخ العثماني،دار الشُّروق، الطَّبعة الثَّانية، ـ 1406هـ. 1986م ص (234).
اسماعيل أحمد ياغي،الدولة العثمانية في التَّاريخ الحديث، مكتبة العبيكان، السعودية مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى 1416هـ،1996م ص (189).

قراءة في شفرة دافنشي وما بعدها.. الغيب فى القران...

الجمعة، 29 نوفمبر 2019

كلمات من الحق

كلمات من الحق

د. علي الصلابي
لا زلت أقول إن هذه المرحلة في الصراع هي أصعب المراحل وأقساها.. وربما آخرها!! وهي صراع الإنسان مع نفسه.. الصراع الذي يدور بين ما يؤمن به وما يراد له أن يؤمن به.

صراعه بين ثوابت دينه وقيمه وثوابته، وبين ما يتردد في سمع قلبه كل حين من نداءات تقعِد القائم، وتُسيء خلق المستقيم، وهكذا.. حتى تخور عزيمة أحدنا.. بعدما عاش معركة طويلة مع نفسه سقط في آخرها.


أعرف أناسًا انتصروا في معارك السجون والوقوف أمام عتاة الإجرام في شتى الميادين، لكنهم انهزموا في معركتهم الأخيرة مع أنفسهم، فإذا ببعضهم عاد ألف خطوة للوراء وصنع ما لم يكن يدور بخلده أن يصنع معشاره منذ سنوات.


نفوسنا يا سادة آخر القلاع.. سيما هؤلاء الذين دخلوا المعارك من أولها، منذ كانت بين الطاغية وجموع الشعب، ثم حولها الطاغية بأدواته الشيطانية إلى ما بين الشعب ونفسه، ثم تحولت بفعل الزمن إلى ما بين كل فصيل ونفسه، ثم أصبحت في نهاية المطاف بين كل منا ونفسه.


وهي سنة كونية في الصراع.. تبدأ بصراع عظيم بين جالوت والجموع المؤمنة ثم تنتهي بين قلة مؤمنة ونفسها في معركة تبدو صغيرة، لكنها أعظم من الأولى، ميدانها شربة ماء فيما يبدو، لكنها عند أصحابها أعظم من ذلك؛ إذ هي عندهم تعني هزيمة النفس بشهواتها وانتصار المؤمن بثباته على مبدئه وثوابته واندحار شهوته تحت قدمه، والتي يعقبها مباشرة “فهزموهم بإذن الله”.


لما وصل موسى إلى البحر أخّر الله أمر انشقاق البحر حتى أدركهم فرعون وجنوده لتتم آخر مراحل الاختبار، وهي اختبار المؤمن مع نفسه، قبل أن يقضي الله على فرعون وجنوده، فتزلزلت قلوب البعض وظنوا أنهم مخذولون.. وقال الواثق بربه: كلا إن معي ربي سيهدين.

نحن الآن في هذه المرحلة، والتي من قسوتها يرسب المئات في اختبارها كل يوم، حتى إنني من فرط ما أرى كل يوم من نوعية الراسبين ولم يكونوا كذلك في المراحل السابقة أقول في اليوم ألف مرة: رب سلم سلم.

قلت لصاحبي يومًا وقد أصاب بعض غبار اليأس أنفه: يا صاحبي، هون على نفسك. فالحق مضمون نصره، منهية عند الله عاقبته. لكن المرعب أن ينتصر الحق يومًا وليس لنا فيه نبتة من بستانه،أو حجر من بنائه!!


يا صاحبي.. لا تشغل نفسك بما لا تملك، على حساب ما تملك!! احفظ على نفسك يقينها.. وعلى أخلاقك سموّها، وعلى صدرك نقاءه، وعلى لسانك عفته، وعلى قلبك ثباته.. ثم لا يشغلنك بعده ما يكون، فلولا انتصار أصحاب طالوت على أنفسهم في معركة شربة الماء ما نصرهم الله على عتاة الأعداء!!

ومن ظن أنه لا نهر إلا نهر طالوت ومن معه لم يفهم عن الله شيئا.

يا صاحبي، وما يفيدك أن ينتصر الإسلام وقد انهزمت أنت.


يا صاحبي.. لا تجعلهم يقتحمون آخر قلاعنا فيك.. ويأخذون أغلى متاعك.. نفسك وعزيمتك.


يا صاحبي.. لأنها آخر المعارك فالقليل فيها ناج، والكثير فيها هالك.


رب سلم سلم.

