الثلاثاء، 28 فبراير 2017

تغريبة الأمير البصير

تغريبة الأمير البصير

جَاء كالريح..
ذَهبَ كالعاصِفة!!
وكالخرائبِ التي تُخَلِّفُها العواصف..
خَلَّفَ عمر عبد الرحمن وراءَه خرائبَ جماعات، وأطلالَ مناهج، ومشايخَ كأعجازِ نخل خاوية!!
جَاءَ في وقتِهِ تماماً - لا قبله ولا بعده - على فترةٍ من المُبصرين الذين لا تخلو الدنيا من أنوارهم!!

كان سيد رحمه الله حديثَ عهدٍ بشهادة.. أسلمَ الروحَ وسَلّمَ الراية، وتأسى بإبراهيم والذين معه {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} [الممتحنة من الآية:4].. وكانت الرايةُ قد تَمزقتْ إلا قليلاً باجتهاد الذين ارتأوا- مختارين أو مجبرين- أن يكونوا (دعاةً لا قضاة)، وأطلَّ زمنُ الضِّغث بقرنيه، واختلط الحق بالباطل، وسَالت أوديةٌ بقدَرِهَا، واحتمل السيلُ زَبَداً رابياً، وكَثُر الغثاء حتى لا تكاد تجد شيئاً مما ينفع الناس.. وكانت سنواتُ فتون رمادية.. فكان عمر عبد الرحمن!!

***
في الطريق إلى المفاصلة.. ستجدُ اسمَه!!
في الطريق إلى الولاء والبراء.. ستجدُ اسمَه!!
في الطريق إلى الكفر بالطاغوت.. ستجدُ اسمَه!!
وبعد خروجكَ من التيه: خُذ عن يمينكَ قليلاً.. ستجده ينتظرك مع: سيد، وأسامة، وعزام، وخَطَّاب، والملا عمر، وياسين، ورفاعي سرور.. وثلةٍ من الأولين الذين لم يَفتِلْ شواربَهم الخوفُ، ولم يَخضِبْ لِحَاهُم درءُ المفاسد، ولم يَغسِلْ وجوهَهُم فقهُ الواقع.. كانوا قدر الله في الأرض.. عاشوا كما أراد وماتوا كما أحب.. جاؤوا كالريح ورحلوا كالعاصفة!!
أولئك - الذين لا يظهرون في جيلٍ واحدٍ مرتين - يتركون الدنيا لأبنائها وقد صارت بَعدَهم غَيرَهَا قَبلَهم!!

***
في كل زمن غرباء..
وفي الغرباء خُلَّصٌ يقبضون على جَمرِ الحقيقةِ؛ فيستنيرون ويُنيرون!!
يُعيدونها جَذَعَة كأول ظهور، ساطعةً كأول بزوغ، صافيةً كأول دَرِّ.. بيضاءَ نقية؛ ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك!!

يَحطُّون رحالهم على الأرض كأنهم نزلوا من السماء الساعة؛ فحياتُهم معنا حُلمُ نائمٍ يعيشُ على الأرضِ بمقاييس السماء، وحياتُنا معهم خيالُ حَالمٍ يرى عوالم السماءِ في مَعَالِمِ الأرض.. فإذا انتبهوا عادوا إلى سماواتِهم، وإذا استيقظنا أخلدْنَا إلى الأرض!! ثم تبقى لذة الوَجْد في حسرة الفقد، وحسرةُ الفقد في لذة الوَجْد.. ونحن بينهما مشدودون إلى روح السماء مغروسون في طين الأرض؛ لا يُفارقنا التوقُ حتى ندفع جِزيةَ السماء عن قلبٍ ونحن صاغرون.. وليس للسماءِ جزية سوى تَركِ عَلائقِ الأرض!!

هم رُسل الجنة.. جاؤوا لنرى كيف تكون الحياة في الجنة!!
يَغرسون في الدنيا غرساً من الآخرة؛ فتزهر الدنيا بقَدْرِ ما كَتبَ اللهُ لهم فيها من حياة، فإذا انتقلوا جاء آخرون فغرسوا غرساً آخر.. وهكذا دواليك.. لتبقى الدنيا مُزهرةً بغراس الآخرة؛ فتتم الحجة ويظهر الحق ويسطع البرهان.. ويظل الغرس حبلاً سرياً يربط أهلَ الأرض بأهلِ السماء!!

وكما أن "الأنبياء أولادُ عَلّات؛ أمهاتُهم شتى ودينُهم واحد"؛ فإن ورثةَ الأنبياء أولادُ عَلّات مَصَبَّاتُهم شتى ومنبعُهم واحد!!

***
وُلِدَ في الأرض..
قُتل في أمريكا..
إذ أمريكا - بما تُبشر به من زيف - ليست قطعةً من الأرض؛ بل قطعة من جهنم.. كان ورودها على الأمير البصير حتماً مقضياً!!

أنارَ اللهُ بصيرته بفقد بصره بعد عشرة أشهر من ولادته.. حفظ القرآن الكريم بُعيد العاشرة.. التحق بالأزهر.. أنهى  دراسته العليا أوائل السبعينات بعد فترة اعتقال.. سُجنَ.. عُذِّبَ.. طُوردَ.. حُوربَ.. وفي كل بلد حَطَّ فيها رحالَه تلقته الجاهليةُ بأحضانها وتزينت له.. فركلها بقدميه!!

***
"لا تجوز الصلاة على جمال عبد الناصر".. هكذا صرخ الفتى فوق المنبر!!

كان عبد الناصر- ذلك المسخ المخذول - قد فَطَسَ للتو.. وكانوا يعبدونه من دون الله أو يكادون.. ومن عاش سنوات الجحيم الناصرية سيفهم معنى أن يصعد شابٌ - في العقد الثالث من مفاصلته - فوق المنبر؛ ليُعلِنها مدوية:"لا تجوز الصلاة على جمال عبد الناصر".

المفاصلة ليست كلمة تُقال؛ بل حياة تُحيا وروحاً تُحيِي.. ولكي تَفهمَ طبائعَ نفوس أصحابها تَذَكّر أنهم يعيشون على الأرض بمقاييس السماء!!

ستعرفُ من هذه الحادثة شكلَ الحياة التي عاشها الأميرُ البصير.. شكلَ المسار الذي سار فيه.. شكلَ التغريبة الروحية التي أعمت بصره وروحه عن مفاتن جاهلية القرن العشرين.. تلك الجاهلية الطاغية التي أوقعت غيره في شباكها؛ فركنوا إليها شيئاً قليلاً أو كثيراً، معذورين أو غير معذورين.. بيد أن الذين يعيشون في الأرض بمقاييس السماء يعلمون أن الدنيا كلها لا تعدل طرفة عين من "ضِعفَ الحياة وضِعفَ الممات".

"لا يمكنني أن أصافح يداً أعلمُ أنها أوقعت أذى بمسلم"!!
هكذا أسكتَ المشايخ الذين راودوه عن مفاصلتِه ليقابل رجلاً من أكابر مجرميها كان يُباشر تعذيب المسلمين بيديه في السجون!!
شيوخُ (التنمية البشرية) الآن لا يصافحون سوى تلك الأيدي!!
والذين صدعوا رؤوسنا بقصص ترفع العلماء عن الدخول على السلاطين.. جَمَعَتْهُم ابنةُ القذافي قديماً لتسمع منهم القرآن غضاً طرياً كما نزل!!! وتصير اللحى والعمائمُ والغُترُ - من أجل مصلحة الدعوة - خواتم وخلاخيل تتزين بها الحمقاء بنتُ الأحمق!!

الذين علَّمُونَا أن ابن حنبل وابن تيمية وأبا حنيفة سُجنوا وجُلدوا على كلمة يقولونها أو على صَمتٍ يصمتونه.. لم يُبقوا في معاجمِ اللغةِ كلمةَ نفاقٍ أو جملةَ تزلفٍ إلا حبروها وبُحّت أصواتهم بها في طاعة ولي الأمر ومديح طويل العمر الذي لولاهم ما طَالَ عمره في الجَور ولا تَمَّ أمرُه في الطغيان!!

كم هو مغيظٌ ذلك المثال الذي يُريكَ نقصَ ابتداعك في إمكانية تحققِ كَمالِ اتباعه!! ومدخول النية لا يكره إلا مَن يُذَكِّرُهُ كمالُه بنقصِه، واعتدالُه بميله، ومفاصلتُه بتمييعِه، وعزيمتُه برُخَصِه.. والقادةُ لا يأخذون بالرُخَص.. ولأمرٍ ما قالت العرب: والضِدُّ يُظهرُ حُسنَه الضِدُّ!!

***
في جزيرة محمد صلى الله عليه وسلم اكتشف الخديعة..
عَلِم أن شركَ القصور أقتل للتوحيد من شرك القبور.. وأن عقيدة الولاء والبراء ليست أكثر من" عَبّاد شمس يميلُ مع السيفِ حيث يميل"، وأن شرع الله صار" قوائم مائدةٍ للتواقيع أو قلماً أو عصاً في المراسم"، وأن برميلاً واحداً من النفط أذهب لعقول الرجال من بئر خمر، وأن أبرهة الحبشي كان أقل فهماً من العم سام الذي رأى أن أمركة البيت الحرام أجدى من هدمه!!

عَادَ إلى مصر.. ليرى نواطيرَهَا قد نامت عن ثعالبها، ويرى عناقيدَهَا - في الانفتاح - (سداحَ مداح)، ويرى كامب ديفيد يَبعثُ خطبةَ الجمعةِ للجامع الأزهر، ويرى شنودة يؤسس (الأمة القبطية) و(مدارس الأحد)، ويرى (كافور) يتبجح من أقصى حلقه بأنه: "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"!!

وحين هَبَّت النواطيرُ في يوم المنصة.. اقتيد الأمير البصير إلى السجن ثم إلى قاعة المحكمة ليُعلنها مدويةً مرة أخرى:
"نعم.." إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ" كلمةٌ حقٍ وصدقٍ نادى بها من قبل الكريمُ بنُ الكريمِ بنِ الكريمِ بنِ الكريم نبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، نادى بها من داخل سجنه من مصر، ولم تمنعه قيود السجن من أن يعلن الحق.." " إن كنا نحن خوارج، فمن تكونون أنتم؟ هل تكونون علياً وأصحابه؟ هل كان علي رضي الله عنه مقتبساً أحكام شريعته من النصارى واليهود؟! أم كان حكمه يقوم على الاشتراكية والديمقراطية؟!"... "ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحى شريعة الله عن حكم الحياة ويستبدل بها شريعة الجاهلية وحكم الجاهلية، ويجعل هواه هو أو هوى شعبٍ من الشعوب أو هوى جيلٍ من البشر فوق حكم الله وفوق شريعة الله؟!"

كان موقفَ موت.. طَلَبَهُ الأميرُ البصيرُ وانغمسَ فيه.. تماماً كما طلبه ابنُ تيميةَ وانغمس فيه:
"يا فلان، أوقفني موقفَ الموت".. هكذا هتف ابنُ تيمية بأحد القادة في معركة (مَرج الصُفَّر).. فَسَاقَهُ القائد إلى مُقابَلة العدوّ وهم مُنحدِرون كالسَّيل تَلوح أَسلحتُهم من تحت الغُبار المُنعقِد عليهم، ثم قال له: يا سيدي هذا مَوقِف الموت، وهذا العدوّ قد أَقبَل تحت هذه الغُبرة المُنعقِدة، فدُونَك ما تريد.. قال: فرَفَع طَرْفَهُ إلى السماء وأَشخَص بصَرَه، وحرّك شَفتيه طويلاً، ثم انبعث وأَقدَم على القتال!!