صراع الجنرالات بموريتانيا.. لِمَ انقلب الجنرال عزيز على الرئيس الحالي؟

صراع الجنرالات بموريتانيا.. 

لِمَ انقلب الجنرال عزيز على الرئيس الحالي؟

محمد المختار دي

كان كل شيء يسير هادئا في بلادنا قبل تلك الليلة، وذلك الاجتماع الذي هز موريتانيا بربوعها، فلم يكن أكثر المتشائمين يتوقع أن يظهر الرئيس المنتهية ولايته بعد أشهر قليلة من تسليم السلطة وإعلانه عدم الترشح لولاية ثالثة، بل والوقوف إلى جانب رفيقه الجنرال الرئيس حاليا محمدو ولد الغزواني.

فجأة في ساعة من ليل، ظهر الرجل، وهو أحد قادة انقلاب 2005 الشهير وقائد انقلاب 2009 الأشهر الذي دبر بليل، والرجل الذي حكم موريتانيا 11 وخرج مكرها أو عن طيب نفس أو لحاجة في نفسه، فلم يعد أحد يعرف ماذا يريد الرجل من موريتانيا.

خرج الجنرال عزيز بعد ثلاثة شهور من تسليم السلطة، وقد دخلت البلاد في حقبة جديدة يترأسها وزير الدفاع السابق ورفيقه غزواني. خرج منقلبا متنكرا ومحاولا استعادة نفسه ورئاسته. واجتمع بقادة حزب الأغلبية الذين كان يترأسهم ذات يوم، مدعيا أنه له الحق في تزعم الحزب الحاكم، وأن الرئيس الحالي لا حق له في رئاسة الحزب، وهو ما تسبب في انقسام داخل الحزب وبلبلة خارجه وصلت إلى الشارع.

فلم يعد هنالك حديث في الشارع الموريتاني إلا عن صراع الجنرالين، وأصدقاء الأمس خصوم اليوم، وشركاء الدبابة والانقلاب. صراع تأكد بعد خروج بيان الرئيس الحالي مؤكدا أنه المرجعية الأولى للحزب الحاكم، ليرد السابق متعهدا بالتصدي للرئيس الحالي المنتخب شعبيا.

وهذا ما يعني أن هناك أمورا حدثت تحت الطاولة قبل مغادرة الجنرال عزيز للحكم؛ أولاها أن الرجل أُرغم على الخروج من الحكم وقد كان في نيته الترشح لمأمورية ثالثة بتعديل الدستور، وقد منعه الجنرالات المتحكمون من ذلك.

أما ثاني الاحتمالات؛ فهو صفقة بين الرجلين لم يوف أحدهما بها، وهي تعني إعادة صناعة عزيز كما حدث في روسيا بين ميدفيدف وبوتين حين شغل الأخير صفة "المحلل" للثاني.

أما ثالث الاحتمالات، فهو الندم على ترك الحكم ومحاولة الانقلاب التي تبدو مطروحة، خاصة بعد إقالة قائد الحرس الرئاسي في ليلة الاحتفال بالعيد الوطني، وهو رجل معروف بولائه للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز الذي صنع مملكة داخل الجيش الموريتاني طوال 11 عاما، ما يجعل مهمة الرئيس الحالي خطيرة للغاية إذا لم يتخلص من شبح صديقه الذي يطادره.

الاحتمال الرابع وجود بعض الأطراف الدولية، خاصة العربية التي تعشق الانقلابات ولا يسرها أي تداول سلمي للسلطة، تدعم الرجل (عبد العزيز) وقد طلبت منه الظهور في هذه الفترة تحديدا وخلط الأمور؛ حتى تجبر الرئيس الحالي على الخضوع لها.

وبين كل الاحتمالات ومدى قابليتها وواقعيتها تبدو الأمور محسومة في صالح الرئيس غزواني، صاحب ثلاثة شهور في الحكم. فالرجل عسكري وقائد أركان سابق ووزير دفاع، وأمضى عقودا في الجيش، ناهيك عن وقوف أغلبية النواب معه والظهير الشعبي الكبير له.

أضف إلى ذلك غضب الأطراف الدولية الفاعلة في موريتانيا، وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، على الرئيس السابق الجنرال عزيز، وهو ما أكده الرئيس التشادي الذي صرح بأن تلك الدول منعت الجنرال عزيز من أن يكون مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا خلفا لغسان سلامة، وهو ما يعني أنها ستميل إلى دعم رفيق الأمس والرئيس الحالي الجنرال غزواني.

وبين هذا وذاك، يبقي الشارع الموريتاني في انتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة من صراع الجنرالات أو صراع المحمدين الصديقين، في بلاد اعتادت على الدبابة والمدافع أكثر من اعتيادها على الصندوق والاقتراع.

في بؤس المعارضة المصرية

في بؤس المعارضة المصرية


 وائل قنديل
قلت في لحظة العشرين من سبتمبر/ أيلول الماضي، مع اليقين الذي كان يتحدث به المقاول محمد علي عن إزاحة عبد الفتاح السيسي خلال ساعات، إن مصر في مفترق طريق وعرة: إما أن يخرج السيسي من الصورة إلى الأبد، أو يخرج من هذه العاصفة أكثر تسلطًا وتوحشًا مما قبل، لتدخل البلاد في مرحلةٍ جديدةٍ من العنف والدم والقمع.
لم يكن ذلك رجمًا بالغيب أو ادّعاءً لفراسة، بل كان رصدًا للهواجس التي تهيمن على جموع المصريين الذي أفاقوا على دعوةٍ غامضةٍ للخروج من أجل إسقاط حكم السيسي عصر الموعد المضروب للخروج. 
ومن أسفٍ أن ما أسفر عنه ذلك الصخب المصنوع بعناية أن النظام خرج أكثر تمكّنًا وتوحّشًا وتعطّشًا لمزيد من البطش، فاستردّت الزنازين من نالوا حريتهم قبل تلك اللحظة، واتسعت لتشمل أعدادًا هائلة أخرى ممن كانوا خارجها، من سياسيين وصحافيين ومواطنين عاديين، إلى الحد الذي بدت فيه سلطة عبد الفتاح السيسي وكأنها تسخر من التقارير الدولية المتزايدة عن قتل الحريات في مصر.
حصيلة ما جرى منذ العشرين من سبتمبر هي تصاعدٌ مخيفٌ في معدلات القمع والقهر، وانخفاضٌ مرعبٌ في مستوى معارضة النظام، إلى حدود تلك الأيام من عامي 2014 و2015، حيث عرفت الساحة خطابًا مفرطًا في الاعتماد على الشتائم والسباب ونحت الألقاب والأوصاف بحق عبد الفتاح السيسي، نوعًا من التنفيس عن الغضب والألم، مع تغييب الخطاب السياسي الجاد والمعقول في مخاطبة الرأي العام الدولي والمحلي.
والآن ونحن على أبواب العام 2020، يبدو الخطاب المحسوب على المعارضات المستحدثة وكأنه اجترار لما طفا على السطح قبل نحو خمس سنوات مضت: سخرية لفظية من شخص السيسي وشكله ورسمه، تمامًا كما كان يحدث في 2014 عندما كانت السلطة الموغلة في بذاءة الفعل ورداءة الأداء تسعى إلى حرف مسار المعركة، من مقاومة جريمة سياسيةٍ وحضاريةٍ في حق مصر وثورتها، إلى مطاردة درامية أو سباق مثير في مضمار النكتة والقفشة و"الإيفيه". وهذا من شأنه أن يبتذل المعركة على نحوٍ يتيح للقتلة وسافكي الدماء أن يظهروا في وضع الضحية المشتوم الذي يتعرّض للسخرية والاستهزاء.
وأكرّر أن خطورة هذا الأمر أنه يوجد مجال لمن انقلبوا على كل قيمة أخلاقية، وعلى كل مبدأ حضاري، وعلى كل نزعةٍ إنسانية، أن يتحدّثوا عن الأخلاق والتعايش والقيم الدينية، وذلك كله مردّه أن بعضاً من منافحي الانقلاب قد ابتلعوا الطعم، وهبطوا إلى أرضية الملعب الذي يجيد الانقلابيون الأداء فوقه.
كان ذلك بعض ما رصدته قبل خمس سنوات، وأراه يتجدّد الآن مع الانسحاب المروع لرموز المعارضة الحقيقية، محمد البرادعي نموذجًا، ما أوجد فراغًا هائلًا يكاد يمتلئ الآن بكثير من الهستيريا والخطابات منعدمة القيمة فارغة المضمون التي قد تصلح لصناعة مشتمةٍ ومسخرة، يحسب أصحابها أنهم يصيبون مرمى السيسي، بينما الواقع ينطق إنه يسجل أهدافًا إضافية في مرمى معارضيه.
في ظل هذا البؤس المقيم، تحولت المأساة المصرية إلى موضوعٍ للفرجة، بكثير من الأسى والضحك العابر على منتجات المعارضات المنشأة حديثًا، ليتراجع الخطاب السياسي، ويصمت تمامًا، بحيث لا يجد الجمهور أمامه سوى مهرجانات السوشيال ميديا، الأمر الذي يوفر للنظام فرصة التهام أعدادٍ إضافيةٍ من معارضيه في الداخل، وهو مدركٌ تمامًا أن ما يصدر عن الهيئات الدولية من بيانات إدانة واستنكار سيمر مثل غيره.
وأزعم أن على المعارضة المصرية الآن أن تراجع نفسها وأداءها، وتعيد حساباتها بدقة، وتحاول مجددًا صياغة خطاب مختلف، بعيدًا عن منطق الاستسلام للسائد والعابر، فليس عيبًا أن تتورّط في تبني اختياراتٍ ثبت أنها رديئة .. ولكن العيب أو الجريمة أن تواصل السير مع تيار يعتنق الرداءة، ويستعمل كل أدواته لفرضها حلًا وحيدًا.