تخيلوا ابنَ تيمية تحت تلك العجاجة يستقبل جموع التتار الذين لم يقف في وجههم شيء.. تخيلوا الشيخ الجليل يضرب  بسيفه يمنةً ويسرة.. تخيلوا صاحب القلم وقد ألقى القلم ليمتشق الحسام.. إن الصورة النمطية التي روجوها لابن تيمية لتستعصي على مفارقة الأذهان لتحل محلها صورةُ الفارس الذي يَطعنُ ويُطعن.. ويكأن إبعاد هذه الصورة عن الأذهان مقصودٌ لذاته!!

وقف ابنُ تيمية موقف الموت، كما وقف الأمير البصير موقف الموت، كما وقف سيد موقف الموت، كما وقف ابن حنبل موقف الموت، كما وقف أحمد بن نصر الخزاعي موقف الموت.. كما وقف كلُّ الربانيين موقف الموت.. ولو سار لَعَقَةُ الموائد - من شيوخ الفتنة - على سَنَنِ هؤلاء الربانيين؛ ما ارتفع للباطل راية ولا حقق الطاغوتُ غاية.. بيد أن مصطلحات (الخوارج والبغاة والغُلاة) قريبة المتناول يسيرة التبعات هينة التكاليف؛ لا يجد المتكئون على أرائكهم مبرراً لاتكائهم أسهل ولا أيسر منها.. هي علكة حُلوة تعلكها حمير العلم التي تحمل الأسفار وتُراكم الدولار ثم تبصقها في  وجوه الناس بما حملت من مرارة أجوافهم.. وكلما اشتدت المرارة ارتفعت عضويةُ هؤلاء في الهيئات العالمية لعلماء المسلمين، وفي المجالس العليا لشورى الطواغيت، وفي المؤتمرات العلمية لتعريف الإسلام الوسطي الذي يقبل كلَّ كفار الأرض لإرضاء كلِّ كفارِ الأرض!!

وقديماً وقفت مسوخٌ بِلِحَىً تبايعُ موسوليني أميراً للمؤمنين وتتبرأ من الخارجي عمر المختار!!

***
في بيشاور وأفغانستان تلا الأميرُ البصيرُ سورةَ الحجرات مراراً وتكراراً..
كانت "وإن طائفتان" هِجِّيرَاه في محاولاته اليائسة لإصلاح ما أفسده الممول في نفوس المجاهدين أو الذين كنا نظنهم مجاهدين.. بيد أن الممول كان أذكى وأقدر حين أحسنَ قَطَعَ الشجرة باستخدامِ غصنٍ من أغصانها.. وكما يحدث الآن في (شام الفصائل) حدث قديماً في أفغانستان المجاهدين.. حذوك الحقارة بالحقارة، والخيانة بالخيانة، والكفر بالكفر!!

في السودان.. حصل على التأشيرة الأمريكية.. كان هذا من الغرائب.. وظل السؤال الذي أثارته الصحافة الأمريكية لاحقاً عن حصول الأمير البصير على التأشيرة بينما اسمه على لائحة الإرهاب.. حائراً بلا إجابة!!
هل خُدعَ الأميرُ البصير؟!
هذا أغلب الظن.. إلى أن يظهر شيءٌ آخر!!

ولأن الديكتاتورية العسكرية الفاجرة كالديمقراطية الليبرالية الكافرة؛ لا فرق بينهما في الكفر والفجر.. فقد ألقى الأميرُ البصيرُ عصا الترحال في سجون الديمقراطية الأمريكية.. مع رمزيةٍ عاليةِ الجودة: أنَّ هذا مِن ذاك وذاكَ مِن هذا.. لا فرق بين نظامين كافرين فاجرين يقتلك أحدهما بقانون مفتعل، بينما يقتلك الآخر خارج القانون!!
رجعت الديمقراطية الغربية إلى أصلها الحقير حين تتعامل مع المسلمين عامةً ومع المفاصليين منهم خاصةً!!
وصل الأمر برامزي كلارك - وزير العدل الأمريكي الأسبق ومحامي الشيخ - أن يقول: "لا أعتقد أنّه كان يوجد أيّ دليل ضد عمر عبد الرحمن، بل كان هناك أحد الجواسيس يعمل لمصلحة الاستخبارات الأميركيّة، أوقع به".

أما القانون الإداري الخاص الذي طُبِّقَ على الأمير البصير فقد قال عنه كلارك: "هي وثيقة متفردة لم أر مثيلاً لها في أية قضية من قبل؛ فهي تُحَجِّم عَملَ المحامين الخاصين بالشيخ الذين لم يتبق منهم أحد غيري".

لقد اتفقت الديكتاتوريتان - العسكرية والديمقراطية - على الأمير البصير، وحيكت خيوط المؤامرة بدقة، وصدر الحكم السياسي في المكتب البيضاوي قبل أن يصدر في قاعة محكمة منحازة لا فرق بينها وبين محاكم أمن الدولة السُفلى في الأكشاك العربية، وأُلقي الشيخ المصاب بسرطان البنكرياس، والسكري، والروماتيزم، والصداع المزمن، والضغط، وبعض أمراض القلب، مع عدم القدرة علي الحركة إلا علي كرسي متحرك.. أُلقي في زنزانة انفرادية، وقُطعت اتصالاته بالعالم الخارجي تماماً.. وكان نصيبُ (لين ستيورات) الناشطة الحقوقية ومحامية الشيخ عشر سنوات في السجن لمجرد توصيل رسالة إلى أهله وبعض تلاميذه.. ثم أخرجوها بعد ذلك لدواعٍ صحية فاقدةً لشهادة مزاولة المهنة!!
هذا كثير.. كثيرٌ جداً!!

إنه لا يمكن لإنسانٍ مهما بلغ اتساع خياله أن يصل إلى تخيل تلك الحالة التي كان يعيشها الأمير البصير في تلك الزنزانة الانفرادية لأكثر من عشرين سنة مع كل تلك الأمراض!!
لم يكن رهين محبسين؛ بل محابِس.. ولم يكن سجنه الديمقراطي - والحالة هذه - يختلف كثيراً عن تزمامارت، وتدمر، وصيدنايا، والحربي، والعقرب!!

كان على الأمير البصير ألا يدخل تلك البلاد إلا غازياً.. بيد أن ظنه الحريةَ والعدالةَ في تلك البلاد ربما قَللَ شيئاً ما من إحساسه - رحمه الله - بما يحمل من مفاصلةٍ لا يمكن أن تحتملها تلك الديمقراطية الكافرة.. وأقدار الله غالبة.. وقديماً ظَنَّ يوسفُ عليه السلام أن ذِكْرَ ذلك الناجي له عند ربه ربما يُنجيه من اللبث في السجن بضع سنين!!
وليت المتخبطين - حتى الآن وبعد كل ما جرى - في مستنقع الديمقراطية يرحمون أنفسهم من الركض وراء السراب.. إن لم يرحموا مَن وراءهم!!

إن الديمقراطية الأمريكية لم تحتمل (مفاصلياً) واحداً يعلم أنه لا يجتمع الإسلامُ بنسخته الأصلية مع الديمقراطية بنسختها الحقيقية في قلب مؤمنٍ أبدا.. بينما احتملت؛ بل وتزينت بعشرات ومئات اللحى التي خَدعت نفسها ومَن وراءها بآليات الصندوق وتفاصيل القوانين التي يمكن أن توجد في الديمقراطية كما يمكن أن توجد في غيرها.
وما كانت الديمقراطية الفاجرة مع الأمير البصير أكثرَ من امرأةِ عزيزٍ قَدَّت قَميصَه من دُبر؛ فَظَنَّتْ أنها أدركته، بينما وَسَمَتُه بِوَسمِ البَراءَة!!

***
لقد عاد الأميرُ البصيرُ إلى سماواته مُخلِفاً وراءه أسئلة المفاصلة بلا أجوبة!!
وأخلدنَا نحن إلى الأرض نجعجع تفاهات الديمقراطية بلا طحن!!
ومَن لم يأتِ عاصفةً جاء زَبداً..
ومن جاء زبداً رَحَلَ غُثاءً !!







تاريخ النشر: 29 جمادى الأولى 1438 (26‏/2‏/2017)

(السنن الإلهية.. اعتبار..لا اعتذار..) !


(السنن الإلهية.. اعتبار..لا اعتذار..) !

د.عبدالعزيز كامل

مثلما أمرنا الله تعالى بالنظر والتفكر ليلا ونهارا في خلق السموات والأرض ومافيهما من آيات إبداعه وإحكامه؛ فقد أرشدنا للاعتبار والتأمل فيما يجري من وقائع التقدير في أيامه، وقد خاطب - سبحانه - موسى (عليه السلام) آمرا إياه.. 
أن يذكر قومه بسنن الله، للاعتبار في حكمتها، ومراعاة ذلك في العمل للشريعة المنزلة عليهم وإقامتها : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور)(إبراهيم/ 5)

وفي مكة وقبل أن تتنزل أكثر الأحكام التكليفية؛ كان القرآن يرسي فهم السنن الإلهية.. ( وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ۖ وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) (الإسراء/77) وبعد الهجرة أمر الله عز وجل نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر قومه بالعودة إلى دينه وشرعه، ويحذرهم من جريان تلك السنن على من عاند أمره: ( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ)(38/الأنفال) ثم أمره في الآية التالية بإجراء أمر الشريعة على من حاربها..(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (39/ الانفال )

(السنن الإلهية) أو (الآيات الكونية) أو (الأيام) أو (الأحكام القدرية) ؛ لها مصادر تستخلص منها وتؤخذ عنها، فهي تستقى أولا من كتاب الله تعالى، كما قال سبحانه : ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )(النساء /26) 
وتستمد أيضا مما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان - عليه الصلاة والسلام - يتحين الظرف المناسب ليدل أصحابه على بعض تلك السنن، وقدكانت له صلى الله عليه وسلم ؛ ناقة لا تسبق، أو لا تكادُ تسبقُ - وهي العضباء - فجاء أعرابي على قعود له(جمل صغير) فسبقها فشق ذلك على المسلمين؛ حتى عرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيهم، فقال: (حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعهُ) رواه البخاري(611)..
فعرفهم حكم الله القدري ماض في أن كل شيء في الحياة إذا وصل أقصاه ينحدر إلى منتهاه..
وتستبط السنن أيضا من تكرار النظر والتجوال.. فيما يمر على الأمم والأقوام والأفراد من أحوال، حيث يمكن تتبع آثارها - مكانيا - بالسعي في الأرض والسير فيها، وتعرف - زمانيا - بالنظر في التاريخ والسير المشتملة عليها. وهي تعرف كذلك بالنظر والتفكر في تجانس وقعها وانتظام وقوعها.. ( قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ) (101) ثم بين- تعالى -بعدها ما يستخلص من سنن..( فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ ۚ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِين)َ (103) يونس

فنفاذ آيات الله الكونية وأحكامه القدرية في المؤمنين الصابرين.. أو في الطغاة المستكبرين؛ يقرره ويكرره ناموسها الثابت؛ وقانونها الدائم، رغم اختلاف ظروف الزمان والمكان والإنسان، (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ (46) (القمر).. فالهلاك هو الهلاك لمن طغى وتجبر..( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ• وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُم( 11ْ) (سورة محمد).