العزل السياسي.. بين العشية والضحى!

العزل السياسي.. بين العشية والضحى!

سليم عزوز
وبينما ينتظر الشعب السوداني من الحكومة الجديدة، أن تظهر "كرامات" برفع الأعباء عن كاهلهم، إذ باجتماع مشترك بين المجلس السيادي ومجلس الوزراء، استمر في انعقاد مستمر حتى صباح يوم الجمعة، وقد تمخض الجبل فولد قانوناً بالعزل السياسي لكل عناصر حزب الإنقاذ، بعد حل هذا الحزب، وعليه وجب على الناس أن يناموا نوما هادئاً، ويحلموا بأحلام سعيدة!

لقد عرفت الانقلابات العسكرية، التي رفعت لافتة الثورة، "العزل السياسي"، وهي "الوصفة الجاهزة" التي تم استيرادها من ألمانيا التي قامت بعزل الحزب النازي، واتخذت إجراءات من أجل تفكيكه ومطاردة عناصره، "بيت بيت.. زنقة زنقة"، الأمر الذي أعطى لهذا التصرف الجائز معنى حضارياً. فالدول الغربية عرفت "العزل السياسي" في مراحل التحول الديمقراطي، لكن كان هذا ما أخذناه من التجربة الألمانية، ولم نعتمد النظام الديمقراطي الذي أقيم هناك، وقد خشي عليه من أعداء الديمقراطية من بقايا النازية!

قطع دابر أحزاب الأغلبية


وقد استخدمت الانقلابات العسكرية في العالم العربي من قوانين "العزل السياسي"، أداة لتثبيت أركان حكمها الشمولي، ولقطع دابر أحزاب الأغلبية. وكان من تم عزلهم سياسياً، هم زعامات وطنية كبيرة، فكان العزل بعد انقلاب تموز/ يوليو 1952، من نصيب زعامات حزب الوفد ومن مصطفى النحاس إلى فؤاد سراج الدين. لكن قوانين العزل لم تمتد إلى عموم الناس، وإلى الزعامات المحلية التي انتقلت إلى العهد الجديد وتحولت إلى مؤسساته، فلم يكن للانقلاب العسكري بديل عنهم، ولم يكن في خطتها أن تعادي جميع الشعب المصري. وإذا كان الحكم الجديد قد رفع شعار رموز العهد البائد على كل من مارس السياسية قبله، فقد استعان برموز الصف الثاني منهم في مؤسساته الحديثة، سيد مرعي نموذجاً.


استخدمت الانقلابات العسكرية في العالم العربي من قوانين "العزل السياسي"، أداة لتثبيت أركان حكمها الشمولي، ولقطع دابر أحزاب الأغلبية



وبعد الثورة المصرية، ظلت قضية العزل السياسي تختفي ثم تظهر على السطح بحسب الأحوال، فالإخوان المسلمون الذين لم يكونوا متحمسين له، سرعان ما تبنوه عندما قرر اللواء عمر سليمان ترشيح نفسه، وجابهوا به الفريق أحمد شفيق، وبقانون متعجل أصدره البرلمان بأغلبيته الإسلامية وألغته المحكمة الدستورية، ثم خفت حماسهم له. وعندما تقرر الأخذ به في الدستور الجديد، كان هذا استجابة لمطالب الحلفاء في لجنة اعداد الدستور، ثم كان النص ركيكا ومعيباً؛ لأنه استهدف ألا يشمل شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، الذي كان عضواً في لجنة السياسات برئاسة جمال مبارك!

بيد أن الإسلاميين لم يهتموا بفكرة عزل مرشحي الحزب الوطني في بداية الثورة، رغم تصدير الخوف من أن الفلول سيكتسحون الانتخابات في محافظات الوجه القبلي والصعيد. وكان رأيي أن روح الثورة وصلت إلى هناك، وبالتالي فلا خوف من أن يخذل "الصعايدة" الثورة. وثبت هذا بالنتيجة!

حل الحزب الوطني


وقام نفر ممن تربطهم علاقة بالأجهزة الأمنية بالتقرب للثورة وطلب حل الحزب الوطني (أحدهم متهم بتوريد شبيحة في يوم موقعة الجمل)، وقامت المحكمة الإدارية العليا بحله، بالمخالفة للقانون!

فبعد الثورات يحدث نزاع بين الشرعية الدستورية والشرعية الثورية، والأصل في المحاكم القائمة أنها تُعمل القانون، لكن محكمة القضاء الإداري برئاسة الوزير بعد الانقلاب العسكري مجدي العجاتي، تجاوزت الاختصاص المعقود لها قانوناً لصالح الشرعية الثورية!

كان رأيي أنه ينبغي ترك الشعب ليعزل الحزب الوطني، وأن ينتصر للثورة وينفي خصومها ممن أهدروا مقدرات الوطن، واستباحوا إرادة شعبه. فتاريخنا مع الشرعية الثورية لا يبشر بخير، عندما تستخدم كأداة لانتهاك حقوق الإنسان، وهو ما فعله العهد الناصري!

وقد جاء الربيع العربي لمواجهة الاستبداد، على عكس حركات ضباط الجيش في السابق، التي رفعت شعار التحرر الوطني. ولن نتطرق للتفاصيل حيث يكمن الشيطان!


عندما تكون الحرية ورفض الطغيان شعار ثورة، فلا يجوز أبدا أن يمارس القمع والاستئصال، كما حدث بقانون العزل السياسي في السودان


وعندما تكون الحرية ورفض الطغيان شعار ثورة، فلا يجوز أبدا أن يمارس القمع والاستئصال، كما حدث بقانون العزل السياسي في السودان، وإلا تكون الثورة قد استبدلت مستبدا بمستبد، ليظل الطغيان هو الحكم مع تغيير اسم ضحاياه.

نحن نعلم أن أزمة السودان تتلخص في أن تياراً سياسيا هو المهيمن على المشهد السياسي في السودان، وأزمته تتمثل في أنه يئس من وجود شعبية له بين الشعب السوداني. واليسار في عالمنا العربي يبدو أنه بلا مشروع، فمشروعه يقوم على أنه ضد الإسلاميين وفقط، دون أن تكون أمامه خيارات أخرى!

وإذ نجح في أن يمثل الثورة، فقد وجدها فرصة ليستأصل التيار الإسلامي باسم الثورة وبقانون العزل السياسي، الذي يستهدف به إقصاء تيار سياسي من أجل التمكين لنفسه، وباعتباره ساعتها سينافس نفسه، ليذكرني بحواري القديم مع أحد الإسلاميين السودانيين الذي أنكرت عليه أن ينحاز لحكم عسكري فاشل وفاسد في بلاده بحجة أنه يرفع شعارات إسلامية، فأين هو من الإسلام وأين الإسلام منه؟!

وسلم الرجل بوجهة نظري عن فشل نظام البشير وفساده، لكنه ذكر لي أن السودانيين يدركون أنه إذا سقط البشير فسوف يطفو على السطح تيار الاستئصال اليساري، الذي لن يتأخر عن استئصال الإسلاميين.. هكذا قال!

ثالثة الأثافي


قانون العزل هو في مواجهة جبهة الإنقاذ دون الحلفاء، وهو ضد المدنيين دون العسكريين، الذين هم في قلب السلطة الآن

إن الثورة السودانية قامت لإقرار حق الشعب السوداني في الاختيار، وباعتبار أن جبهة الإنقاذ مفروضة عليه بالقوة، وأن الانتخابات غير نزيهة، ومن هنا يكون الواجب هو تمكين الشعب من اختيار ممثليه في البرلمان وفي القصر الرئاسي. فإذا كان الاعتقاد السائد لدى تجمع المهنيين المهيمن على السلطة، أن جبهة الإنقاذ بعد ثلاثين سنة من الحكم الفاسد والمستبد، لديها قاعدة عريضة من الجماهير، ومن هنا لا بد من عزل عناصرها بالقانون، فإنها لعمري ثالثة الأثافي!