نعم ..(.. وللكافرين أمثالها) ولكن مع فارق بين انتقام الله وتعذيبه للمتكبرين الأولين ..وبين فعله ذلك بالآخرين، حيث إن العذاب في الدهور الأولى - قبل البعثة - كان بتسليط عوامل الطبيعة أو بالاستئصال، لكنه أصبح بعدها بتسليط المؤمنين بالجهاد والقتال، وفي هذا يقول سبحانه: ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)(التوبة).. وقال (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) ( محمد/ 4)
فالاعتبار بالأحكام القدرية..لا يسوغ الاعتزال أو الانتظار أو الاعتذار عن إقامة الأحكام الشرعية..إذا تكاملت شروطها وتوافرت دواعيها...

الفتنة الكبرى (1)


الفتنة الكبرى (1)

للأستاذ محمود محمد شاكر

بادرت إلى قرأت كتاب (الفتنة الكبرى) الذي صنفه الدكتور طه حسين، لأنه أول كتاب له عن رجل من رجاله الصدر الأول من الإسلام، وهو (عثمان بن عفان) أمير المؤمنين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنا اعرف الدكتور مكانه من العلم والتحقيق، وحسن تأتيه في تخريج الكلام؛ فمن اجل ذلك أيقنت انه سيملأ هذه الكتاب علما يضارع قدر هذا الرجل، ويوازن خطر الفتنة التي اضطرم سيرها في أخر خلافته، وانتهى باغتيال خليفة رسول الله اغتيالا لم يعرف تاريخ الإسلام ابشع منه ولا افظع. وقلت لنفسي أن أتجاوز الكلمة الأولى من الكتاب: أن طه خير من يصور للناس هذه الأحداث المختلطة المضطربة، وخير من يهديهم في شعابها إلى مفصل الرأي ومقطع البيان. وقديما ما ضل الناس في بيداء هذه الفتنة المظلمة، وقديما ما أخطأ الكتاب فهم هذه الحادث الجلل، وقديما ما حار الناس في أمر المسلمين الذين ذبحوا خليفتهم كما تذبح الشاة المظلومة، وقديما وحديثا ما خاض الناس فما خاضوا إلا مضلة لا يهتدي فيها سار إلى علم يفضي إلى جادة واضحة أو إلى غاية معروفة.

رميت بنفسي وعقلي في هذا الكتاب، وأنا على مثل هذه الثقة التي وصفت، وبمثل هذا الأمل الذي أمليت، فما كدت أفرغ حتى رأيت الكتاب كله يختلج بين يدي، ولست احب أن يعرف القارئ لم اختلج الكتاب. فهذا حديث طويل لو بدأت القصة لما عرفت أين انتهي، فأنا طاويه عنه؛ لأني أوثر أن ادع قلبه حيث هو من الاستقرار والأمن والرضى، وأنا افعل هذا وإن شاء هو أن أنشر هذا الذي طويت، وافعله وإن كره لنفسه هذا الاستقرار والأمن من الرضى، وحسب القارئ أن ينظر معي إلى موضعين في هذا الكتاب، لم ينفض عجبي منهما ولن ينفض عجبه حين يقف على خبرهما.

وأسبق القلم فازعم أني أسلم جدلا، كما يقولون، بأن كل الذي أتى به الدكتور طه صحيح في جملته وتفصيله، وأن الصورة التي أراد أن يصور بها تاريخ عثمان رضى الله عنه وتاريخ أصحابه ومعاصريه صحيحة أيضاً في جملتها وتفصيلها، وأزعم فوق ذلك أني لا أخالفه في شئ منها خلافا ما، وإني لو كتبت تاريخ عثمان، وتاريخ الفتنة، لم اقل إلا بم قال إذ ذكر هذه الفتنة الخبيثة فقال ص109 (فالفتنة إذن إنما كانت عربية نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء) وأنت خليق أن تنظر في هذا التكرار لهذه الصفة (وفتنة عربية) و (عامة عربية) لتعلم ماذا يريد بهذا التكرار، وما الذي يريد أن ينفيه من شركة أحد غير العرب في دم عثمان وأنت خليق وحري وجدير بان تفعل هذا وأن تتأمل فتطيل التأمل؛ لأنك سوف تلقى بعد قليل شيئا جديد كل الجدة، وحسنا كل الحسن؛ فما تكاد تمضي صفحات حتى ترى بابا في ص131 يبدأ هكذا:

(وهناك قصة اكبر الرواة (المتأخرون) من شأنها وأسرفوا فيها حتى جعلها كثير من القدماء والمحدثين مصدرا لما كان من الاختلاف على عثمان، ولما أورث هذا الاختلاف من فرقة بين المسلمين لم تمح آثارها بعد، وهي قصة عبد الله بن سبا الذي يعرف بابن السوداء. قال الرواة: كان عبد الله بن سبا يهوديا من أهل صنعاء حبشي الأم، فاسلم في أيام عثمان ثم جعل ينتقل في الأمصار يكيد للخليفة ويغرى به ويحرض عليه، ويذيع به الناس آراء محدثه أفسدت عليهم رأيهم في الدين والسياسة جميعا) ثم يقول: (وإلى ابن السوداء يضيف كثير من الناس كل ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلامية أيام عثمان، ويذهب بعضهم إلى أنه احكم كيده إحكاما، فنظم في الأمصار جماعات خفية تستتر بالكيد، وتتداعى فيما بينها إلى الفتنة، حتى إذا تهيأت لها الأمور، وثبت على الخليفة فكان ما كان من الخروج ولحصار وقتل الإمام).

فأنت ترى من هذا لماذا أصر الدكتور منذ قليل على أن يصف الفتنة بأنها (عربية) وبان العامة الذين كانوا شرار هذه الفتنة كانوا (عامة عربية) أي أنه ليس لهذا اليهودي الخبيث عبد الله بن سبا يد فيها، وأن ليس لليهود عمل في تأريث نارها. وهذا تخريج بين جدا، لا يخالفنا فيه أحد ولا الدكتور طه نفسه فيما نعلم. ثم يمضي الدكتور في حديثه ليقول بعقب ذلك: (ويخيل إلى أن الذين يكبرون من أمر ابن سبا إلى هذا الحد يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافا شديداً. وأول ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكرا في (المصادر المهمة) التي فصت أمر الخلاف على عثمان، فلم يذكره ابن سعد حين قص ما كان من خلافة عثمان وانتقاض الناس عليه. ولم يذكره البلاذري في انساب الإشراف، وهو فيما أرى (أهم المصادر) لهذه القصة وأكثرها تفصيلا. وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه اخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فما يظهر) واراني مضطر أن انقل لك أيضاً ما قاله الدكتور بعد ذلك في ترجيح رأيه وبيان حجته قال:

(ولست ادري أكان لابن سبا خطر أيام عثمان أم لم يكن؟ ولكني اقطع بان خطره، أن كان له خطر، ليس ذا شان. وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم سلطانهم طارئ من أهل الكتاب اسلم أيام عثمان. . . . . ولو قد اخذ عبد الله ابن عامر أو معاوية هذا الطارئ الذي كان يهوديا فلم يسلم إلا كائدا للمسلمين، لكتب أحدهما أو كلاهما فيه إلى عثمان، ولبطش به ـأحدهما أو كلاهما. ولو قد أخذه عبد الله بن سعد ابن أبي سرح لما أعفاه من العقوبة التي كاد ينزلها بالمحمدين (محمد ابن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة). لولا خوفه من عثمان. . . . ولم يكن ايسر من أن يتتبع الولاة هذه الطارئ ومن أن يأخذوه ويعاقبوه) ثم يقول في ص134 (فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط. ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل اقبل من صنعاء، وكان أبوه يهوديا وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديا ثم اسلم لا رغبا ولا رهبا ولكن مكرا وكيدا وخداعا، ثم أتيح له من النجاح ما كان يبتغى، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه) ثم يقول: (هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ) هكذا يقطع الدكتور الرأي جملة واحدة!!

هذا هو الموضع الأول، أما الموضع الثاني فهو اشد الأشياء علاقة بهذا، ولكن الدكتور قطعه عنه قطعا كريما فترك صفحة 134 ومضى على وجهه في هذا البحث الجليل إلى أن بلغ ص209 لكي يقول: (وهنا تأتي قصة الكتاب الذي يقول الرواة أن المصريين قد أخذوه أثناء 
 اصلها)عودتهم إلى مصر، فكروا راجعين فهذه القصة فيما أرى ملفقة من ثم اختصر قصة الكتاب اختصارا وقال: (كل هذا أشبه بان يكون ملهاة سخيفة منه بان يكون شيئا قد وقع. الأمر ايسر من هذا تلقى أهل الأمصار وعدا من أمامهم فاطمئنوا إليه، ثم تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده! فاقبلوا ثائرين يريدون أن يفرغوا من هذه الأمر وأن لا يعودوا إليه حتى يفرغوا).
ثم تبين للدكتور أن إلغاء هذا الكتاب الذي أرسل إلى والى مصر يأمره بقتل رؤوس الوفد الذي جاء من مصر، ليس يحل الإشكال في عودة الوفد بعد أن فصل عن المدينة راجعا إلى مصر، وتبين له أيضاً أن الغرض الذي ذهب إليه من أهل الأمصار تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده، أي انه كذب عليهم باللفظ الصريح، شئ غير مستساغ فانه سال نفسه كيف تبينوا انه كذب عليهم فلم يعرف كيف يجيب فألقى الغرض كما هو وزاد عليه انهم اقبلوا ثائرين، (فلما بلغوا المدينة وجدوا أصحاب رسول الله قد تهيأوا لقتالهم، فكرهوا هذا القتال وانصرفوا كائدين، حتى إذا عرفوا أن هؤلاء الشيوخ قد القوا سلاحهم وأمنوا في دورهم، كروا راجعين فاحتلوا المدينة بغير قتال) ولكن رأي الدكتور طه وهو خير من يرى الآراء أن الغرض مدخول كله إذا لم يعزز بفرض آخر، ففكر وقدر، ثم نظر ثم قال: (وأكاد اقطع بان قد كان لهم من أهل المدينة أنفسهم أعوان دعوهم وشجعوهم ثم أعلموهم با عزم عليه أصحاب النبي، ثم أعلموهم بعودة المدينة إلى الهدوء والدعة، ثم انضموا إليهم حين حاصروا عثمان). وهذه كلها كما ترى فروض وتخيل، وإقرار أيضاً بما أنكره في أمر عبد الله بن سبا من تنظيم (الجماعات الخفية) التي تتستر بالكيد، فهو ينكر هذه المبدأ هناك ويقره هنا!! ثم يمضي الدكتور في فروض، فرضا من بعد فرض، حتى يريك كيف تعقدت الأمور فجأة إلى أن كان مقتل عثمان، ولكنه يختصر ذلك اختصارا غريباً عجيباً لم اعرف له مثيلا في كل ما كتب الدكتور وفرض وادعى ثم جزم الرأي وقطع به، مما يعرفه اكثر قراء العربية الذين قرأوا للدكتور منذ أول نشأته في الكتابة.

ولست احب أن اقف بك عند شئ إلا عند هذين الموضعين فأنا اكره الإطالة في تفليه كلام الدكتور، خشية أن لا انتهي، فان تحت كل حرف مما كتب علما كثيرا لابد من تفليه وغربلته ورده إلى وجوه الحق التي زال عنها إلى سواها، وأنت ترى إننا اضطررنا اضطرارا إلى الإطالة بالنقل. لئلا يفوت عليك شئ من لب حديث الدكتور وعلمه. وقد بدا الدكتور حديثه في إسقاط قصة اليهودي ابن السوداء عبد الله بن سبا فذكر أن (الرواة المتأخرين) اكبروا من شانها وأسرفوا فيها، وإنها لم ترد في (المصادر المهمة)، وان (ابن سعد) لم يذكرها وأن البلاذري لم يذكرها في انساب الأشراف (وهو فيما يرى الدكتور أهم المصادر)، أن الذي ذكرها هو الطبري (وأخذه عنه المؤرخين الذين جاءوا بعده فيما يظهر) كما يقول الدكتور.