إن حكم البشير كان يقوم على دعامتين: الأولى مؤيدوه من القوى المدنية وتحالفاته السياسية، والثانية هي الجيش ومؤسسات القوة وباعتباره انقلابا عسكريا في الأصل. وقانون العزل هو في مواجهة جبهة الإنقاذ دون الحلفاء، وهو ضد المدنيين دون العسكريين، الذين هم في قلب السلطة الآن!


الفراغ السياسي باستئصال التيار الإسلامي تحت لافتة العزل السياسي لكل من له علاقة بالعهد البائد؛ سيستغله العسكر، ولن تستفيد منه التيارات المناوئة للإسلاميين



ويبدو تجمع المهنيين وقد يئس من إقامة تجربة رائدة في الحكم تجذب إليه الناخبين، فقرر الانشغال بالاستئصال السياسي للإسلاميين، حتى يخوض الانتخابات بمفرده وينافس نفسه، وهو هنا يثبت بدائية سياسية؛ لأنه لم يتعلم من تجارب الآخرين!

فالفراغ السياسي باستئصال التيار الإسلامي تحت لافتة العزل السياسي لكل من له علاقة بالعهد البائد؛ سيستغله العسكر، ولن تستفيد منه التيارات المناوئة للإسلاميين!

إن حل أزمات الشعب السوداني أولى من هذا العبث، حتى لا يكفر الناس بالثورة، ولن يصب كفرهم بها في خانة قضية التحول الديمقراطي.

إن اليسار العربي تحول إلى حالة نفسية تستوجب العلاج.. وتستلزم العزل؛ الصحي لا السياسي!

27 قاعدة لإدارة الوقت والتوفيق بين الاجتهاد الديني والأعمال الدنيوية

هل مثَّل حازم أبو إسماعيل حالة من الوعي؟


هل مثَّل حازم أبو إسماعيل حالة من الوعي؟


محمد جلال القصاص

باحث دكتوراة علوم سياسية

بعد رحلة على ظهر الأيام كشفتُ فيها عن سياقٍ متصل خلاصته أننا منذ قدم الاحتلال الغربي ونحن لا نفهم ما يحدث. فقط نفهم ما قد حدث. وجاءت بعض الردود من كرامٍ أفاضل فيها: أن هذا ينطبق على الذين من قبلنا أما نحن فنفهم جيدًا ما يحدث. فهل حقٌ ما يقول هؤلاء الأفاضل؟، هل حقًا يفهم الحضور ما يُفعل بهم، أم كالذين من قبلهم؟! 
ولا داعي للمقدمات، دعني أعرض مشهدًا من عشرات المشاهد التي تتزاحم في خاطري تريد أن تمثل بين يديك شاهدةً على أن الحضور كالذين من قبلهم، يفهمون ما حدث بعد أن يحدث وينتهي أثره.. على أن الحضور لا يمتلكون إلا الرفض والنية الحسنة في التغيير للأحسن، وأتحدث عن المجموع لا عن الجميع، إذ يوجد دائمًا من يفهم ويؤسس لواقع جديد.
  
السلفيون في المشهد الثوري. وهم يهتمون بطلب العلم ونشره، ولا ينفكون من الحديث عن "فهم الواقع". دعنا نتفحص مشهدهم كحالة على أن لا وعي إلا بما قد كان.. على أن مكر الخصوم يمر مرَّ السحاب ونحن تحته فرحين مسرورين نظنه غيث ورضوان ثم هو ريح تدمر كل شيء بأمر ربها، أجمع السلفيون قبل يناير على رفض المشاركة السياسية. تحريمًا لها أو لعدم جدواها؛ وحين جاءت الثورة لم يشارك إلا بعض الشباب، لأنهم شباب. مندفعون. ينطلقون من حماسة لا من تنظير وعقلانية في الغالب. وبعد رحيل مبارك أقبل السلفيون وشاركوا في العملية السياسية: أسسوا الأحزاب على قواعد الديمقراطية، وتنافسوا مع بعضهم منافسة حقيقية، وتحالف بعضهم مع "عدوهم" ضد "إخوانهم"، ودخلوا مجلس الشعب الذي كانوا يكفرونه، وساروعوا لبرامج "التوك شو" وأصبحوا نجوم شاشات وواجهات اجتماعية، وتقدموا صفوف المرشحين للرئاسة فهل كانت هذه القفزة المفاجئة بين الضدين عن وعي وبصيرة؟!
   
مشاهد تحتاج للتأمل
لم تشارك سلفية الإسكندرية في أحداث "يناير"؛ وفي أول ظهور لها بعد أن رحل مبارك رفعت لواء "الهوية". ثم تبين أن الهدف من إعلان الهوية هو تقسيم صفوف "الثورة" إلى إسلاميين وعلمانيين، بل وتقسيم صفوف الإسلاميين أنفسهم إلى مدافعين عن الهوية ومساندين لأعداء الملة.. أولئك الذين قدموا الحريات على المطالب الدينية. ولم تكد تبرح الأيام مكانها حتى بدَّلوا وغيروا وتحالفوا هم مع المخالفين هوياتيًا (جبهة الانقاذ). 
فهل كان هؤلاء، وهم عِراض غِلاظ في حس من يشاهد، يفهمون ما يحدث؟، أم دُفعوا إلى ما لا يفهمونه إلا بعد حدوثه. أو يفهمونه ولهم فيه مآرب أخرى؟!

ومن الأسباب التي أدت لتضخم التجربة: أن أغلب المتدينين يعظمُ الموقف الرافض دون أن ينظر لتبعاته، يعظم المقاومة وإن كانت ذات أثر سلبي
وفي القاهرة كانت السلفية تميل إلى تجريم الديمقراطية على مستوى المبادئ وعلى مستوى الأدوات، وذات مساء طُلب منهم المشاركة في العملية السياسية، فأقبلوا مسرعين، وأسسوا الأحزاب. حزبًا، ثم حزبين، ثم ثلاثة وأربعة، وبدأ التكاثر الميتوزي للأحزاب، وأعرف أحدهم من فئة "عصبي المزاج/ سريع الاشتعال"، لم يجد حزبًا يترأسه، فجلس مع نفسه وافتكس مسمى لحزبٍ، ثم أعلن نفسه رئيسًا لحزب كذا تحت التأسيس؛ ورآه آخر مثله (عصبي المزاج ..سريع الاشتعال) فأعجب بصنيعه فقلده، ولو طال بنا المقام في ساحة الديمقراطية فلربما رأينا عشرات من هؤلاء كما هو حال الأحزاب الشيوعية مثلًا.

واسأل معي: ما الفرق بين الأحزاب السلفية؟!، ولم لم يشكل التيار الإسلامي كله كيانًا واحدًا؟!، على أي خلفية تمايزوا؟، ضع المشهد بين يديك وأعد النظر فيه مرة بعد مرة، وسل معي: هل هؤلاء أهل وعي؟!؛ أم مزيج من الجهل بالواقع وحب الذات؟!  لن تجد غير هذه الإجابة التي توصلتُ إليها بعد النظر أكثر من مرة في حالهم من بينهم ومن فوقهم: بحث عن الذات في إطار تدين، وهو سياق مضطرد في ساحة المتدينين، فما حدث من منافسة في ساحة الديمقراطية امتداد للمنافسة في المساجد.

الشيخ حازم صلاح أبو اسماعيل: هل مثَّل حالة من الوعي بالخصوم ومكرهم؟!
إذا نظرت للدائرة الداخلية (داخل مصر) فقد كان يعي جيدًا أن ثمة من يمكرون، وأشار إليهم، وانتصب في وجههم، ولكن: غاب سؤالٌ: هل يقدر الشيخ على قفز المفازة بالفقراء والمساكين؟، هل يقدر على خوض غمار المواجهة بالمبعدين عن كل أسباب القوة؟!، هل كان من العقل أن يواجه بالجماهير دون أدنى أدوات القوة؟!، هل كان من العقل أن تحسب الحسابات على مستوى قطر واحد في عالم متماسك ومترابط ويدار برأس واحدة؟ أجابت الأيام بأفعالها المؤلمة المرَّة. وتبين بوضوح أن الجماهير إحدى أدوات الفعل، وتستدعي للمشهد مؤقتًا ثم تُخرج رغمًا عنها وإلى حيث لا تريد. وقد أسهبت في هذا أكثر من مرة (انظر مقال:

كيف استطاع الغرب أن يجذبنا إليه عن طريق الثورات؟).


مشهد الشيخ حازم يحتاج لدراسة من عدة نواحي، أهمها:
أولًا: موقف السلفيين منه، وكيف أن التكتلات السلفية نفَرت منه ونفَّرت عنه، ولم يتبعه إلا عوام السلفيين وقلة من خواصهم، وكثير من هذه القلة كان طامحًا في مغنم يحققه من الاكتساح الجماهيري للشيخ، وقد اختلفوا عليه واستداروا له واستعدوا لمنازعته قبيل الانتخابات البرلمانية.