1 - وبدء الدكتور بقوله.
(الرواة المتأخرون) فيه إيهام شديد، متعمد فيما يظهر!! فان الطبري ليس من الرواة المتأخرين، فهو قد ولد سنة 225 ومات سنة 310 فهو معاصر (البلاذري) وفي طبقة تلاميذ (ابن سعد) صاحب الطبقات.
2 - أن سيف بن عمر الذي روى عنه الطبري  هذا الخبر هو من كبار المؤرخين القدماء، فهو شيخ شيوخ الطبري والبلاذري وهو في مرتبة شيوخ (ابن سعد)، فقد مات في زمن الرشيد، أي فيما قبل سنة 190 من الهجرة فلا يقال عنه ولا عن الطبري انهما من (الرواة المتأخرين) كما أراد الدكتور طه أن يوهم قارئه.


3 - إن ذكر الدكتور (المصادر المهمة) فيه إيهام شديد وإجحاف جارف، فإذا لم يكن كتاب الطبري من (المصادر المهمة) فليت شعري
ما هي المصادر المهمة التي يبن أيدينا؟

4 - إن الدكتور طه يعلم أن كتاب ابن سعد الذي بين أيدينا كتاب ناقص، وانه ملفق من نسخ مختلفة بعضها تام وبعضها ناقص وبعضها مختصر، والدليل على ذلك مما نحن بسبيله انه ترجم لعمر في 84 صفحة ولأبي بكر في 33 صفحة فلما جاء إلى عثمان، والأحداث في خلافته هي ما يعلم الدكتور طه ويعلم الناس، لم يكتب سوى 22 صفحة فما ذكر علي بن أبي طالب والأمر في زمنه افدح لم يكتب عنه سوى 16 صفحة. هذه على أن في الكلام على طريق ابن سعد في تراجم الرجال شئ آخر غير كتابة التاريخ فانه لم يذكر في هذا الفصل إلا قيلا جدا مما ينبغي أن يكتب لو انه ألف كتابه في التاريخ العام لا في الترجمة للرجال. وهذا شئ يعلمه الدكتور طه حق العلم ولا ريب.

5 - انه كان من حجة الدكتور في نفي خبر عبد الله بن سبا اليهودي اللعين أن البلاذري لم يذكره، وهو فيما يرى (أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلا): ثم عاد فنفى أيضاً خبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل وفد مصر مع أن البلاذري ذكره وأطال واتى فيه بما لم يأت في كتاب غيره. ولا ندري كيف يستقيم أن يجعل عدم ذكره خبراً ما حجة في نفيه ثم ينفي أيضاً خبر أخر قد ذكره ولج فيه؟
وهذه الخمسة أشياء كنت استحي أن احدث الدكتور بها أو أناقشه فيها؛ لأنها من الوضوح والجلاء بحيث لا تخفى على رجل مثله خراج ولاج بصير بالعلم احسن البصر، ولكن بقى شئ واحد احب أيضاً أن يتاح لي يوما ما أن اعرفه، وهو: هل كان في نص البلاذري قديما ذكر عبد الله بن سبا اليهودي ثم سقط أو اسقط من الكتاب؟ وهذا لا يتاح لي إلا إذا وقفت على نسخة قديمة وثيقة من كتاب انساب الأشراف، فان هذه النسخة التي بين أيدينا إنما طبعت في اورشليم، وطبعها رجل من طغاة الصهيونية، وقدم لها مقدمة لم تكتب لا بالعربية ولا بالإنجليزية بل باللغة العربية! وليأذن لنا الدكتور أن نشك اكبر الشك في ذمة هذا اليهودي الصهيوني الذي طبع الكتاب في مطابع الصهيونية في أورشليم. فقد رأينا من قبل رجلا آخر حاطه الدكتور طه يوما ما برعايته وعنايته واستقدامه إلى الجامعة المصرية، وكان يسمى نفسه (أبا ذؤيب) إسرائيل ولفسون، (وهو الآن في فلسطين يجاهد في سبيل الصهيونية) فألف كتابا في تاريخ اليهود في بلاد العرب، وطبع في مصر وقدم له الدكتور طه مقدمة أثنى فيها عليه ثناء بالغا، ومع ذلك فقد وجدنا في الذي نقله من الأخبار، والأحاديث تحريفا وبترا واقتطاعا من نصوص محفوظة معروفة. 
أفلا يجوز لنا على الأقل أن نشك في أن اليهودي الآخر طابع كتاب البلاذري، يفعل مثل هذا؟ إننا على الأقل نشك ونتوقف هذا إلى أن طريقة التأليف القديمة وبخاصة ما كان على غرار تأليف البلاذري، قد يترك المؤلف فيها شيئا في مكان، ثم يذكره في مكان آخر، وكان أولى أن يذكر في المكان الأول، وهذا شئ يعرفه الدكتور كما نعرفه واحسن مما نعرفه، أفلا يجوز أن يكون البلاذري قد ذكره مثلا في ترجمة (عمار بن ياسر) أو (محمد بن أبي بكر) أو (محمد بن أبي حذيفة) أو رجل من اشترك في هذه الفتنة؟ وهو يعلم أن الذي وجد من كتاب البلاذري قسم ضئيل جدا طبع منه جزء في ألمانيا سنة 1883، ثم تولى اليهودي الصهيوني طبع جزء آخر هو الذي فيه ترجمة عثمان في سنة 1936، ثم طبع جزء سنة 1938 قال الناشر في مقدمته المكتوبة بالعربية أن هناك حوادث جرت في عهد يزيد بن معاوية، هي وقعة كربلاء وموت الحسين (ولم تذكر في ترجمة يزيد بل ذكرهما في تراجم بني أبي طالب، وذلك حسب ما اقتضاه نظام الكتاب وفقا لتسلسل الأنساب) كما قال بنص كلامه أفلا يجوز إذن أن يكون البلاذري قد ادمج أمر عبد الله بن سبا في مكان آخر كما فعل فيما لاحظه وذكره هذا اليهودي؟ كل هذا جائز ولكن الدكتور حين يريد أن ينفي شيئا لا يبالي أن يجتاز كل هذا ويغضي عنه ليقول فيه بالرأي الذي يشتهيه ويؤثره غير متلجلج ولا متوقف.

ثم كيف نسى الدكتور أن من لم يرو خبرا ما ليس حجة على من روى هذا الخبر وبخاصة إذا كان الرجلان من طبقة واحدة كالبلاذري والطبري؟ بل لعل الطبري أقوى الرجلين واعلمهما وأكثرهما دراية بالتاريخ وتحصيلا له وهو الذي روى عنه انه قال لأصحابه: (أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره قال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى فيه الأعمار قبل تمامه. فاختصر لهم في ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال لهم: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير فأجابوه بمثل ذلك فقال: أنا لله!! ماتت الهمم!).
ومن قرأ كتاب الطبري في تاريخه أو تفسيره علم أن هذه حق، وان الرجل كان فارغا للعلم لا يلفته عنه شئ قط، ولا يدع شاردة ولا واردة إلا تقصاها وحققها ورأى فيها الرأي الذي لا يكاد ينقض. والفرق بينه وبين البلاذري لا يخطئه بصير بهذا العلم فليس من الحجة في شئ أن يقال (في عصرنا هذا): أن البلاذري لم يذكر هذا، فيكون ذلك كافيا في الرد على ما ذكره الطبري. وهذا شئ بين لا يحتاج إلى جدال كثير.

وإذن فالدكتور قد اشتط وركب مركبا لا يليق بمثله حين نفى خبر عبد الله بن سبا، وخبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل المصريين بعد الذي قد رأيت من تهافت أسلوبه في البحث العلمي؛ وإذن فالدكتور قد خالف سنة العلم والعلماء في نفي الأخبار وتكذيبها بلا حجة من طريقة أهل التمحيص، بل تحكم تحكما بلا دليل يسوقه عن فضيلة البلاذري وتقديمه على الطبري، وبلا مراجعة للصورة التي طبعت عليها الكتب، وبلا دراسة لنفس الكتب التي ينقل عنها كما هو القول في ابن سعد والبلاذري معا. 

وإذن فيحق لنا أن ننقل هنا كلمة للدكتور طه نفسه قالها عندما ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر الخلاف الذي كان بينهم، وذكر أو زعم انهم تراموا بالكبائر وقاتل بعضهم بعضا وزعم انه لا ينبغي لنا أن يكون رأينا فيهم احسن من رأيهم هم في أنفسهم فقال في ص172 من كتابه:
(ينبغي أن نذهب مذهب الذين يكذبون اكثر الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بينهم من (فتنة) واختلاف. فنحن أن فعلنا ذلك لم نزد على أن نكذب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي لأن الذين رووا أخبار هذه الفتن هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء فما ينبغي أن نصدقهم حين يرون ما يروقنا، وان نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا. وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ ونكتب بعضه الأخر لا لشيء إلا لأن بعضه يرضينا وبعضه يؤذينا). وهذا حق، ولكن الدكتور يحتج به في معرض الطعن في الصحابة ومعرض القول في نسبة الأخطاء الماحقة إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يعود فيسقط هذا الرأي، ولا يبالي به، ويخالفه اشد المخالفة في معرض رد الرواة الذين رووا لنا خبر الفتنة الخبيثة التي تولى كبرها عبد الله بن سبا اليهودي ولماذا بفعل ذلك لا ندري، بل الحق إننا ندري ولكننا نأبى أن نتعجل القارئ بحكم لم نأت فيه بالبينة التي تدفع كل أقوال الدكتور في قضية هذا اللعين ابن السوداء، فللقارئ علينا حق لا يحل لنا أن نخونه فيه وحقه هو أن يرى حجج الدكتور كلها أولاً، ثم حججنا متابعة ثانيا، ثم نعطيه الحكم ليأخذه أو يدعه على هدى وبصيرة.
وموعدنا المقال الآتي بإذن الله.

محمود محمد شاكر
تاريخ النشر02 - 02 - 1948

ترمب: أيّ حرب؟


ترمب: أيّ حرب؟ 

د.أحمد بن سعيد بن راشد




ما زالت العناوين المهلّلة للرئيس الأميركي، دونَلد ترمب، تتصدّر عدداً من الوسائط في دول خليجية، حتى ليخيّل للمرء أنّ القوم ينظرون إليه بصفته «المسيح» أو «المهديّ المنتظر» في آخر الزّمان. ترمب، بحسب تمنّياتهم، رسول الإنقاذ الذي سيقضي على ما سوّلت لهم أنفسهم أنّه «الإرهاب»، وسيبسط موائد المنّ والسلوى، وسيملأ الشرق باللبن والعسل.
ترمب، هو «القائد الملهَم الذي سيفعل المعجزات» بحسب تعبير أحمد الفرّاج، الكاتب في جريدة «الجزيرة» السعودية، وهو الذي سيعلن حتماً جماعة «الإخوان المسلمين» منظّمة إرهابيّة، فليس السؤال: هل سيفعلها؟ «بل متى يفعلها»؟ بحسب ما نشرته جريدة «الشرق الأوسط» للمصري إميل أمين، وهو الذي سيتخندق مع قادة المنطقة العربية، لا لمحاربة المسلمين، بل لمحاربة «الإخوان المسلمين» فقط، كما بشّرنا عبد الله بجاد في «الشرق الأوسط»، «فقد حانت ساعة المواجهة»، ولم تعد «الجماعة مدلّلة» كما يزعم، وهو الذي «اتّخذ القرار الحازم الصحيح» بحظر مسلمين من دول عدّة، بحسب محمد آل الشيخ في جريدة «الجزيرة»، وهو الذي لن «يتفرّج على الفوضى» في المنطقة، ولن يلجأ، كما لجأ سلفه أوباما، إلى «محاباة الجماعات الإسلامية في تونس ومصر»، كما كتب عبد الرحمن الراشد في «الشرق الأوسط» الذي تساءل: «هل نسير خلف ترمب»؟، وردّ بالإيجاب، فمن الخطأ القول إنّ السير خلفه «سير وراء داعية حرب وانجرار خلف مغامرات خطيرة». إنّ بوسع ترمب، كما يقترح منصور النقيدان في جريدة «الاتّحاد» الإماراتية، أن يسعى مع دول في المنطقة إلى إحياء «الإسلام التقليدي المرتكز على التصوّف والروحانيّة الإيمانيّة التي تتوءام مع القيم الأميركية»، والتي لا تتّخذ «تطبيق الشريعة هدفاً لها»، كما تدعو مدرسة «الإخوان المسلمين» التي يجب على ترمب وحلفائه تجفيف مصادر تمويل كل المنظّمات الدائرة في فلكها، بحسب تعبيره.
إنّ الرئيس ترمب أكثر صراحة في الإعلان عن كراهيته للإسلام من هؤلاء الذين يجعلون «الإرهاب» قناعاً يخفون وراءه عداءهم للدين. في إحدى خطاباته، قال ترمب: «ثمّة كراهية عظيمة تجاه الأميركيين تحملها قطاعات عريضة من المسلمين. 25% منهم يوافقون على أنّ العنف ضدّ الأميركيين هنا في أميركا مبرَّر. الشريعة تُجيز قتل غير المسلمين، وقطع الرؤوس...سوف تشاهدون أبراج تجارة أكثر. سوف يسوء الأمر أكثر يا جماعة». هذا ليس تخويفاً من «الإخوان المسلمين»، بل تخويف من «المسلمين». في خطاب تنصيبه، خصّ ترمب «الإرهاب الإسلامي المتشدّد» بوصفه العدوّ الوحيد للولايات المتحدة، ولم يذكر روسيا ولا الصين. قال: «سوف نعزّز تحالفات قديمة، ونشكّل تحالفات جديدة، ونوحّد العالم الحر ضدّ الإرهاب الإسلاميّ المتشدّد الذي سنجتثّه من وجه الأرض»، مضيفاً: «...سوف نحظى بالحماية من الله».

ماذا يعني ترمب؟ 

أولاً، تعبير «العالم الحر» ليس إلا إعادة صياغة لكليشهات استشراقية وكولونيالية مألوفة تقسّم العالم إلى قسمين: متحضّرين وهمج، مثل «عبء الرجل الأبيض»، و «رسول العناية الإلهية»، وربّما لا يصنّف ترمب العالم الإسلامي جزءاً من «العالم الحر».
 ثانياً: توحي عبارة «الإرهاب الإسلاميّ المتشدّد» أنّ الإرهاب نابع من الإسلام نفسه، وليس نتيجةً لمظالم واحتلالات وانقلابات، وهي رواية استشراقية روّجها برنارد لويس وزملاؤه مؤدّاها أنّ الإسلام استبدادي بطبيعته، وأنّ العنف كامن في تفاصيله وتاريخه. ولهذا السبب، قاطع الرئيس التركي، أردوغان، المستشارة الألمانية، ميركل، عندما تحدّثت عن «الإرهاب الإسلامي» خلال زيارتها مطلع الشهر الماضي لتركيا، قائلاً: «أرجو عدم استخدام هذه العبارة، ولا يمكنني، بصفتي رئيس جمهورية مسلم، أن أقبل بها أبداً».
 ثالثاً: استخدم ترمب تعبيراً دينيّاً عندما قال إنّ بلاده ستحظى في مسعاها لاستئصال «الإرهاب الإسلامي» بحماية الله، الأمر الذي يعني أنّ «الله معنا» لا «معهم»، وهو من مصطلحات «الحروب المقدّسة» أو «الحملات الصلبيبة».

الحرب التي يدقّ طبولها ترمب حرب مدفوعة بالكراهية والجهل والأحلام الإمبراطورية والصور النمطيّة، والتصفيق لخطاب هذه الحرب أو تبريره، كما يظهر في جرائد وقنوات خليجية، تضليل خطير، بل تحريض على شنّ حملات سرمديّة، وتحويل بلداننا إلى حمّام دم.

هل ستعود إسرائيل إلى سيناء من جديد؟




هل ستعود إسرائيل إلى سيناء من جديد؟



نبيل الفولي


صارت العمليات العسكرية الإسرائيلية المحدودة في سيناء خبرا معتادا في الإعلام، وإن كانت وسائل إعلام مصرية ما زالت تدرب العقل المصري على قبول هذه الأخبار قبولا اعتياديا، بعرضها بصيغة تجمع النفي والإثبات والتأكيد والشك معا.
وتتجاوز هجمات الجيش الإسرائيلي في حقيقة الأمر مجرد الرد على هجمات صاروخية -صحيحة أو مزعومة- تُشَن عليه من سيناء، إلى أهداف تبدو أبعد مدى من هذا؛ فهل تعيد تل أبيب رسم علاقتها بسيناء من جديد مستغلة في هذا "تفهم" القيادة السياسية المصرية الحالية لمتطلبات أمن إسرائيل، واستعدادها للتنازل عن سيناء -أو جزء منها- حلا للمعضلة الفلسطينية الإسرائيلية؟!
العمق الإستراتيجي
تعاني بنية الدولة في إسرائيل في الأصل من مشكلتين متناقضتين: الأولى ضعف العمق الإستراتيجي، والثانية عدم تحمل كلفة التوسع خلف الحدود وإن توفرت لديها القدرة العسكرية، وتحاول الدولة العبرية المحتلة علاج هاتين المشكلتين بوسائل مختلفة.
وتأتي إشكالية العمق من أن المساحة التي تقوم عليها دولة الاحتلال الإسرائيلي هي معظم فلسطين التاريخية (أرض 48 والضفة الغربية التي توصف دوليا بأنها محتلة) التي تبلغ مساحتها حوالي 27 ألف كيلومتر مربع فقط، ولا يشغل قطاع غزة شبه المستقل سوى 360 كيلومتر مربع من هذه المساحة؛ أي حوالي 1.33% فحسب، ويبلغ أقصى عرض للدولة حوالي 180 كم، وأقصى طولها 4500 كم.
وبهذا تبدو الدولة العبرية المحتلة فقيرة جغرافياً إلى حد خطير. ومع أنها لا تبدو وحيدة عالميا ولا إقليميا في هذا المضمار، إلا أن طبيعة إسرائيل أو تاريخها يزيد صعوبة هذا الاختناق الجغرافي؛ إذ قامت على العدوان والاحتلال والتهجير، ومن هنا وضعت نفسها في جو من العداوة والثارات التي لا تذيبها الأيام.
ومع أن شاطئ البحر المتوسطيمثل متنفسا جغرافياً مهما لإسرائيل، إلا أنه لا يمكنه إزالة الخطر الذي يحيط بالدولة المحتلة ويهددها في العمق؛ فالشاطئ المتوسطي قد يمثل مهربا -كما حدث مع الغزاة الصليبيين من قبل- أو بابا لتهديد الجيران عند السيطرة عليه بقوات بحرية قوية، إلا أنه لا يحمي عمق الدولة ولو من صواريخ تقليدية جدا تأتي من وراء الحدود.
سيناء -التي تزيد مساحتها على مساحة فلسطين المحتلة بأكثر من ضعفين ونصف ضعف- مثلت لإسرائيل بعد حرب يونيو/حزيران عام 1967 وقبل الانسحاب منها عام 1982 عمقا إستراتيجياً مهما من الجهة الجنوبية
حاولت إسرائيل باستمرار معالجة هذه الإشكالية المعقدة، وركزت في هذا على وسيلتين أساسيتين؛ أولاهما: السعي بقوة إلى التطبيع وعقد معاهدات سلام أو علاقات سياسية مع الدول العربية خاصة في الدائرة الجغرافية القريبة، والثانية: ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح على الجيران العرب. وهذا الأخير يمثل الوسيلة الأبرز إلى الآن في الإستراتيجية الإسرائيلية لعلاج هذه المشكلة.
وثمة تفهم دولي كبير لهذا العنصر في السياسة الإسرائيلية رغم الخوف والامتعاض الإقليمي؛ فلا يمانع أي من الأطراف الدولية الكبرى -حتى من يعترض منها على بعض السياسات الإسرائيلية اعتراضا معلنا- من إمداد إسرائيل بأسلحة متطورة ونوعية، ففرنسا مثلا من أكثر الدول تعاونا في هذا المجال مع إسرائيل.
وهي مع هذا تنتقد سياسات القمع الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، وتعمدها إضعاف السلطة الفلسطينية التي ترى أطراف أوربية متعددة أنها تمثل مفتاحا مهما لحل القضية الفلسطينية عبر ما سُمي "حل الدولتين".
إلا أن التفوق العسكري الواضح لإسرائيل على مجموع الدول العربية، لم يمنع جماعة مثل حزب الله اللبناني وتشكيلا عسكريا وسياسيا منظما مثل حركة حماس الفلسطينية -بإمكاناتهما المتواضعة جدا بالنسبة للإسرائيليين- من تهديد العمق  الإسرائيلي، ودفع الجيش العبري للانسحاب من مساحات من الأرض احتلها بالقوة في جولات حربية سابقة.
وفي هذا السياق؛ فإن سيناء -التي تزيد مساحتها على مساحة فلسطين المحتلة بأكثر من ضعفين ونصف ضعف- مثلت لإسرائيل بعد حرب يونيو/حزيران عام 1967 وقبل الانسحاب منها عام 1982 عمقا إستراتيجياً مهما من الجهة الجنوبية.
فأي حرب تندلع بينها وبين مصر في هذه الظروف -وهو ما حدث في حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973- ستترك للجيش الإسرائيلي حتى في حال الهزيمة مساحة للتراجع والمناورة والانسحاب إلى ما دون العمق الإسرائيلي.
وقد كانت المقايضة الإسرائيلية على سيناء في عملية السلام -التي عقدتها مع أنور السادات برعاية أميركية عام 1979- ذات شقين من الربح والخسارة: الأول أن تربح إسرائيل تحييد عدوها الأول (مصر) في الصراع العربي الإسرائيلي، والثاني أن تخسر إسرائيل شبه  جزيرة سيناء التي كانت تمثل لها حماية ممتازة للعمق.
وقد حاولت تل أبيب تعويض هذه الخسارة باشتراط خلوّ ثلثيْ شبه الجزيرة الشرقييْن من الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، ووجود القوات المتعددة الجنسيات.
لكن اتضح عقب ثورة 25 يناير/كانون الأول 2011 المصرية أن هذا الشرط ليس راسخا بدرجة كافية؛ فأي حكومة تأتي في القاهرة غير متعاطفة أو متفاهمة مع تل أبيب -كما كان الحال في العام الذي حكم فيه الرئيس محمد مرسي- يمكنها أن تلتف على هذه الاتفاقية، أو تتعلل بتهديد الإرهاب المسلح لها.
كلفة التوسع
ثمة قصة شفوية متداولة عن ملك الأردن السابق حسين بن طلال، تحكي أنه تحدث إلى بعض الأردنيين في أواخر الثمانينيات قائلا: في كم ساعة تستطيع إسرائيل احتلال الأردن؟ فأجابه بعض الحاضرين قائلا: في ساعتين، فعقّب الملك قائلا: وأنا منذ ثمانية وثلاثين عاما أحول دون ذلك!
ومع أن معركة الكرامة عام 1968 أجابت عن السؤال بطريقة مختلفة حين عجز الجيش الإسرائيلي عن عبور نهر الأردن أمام بسالة القوات الأردنية والفدائيين الفلسطينيين.
تجربة إسرائيل في عيش رعاياها -المحدودين على كل حال- إلى جانب سكان الأرض التي تحتلها أثبتت فشلها في أكثر من 70% من الحالات، بل تحولت بعض هذه المناطق إلى جحيم للإسرائيليين جيشا ومدنيين
إلا أن القصة تبدو كاشفة عن جانب من السياسة الإسرائيلية يتعلق بعدم تحمل الإسرائيليين كلفة التوسع خلف الحدود، رغم التفاوت المعروف في القوة العسكرية بين العرب وإسرائيل، وهي المشكلة الثانية التي سبقت الإشارة إليها ضمن المشكلات البِنَيوية التي تعاني منها الدولة العبرية المحتلة.
إن تجربة إسرائيل في عيش رعاياها -المحدودين على كل حال- إلى جانب سكان الأرض التي تحتلها أثبتت فشلها في أكثر من 70% من الحالات، بل تحولت بعض هذه المناطق إلى جحيم للإسرائيليين جيشا ومدنيين، كما كان الحال في غزة قبل الانسحاب منها عام 2005، وكما هو الحال في مناطق عدة من الضفة الغربية الآن.
إن السياسة الوحيدة التي نجحت بها إسرائيليا في تقليص الاحتكاك بسكانها وتهديد أمنهم، هي التهجير التام أو شبه التام للسكان وإقامة مستوطنات يهودية، إلا أن هذا نقل التوتر إلى نقاط أخرى تنفجر في وجه الإسرائيليين من وقت إلى آخر.
فالتهجير الداخلي؛ أي في حدود فلسطين من أرض 48 إلى الضفة والقطاع، أدى لتحول هذه المناطق إلى عدو خطير للدولة الإسرائيلية، وكذلك الأمر بالنسبة للتهجير الخارجي إلى الأردن الذي يبدو ضعيفا جدا من الناحية العسكرية قياسا بإسرائيل، إلا أنه يبدو من أشرس الأماكن التي يمكن أن تفكر إسرائيل في احتلالها.
وقد كان الحرص الإسرائيلي على بقاء سيناء -بعد إعادتها إلى مصر- منزوعة السلاح في معظمها وبلا تنمية وبكثافة سكانية ضئيلة جدا، جزءا من الإستراتيجية الإسرائيلية لعلاج هذه المشكلة، كما كانت جزءا من علاج مشكلة ضعف العمق الإستراتيجي.
إن أفكارا كثيرة تداولها المصريون عقب تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي عام 1982 تدور حول ضرورة إدماج أرض الفيروز في الدولة الأم بتسريع وتيرة التنمية فيها؛ حتى تُحرَم إسرائيل من الاستفادة منها في حال احتلاها مستقبلا، وتكون سدا بشريا قويا يُفشل أي تمدّد معادٍ في المنطقة.
اليوم تعود سيناء إلى صدارة المشهد المصري الإسرائيلي الفلسطيني في أجواء مثالية بالنسبة لتل أبيب، حيث يسيطر على مقاليد الدولة المصرية من يدرك أهمية سيناء الكبرى لإسرائيل، ولا يدري -من الناحية العملية- أهميتها وخطورتها البالغة على مصر
إلا أن جزءا قليلا جدا من هذه الأفكار تحوّل إلى واقع، وبقيت سيناء شبه محررة وشبه محتلة، ولم تتلاشَ فرص إسرائيل في الاستفادة منها في أي معركة تنشب بينها وبين مصر إلى الآن.
سيناء في المشهد اليوم
واليوم تعود سيناء إلى صدارة المشهد المصري الإسرائيلي الفلسطيني في أجواء مثالية بالنسبة لتل أبيب، حيث يسيطر على مقاليد الدولة المصرية من يدرك أهمية سيناء الكبرى لإسرائيل، ولا يدري -من الناحية العملية- أهميتها وخطورتها البالغة على مصر.
فـ"سيناء -كما يقول الراحل العظيم جمال حمدان- ليست مجرد فراغ، أو حتى عازل، إنها عمق جغرافي [لمصر] وإنذار مبكر يمكن أن نشتري فيه الزمان بالمكان" (حمدان: سيناء في الإستراتيجية والسياسة والجغرافيا ص 40).
وتُؤكد الزعمَ السابق أحداثٌ كثيرة جرت على أرض سيناء منذ وقوع الانقلاب المصري في يوليو/تموز 2013؛ بدءا بتهجير سكان رفح المصرية لتبقى المساحة الحدودية مع قطاع غزة خالية من السكان، وكانت أكثر المواضع سكانا على طول الشريط الحدودي الشمالي الشرقي لمصر، ومرورا بتحويل سيناء إلى أرض حرب لا تميز جماعات العنف والخارجين على القانون من المواطن المسالم، وانتهاء بعرض السيسي إقامة دولة فلسطينية في غزة وجزء من سيناء.
وهذا كله كرم لم تكن تحلم به إسرائيل؛ فهذا التوتر العالي سيحوّل سيناء إلى أرض طاردة للسكان، بعد أن كانت جاذبة لهم بصورة نسبية خلال السنوات العشر الأخيرة؛ لتصبح أرضا جرداء أو شبه جرداء تجتاحها إسرائيل -حين تريد- خلال ساعات، وتستقر فيها آمنة مطمئنة حين تشاء.
ولعل المستقبل لا يحمل احتلالا إسرائيليا صريحا لسيناء، إلا أن يتدخل الهوس الديني والسياسي الشائع في الساحة الإسرائيلية، غير أن تل أبيب ستحرص على بقاء سيناء في أدنى مستويات القدرة على الاستفادة منها مصريا؛ سواء بالسعي إلى تهجير بعض الفلسطينيين إليها، أو مقاومة أي تنمية تتم فيها.

الاثنين، 27 فبراير 2017

تفاخر الشواذ ومؤتمر المرأة ! إلى كل من له دين يغار عليه : علّكم تتّقون ..


تفاخر الشواذ ومؤتمر المرأة !
إلى كل من له دين يغار عليه : علّكم تتّقون ..
أ. د. زينب عبد العزيز 
أستاذة الحضارة الفرنسية

لو ربطنا بين التواريخ وتتابع الأحداث في كل ما أحاط بمؤتمرات المرأة، لأدركنا أن هناك ثمة إصرار لا رجعة فيه على فرض أنماط بعينها، وأن هناك شباك يتم نسجها بكل جبروت ودأب بين مختلف مجالات الانحلال والدعارة والشذوذ وتشعباتها.. ففي الوقت الذي كان يتم فيه الإعداد لعقد مؤتمرات المرأة في منتصف التسعينيات، كانت تدور المحاولات لزيادة فرض أنماط الانحراف علناً على المجتمعات الغربية خاصة في أمريكا وأوروبا. وهو ما يمكن مطالعته بشيء من التفصيل فيما يلي، وإن كانت وسائل الإعلام هناك قد قامت بدورها الترحيبي كالمعتاد.. 
إلا أن المؤسف المحزن حقا هو أن نرى انعكاسات هذا الانفلات السافر/السافل ينعكس على مجتمعاتنا المسلمة وكأن الأمر لا يعنى أحدا.. فلم نكن نسمع مثلا، فيما مضى، عن إنشاء "حزب للإلحاد"، أو المطالبة ولو على استحياء بحقوق للشواذ بأنواعهم المتعددة، أو أن نراهم يتسللون إلى المجتمع المصري وغيره من المجتمعات المسلمة، من خلال الإعلام المأجور وبعض الروايات كأعشاب البحر، ويعقوبيان، وغيرها كثير، وخاصة تغوّل هذه الهجمة من خلال الأفلام والمسلسلات والمسرحيات التي ضج واشمئز منها المجتمع، لكن يبدو، بكل أسف، ألا حياة هناك لمن تنادي.. إذ يبدو أن من يفرضون هذا الانفلات أقوى وأعتى من أية حرمات أو صرخات.. بل أن يصل تحجر الوعي والضمير إلى درجة أن أحدهم راح يطالب منذ عدة أيام، في برنامجه التليفزيوني، بإلغاء شهادة الإسلام: "لا إله إلا الله" من الكتب المدرسية وغيرها "لأنها تدعو إلى الإرهاب" على حد قوله.. 
وتحتبس العبارات ألماً وقرفا من ذلك الذي يبيع ضميره لينضم لتلك الحفته المسعورة التي باتت تساهم جهلا أو عن عمد، أو.. ربما لعلها كثرة ووفرة ما يتكسّبونه من هبات وعطايا ممن يقودون هذه الحملة من متطرفي الكنائس المختلفة في مصر والعالم الإسلامي.. وكان الأكرم لتك الأفراد من الطرفين أن تتفكر مليا وهي تحاول المساس بالإسلام، بدلا من فتح أبواب الجحيم على مصراعيه..


لقد أصبحت المسيرات التى ينظمها الشواذ بنوعيهما، من أجل الحصول على مزيد من الحقوق الإجتماعية، من التقاليد المتبعة فى باريس منذ أربعة عشر عاماً. بينما ما زال ظهورهم فى الأقاليم الفرنسية يمثل علامات إتهام ملحوظة.
وقد تم الإحتفال هذا العام (1995) فى فرنسا بالحركة المسماة "مفخرة الشواذ"، فى خمس مدن كبرى، قامت بالإعداد لها مائة وخمس وعشرون منظمة من منظمات الشواذ وجمعياتهم ! وتفاوت حجم المظاهرات من بضعة مئات فى مرسيليا ونانت ورين ليصل عددهم إلى عشرين ألفاً فى باريس ! وذلك بخلاف مسيرات مدينتى تولوز و مونبلييه.
أما فى الولايات المتحدة فيرجع تاريخ هذا الإحتفال الماجن إلى عام 1969، حينما قامت إحدى دوريات البوليس بمداهمة حانة "ستونوول" فى حملة تفتيشية تقليدية، إلا أن الشواذ فى ذلك المساء قد رفضوا الإنصياع لهجمات البوليس وقاوموه بشدة ليتحول الأمر إلى ظاهرة وإعتصام إمتد لمدة ثلاثة أيام .. وكان ذلك بمثابة مولد الحركة المسماه "مفخرة الشواذ"، أى فخر مقاومتهم لقوى المجتمع "الرجعية" وإعلان فرض ظهور المنحرفين، من الأقبية والحنايا المستترة، لينبثقوا فى وضح النهار !
وسرعان ما إمتدت هذه الحركة كالنار وسط الهشيم، لتنتقل إلى مختلف العواصم الأوروبية فى برلين وبوستدام ومدريد وأيدنبورج ولندن وكوبنهاجن وستوكهولم، دون أن نقول شيئا عما إمتد أو يدور فى بوينس أيرس أو جوهانسبورج.
ولا تعنى هذه المظاهرات المخالفة لشرع الله عز وجل ولكافة نواميس القيم والأخلاق، مجرد جبروت هؤلاء الشواذ وصلفهم على تحدى المجتمع الذى يعيشون فيه، وإنما تعنى بكل أسف مولد جماعة فى قلب جماعة الأمة التى يعيشون فيها، جماعة أخطبوطية التركيب، يتشابك أفرادها وجماعاتها عبر العالم الغربى والبلدان الخاضعة له مباشرة بغية فرض مزيد من الإنحلال، أو هو فى الواقع بغية جعل كل ما هو شاذ ومخالف لسنن الله سبحانه وتعالى هو الذى يسود العالم.
بل لقد إمتد الفخر والفقدان لأية ضوابط إلى درجة سماحهم لبعض المراهقين من الشبان والفتيات الصغار بالإشتراك فى مسيرات مدينة نيويورك وهم يحملون لافتات مكتوب عليها :
"أطفال شواذ من أباء وأمهات شواذ" !
ومن المخزى للضمير الإنسانى أن نطالع ما ورد بمجلة "نوفيل أوبسيرفاتير" الفرنسية الصادرة فى 22 يونيو 1995، بالتفصيل الممل وعلى مدى تسع صفحات، ما وصل إليه هؤلاء المنحرفون من سلطان فى البلدان الأمريكية، بحيث أصبحوا يكونون مركز ضغط لا يستهان به، بعد أن أصبحت لهم جماعاتهم العلنية فى المدن الكبرى، بل وأصبحت لهم أحياء بأسرها مثلما فى مدينة سان فرانسيسكو.
وتعد واقعة حق الشواذ فى الإلتحاق بالجيش الأمريكى واقعة لها مغزاها .. فقد كان بيل كلينتون قد وعد الشواذ أثناء الحملة الإنتخابية التى تقدم فيها عام 1992 لمنصب رئاسة الولايات المتحدة، بأن يقبل إلتحاقهم بالجيش. إلا أنه لم يستطع مقاومة المجتمع الأمريكى الذى إعترض آنذاك على ذلك الوعد. مما إضطر الرئيس بيل كلينتون بعد ذلك إلى إتباع سياسة التواطؤ الصامت التى إشتهرت بعبارة "لا تقول ولا نسأل" ! أى أنه لا يجب على الشواذ أن يعلنوا عن هويتهم، ولا يجب على السلطات العسكرية أن تسأل أو تطرح أى سؤال عن الإنحراف ! الأمر الذى أدى إلى وجود الشواذ بالجيش الأمريكى، لكنه وجود مستتر.
وإذا ما كان وجود هذه الفئة ما زال مستترا فى الجيش الأمريكى، فقد بدأ بعض أعضاء الكونجرس هناك يعلنون عن هويتهم الشاذة، وكذلك بعض الأبطال الرياضيين.. وسرت العدوى بين مختلف القطاعات ليقوم بعض العاملين فى قطاعات البوليس ومجال التعليم والصحة وبعض المؤسسات الكبرى بالإعلان عن ميولهم الجنسية الشاذة.
وقد نشرت جريدة "لوموند" الفرنسية الصادرة فى 24 يونيو 1995 مقالاً عن مئات الآلاف من الشواذ الذين إشتركوا فى تلك المسيرة السنوية، ثم نشرت تعليقاً عن الرئيس بيل كبينتون "الذى إضطر إلى تغيير موقفه بعد أن حصل على التصويت اللواطى السحاقى عام 1992" ! وكان ذلك بمناسبة محاولته الأخيرة لعودة المياة إلى مجاريها بينه وبين الشواذ.
فقد قام بدعوة فريق منتخب من الشواذ مكون من ثلاثين فرداً لزيارة البيت الأبيض، وتضيف الصحيفة قائلة : "إلا أن غلطة لها مغزاها قد وقعت وألقت بظلالها على الموقف من جديد" .. إذ أن عند لحظة دخول ذلك الفريق من الشواذ المنتخب، ولا ندرى أو لم تفصح الجريدة عن نوعية أو معيار ذلك الإنتخاب أو التميز، قام أحد رجال الأمن بتفحصهم وهم يرتدون قفازات طبية من اللاتكس حماية لأنفسهم من الإيدز ! الأمر الذى أغضب الفريق وقام بتصعيد الموقف لدرجة إضطر معها الرئيس بيل كلينتون إلى توجيه خطاب إعتذار رسمى إلى ذلك الوفد المنتخب الإنحراف !!
إلا أن ذلك لا يعنى أن الأمر قد استتب للشواذ نهائيا. فما زالت هناك بلدان، كما توضح مجلة "نوفيل أوبسيرفاتير" تحرم الشذوذ الجنسى مثلما فى إيران والصن وكوبا حيث تتم مطاردة الشواذ وإلقائهم فى السجون. بل وفى نفس المجتمعات الأمريكية ما زالت عملية لفظ الشواذ سائدة. ففى مقاطعة أوريجون قامت منظمات اليمين المسيحى بجمع آلاف التوقيعات من الأهالى لسن قانون يحرم وجود الشواذ كلية فى بعض المهن وكذلك إلغاء كافة القوانين التى حصلوا عليها والإمتيازات التى ترتبت بناء عليها، وخاصة فيما يتعلق بمجال التوظيف والسكن.
وقامت نفس المحاولة فى مدينة دنفر بمقاطعة كولورادو، إلا أن القاضى هناك أوقف الإجراءات لعدم تمشيها مع الدستور.. الأمر الذى يكشف عن ميوله الذاتية أو ربما حرصه الشديد على عدم إغضاب البعض منه.
ومن ناحية أخرى ، ورغم كل هذه المعارضات الإجتماعية لوفد الشواذ، فإن وجودهم يتزايد فى المجال الثقافى والإعلامى. ففى فرنسا تخصص لهم القناة الفضائية "كنال بلوس" عشر ساعات يومياً. بينما يتزايد عدد الصحف والمجلات الخاصة بهم فى مختلف البلدان الأوروبية، حيث بدأ سيل من الروايات الخاصة بحياتهم يغزو الأسواق ويطفح على الإنتاج السينمائى والتليفزيون، بل ويتسلل إلى مجالات التعليم ليتصدر بعض المواد الجامعية من قبيل "نظريات الإنحراف" !؟
وكان المؤرخ جون بوسويل، الذى توفى منذ بضعة أشهر مصابا بالإيدز، من أوائل الذين دخلوا هذا المجال بكتابه المعنون : "المسيحية، التسامح الإجتماعى والشذوذ الجنسى" الذى صدر عام 1980. وكان قد تمكن قبل وفاته بقليل من الإنتهاء من كتابه الإستفزازى، على حد تعبير المجلة الفرنسية، حول "الزيجات المثلية". غير أن الطامة الكبرى تظل هى إنشاء أقسام فى الجامعات الأمريكية للدراسات السحاقية واللواطية !
ورئيسة أحد هذه الأقسام فى جامعة مدينة بركلى بكاليفورنيا هى كارولين دينشو، أستاذ الأدب الإنجليزى فى القرون الوسطى، وهى أيضا إحدى مؤسسات ومحررات المجلة الفصلية المعروفة بإسم "اللواطيون والسحاقيات" التى تقوم بنشر الأبحاث العلمية الخاصة بهذا المجال الذى أصبح معروفا فى الجامعة بإسم "الدراسات السحاقية واللواطية والثنائية الجنسية وتجاوز النوع". وهذه العبارة الأخيرة تربطنا بمؤتمر المرأة الرابع المزمع إقامته فى بكين فى شهر سبتمبر القادم (1995). فلم نسرد كل ما تقدم جزافاً أو لمجرد الكشف عن مدى الإنحلال وتفشى مخالفة شرع الله سبحانه وتعالى فى المجتمعات الغربية، وإنما لأن هذا الإنحلال يمثل النتيجة الحتمية التى ستئول إليها مجتمعاتنا بعذ ذلك المؤتمر المشئوم !
ذلك لأن وثيقة المؤتمر قائمة على فكرة فرض عبارة "النوع" بدلا عن عبارة "الجنس" التى تشير إلى الذكر والأنثى، وبالتالى تشير إلى الفرق الذى خلقه الله عز وجل بين الكائنين. وتصر الوثيقة على فرض عبارة "النوع" إعتمادا على أن الفرق بين الجنسين ناجم عن التنشئة ولا بد من تغيير هذا المفهوم ورفض فكرة "أن الوضع البيولوجى هو المصير" ! أى أنه يمكن للإنسان أن يختار بكامل حريته النوع الذى يود أن يكون عليه وأن يختار بكامل حريته نوعية العلاقات الحميمة التى يود إقامتها فى كافة الأعمار وخارج إطار الزواج، وهو ما أوضحته فى المقالين السابقين (راجع جريدة "الشعب" 30/6 و 7/7/95).
كما تطالب بعض بنود الوثيقة بتغيير القوانين الإجتماعية والدينية التى تمنع الزواج المثلى، وذلك من باب الحرية الشخصية، وحتى يتسنى لهم تكوين أسرات قائمة أو مكونة من اللواطيين والسحاقيات مع إتاحة لهم حق الحصول على أطفال عن طريق تأجير البطون أو التلقيح الصناعى.
وبما أن الوثيقة تنص على أن قراراتها ملزِمة، وأن نفس هذه الوثيقة يصعب الحصول عليها أو على ترجمة لها، وبما أن أهم ما تدور حوله بنودها يخالف شرع الله وتعاليمه ويخالف أبجدية التعاليم الإنسانية والأخلاقية وكافة الأعراف السوية، فلا يسعنى إلا أن أتوجه إلى كل من له دين يغار عليه، وخاصة المسئولين عن هذا الدين، أن يعملوا جاهدين على توحيد جهودهم لرفض هذه القرارات العابثة بنواميس الله عز وجل، وإن كانت جهودهم من الضعف بحيث لن يمكنهم صد هذه الهجمة الكاسحة لكل شئ، فليعملوا على مقاطعة هذا المؤتمر مقاطعة مسببة. وقد سبق لبعض الدول أن أعلنت مقاطعتها المسببة لمؤتمر السكان والتنمية الذى إنعقد فى القاهرة العام الماضى (1994)، والذى يعد مؤتمر المرأة القادم إستمرار له.
فأياً كانت الضغوط والتهديدات والوعيد أو مهما كانت الوعود الزائفة، فإن الدفاع عن الدين وعن القيم الأخلاقية والإنسانية أهم وأبقى.
نشر بجريدة "الشعب" فى 28/7/1995 


 

مسافة السكة.. الإسماعيلية رايح فقط

مسافة السكة.. الإسماعيلية رايح فقط


وائل قنديل


يبدو نظام عبد الفتاح السيسي راضياً عن كارثة تهجير مسيحيي العريش، مستغلاً هذا الحزن العارم على ما لحق بهم في تنشيط مبيعاته في سوق الحرب على الإرهاب، من خلال ترك المأساة تتسع وتتفاقم، لترسم صورةً لما يدور في العراق وسورية، وهي الصورة التي لطالما استخدمها في عسكرة المجتمع، وقتل السياسة، والإجهاز على أي فرصةٍ لتطور ديمقراطي، والأهم تبرير كل الجرائم بحق الإنسان المصري.

ومن ناحية أخرى، يتم تدريب الأذن المصرية على استقبال مفردة التهجير من سيناء، بحيث تصبح أمراً اعتيادياً فيما بعد، في إطار "بروفة" لعملية تهجير أشمل، وأوسع نطاقاً، تمتد من الأقباط إلى بقية مكونات المجتمع السيناوي، بما يفسح المجال لكل السيناريوهات الكبرى التي تُعدّ للمنطقة، بما تتضمنه من توطين وتغيير في الطبيعة الجغرافية والتركيبة السكانية.

ويلفت النظر، هنا، أن الإسماعيلية، وحدها، تنهض وطناً بديلاً للمهجّرين، ولم أكن أرجم بالغيب، حين قلت، قبل أيام، إن بناء"إسماعيلية جديدة" في الأراضي بين سيناء والإسماعيلية القديمة، أمر مثير للريبة والأسئلة المتعلقة بفتح موضوع استخدام أراضي سيناء حلاً لأزمات إقليمية مزمنة.

وما كتبته كان نقلاً عن مصادر، أثق بها، استرعى انتباهها هذه الهمة والجدية، والعجلة، في إنجاز إنشاء مدينةٍ سكانيةٍ، كاملة، في وقتٍ تتعثر فيها مشاريع السيسي الأخرى التي لم تكن سوى عناوين ضخمة في وسائل إعلامه، من دون أن تتحقق على الأرض.
في مقابل عشرات الآلاف من المواطنين الذين تدور عملية تهجيرهم، هرباً من حرب الإرهاب على الإرهاب، تقفز أعداد السائحين الصهاينة إلى سيناء قفزاتٍ غير مسبوقة، بحيث بلغت نسبة زيادتها أواخر العام الماضي 140% عن العام السابق 2015.

تقول الأرقام المعلنة في الكيان الصهيوني إنه، منذ عودة السياحة الإسرائيلية في أبريل/ نيسان 2016 وحتى أكتوبر/ تشرين أول 2016، سجل منفذ طابا دخول نحو 420 ألف سائح إسرائيلي، بزيادة قدرها 380 ألفاً عن الفترة نفسها من العام السابق، وقد استمرت الزيادة على الرغم من التحذيرات الإسرائيلية، الرسمية، من المخاطر الأمنية.
لم نسمع يوماً أن الدواعش استهدفوا الصهاينة السائحين، ولم نعرف أن سلطات عبد الفتاح السيسي نصحتهم بعدم المجيء، أو اضطرتهم إلى النزوح، بعيداً عن الخطر، كما جرى مع المواطنين المصريين المسيحيين الذين باتوا موضوعاً لعناوين مثيرة، مثل النازحين والمبعدين والمهجرين قسرياً، والعالقين في دروب الرحيل الإجباري. وبالتوازي، يشتعل الحديث عن المساعدات والأعمال التطوعية والتبرعات، تضامناً مع المهجرين من سيناء إلى الاسماعيلية الشقيقة.

وهذا ما تنطق به تفاصيل المشهد: الإسرائيليون يعيشون أحلى الأوقات بين داعش والسيسي، فيما يواجه المصريون الجحيم، لتصبح المعادلة هكذا:
لا مشكلة بين السيسي وإسرائيل، بل وئام وانسجام وتحالف.. 
لا مواجهة أو صراع بين "داعش" وإسرائيل، بل تعايش وتفاهم، وبذلك تكون الخلاصة أن لا مواجهة حقيقية بين السيسي و"داعش"، بل استثمار متبادل في بورصة الخوف.

لن أعيد تذكيرك بنكتة المتحدث العسكري السابق إن إزالة "داعش" أبسط كثيراً من نفض الغبار العالق على كتف الجاكيت، أو جزم السيسي أن سيناء تحت السيطرة الكاملة، ولا عبارته الكوميدية "مسافة السكة". فقط أطرح عليك السؤال: هل تلمس إرادة حقيقية، وجدية، لدى نظام السيسي لاقتلاع الإرهاب من سيناء؟.

الحاصل أنه كلما تصاعد غبار الإرهاب، وجدها السيسي فرصةً لمزيد من التوحش في القضاء على السياسة، والتغول على الحقوق والحريات، ليصبح الأمن عقيدة الدولة ودستورها الوحيد، وأقرب مثالٍ على ذلك استثمار مأساة تهجير الأقباط قسرياً في الدفع بمشاريع برلمانية تفرض مد فترة الرئاسة إلى ست سنوات، ومقترحات بتعديل الدستور، الانقلابي، بحيث لا يمنع ترشح الرئيس أكثر من فترتين، وهو ما يعرف في تراث الاستبداد المصري بـ "مشروع فايدة"، نسبة إلى النائبة، المطربة، فايدة كامل، زوجة وزير داخلية أنور السادات، الشرس النبوي إسماعيل، ناهيك عن المضي في إسقاط عضوية النائب محمد السادات، عقاباً له على التواصل مع منظمات مجتمع مدني دولية، وأيضاً الأحكام المغلظة ضد الشبان الذين تظاهروا، إحياء لمناسبة مرور أربع سنوات على ثورة يناير.

وإذا كانت انتفاضة المجتمع المدني والقوى السياسية، تضامناً مع المهجرين، تبدو عملاً جيداً ونبيلاً، فإن التضامن الأهم مكانه العريش، وليس الإسماعيلية، وذلك بإجبار السلطة على الاضطلاع بمسؤوليتها وإعادة "المبعدين" إلى دورهم، من دون إبطاء، بدلاً من تثبيت واقع المنفى والوطن البديل.

عقار متنازع عليه


عقار متنازع عليه 


عبد الرحمن يوسف


ربما يكون من المناسب أن أوضح لغير المصريين أن سرقة العقارات من أكثر الجرائم انتشارا في مصر، ولها العديد من التكنيكات التي ربما لا تخطر ببال أحد، ولكن من أكثر هذه الصور انتشارا هو أن يبحث السارق عن أرض أو عقار ليس له صاحب، إما لسفر، أو هجرة، أو لانشغال، أو أيا كان السبب.
هذه الخطوة الأولى، أما الخطوة الثانية، فتكون بوسيلة من وسيلتين، إما أن ينتحل شخصية صاحب العقار (بطريقة ما)، أو أن يزور عقد بيع ابتدائي من صاحب العقار له هو شخصيا (وهي الوسيلة الأكثر انتشارا).

من خلال هذا العقد المزور يتمكن هذا اللص من الاستيلاء على العقار، وبعد ذلك يمكن أن يبني فوقه عمارة ويبيعها، أو أن يبيع قطعة الأرض تلك لطرف ثالث حسن النية (أو سيء النية)، وفي حالة كونه سيء النية لا بد أنه سيشتري قطعة الأرض تلك بثمن بخس من اللص الذي زوَّر الأوراق.

يحدث كثيرا أن ينتبه صاحب العقار أن أرضه أو مبناه قد تمت سرقته، فتراه يحاول إثبات حقه في هذا العقار بعدة طرق، الطريقة الأولى أن يلجأ للقضاء.

والطريقة الثانية أن يعلن في المنطقة أن هذا العقار عليه نزاع، بحيث يخاف كل مُشترٍ جديد من أن يقحم نفسه في موضوع نهايته قد لا تسر، لذلك من الأمور التي اعتادها المصريون أن يجدوا لافتة ضخمة على قطعة أرض مكتوب عليها (هذا العقار ملك لفلان الفلاني أو لورثة فلان الفلاني، ونحذر من التعامل عليه بالبيع أو الشراء حيث إن ذلك يضع المتعامل تحت طائلة القانون)، أو ما شابه ذلك من الجمل التي تحذر أي مشتر أو مستأجر من الدخول في عش الدبابير ذاك.

هذا ما خطر في بالي حين قرأت ما كتبه المحامي خالد علي وفريق الدفاع المحترم في قضية تيران وصنافير، وهذا ما خطر في بالي حين قرأت حيثيات حكم الإدارية العليا في القضية ذاتها.

فأشارت المحكمة إلى “أن الجزيرتين ضمن الإقليم المصرى، خاضعتان للسيادة المصرية الكاملة ، ووفقًا لنص المادة (151) من دستور جمهورية مصر العربية الصادر فى 18 يناير 2014 ، يحظر إبرام أى اتفاق يتضمن التنازل عن أى جزء من الإقليم المصري”.

وقالت هيئة الدفاع :

“أولاً : أن الدستور المصرى رسَخ مبدأ سيادة الشعب فى أعلى صورة فحظر أى التزام دولى على الدولة فيما يتعلق بهذه الأنواع من المعاهدات إلا بعد أخذ موافقة الشعب صاحب السيادة ومصدرها، فالتصديق وهو من سلطة رئيس الجمهورية مشروط بموافقة الشعب عبر استفتاء واجب، وفيه يحل الشعب محل السلطة التى تقوم مقامه بالتشريع والرقابة ، وعلى رئيس الجمهورية أن يخاطب الشعب مباشرة طالباً رأيه الفاصل والملزم فى أية معاهدة محلها الصلح أو التحالف أو تتعلق بحقوق السيادة . والترتيب المنطقى للأمور أن يتوجه رئيس الجمهورية إلى الشعب طالباً رأيه ، فإن أجاب طلبه بالموافقة استكملت إجراءات الاتفاق الدولى ، وإن كان له رأى آخر زال أى اتفاق أو إجراء سابق تم اتخاذه.

ثانياً: أن التنازل عن أى جزء من إقليم الدولة أو إبرام معاهدة تخالف أحكام الدستور المصرى- فرادى أو مجتمعة – تعد من الأمور المحظور إبرام أى اتفاق دولى بشأنها ولا تعرض على الشعب الذى أعلن إرادته عبر دستوره وحاصله.

إنه لا يُقبل التنازل عن أى جزء من الأرض أو مخالفة أى حكم من أحكام الدستور الذى يمثل الوعاء الأصيل للنظام القانونى الحاكم من ناحية والضمان الوحيد لاستقرار نظام الحكم من ناحية أخرى”.

كل هذه الجمل والعبارات الرصينة تذكرني باللافتات التي يعلقها أصحاب العقارات التي تتعرض للسرقة في مصر !

للأسف الشديد … ليس ممكنا أن نعلق لافتة على وطننا المسلوب مصر نقول فيه “هذا الوطن ليس معروضا للبيع، وعلى كل الدول التي تستغل وجود مجموعة من العملاء في السلطة أن تعلم أنها ستدفع ثمن ذلك إن عاجلا أو آجلا” !!!

ولو كان تعليق مثل هذه اللافتة ممكنا … فلا أظنه سيجدي كما يجدي الأمر في تخويف المتعاملين على قطعة أرض هنا أو هناك … فإغراءات شراء الدولة المصرية أو بعضا منها أكبر من أن تقاومها الدول (سواء من إخوتنا أو أبناء عمومتنا أو من أعداءنا).

لذلك … لا حل أمامنا سوى أن نقف صفا واحدا أمام هؤلاء الخونة … لصوص الأوطان … الذين يبيعون مصرنا الغالية لكل من هبَّ ودبَّ مقابل بقائهم في السلطة.

الأمة المصرية تنتظر من نخبها وأبنائها المخلصين أن يتحدوا، وأن يضربوا على يد الظالم، وأن يتناسوا خلافاتهم السطحية في هذه اللحظة الحرجة.

إذا لم نفعل ذلك الآن … فتأكدوا أننا لن نجد وطنا نتنازع عليه لاحقا !

لن تجدوا مصر لتتنازعوا على هويتها … وعلى خريطتها …!

ستمحى مصر من على الخريطة … ستصبح بلدا بلا ماء، ولا هوية، ولا ثروات، ولا قرار وطني … وتعويض ذلك سيستغرق أجيالا وأعمارا.

لا زالت فرصة التوحد سانحة حتى الآن … بشرط أن تتراجع طموحات وأطماع الجميع لصالح المصلحة الوطنية العظمى.

اللهم إني قد بلغت … اللهم فاشهد.