ثانيًا: أين مؤيدو أبو اسماعيل، مع كثرتهم؟، وبالتالي ما المتغير الرئيسي في التأييد الذي جمَّع الناس سريعًا ثم انصرفوا كأن شيئًا لم يكن؟! وقد تكون الإجابة على هذا السؤال في حالة الويتوبيا (المثالية) في الخطاب الذي تبناه الشيخ حازم، وهذا يأخذ البسطاء من الرجال وعامة النساء بعيدًا، فالبسطاء (مهما كان رقيهم التعليمي) لهم عقلان: عقل جمعي وعقل فردي، ويتحركون سريعًا للعقل الجمعي أو للخيال- وجرب أن تحدث زوجتك-أو طفلك- بأنك حين تمتلك مالًا ستشتري لها سيارة فارهة وتسكنها فيلا واسعة وتذهب بها لمكة والمدينة مرة أو مرتين، ستصدقك وتنتشي وتدعو لك وإن كانت تعلم فقرك، وكذبك، وإن كانت عاقلة متفوقة دراسيًا-، وحين يواجهون الواقع يهربون للماضي ويتحدثون عنه بحنين العشاق. وللأسف هؤلاء أكثر من في المشهد. وصوتهم عال. والعقلاء مغيبون بين الضجيج. قد كان أبو اسماعيل: حلم في الطرح، فنصرة من الحالمين، فواقع شديد الألم. ولازال يستحضر من باب أحلام اليقظة، ومن الأسباب التي أدت لتضخم التجربة: أن أغلب المتدينين يعظمُ الموقف الرافض دون أن ينظر لتبعاته، يعظم المقاومة وإن كانت ذات أثر سلبي.

المعنيون بتفسير الظواهر السياسية في الأكاديميات لا يعطون العوامل النفسية كبير اهتمام، ربما لحضور المدرسة السلوكية التي تبحث عما يقاس رقميًا
ثالثًا: مسئولية أبو اسماعيل عن دفع الحالة الإسلامية للمواجهة الصريحة مع العلمانية بأذرعها المختلفة فكان ما كان. إذ لم يكن الإخوان (وهم رأس الإسلاميين يومها) ينتون الترشح للرئاسة أو حيازة أغلبية في البرلمان.

رابعًا: طبيعة الشخصيات التي قربها أبو اسماعيل منه، وكلهم يتحدثون عن هذا في مجالسهم الخاصة.

إن الذين يقولون بزيادة الوعي عند أبناء الجيل يتكئون على ما يرونه من زيادة في تدفق المعلومات، وكأن كثرت المعلومات يؤدي إلى ارتفاع الوعي، وغير صحيح. فعمليًا نُزعت البركة من أدوات المعرفة، بفساد القائمين عليها. فالتطور في الأدوات أحدث ربكة معلوماتية، وأدى إلى شغلٍ بما قلَّ- أو انعدم- نفعه، ولذا فقدنا العمق والسكينة، وكثر اللهو والعبث.. بعدنا عن الجد.. إلا قليل.

شيء مهم في التفسير والتحليل
المعنيون بتفسير الظواهر السياسية في الأكاديميات لا يعطون العوامل النفسية كبير اهتمام، ربما لحضور المدرسة السلوكية التي تبحث عما يقاس رقميًا، وربما لهيمنة المناهج العلمانية الوضعية التي لا تؤمن بغير الماديات (ما تراه بعينها) وتكاد تجحد الضمائر وما انطوت عليه الصدور.. تقول الوضعية: الكل خلف مصلحته. وهذا صحيح ولكن: المصلحة يحددها بُعد نفسي.. شهواني أو عقدي، ما يعني أن البعد النفسي هو الأساس في تحليل الظواهر السياسية والاجتماعية، فالاختلاف والشقاق سببه في الأساس أمراض نفسية لا غياب الحقيقة أو التباسها.

يقول الله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ )، فالفرقة جاءت بعد العلم والسبب هو البغي والظلم. وفي قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ) قدَّم الفرقة على الاختلاف مع أن الذي نراه بأعيننا في الواقع غير ذلك ليبين لنا أن أمراض النفوس هي السبب. يقرر أحدهم أن يفترق ويعزم على ذلك ثم يظهر خلافًا يبرر به فرقته. فالخلاف أداة في الغالب والمرض الحقيقي هو مرض النفس، ولذا اتجه القرآن الكريم للقلوب يداويها بترهيبٍ وترغيب وربط كل شيء بالله وما أعده في الآخرة للمتقين والعاصين. فإلى القرآن.. مأدبة الله. إذ لا بد من سلامة القلب مع سلامة العقل كي نحصل على وعي صحيح: (أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰب).