السبت، 31 ديسمبر 2016

تركيا :العثمانلية التائهة

تركيا :العثمانلية التائهة

علي فريد

لن يتركونا.. وإن تركناهم!!
الذين فشلوا منذ مائة سنة في إسقاط القسطنطينية بحملة الدردنيل في الشمال؛ أسقطوها بإشعال الثورة العربية في الجنوب!!
إنهم الروم أصحاب القرون!!
وسيعودون.. وسنعود !!

***
لا يمكن أن نعرف الآن حقيقة ما حدث.. كلها روايات متضاربة نستطيع تصديق أكثرها غرائبية بذات السهولة التي نستطيع بها تصديق أكثرها معقولية!!

والحقيقةُ _غالباً_ رفاهيةٌ يصعب الحصول عليها!!

تركيا _في العموم_ أشبه بلعبةِ المتاهة.. لا تكاد تنتهي فيها من دهليز حتى يسلمك الدهليز لدهاليز، وفي كل دهليز ممراتٌ بِغُرَفٍ تخرج منها حيات وعقارب وأشباح ومهالك..
هي شبكة صيادٍ تَقّلبَ بها سمكُ الرَّعاد ألف مرة، وكلما حاولتَ تفكيكها تشابكت في يديك مرة أخرى مع صعقة أو صعقتين من السمك الملتف بها!!
فلا تطمع _والحال هذه_ في الحصول على رفاهية الحقيقة!!

***
هذا العثمانلي التائه لم ينجح في شيء قدر نجاحه في إصابة الناس بالتيه.. أنتَ معه متذبذب بين الفكرة ونقيضها.. بين خيالك العاطفي عن سليمان القانوني وهو يرد على استغاثة ملك فرنسا معتبراً فرنسا ولايةً تابعة له، وبين خيالك الواقعي عن عبد الحميد الثاني وهو يقود سفينة عثمانية تائهة تجري بهم في موج كالجبال.. ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم!!

يعطيك أردوغان كلَّ ما تريد.. كفرَ
العلمانية المحض وإيمانَ الإسلام الخالص.. ثم يتركك متأرجحاً بين صحيح العقيدةفي الولاء والبراء والمفاصلة، وبين صحيح الفقه في استصحاب الواقع ودرء المفاسد المقدم على جلب المصالح!!

حيناً: ترى فيه وجهاً عثمانياً بقناعٍ أتاتوركي.. 
وحيناً: ترى فيه وجهاً أتاتوركياً بقناعٍ عثماني، فإذا نزعتَ القناعين عن الوجهين تداخلت أمام عينيكَ الوجوهُ والأقنعة حتى لا تكاد تعرف وجهاً من قناع!!
تنظر لظروف المنطقة وأوضاعها فتشعر أنه سدٌ أخير_وإن لم يكن منيعاً_ بينك وبين السيل الذي يوشك أن يُطَيِّن معالم المنطقة ليعيد بناءها حسب الخطة الجديدة.. 
ثم تنظر مرةً أخرى لظروف المنطقة وأوضاعها فلا تستبعد أن يكون هو ذاته دفقةَ ماءٍ شديدةٍ في هذا السيل الطامي!!
تتذكر (إنجرليك).. ومعها تتذكر التسعينات_وما أدراك ما التسعينات_حين أفتى علماء الدين وحَفَظَةُ الملة بجواز الاستعانة بالكفار في صد المسلمين المعتدين.. ثم تتذكر أنك أقنعتَ نفسَك حينها بصحة الفتوى من قبيل (الحديبية) و(ثلث تمور المدينة).. 
ثم ترى مآلَ الأمر بعد أن باض الكفارُ في ديارنا وفرّخوا، واتخذوا بلادنا قاعدةً لضرب بلادِنا، ولم يتركوا في نخيلنا تمرةً واحدةً إلا أكلوها ثم باعوا نواها لنا.. فلا تعرف هل المجازر التي حدثت بعد صدور الفتوى أقل حدة من المجازر التي كان يمكن أن تحدث لو لم تصدر الفتوى!!..
ثم تنتقل لمستوى آخر في المجازر لتقارن بين المجازر التي كانت ستحدث للمسلمين في تركيا وما حولها لو نجح الانقلاب وبين المجازر التي تحدث الآن للمسلمين في العراق والشام منطلقةً بعضُ أسبابها من تركيا.. فيهولك الأمر حين تكتشف أنك صرتَ تُفرِّق _في بحر الدماء دون أن تدري_ بين دم مسلمٍ ودم مسلمٍ آخر.. والمسلمون عدول تتكافأُ دماؤهم ويقوم بذمتهم أدناهم.

ثم لا تلبث أن تلعن هذا الوضع كله حين تكتشف أن مُنَظِّري الحديبية وعشاقَ فقه الواقع أوصلونا إلى لحظةٍ صرنا نوازن فيها بين إمكانية تقبلنا لسفك دماء المسلمين في الشمال وإمكانية تقبلنا لسفك دماء المسلمين في الجنوب..
وكأنه لا خيار أمام المسلمين إلا أن تُسفكَ دماؤهم بما جنته عقولهم!!

وحين تبتعد عن المشهد قليلاً ثم تُعيد التفكير فيه.. تكتشف أن النتائج التي تطلبها ليس لها منطلقات في أرض الواقع، وأنك تعيش وتفكر في صندوق مغلق اسمه (النظام العالمي) له منطلقاتٌ مضادةٌ تماماً للمنطلقات التي تتخيل أنتَ جريَانها في الواقع؛ فصرتَ _كلما رتبتَ نتيجةً على منطلق_ تشعر بلا معقولية النتيجة مع ذلك المنطلق؛ لغفلتك عن غياب المنطلق الذي تتوهم حضورَه.. حتى اجتمعت بين يديكَ مئاتُ(النتائج غير المعقولة) لمئات (المنطلقات المتوهَمَة).. ومع تتابع الزمن وتطاول الأمد تَسرّبَ إلى نفسك وترسّبَ فيها (لامعقوليةُ) منطلَقِكَ ذاته.. 
وإذ أنت بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يغلبك الشك في منطلقك فتكفر به وتصبح رقماً في صندوق النظام العالمي؛ وإما أن تكسر هذا الصندوق وتخرج إلى شمس الله المشرقة لترى منطلقاتك بنتائجها كشمس الله المشرقة!!
وقد غبرنا زمناً نطيع سادتنا وكبراءنا داخل الصندوق ملفِقِين وراءهم بين الأبيض والأسود ومُوفقِين معهم بين الظل والحرور ومساوِينَ بسببهم بين الظلمات والنور.. 
ولكي يتماشى الإسلام مع (صندوق النظام العالمي) جمعنا فيه الأشتات والأضداد والمتناقضات حتى صار أكثر دينٍ يجهله الإسلاميون هو الإسلام ذاته، وصارت المباديء كالسيدة الفاضلة التي يغتصبها أبناؤها بدعوى الحفاظ عليها.. وكأننا_ لشدة حرصنا على عدم تشويه الإسلام_ لم نعد مسلمين!!

أردوغان ليس أكثر من رئيس دولة علمانية وطنية ديمقراطية في صندوق النظام العالمي، يعمل بآلياته ويسير_طوعاً حيناً وكرهاً أحياناً_ بمنطلقاته.. إلا أن أصحاب الصندوق لا يريدون في هذه المنطقة الخطيرة (عقائدياً واقتصادياً) أحداً يمكن أن يزعجهم بمجرد التفكير في التعامل الندِّي معهم أو رفع رأسه لتُساوي رؤوسَهم، أو المساومة الشديدة في فتح الأسواق لمنتجاتهم وبضائعهم أو فتح القواعد لصواريخهم وطائراتهم.. 
ولأنهم يعرفون الخلفية العقائدية التي جاء منها أردوغان ومفاصلتَها للنظام العالمي، ويعرفون أيضاً أن مجيئه كان حسب قواعد النظام العالمي الديمقراطي؛ فإن خشيتهم من إمكانية خلخلة أسس النظام الفكرية من الداخل تظل مسيطرةً على نفوسهم وعقولهم وهواجسهم رغم ما يظهر من أردوغان بين الفينة والأخرى من مخالفة لأصوله العقائدية.. وحتى لو كان أردوغان عندنا وعندهم لا يبدو بهذه الصورة إلا أنه في تصورهم يمكن أن يكون تجربةً يُنسج على منوالها ويُسار على أثرها.. وهم لا يسمحون بالتجارب إن وصل الأمر للجذور ؛ فاستلهام الإسلام أو إعطاءُ بعضِ مَظاهِرِهِ شيئاً من حرية الحركة قد يُقبل في جزيرة العرب أو مصر أو الشام أو غيرها من المناطق التي يتعاملون معها حسب ظروفها.. ولكنه مخيف جداً في منطقة كانت_منذ تسعين سنة فقط_ عاصمة الخلافة الإسلامية ومقر راياتها الخفاقة.. وإن غاب هذا المعنى عن بعضنا في زحمة التصورات السياسية والاقتصادية فإنه لا يغيب عن الصليبيين وأحفادهم.. وكلهم صليبيون!!
***
لقد فشل الانقلاب.. لكن هل سينجح أردوغان؟!
الحمد لله على نعمة فشل الانقلاب.. ولكن هل سيأتي انقلاب آخر يقال فيه كما يقال الآن عن انقلاب مصر: الحمد لله على نعمة الانقلاب؟!
مقتل تركيا_غالباً_في جنوبها، كما أن مقتل العرب_غالباً_في شمالهم.. ثم تتكاثر المقاتل حتى لا تعرف من أين تأتي الضربات!!
سيعودون ثانيةً وثالثةً ورابعة.. بنفس الطريقة أو بطرق أخرى.. كما فعلوها بعد حملة الدردنيل الفاشلة في الشمال.. فَثوُّروا العرب في الجنوب ليسيطروا على تركيا من جنوبها.. 
ثم أسقطوا العرب في شمالهم بسوريا والعراق.. ليسيطروا بعدها على شمال العرب وجنوبهم وشرقهم وغربهم.. وعادوا وعدنا من حيث بدؤوا وبدأنا!!
أغلب ظني أن نجاح الانقلاب كان سيجعل من الخليج محطةً ثالثة له بعد تركيا والعراق والشام.. هذه طبائع الأشياء.. تطول الفترة الزمنية الفاصلة أو تقصر.. لقد كان فشلهم في الدردنيل مدوياً.. ولأنهم _كما قال عمرو بن العاص رضي الله عنه عن الروم_: "أسرعهم إفاقةً بعد مصيبة وأوشكهم كرةً بعد فَرّة..." ؛ فقد أفاقوا في جنوب تركيا العربي وكروا بعد الفَرّة؛ فطوقوها من جهاتها الأربع ثم دخلوا الخليج ففتتوه إلى ما ترون.. وإنهم لعائدون لتفتيتٍ جديد!!
ومن أعجب العجب أن أردوغان _على ما فيه_ لا يزال حتى الآن، (أقول: حتى الآن) درعاً واقياً لصنفين من أعدائه: الذين يُبغضونه في الخليج، والذين يكفرونه في العراق والشام.. ولو اعتبر هؤلاء أن هذا الانقلاب الفاشل حملةَ دردنيل أخرى ثم نظروا إلى ما حدث بعدها من أهوال في العقد الثاني من القرن العشرين؛ لعرفوا ما الذي كان ينتظرهم إن سقط أردوغان.. ولا أدري والله كيف يفرح عاقلٌ بانهيار سَدٍّ كان يأتيه من بعضِ شقوقهِ بعضُ غرق، ولو انهار لجاءه سيلٌ عَرِم.. وما فكرة (إدارة التوحش) بصالحةٍ في كل حين أو مجديةٍ في كل مكان.. وقد عرفتم ما ينتظركم فتجهزوا له.
***
تبدو تركيا الآن كمضمارٍ كبير يصهل فيه فرسٌ واحد: أردوغان
هذا هو الظاهر.. والباطن يعلمه الله، ثم المتحركون فيه!!

الأخبار التي تتوالى تباعاً تؤكد أن الرجل هَبّت رياحُه فاغتنَمَها!!
من سيسأله الآن عن إقالة آلاف القضاة والعسكريين ورؤساء الإدارات والمؤسسات؟!

من المستبعد عقلاً أن نصدق أن هذه الآلاف المؤلفة شاركت (فعلياً) في التخطيط لانقلابٍ فاشل كهذا.. لقد جاءته الفرصة على طبق من ذهب لتصفية حساباته السياسية مع أبشع مؤسسة عسكرية في الشرق، ثم مع الكيان الموازي.. حليفه القديم الذي أصبح _في تركيا الأردوغانية_ مشجباً تُعلق عليه كلُّ مشاكلها بحقٍ حيناً، وبباطلٍ أحياناً!!
لم أستسغ اتهام الكيان فور وقوع الانقلاب.. هذا أشبه باتهام(الإرهاب الإسلامي!!) بعد كل حدث عنيف في الغرب قبل التحقيق فيه!!
الجميع مقتنع بتورط هذا الكيان.. وأنا منهم.. ولكن لا أظن أن عاقلاً يحتاج إلى كثير تدبر ليعلم أن الدول العربية والإقليمية والعالمية التي نجحت في وأد الثورات العربية أو تعويقها كانت هي المحرك الأول لهذا الانقلاب الفاشل.. وحين يخرج الرئيس بعد ساعةٍ من بدء الانقلاب ليتهم الكيان الموازي تحديداً؛ فإن اتهامه هذا ليس أكثر من تُكأة أُحسِنَ استخدامها لضرب (البردعة) بدلاً من (الحمار) الذي يحتاج ضربُه أو مقاومتُه وقتاً وجهداً غير متوفرين الآن!!
لا تلتفت كثيراً للدعايات التجميلية التي تجعل (العقائديةَ) سبباً في معاداة أردوغان للكيان الموازي.. فلا غولن هوالشيطان الرجيم الذي يناهض أردوغان بسبب الإسلام، ولا أردوغان هو الملاك الرحيم الذي يحارب غولن للدفاع عن الإسلام.. هي مصالح سياسية قد يكون خلفها شيٌ من بُعد فكري قومي توافقت حيناً فتحالفا، ثم تضادت فتنافرا..
وقديماً قالت العرب:"لا يجتمع سيفان في غمد ولا فحلان في قَرَن"، وما إسقاط أردوغان لأحمد داوود أوغلو عنا ببعيد.. وإن من العَبَطِ العَابِطِ والخَبْطِ الخَابِطِ أن يُدخِلَ (إخوانُنا الطيبون) الدينَ في معركة بين رجلين لا فرق بينهما_في التصوف والعلمانية والتعامل مع الغرب والأخطبوطية التنظيمية والبراجماتية السياسية_ إلا كالفرق بين السبّابة والوسطى؛ يختلفان شكلاً وحجماً ولكنهما في النهاية إصبعان في يَدٍ واحدة!!
ربما أكون مخطئاً.. ولكن ضخامة الإقالات تدل على ضخامة الفرصة.. وهذا العثمانلي التائه (صَايعٌ) حقيقي رغم تيهه!! فمن الصعوبة بمكان أن نقتنع بمشاركة كل هؤلاء في انقلابٍ قُطِّعت ذيولُه في ثلاث ساعات فقط!!
هذه مَعَرّةُ الدهر لجيشٍ أنجحَ أربعة انقلابات في خمسين سنة، بعد أن أسقط قائدُه الأولُ نظامَ خلافة استمر أكثر من ألف وأربعمائة عام، وتجذرت فيه العلمانية الأتاتوركية تجذر الظفر في اللحم!!
لماذا فشلوا إذن ؟!
فتش عن القوة .. مبدأ الأمر ومنتهاه ، وما حولها أدوات مساعدة.. كلُّ أداةٍ بقدرها!!
الشعبُ بعد القوة.. والنخبة الحزبية العلمانية بعد الشعب.. ولا بأس عندي أن تضع نجاة أردوغان قبل الشعب وبعد القوة في الترتيب!!
لا تُغفل الشعب الذي خرج للحفاظ على كيانه من أوباش العسكر مصاصي الدماء.. ولكن قذيفة واحدة من طائرة انقلابية كفيلة بإعادة الناس إلى منازلهم ما لم تُسقطها قذيفة مضادة من مدفع أو طائرة موالية!!
لا تغفل رؤوس النخبة الحزبية العلمانية التي حسبت المكاسب والخسائر محمَلةً بذكريات سوداء عن انقلابات تركيا المتتابعة دون أن يكون شرف المبدأ عاملاً جذرياً في رفض الانقلاب.. فالشرف_غالباً_ كلمة لا محل لها من الإعراب في عالم السياسة.. والعلمانيون عامةً والشرقيون منهم خاصةً كدود الأرض؛ يتخلقون في الجِيَف ويعيشون عليها.. وإذا كانت الديكتاتورية بحراً فالعلمانيون أسماكه؛ إن خرجوا منه ماتوا.. وأغلب ظني أن مصلحة رؤساء الأحزاب تحديداً اقتضت البقاء مع أردوغان الذي يتهمونه_مناكفةً_بالديكتاتورية، بدلاً من الارتماء في أحضان الدكتاتورية العسكرية التي ارتموا في أحضانها سابقاً فعرفوا أنها كالفريك الذي لا يحب الشريك!!
هذه هي الأسباب الكبرى التي أدت لفشل الانقلاب في ظني.. ولو نجح الانقلاب لكان غيابُها سبباً في نجاحه سواءً بسواء!!
أما الذين يقارنون الشعب التركي في 2016م بالشعوب العربية في ثوراتها الحالية فهم مخطئون جداً.. ربما لأنهم لا يعرفون أن تركيا أمُّ الانقلابات وأبوها: انقلاب الستينات الذي افتتح دهليز الانقلابات العسكرية، ثم انقلاب السبعينات الذي سُمي (انقلاب المذكرة)؛ لأن العسكر لم يكلفوا خاطرهم بتحريك الدبابات؛ بل أرسلوا مذكرة للحكومة فسقطت دون أن يهتز شاربٌ تحت أنف أحد، ثم انقلاب الثمانينات الدموي، ثم انقلاب التسعينات الأبيض على أربكان ذي التوجه الإسلامي، والذي سُمي (انقلاب ما بعد الحداثة)؛ لأنه تم بهدوء_كالسكين في الحلاوة_ دون اعتراضٍ شعبوي أو نخبوي أو حلٍ للبرلمان أو تعليقٍ للدستور.
الشعوب نسقٌ واحد، أو تكاد تكون نسقاً واحداً.. لا يتظاهرون إلى الأبد دون قوة تحميهم أو قيادة واعية تُرشدهم وتُرَّشدهم.. وإذا كان لا بد من المقارنة فلنقارن الشعب التركي في2016م بالشعب التركي ذاته في1980م حين وقع الانقلاب الثالث على التوالي في مسيرة انقلابات تركيا الموعودة بانقلاب كل عشر سنوات تقريباً!!
استطاعت الدولة التركية العميقة تهيئة الأجواء الاجتماعية والسياسية لتقبل انقلاب السفاح كنعان إيفرين؛ فأشاعت الفوضى، وعرقلت مسيرة الديمقراطية المزعومة، وخنقت المجال السياسي العام، ودعمت إنشاء جماعات قومية متطرفة ذات توجه يميني ويساري، وساهمت في نشر الرعب والخطف والقتل وقطع الطرق والهجوم على مؤسسات الدولة وحرق مقرات الأحزاب والمقاهي والفنادق والمطاعم السياحية، وأشعلت الفتن الطائفية بين طوائف الشعب حتى وصل معدل القتل سنة 1979م إلى عشرين قتيل في اليوم الواحد.. إضافة إلى ترتيب المظاهرات والاعتصامات العمالية اليومية التي أدت إلى توقف المصانع عن العمل وتغول البطالة والفقر والمخدرات والدعارة!!
لقد تم تهيئة الشعب للانقلاب من خلال إشاعة الفوضى أولاً، ثم التركيز على تصوير المؤسسة العسكرية (خير أجناد الأرض!!) كملاذٍ آمنٍ للشعب التركي الذي لم يكن يدري_في عمومه_ أن مؤسسته تلك هي السبب المباشر في فساد وإفساد الحياة في تركيا!!
وقع الانقلاب المصنوع أمريكياً، واستقبلَه كثيرٌ من الشعب التركي بالترحاب والبهجة!!
ولو بحثتم في أرشيف تلك الأيام (لربما) عثرتم على نسخة تركية مشابهة لـ(تسلم الأيادي) و(قوم نادي ع الصعيدي) و(إحنا شعب وانتو شعب) و(إيفرين لعبها صح)!! .. وربما وجدتم أيضاً كلماتٍ لثعالبِ دينٍ تقول للعسكر (اضرب في المليان) و(ريحتهم نتنة) و(طوبى لمن قتلهم وقتلوه) .. 
أما جبهات الإنقاذ البرادعية النخبوية، ونشطاء السبوبة، والداعون إلى انتخابات رئاسية مبكرة، والسائرون نياماً في حزب (تركيا الطرية)، وأصحاب اللكلك الفارغ عن الوصاية العسكرية، والعلاقات المدنية العسكرية، والتافهون الذين ظلوا يكتبون بعد الانقلاب: (سليمان ديميريل سيء الذكر)، والصبيان الذين (للأسف كانوا يعرفون)، والسذج الذين كانوا يقولون:(إخوانا اللي فوق فاهمين.. وإيفرين في جيبنا).. وغيرهم ممن ابتُليت بهم مصر في ثورتها.. فيقيني أنكم كنتم ستجدون العشرة منهم بليرة في تركيا الثمانينات.
جلس الجميع على الخازوق.. وسكن الجنرالُ القصرَ بَدَلَ الثكنة ففسدت الثكنةُ والقصرُ معاً.. وبدأ عصر الإرهاب البشع باعتقال مئات الآلاف، ومحاكمة مئات الآلاف، وفرار الآلاف، وإقالة الآلاف، وإعدام المئات، وانتحار العشرات، وتقييد أسماء مليوني مواطن تركي واعتبارهم خطراً على الأمن القومي.. ولاحقاً قال إيفرين
في إشارة إلى من أُعدموا بعد الانقلاب:"هل كان علينا أن نطعمهم في السجن لسنوات بدلاً من شنقهم"؟!

وسقطت سمعة الأتراك إلى الحضيض حتى إنني لا زلت أذكر أن الصورة المتخيلة للرجل التركي في أذهان أبناء جيلي أواخر التسعينات لم تكن تخرج عن صورة (الحلاق الماهر) و(معلم الشاورما والمشاوي) و(رجل العصابات) الشرير الذي يظهر دائماً بين فتاتين جميلتين شبه عاريتين!!
تغيرت الصورة تماماً بمجيء أردوغان.. واستطاع الرجل أن يذيقهم قدراً كبيراً من عسيلة الأمن والأمان والرخاء والحرية والرفاهية.. مع عودة الإحساس القومي بالعنصر التركي الذي ساهم في حكم الدنيا منذ اصطنعه المعتصم ابن(ماردة) التركية وهارون الرشيد العباسي، مروراً بسيطرته على مقاليد الخلافة، وانتهاءً بسقوطها به ومعه!!

الشعوب إذن تتغير بتغير العوامل سلباً وإيجاباً، والتهيئة النفسية لتقبل الانقلاب على أردوغان لم تحدث، وإن كان حدث بعضُها فلم تؤت ثمارها؛ لأن أردوغان عمل _بما قدمه للشعب منذ 2002م_ على تهيئته نفسياً واجتماعياً واقتصادياً لرفض أي انقلاب قادم.. وقد نجح مع الشعب التركي وفشل مع النظام الأتاتوركي!! ومجرد حدوث الانقلاب _رغم فشله_ دليل على ذلك.

القوة أولاً.. وما بعدها تَبعٌ لها.. وقد لا أكون متجاوزاً إن قلت إن (حالة الانقلاب وحالة إسقاطه معاً) حدثتا داخل إطار الدولة بين جناحيها المتصارِعَين المسلّحَين قبل حضور الشعب.. وكان الجناح الأضعف ناصراً والأقل عدداً هو جناح أردوغان الذي قَوّى حضورُ الشعب_بعد ذلك_ ضعفَه وأكملَ نقصَه؛ فرجحت كفة فشل الانقلاب على كفة نجاحه.. وقد رأيتُ ورأى غيري بعضَ اللقطات المصورة لمجموعة من الناس تخاطب _بهدوء وحكمة_ جندياً فوق دبابة.. وكأنها تستثير فيه النخوة الوطنية ليعود من حيث أتى.. كان الجندي يرد عليهم بلامبالاة واضحة حتى جاءت مجموعة من الشرطة (المسلحة) أو القوات الخاصة التابعة لأردوغان مصحوبة بالتكبيرات والهتافات؛ لتتغير نفسية الناس وتتصاعد داخلها وتيرة الرفض ثم تعتلي الدبابة وتساعد في اعتقال الجندي!!
في مصر.. كان الثوار يفعلون ذلك مكتفين باستثارة وطنية الجنود والضباط؛ لأنه لم يكن بجانبهم شُرطي مسلح يساعدهم في اعتقال الجندي المسلح.. وقد اكتشفوا بعد تجربة مريرة أن الرجل العسكري لا يقتنع _غالباً_ إلا بالقوة، وأن الوطنية عنده غير الوطنية عندنا، وأنه لا يفهم في حياته شيئاً غير إصدار الأوامر أو تنفيذها، وأنه لا يرى في المواطن المدني سوى طفل يتيم قاصر لا بد من وجود ولي أمر له يدبر شؤونه وينظم حياته ويحافظ على ماله.. (ويسرقه أحياناً.. أو دائماً)!!
عقلُ العسكري _إن كان يملك واحداً_ لا يعمل غالباً بذات الآلية المنطقية التي يعمل بها عقل المدني.. وليس أضيعَ من وقت تنفقه في إقناع رجل عسكري بالعدول _طوعاً_ عن أمر أصدَرَهُ لينفذه غيرُه، أو أمرٍ تلقاه لينفذه هو!!
لقد خرجت شعوب الثورات العربية بكثافة للحفاظ على ثوراتها من مصاصي الدماء، والمواقف التي شهدتها بنفسي أكثر من أن تُحصى.. بيد أن هذه الشعوب افتقدت لأمرين مهمين: القوة الحاسمة، والقيادة الواعية.. والعار _إن جاز أن نَصُبّهُ على رأس أحد_ فلن يُصبَّ إلا على رأس تلك القيادات التي فشلت _على سبيل المثال لا الحصر_ في الحفاظ على مظاهرة واحدة مثل مظاهرة رمسيس الضخمة.. والأمثلة بعد ذلك قاتلة للقلب والروح لا أحب الخوض فيها أو تذكرها!!
حالنا الآن يشبه _إلى حدٍ كبير_ حال تركيا في الثمانينات.. وليس حتماً أن نستغرق كل هذا الوقت لنصل إلى ما وصلوا إليه؛ فإن التغيير في كل منطقة مرتبطٌ بأحوالها ومواضعاتها وأنساقها.. وأغلب ظني أن المنطقة كلها مقبلة على تغييرات جذرية قد لا تُعطي الفرصة لتغيراتٍ تقليدية.. وإن ذلك لحسنٌ في عمومه رغم ما سيُصاحبه من أهوال!!
وأظنني لن أكون مبالغاً إن قلت: إن المقارنة بين أردوغان ومرسي _غفر الله له وفك أسره_ لن تكون في صالح أردوغان.. فمجرد حدوث الانقلاب بعد كل تلك السنوات من العمل والتدرج في التمكين؛ دليلٌ على فشل كبير يقع وزرُه على أردوغان وصحبه، خاصةً وقد اكتسبوا _من الخبرة الطويلة في الحكم_ عقليةً واعيةً تُحسن التصرف في الملمات.. وهو ما لم يتهيّأ لمرسي وصحبه.. وكلامنا هذا ليس فيه أدنى تبرير لأخطاء مرسي.. بل هو فَهمٌ خاص لا بأس عندي في مناقشته أو رفضه.
بيد أن أردوغان أحسن النهوض بعد عثرته، واستغل الفرصة لإحكام سيطرته.. ولأن الضعفَ مُسقطٌ للتبعات؛ فإن القوةَ مَجلَبةٌ لها.. وإني لأخاف على أردوغان ومنه في وقت قوته؛ أكثر مما أخاف عليه ومنه في وقت ضعفه؛ فما يُمكن أن يُعتَذَرَ به للضعيف قليلِ التمكين لا يُمكنُ أن يُعتذرَ به للقوي المتمكن.. إلا إذا أَدْخَلَنَا (إخوانُنا الطيبون) في متاهة درجات التمكين المتتابعة؛ فكلما تمكن من مِفصل قالوا بقي مِفصل؛ فإذا تمكن منه قالوا بقيت مفاصل.. وهكذا دواليك حتى تكاد تظن أن التمكين لا يتم إلا بامتلاك العالم!!
يبدو الأمر سابقاً لأوانه.. 
ولكني أظن أن أول ما سَيُقال بعد قليل: ها قد سيطر فكان ماذا؟!
ومقتلُ أردوغان في هذه الـ(ماذا)!!

لقد كسب أردوغان جولةً.. ولكنه يعلم أن أمامه جولات وجولات.. فهل سيخضع حفاظاً على مكتسباته معتبراً ما حدث (قرصةَ أذنٍ) إن لم يعتدل كما يريدون ستتبعها قرصات.. أم سيوغل في تحطيم القرص الصلب للدولة الأتاتوركية وصناعة قُرصٍ آخر في منطقة يعتبر الصليبيون العبثَ بأُسسها التي وضعوها مسألةَ حياة أو موت؟!
إن الهجمة الإعلامية الغربية الشرسة على إقالات وتوقيفات أردوغان للانقلابيين تدل على ما يمكن أن يحدث من هذه الخنازير الديمقراطية المتوحشة التي لم تنبس ببنت شفة حين حُكِم بالإعدام على رئيس جاء بالديمقراطية في الوقت الذي هاجوا فيه وماجوا لأن رئيساً جاء بالديمقراطية يحاول الحفاظ على مكتسبات شعبه الديمقراطية من العسكر أعداء الديمقراطية.. وقد بُحت أصواتنا ونحن نقول إن الديمقراطية عندهم ليست أكثر من صنم عجوة إن جاعوا أكلوه!!
لقد أذل أردوغان غلمانَهم؛ فأخرجهم أمام الكاميرات في صورة مزرية ناكسي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء.. جنرالات، عمداء، عقداء، قادة، كانوا قبل قليل ملء السمع والبصر؛ فأصبحوا لا يُرى إلا ذلهم وانكسارهم وحقارتهم.. وهذه صورة لا يمكن أن يسمح السادةُ بظهور أذنابهم فيها.
خطورة الصورة تكمن في ما تُرسّبُه في النفوس من معانٍ جديدة تكشف للناس أن هذه الطواويس المنتفخة يمكن أن يعتقلها (شابٌ ملتحٍ) مقيدةَ اليدين للخلف مطأطأة الرأس ذليلة النفس لا تملك من أمرها شيئا.. 
هذه الصورة كانت حكراً على المسلمين والعرب وأعداء الغرب عموماً.. فعلوها مع صدام، كما فعلوها مع آساد غوانتنامو، كما فعلوها مع مظاليم أبو غريب، كما فعلوها مع المجاهدين في كل مكان.. وربما تفعل الصورة ما لا تفعله الجيوش والأساطيل فتقتل النفوسَ وتُحبط العزائم قبل أن تتحرك الجيوش والأساطيل!!
وهاهو أردوغان يستخدم (أسلوب الصورة) لتتجذر في نفوس الناس إمكانيةُ تكرارها في أماكن أخرى.. وإذا سقطت هيبة الغلام سقطت هيبة سيده، وإذا سقطت هيبة السيد كان كالبعير الذي إذا وقع كثرت سكاكينه!!
بيد أن أردوغان في وضعٍ لا يُحسد عليه.. فهو إن اعتدل لهم اعوجّ للعالم الإسلامي وللفكرة التي يحرص على ارتداء عباءتها.. وفي ذلك مقتله عندنا!!
وإن اعوجّ لهم اعتدل للعالم الإسلامي وللفكرة التي يحرص على ارتداء عباءتها.. وفي ذلك مقتله عندهم!!
وهما أمران أحلاهما مُر.. غير أني لم أعد أستسيغ الفكر التلفيقي الذي يقوم على التوظيف المُريب للحديبية، وثلث تمور المدينة، والفترة المكية، وفقه الواقع، ودرء المفاسد المقدم على جلب المصالح..
لم أعد أستسيغ أن يخبرني (إخوانُنا الطيبون) أنني إن لم أقبل قتلَ مائتي مسلم في (منبج) فإن ثلاثمائة مسلم سيُقتلون في (طرابزون).. وكأن حُسن السياسية لم يعد يمر إلا على أشلاء المسلمين!!
أعرف أن الواقع مربكٌ ومتشابك.. ورفع سقف التوقعات يُنتج _غالباً_ إحباطاً ويأساً، ولكن حَصْر الناس بين السيف والجدار مناقضٌ لسنة التدافع الثابتة..
ومن المعيب أن يُنجينا الله من الغرق بمعجزة ثم نكون كالذين قالوا اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة !!

الجمعة، 30 ديسمبر 2016

كيف سهَّل محمد علي باشا تدفق اليهود على فلسطين؟



كيف سهَّل محمد علي باشا تدفق اليهود على فلسطين؟
محمد إلهامي
بدأنا في المقال الماضي حديثا من جراحات التاريخ العميقة التي لا تزال غير مشتهرة، وهي دور محمد علي باشا حاكم مصر  ومؤسس الدولة العسكرية العلمانية في إنشاء إسرائيل، وقد قسَّمنا مناقشة الأمر في أربعة عناصر، نناقش في هذه السطور العنصر الأول منها وهو دوره في جذب وتسهيل تدفق اليهود والنصارى على بيت المقدس، ودعم وجودهم وإقامتهم، مع إهانة وازدراء والإزراء بأحوال المسلمين.
ما إن دخل إبراهيم باشا إلى بيت المقدس حتى أذاع أمرًا عامًا، وجهه إلى قاضي القضاة وشيخ مسجد عمر والمفتي والنائب وسائر السلطات، أزال به كل الضرائب التي كانت تؤخذ من الحجاج المسيحيين واليهود إلى بيت المقدس، هذا نصه:
»في القدس معابد وأديرة وأماكن للحج تأتي إليها من أبعد البلدان كل الشعوب المسيحية واليهودية من مختلف الطوائف الدينية. وكانت ترهق هؤلاء الحجاج إلى الآن ضرائب ضخمة في أداء نذورهم وفرائض دينهم. ورغبة منا في استئصال هذا العسف، نأمر كل متسلمي إيالة صيدا وسنجقيْ القدس ونابلس بإلغاء هذه الضرائب على كل الطرق بلا استثناء. يقيم في أديرة القدس وكنائسها رهبان ومتعبدون لقراءة الإنجيل وأداء الطقوس الدينية لمعتقداتهم. والعدل يقتضي أن تعفى من كل الضرائب التي فرضتها عليها السلطات المحلية بشكل تعسفي. ولهذا نأمر بأن تلغى إلى الأبد كل الضرائب التي تُجبى من أديرة ومعابد كل الشعوب المسيحية المقيمة في القدس من يونانيين وفرنجة وأرمن وأقباط وغيرهم، وكذلك الضرائب القديمة والجديدة التي يدفعها الشعب اليهودي. ومهما كانت الذريعة أو التسمية التي تؤخذ بها هذه الضرائب هدية عادية وطوعية أو إلى خزينة الباشوات أو في مصلحة القضاة والمتسلمين والديوان وما شابه ذلك، فإنها جميعا ممنوعة منعا باتا. وتلغى على حد سواء الكفارة التي تجبى من المسيحيين عند دخول كنيسة قبر السيد المسيح أو عند التوجه إلى نهر الشريعة (الأردن). وعليكم، ما إن نقرأ هذا البيورلدي (الأمر)، أن تسارعوا إلى تنفيذه كلمة كلمة، وتوقفوا فورا جباية كل الضرائب المذكورة أعلاه وغيرها من الضرائب القائمة على العادة وكل مطلب من أديرة القدس ومعابدها العائدة إلى مختلف الشعوب [الأديان] المسيحية واليهودية، شأن الكفارات، كأمر مناف للقانون. بعد إعلان هذا الأمر سيُعاقب بصرامة كل من يطلب أقل إتاوة من المعابد والأديرة المذكورة والحجاج«[1].
وطبقا لرواية قسطنطين بازيلي السفير الروسي في يافا -وهو من أصل يوناني ومعجب بإبراهيم ومحمد علي- فقد أعلن إبراهيم باشا فيما بعد أن اليد التي تأخذ نقودًا من الحجاج في جبال اليهودية سوف تُقطع، وبالفعل قطع يد اثنين أو ثلاثة، »فلم يعد أحد يجرؤ على انتهاك قانونه«[2].
وإلى هذا فقد وجَّه محمد علي إلى إصلاح أديرة رهبان الروم في يافا وقيسارية، وبنى محجرا صحيا في يافا للحجاج الروم القادمين إلى بيت المقدس، ثم وجه إلى شريف باشا بوجوب تقديم المساعدات الإدارية اللازمة لمدير الحجر الصحي، وجعل ما يدفعه أولئك الحجاج تحت تصرف رهبان الروم والأرمن[3]، وهو إجراء يدل على حرصه أن يكون لهم استقلال مالي! وهو أمر غريب على سياسة رجل يؤسس دولة حديثة ونظامه الاقتصادي احتكاري!
ولم يكن أمر إبراهيم باشا خاصا ببيت المقدس وحده، بل كان برنامجا لسياسة إبراهيم إزاء المسيحيين السوريين”، وكانت كلماته »تشكل عصرا جديدا بالنسبة إلى المسيحيين في الشرق«[4].
انتعش وضع اليهود والنصارى الأجانب وغير الأجانب، وقد أعيد ترميم وبناء كُنُسٍ جديدة[5]، بلغ عددها تسعة معابد لليهود وصفتها وثيقة بأنها »أُنْشِأت من جديد بالقدس«[6]، وهذا أمر »لم يُعهد له نظير في الإمبراطورية العثمانية أن يُمنح المسيحيون الحرية لتجديد معابدهم وأديرتهم في كل مكان، وحتى لبناء الجديد منها دون أن يشتروا شهادات من المحكمة الإسلامية (إعلاما) بضرورة أعمال التصليح والبناء ولا إذنا من السلطات المحلية«[7]، وقد وقع الخلاف أحيانا بين اليهود أنفسهم حول بناء معابد جديدة أم استثمار الأماكن في بناء مساكن لاستيعاب اليهود المهاجرين المتدفقين الذين لا يجدون مأوى لهم[8]. بمعنى أن بيت المقدس عانى يومذاك من فائض في المعابد اليهودية وفائض في الهجرة اليهودية.
ومع كل هذا الاهتمام بمعابد وكنائس اليهود والنصارى فإن المساجد تعرضت لاستفزازات قاهرة، فقد انتزعت بعض المساجد وحولتها إلى منازل للعساكر »حتى المسلمين كادت تفقع مرايرهم« وهم عاجزن لا يستطيعون فعل شيء[9]، وهذا غيض من فيض إذ أن سياسة إبراهيم باشا تجاه المسلمين وأهالي البلاد حافلة بالغرائب والفظائع غير أنه أمر لا يدخل في نطاق بحثنا هذا.
كذلك فقد سُمِح لليهود والنصارى بما لم يكن لهم قبل ذلك مثل زيارة قبر النبي يعقوب[10]، وهذا كله كان يعني انقلابًا في خرائط القوى الاقتصادية والاجتماعية والدينية في البلاد.
وفي النهاية أدت تدابير إبراهيم وإسقاطه أي ضرائب على الحجاج الأجانب القادمين إلى القدس ثمارها، إذ »فتحت للحجاج الطريق إلى فلسطين، ففي السنتين الثانية والثالثة من الحكم المصري بلغ عدد اليونانيين والأرمن الذين توجهوا من كل المناطق التركية إلى القدس 10 آلاف شخص«[11]. ثم تضاعف هذا العدد في السنة التالية (1834م) وفيها أمر إبراهيم بفتح »درفة الباب الثانية أي درفة باب القيامة لأن من عهد سيدنا عمر الخطاب [هكذا[12]] لم انفتحت وأمر أن لا يكون غفار (خفر) في الدروب ولا ورقة في باب القيامة وأن الزاير لا يحط (شيئاً) لا كلي ولا جزئي [أي: لا ضرائب] فبهذا السبب اجتمع زوار كثير«[13].
وقد فتُحت هذه التسهيلات دون أي استعدادات أو إجراءات تنظيمية، حتى أن الحجاج تزاحموا على كنيسة القيامة إلى درجة أن أهلك بعضهم بعضا، وقُتِل منهم مائتين وكاد إبراهيم باشا نفسه أن يهلك لولا أن أُنْقِذ بصعوبة[14]. وهو ما يثير الحيرة والشك حول مغزى هذا الاستعجال في إعطاء كل تلك التسهيلات التي لا تتحملها البنية التحتية للمدينة المقدسة.
لكن الأمر لم يقتصر على الحجاج فحسب، بل فُتِح بيت المقدس للأجانب ولو بغرض التنزه والسياحة، ثم تحميهم بمجموعات عسكرية، وهو أمر اندهش له اليوناني الذي يعمل قنصلا لروسيا، ورأى فيه مجرد إهانة للمشاعر الدينية للشعب بلا فائدة، يقول: »عوضا عن أن يقتصر الباشا على اللجم الحكيم لتعصب الشعب، أهان بلا فائدة شعور الشعب الديني نفسه، وسُمِح للكثير من الرحالة الأوروبيين بزيارة مسجد عمر في القدس الذي يعتبر قدس الإسلام الثاني بعد حرم مكة. لا شيء كان في وسعه أن يثير وساوس أشد لدى سكان القدس المتعصبين. لقد نشج خدم مسجد عمر المسنّون لهذا الانتهاك الذي لم يعهد له نظير من قبل في العالم الإسلامي، وفي كل مرة عند زيارة الأجانب للمسجد كان على السلطات المحلية أن تحيط نفسها وضيوفها بفصيلة عسكرية لدرء فورة التعصب في المشاهدين«[15].
ومما هو مثير للدهشة أن إبراهيم باشا وهو مهزوم ومنسحب ومضطر لتسليم البلاد، جَمَعَ أعيان دمشق ليختاروا الحاكم الذي سيسلم له المدينة ثم أعلن فيهم »ألا يمسوا النصارى واليهود بسوء، فإذا هم لم يرعوا أوامره يرتد إليهم بقوة من جيشة ويحل بهم أشد العقاب«[16]!
أثمر كل هذا تضخمًا كبيرًا في أعداد اليهود والنصارى مقارنة بعدد المسلمين في مدينة بيت المقدس، وطبقا لإحصائية غربية فقد بلغ تعداد سكانها في العام (1850م): 535 مسلمون، 3650 مسيحيون، 6000 يهود[17]. أي أن اليهود صاروا أغلبية ساحقة بينما صار المسلمون أقلية صغيرة، من بعد ما كان المسلمون يشكلون ما بين 75 إلى 85% من سكان المدينة[18].

[1] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ترجمة: طارق معصراني، (موسكو: دار التقدم، 1989م) ص114؛ داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم وفتحه الشام 1832م، (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014م)، ص35.
[2] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص116.
[3] أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 3/134. (وثيقة رقم 4637 بتاريخ 16 ربيع الأول 1252هـ = 1 يونيو 1836م)
[4] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص115، 162.
[5] مما يثير الانتباه هنا أن استيلاء إبراهيم باشا على بيت المقدس كان بتاريخ (3 رجب 1247ه =  8 ديسمبر 1831م)، ونجد وثيقة مؤرخة بـ »أوائل رجب» فيها تصريح من قاضي بيت المقدس إلى حاخام اليهود برتميم كنيس اليهود في بيت المقدس، أي أن ترميم معابد اليهود كان أولوية أولى لدى إبراهيم سابقة حتى على تمكين سلطته في باقي أنحاء الشام، إذ لم تكن عكا قد سقطت أمامه بعد، وهي في ذلك الوقت عاصمة الإقليم ومركز قوته، وفيها الجزار باشا وجيشه.
انظر الوثيقة في: أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 1/136، (وثيقة رقم 364).
[6] أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 4/296 وما بعدها، (وثيقة رقم 6206 بتاريخ بتاريخ 4 محرم 1256هـ)، 4/385 (وثيقة رقم 6341 بتاريخ 16 ربيع الآخر 1256هـ).
[7] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص162. وينبغي لفت النظر إلى ما أشار إليه المؤلف نفسه من أن التقييدات القانونية إنما كانت في حالة تشابك القضية بين المقدسات الإسلامية والمسيحية واليهودية خصوصا في بيت المقدس، أما ما كان شأنا داخليا بين أهل الدين الواحد فلم يكن يحتاج لهذه التقييدات.
[8] كارين أرمسترونج، القدس: مدينة واحدة عقائد ثلاث، ترجمة: د. فاطمة نصر ود. محمد عناني، (القاهرة: سطور، 1998م)، ص564.
[9] مجهول، مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا على سوريا، تحقيق وتقديم: أحمد غسان سبانو، (نسخة إلكترونية)، ص66.
[10] أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 2/326، (وثيقة رقم 3015 بتاريخ محرم 1249هـ).
[11] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص117.
[12] كتاب مذكرات تاريخية هو مصدر معاصر في غاية الأهمية لكنه مجهول المؤلف، ويكثر في عبارته العامية الدمشقية والأسلوب اللغوي الركيك، ولذا ننبه أننا لم نتدخل في العبارة إلا حيث يتحتم التوضيح بين معقوفين [ ]، مع إضافة بعض التشكيل وعلامات الترقيم عند الضرورة.
[13] مجهول، مذكرات تاريخية، ص69.
[14] مجهول، مذكرات تاريخية، ص70.
[15] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص165.
[16] داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص185؛ قسطنيطن بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص259.
[17] كارين أرمسترونج، القدس، ص567.
[18] بحسب ورقة بحثية قدمها الباحث التركي د. مصطفى أوكسوز في مؤتمر «العثمانيون وبيت المقدس» السادس عشر، والذي انعقد في اسطنبول (ديسمبر 2016م).



أقرأ

محمد علي باشا مؤسس إسرائيل

شيء (يقهر)

شيء (يقهر)


الجمعة 01 ربيع الثاني 1438 الموافق 30 ديسمبر 2016



د. سلمان بن فهد العودة

-أستاذي أرجو الرد أريد أن أسألك عن شيء قاهرني!

-ابنتي الطيبة.. أرسلي ما لديك.

-أنا صحافية أعمل في صحيفة (...) الإلكترونية، وفي خلاف دائم مع زملائي فهم معجبون بشخصية صدام حسين، ويثنون عليه ويترحّمون بينما موقفي مختلف فقد قرأت للشيخ الراحل -رحمه الله- (...) أن صدام حسين كافر، وأن حزب البعث الذي ينتمي إليه حزب إلحادي أسسه "ميشيل عفلق" في سوريا، وأن من ينتمي إليه فليس من المسلمين، فماذا ترى؟

-بنتي الكريمة أولاً هذا رجل قَدِمَ إلى ربه وغادر الحياة، وأولى بنا أن ننشغل بواقعنا المشهود وتداعيات الأزمات في العراق وغير العراق عن أن ننبش في قبور الأموات ونجعلهم محلاً للصراع والجدل والاختلاف.

إن في واقعنا المشهود اليوم وحياتنا الدؤوبة من قضايا الاختلاف ما يكفينا ويغنينا عن استدعاء الأموات وإعادة محاكمتهم.

وثانياً: فإن الرجل مرَّ بأحوال وأطوار وانتقل من حاكمٍ مطلق إلى سجينٍ أعزل في قبضة أعدائه، وتعرَّض للضيق والقهر والألم، وهذه هي النار التي تصهر الإنسان وتزيل الكثير من غطرسته وكبريائه، وتعيده إلى أصله وإلى حقيقته، ولعله من خلال هذه المرحلة أثبت صبراً وجلداً مشهوداً والتف الحبل على عنقه دون أن ينكسر ثم نطق بالشهادة على رؤوس الأشهاد ورآه الملايين في ذلك الموقف وهو يتلفظ بالشهادتين، و« مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ »؛ كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-.

نحن لا نحاسب الرجل ولا نحاكمه ولا نحكم عليه فبعد محكمة الدنيا ثَمَّ محكمة الآخرة: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (49:الكهف).

نحن لا نحاكم الناس، وليس من حقنا أن نحاكمهم فأمرهم موكول إلى الله، ولكن من حقنا أن ندرس أفعالهم وتصرفاتهم؛ خاصة تلك الأفعال والتصرفات التي تركت أثراً مدويَّا وترتب عليها تبعات واستحقاقات قد تكون أضرَّت بوطن أو بشعب أو بأمة، فإن نهاية صدام حسين لن تجعلنا ننسى أفعاله بحق الأكراد، وإن نهاية صدام حسين لن تجعلنا ننسى الروح الاستبداية التي كان يحكم بها شعبه بالحديد والنار، وإن نهاية صدام حسين لن تجعلنا ننسى دخوله على جارته الآمنة الكويت وما ترتب على ذلك من ترويع الآمنين، وخلط الأوراق، وفتح الطريق لتدخلات خارجية لا زالت المنطقة تعاني من آثارها إلى اليوم.

القدرة على التوازن والانضباط وإعطاء كل ذي حق حقه، والفرق بين ما هو شخصي وما هو عام؛ من أهم ما يحتاجه من نصب نفسه للحكم على شخص أو جهة أو جماعة.

والحكم على الأشخاص بالكفر أمر في غاية العسر والصعوبة، فالأصل فيمن ينطق بالشهادتين أنه مسلم ولا نُخرجه من إسلامه إلا بيقين تام لا ريب فيه، وعند الشك أو التردد أو الاختلاف ينبغي أن نعود إلى الأصل، ولسنا ملزمين بأن نحكم على الناس هنا أو هنا، ولا أن ندخلهم جنة ولا ناراً بل الأوْلى والأفضل أن ندع أمر الناس لرب الناس، وألا ندخل بين الله وبين عباده بأحكام قطعية على أفراد قَدِموا  إلى الله، وعلم الله من أمرهم ما لم نعلم، فالله تعالى يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، والتسرُّع في الكفر على أحياء أو أموات بسبب موقف أو كلمة أو انتماء مما لا يحسن ولا يجمل ولا يجدر ولا يليق، ولم يكلفنا الله تعالى أن نحكم على الخلق بل يكفي أن نتجه إلى الله تعالى بعبادته ومحبته وطاعته وتجنب معاصيه ولا نُقحم أنفسنا فيما ليس لنا به علم.

الحكم على البشر قد يحتاجه أهل العلم الراسخون؛ الذين يُرجع إليهم في الأمور إذا ترتَّب عليه نتائج؛ كالتوريث والولاية وغيرها من الأحكام، وهذا إنما يكون إلى القضاة؛ الذين كلامهم قاطع بين الحق والباطل والخطأ والصواب على الأقل في رأي الناس وفي ظاهر الأمر، فإن القضاء يحسم المختلَف فيه في الدنيا ولا يلزم أن يكون حكم القضاء أيضاً مطابقاً لما عند الله تعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: « إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِى لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ » (رواه البخاري ومسلم).

وحزب البعث لم يعد له وجود، صحيح هو حزب قومي عربي اشتراكي له تاريخ أسود في سوريا وفي العراق، ويتحمَّل الكثير من التبعات والضَّيْر الذي أصاب الشعوب العربية في هذين البلدين وفي غيرها ولكنه أصبح مطيَّة للطائفية وأصحاب المصالح، ولم يعد لهذا الحزب وجود وانقرض ضمن ما انقرض من الأسماء والشعارات التي سادت ثم بادت يوماً في الوطن العربي.

لقد مرَّ بصدام حسين فترة كادت أن تُجمع الألسنة والأقلام على ذمه وشتمه واتهامه بعد دخوله للكويت.

ثم مرَّت به مرحلة أخرى بعدما دخلت أمريكا في العراق وأصبح في مواجهة غزو خارجي جعلت الكثيرين يغيرون رأيهم فيه وينصبونه رمزًا للمقاومة ومواجهة المحتل.

ثم مرَّت به مرحلة أخرى بعد ظهوره من تلك الغرفة الأرضية أمام الكاميرات في العالم حيث بدأت مرحلة السجن ثم المحاكمة، وإعلان هذه المحاكمة في الفضائيات ومتابعة الملايين لها، وخلال ذلك بدأ ناس يلحظون أنه صلب المِرَاس لم ينحن أو ينكسر على رغم زوال الأبهة والسلطة والقوة والجاه من حوله، وهذا الجانب ربما جعل الكثير من الناس يتعاطفون معه على الصعيد الشخصي، ويعتبرونه رمزاً، ومن هنا ومنذ ذلك اليوم كنت ألحظ أن صوره ومقاطعه تنتشر في اليوتيوب وفي الانستجرام والحديث حوله يزيد وتلميع الكثير من الأشخاص الذين مدحوه أو أثنوا عليه أو دافعوا عنه أو احتكوا به في وسائل الإعلام والقنوات الفضائية والصحافة وغيرها، ولعل ذلك راجع لهذا السبب وهو قدرته على المواجهة والصبر وعدم الانكسار، ولسبب آخر أيضاً وهو أن الكل يدري أنه في تلك المرحلة لم يعد يُشكِّل خطراً على أحد، ولم تعد لديه القدرة على أن يسيء لأحد، ومن طبيعة الإنسان أن يُغيّر مواقفه في مثل هذه الظروف، وهذا ليس بمعيب، فلا الأشخاص الذين نحكم عليهم خالدون مقيمون سرمديون على ما هم عليه، ولا الظروف من حولنا أو من حولهم باقية ثابتة بل هي متغيرة، ولا نحن أيضاً ثابتون، ولا أحكامنا قطعية ولا نهائية ولذلك فهي قابلة للتغيير، وقابلة أيضاً للتعديل، وقابلة للمحو.

إذن أمامنا ثلاث مستويات:

المستوى الأول: تغيير آرائنا في الأشخاص؛ بمعنى أننا قد نثني على مَنْ كنا نلوم أو نلوم مَنْ كنا نثني عليه.

المستوى الثاني: التعديل؛ وهو ألا نُغيِّر الرأي تماماً ولكننا نعدله ونضيف إليه ليكون أقل حماساً -على سبيل المثال- أو أقل هجومية دون أن يتغير أصل الرأي.

المستوى الثالث: هو المحو؛ بمعنى أن نسكت عن هذا الشخص ولا يلزم من السكوت أن نكون مُصرِّين على آرائنا السابقة حياله، ولا أن نكون قد غيَّرنا آراءنا أو عدَّلناها بل اخترنا أن نسكت لأن الظروف تغيَّرت ولسنا نعتقد أننا ملزمون بالآراء التي قلناها عنهم سابقاً، ولا ملزمون بتعديلها أو تبديلها.. فالسكوت موقف في حالات كثيرة.

إن الذين يحتفلون بصور صدام حسين، ومقاطع صدام حسين، وكلمات صدام حسين وينشرونها على نطاق واسع اليوم لا يُقرون بطبيعة الحال الجرائم التي ارتكبها في حق الأكراد أو في حق العراقيين أو في حق أهل الخليج والكويت كلا؛ ولكنهم مشدودون إلى الجانب الإنساني والموقف الصلب الذي ظهر منه أمام الكاميرات وعلى الشاشات.

إن التاجر إذا أفلس يبحث في دفاتره القديمة، وهؤلاء الشباب ربما عسر عليهم أن يجدوا بطلاً قومياً يشيدون به فذهبوا إلى أقرب مذكور وأسبغوا عليه من جديد جلباب الصبر والعظمة، واعتبروا أن ما آل إليه العراق من بعده من تفكك وتشتت وسطوة للصفويين وسقوط في أحضان الدولة المجاورة، وحالة من الفلتان الأمني والفساد الاقتصادي والسياسي والإعلامي.. جعلت العراق في ذيل قائمة دول العالم المعروفة في الفساد؛ جعلهم يرون هذا كله ناتجاً عن غياب صدام حسين.

والذي أراه أن هذه ليست هي الحقيقة كاملة، قد تكون هذه جزءاً من الحقيقة، وربما تكون بعض سياسات صدام حسن التي مارسها واستفرد بها هي أيضاً سبب آخر فيما جرى وفيما يجري، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8:المائدة)، وفي الآية الأخرى: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ..} (135:النساء).

ما أجمل أن نتحلَّى بالتوازن والهدوء والاعتدال والإنصاف حين نجد أنفسنا مضطرين إلى الحديث عن شخص حوله خلاف أو جدل؛ من الأحياء أو من الأموات، من السياسيين أو العلماء أو المشاهير.. فإن الإنصاف عزيز، وكثير من الناس إما أن ينحاز له أو ينحاز عليه، أما أن يُمسك بالميزان باعتدال ويدع الكفة والكفة الأخرى تحاكم الشخص بعيداً عن أن يضع إبهامه على طرف إحداهما فهذا أمر في غاية الندرة.

اللهم ألهمنا رشدنا، وارزقنا العدل والإنصاف وتحقيق ما قاله عمار -رضي الله عنه-: (ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ)، والحمد لله رب العالمين.



الخميس، 29 ديسمبر 2016

رائع كأنه محمد البلتاجي!

رائع كأنه محمد البلتاجي!

 وائل قنديل

محمد البلتاجي
 الذي شاهدته، منذ يومين، بابتسامة الواثق، وشموخ المنتصر، في قاعة المحكمة، منحنياً لتقبيل يد والدته واحتضانها، بعد فراق ثلاث سنوات، ليس شخصاً، وإنما صار صفة إنسانية، تطلق على أي رجل محترم  ونبيل ومخلص لما اعتقده وآمن به وتمثله في حياته.

هناك نماذج من البشر تتحول مع الأيام إلى علامات في تاريخ الإنسانية، فيتحول اسم الموصوف إلى صفة، ومن هؤلاء محمد البلتاجي، والد أسماء، الشهيدة، وخالد، الطفل المعتقل، وأنس، الفتى الذي يقضي شبابه اليانع داخل الزنزانة.


قلت سابقاً، إن العرب قديماً حين يتباهون بأحد منهم يقولون هذا رجل "فهّامة"أو "علّامة"، والآن يمكن أن تضاف صفة إنسانية جديدة فيقال "هذا رجل بلتاجي" علامة على الاحترام والنبل والصمود.

في الفترة السابقة على ثورة يناير/ كانون ثاني 2011، لم يكن محمد البلتاجي بالنسبة لي سوى ذلك النائب البرلماني، الإخواني، الشاب، الطبيب الذي يجيد اللغة العربية السليمة، كإجادته للطب، وفي السياسة يحترم مبدأيتها، كأنه سقراط، كما يحترم مهنة الطبيب كأنه أبقراط.

لم نلتق إلا في أيام يناير الخالدة، إذ كان لا يغادر ميدان التحرير، خطيباً ثورياً، بارعاً وصادقاً، فوق المنصات، بالنهار، وحين يأتي الليل تراه محاطاً بمجموعة من الشباب يزرعون الميدان حركة واثقة، يطمئن على الإعاشة وتأمين المداخل والمخارج، يوزع المياه والطعام، كما ينثر ابتسامة الأمل والثقة بالانتصار على كل من يصافحهم.

لا أنكر أنني كنت أحياناً أضبط نفسي متلبساً بالانزعاج من هذا الانتشار الإخواني الواسع بالميدان، والذي يجسده البلتاجي، وقد حدثتني نفسي وقتها، إن الإخوان يحاولون الظهور وكأنهم مديرو ميدان الثورة، إذ كان حضور البلتاجي طاغياً، ولافتاً، بما يكفي لتأكيد هذا الانطباع.

حتى جاءت موقعة الجمل، معركة فاصلة، تكون معها الثورة، أو لا تكون، ووجدنا البلتاجي وشباب الإخوان يشكلون الدرع الواقي للميدان من هجمات تتار الفلول والثورة المضادة، فشعرت بالخجل والغضب من نفسي التي كانت تحدثني قبل أيام، إن إخوان البلتاجي يستعرضون قوتهم بالميدان.

قبل الثورة بثلاثة أسابيع، كانت الصورة الخالدة للبلتاجي، في مسيرة الوحدة الوطنية بحي شبرا بالقاهرة، وهو يتأبط ذراع الناصري المسيحي، أمين اسكندر، في تظاهرة شعبية عارمة عقب تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، كتبت وقتها "الصورة التي تحتاجها مصر" وقد تحققت مع ثورة يناير، وأضاءت ميادينها كلها.

وبعد الثورة كانت لي مع البلتاجي لقاءات ومصافحات عابرة في ندوات سياسية أو مؤتمرات، ثم رأيته بازغاً في أحداث محمد محمود، مع الثوار ووسطهم وحولهم، ومعه أولاده، ثم تكثفت لقاءاتنا وتعمقت الصداقة مع تشكيل الجبهة الوطنية، بعد انتهاء التصويت في جولة الإعادة بالانتخابات الرئاسية، وفي كل اللقاءات.

والاجتماعات لم تغيّب عن البلتاجي براءته الثورية، وانحيازه المطلق للميدان، قيماً ومبادئ وأفكاراً وأخلاقاً، لم يدخر وسعاً في الكفاح من أجل تحقيق أهداف الثورة، حتى وإن اصطدم ذلك مع خيارات الحزب، والجماعة، اللذين ينتمي إليهما.

ليلة الثامن والعشرين من يونيه/ حزيران 2013 قبل الانقلاب بيومين فقط، جاءني صوت محمد البلتاجي، عبر الهاتف، مهموماً وحزيناً، وقلقاً على البلد والثورة.. كنت مثله في صباح ذلك اليوم حزيناً ومهموماً، وأنا أرى رموز ثورتنا يخلعون قمصانهم ويلبسونها للفلول وأعداء الثورة، فتتحول الأيقونات إلى خوادم في فضاء الثورة المضادة، من دون خجل أو وجل، غير أنني ظهر ذلك اليوم تخففت من الإحباط والكآبة، بعض الشيء، بعد اتصال مع ثائر نبيل آخر، في عتمة الزنزانة الآن، حاول طمأنتي أن قال، إن مؤسسات الدولة الرئيسية تقف مع الشرعية، وإنه ليس هناك ما يدعو للخوف من 30 يونيه.

حاولت أن أنقل هذه المسحة من التفاؤل إلى الدكتور محمد البلتاجي، غير أنه قال بأسى: انتهى الأمر يا صديقي.. الانقلاب في الشارع الآن(قبل موعد 30 يونيه بثمان وأربعين ساعة" وما سيأتي لاحقاً ليس إلا تحصيل حاصل..

حاولت جاهداً أن أمنع نفسي من تصديق فراسة البلتاجي وحسن قراءته للأحداث، وحاولت أكثر أن أصيبه بعدوى التفاؤل، وإن كان على غير أساس مقنع، الذي نقله إليّٓ صديقنا الثالث، إلا أن المكالمة الأخيرة بيننا انتهت بعبارة "قضيٓ الأمر".

هذا هو"البلتاجي" الرائع الذي مارس السياسة بضمير الطبيب وعقل الفيلسوف ووجدان الشاعر المحب.

سلام عليك في زنزانة تستضيء بك..

سلام عليك من الميدان، وقبلة على جبينك من ثورة احتضنتها، كما احتضنت والدتك.

(نيران إيران) (2) مواقف خادعة..رغم سقوط الأقنعة..!


(نيران إيران) (2)
مواقف خادعة..رغم سقوط الأقنعة..!


د.عبدالعزيز كامل
• كان الدورالدموي الأسود للشيعة الاثني عشرية عبر التاريخ الإسلامي كافياً لأن يعرف الناس؛ ماذا يعني أن تقوم لهؤلاء دولة قوية ؛ لها قادة يحملون أرتالاً من الأحقاد التاريخية والثارات الطائفية والعنصرية، ضد أهل السنة عامة، والعرب خاصة...
لكن الذي حدث أن أعداء الأمة فهموا طبيعة ذلك المشروع الاعتقادي المعادي.. قبل أن يتنبه له النابهون من أهل السُّنة ! فمع أن حركة الخُميني منذ البداية رفعت شعارالتمدد و(تصدير الثورة) و قدمت نفسها على أنها (ثورية) وأنها (إسلامية) وأن لها توجهات (توسعية ..قتالية.. عالمية) إلا إنها رغم ذلك لم تُواجه بالحرب والإسقاط والضرب من دول الغرب؛ مثلما كان التعامل دائما مع أي (ثورة) أوحتى (حركة) سُنية.. تُوصف بأنها (إسلامية ثورية) منذ إسقاط الخلافة العثمانية..!!

• دل هذا على أن نيران ثورة إيران أراد الغرب لها وبها إشعال حرائق داخلية وخارجية في جسد الأمة الإسلامية، لذلك أُعطيت تلك الثورة السوداوية الحمراء الإشارة الخضراء، ومُررت دولياً لأغراض مستقبلية تتعلق بتغيير وتزييف الهوية وبإعادة ترتيب النظام الإقليمي في المنطقة الإسلامية والعربية على أسس مذهبية وطائفية .! 
ولهذا لم يكد يمر على اشتعالها عام 1979 سنة واحدة حتى نشبت الحرب العراقية الإيرانية سنة التي سميت حرب الخليج الأولى، لتستمر ثماني سنين، ثم تعقبها حرب الخليج الثانية 1991ثم الثالثة 2003 وفق إيقاعات وترتيبات غربية غريبة، حتى انتهت الحرب الثالثة بالكارثة المخطط لها مسبقاً.. وهي إسقاط بغداد وتسليم العراق للشيعة، لتكون منطلقاً لإسقاط المزيد من العواصم العربية في جولات أخرى خليجية أو غير خليجية من الحروب المذهبية..

• خُدعت الأمة في المشروع الشيعي، وخُدرت من خارجها ومن ذاخلها ..فمن العجيب أن بداية صحوة أشرار الشيعة الفارسية التي صادفت بدايات (الصحوة الإسلامية) السنية العربية في بدايات القرن الخامس عشر الهجري والسبعينيات الميلادية؛ وجدت ترحيباً غريباً من أوساط إسلامية سنية عريضة، ومع أن الصحوة السُنية كان يُفترض أن رموزها قد بلغوا من النضج العقدي ما يؤهلهم لإدراك خطر انبعاث الحركات الباطنية الشيعية؛ إلا أن الذي حدث كان خديعة كبرى؛ إذ صار كثير من هؤلاء يُغدقون على باعث الباطنية الحديثة الخبيثة أوصاف التفخيم وألقاب التضخيم مثل ("الإمام" الخميني)و (أمل المستضعفين) و (قائد الثورة الإسلامية) ..! وظلت صوره تُرفع في التظاهرات الحماسية.. وتتصدر أغلفة أكبر المجلات الإسلامية ..!

• واستمرت الخديعة بثورة الشيعة والحركات المنبثقة منها – كحركة حسن نصر الله – حتى وقت قريب؛ لدرجة أن هذا القزم المتعملق.. استطاع أن يخدع أو يقنع رموزاً كثيرة تقود جماهير غفيرة من شعوب السُّنة بأنه: (سيد المقاومة) و (أمل الأمة)و (رمزالممانعة)..!! وكانت صور ذلك الزعيم المزعوم تُرفع في بعض المساجد المصرية وغيرها أيام حرب لبنان عام 2006 التي ادعى حزب اللات أنها الحرب الوحيدة التي هُزمت فيها (إسرائيل).!

من خدع الأمة طوال تلك العقود.. بحقيقة الرافضة أشباه اليهود...؟!..إنه بالطبع والقطع ..تجاهل الحقائق التاريخية.. وتقديم المصالح الذاتية.. والذوبان في اللحظة الآنية.. 
وقبل ذلك .. الجهل بـ(الخريطة العقدية)؛التي بدون معرفتها وفهمها يكون أكثرالمفكرين مخرفين..ويكون أكبر الساسة أجهل الناس في السياسة..!

أقرأ
                          

نيران إيران) (1)... من أشعلها..؟ ومن يُطفئها ..؟





الأربعاء، 28 ديسمبر 2016

جليسة أطفال للرئيس العيّاط

جليسة أطفال للرئيس العيّاط

وائل قنديل
يبدو لي عبد الفتاح السيسي، طوال الوقت، مسكوناً بوهم أنه المعجزة التي جاءت لتنهي عقم مصر. هو الولد الذي وهبه الله لعاقر في أرذل العمر. وعلى ذلك، فالكل مسخّر للابن "الحيلة"، حتى وإن كان مبتسراً، وغير مكتمل الوعي والإدراك، ومرتكباً من الأخطاء والكوارث ما يضع المجموع في قلب الخطر.

قبل عام مضى، كانت النخب المتحلقة حول عبد الفتاح السيسي، في معظمها، مشغولةً بموضوعٍ مثيرٍ للضحك، فرضته قضيةٌ قومية كبرى، هي عدد ساعات نوم الرئيس "المبروك"، بعضهم كان يصرخ وينتحب: الزعيم لا يعرف طعم النوم من أجلكم، أيها المواطنون الأوغاد.

اندهشت وقتها من أن نخبة السيسي مشتبكةُ وغارقةٌ حتى الأذقان في عدد ساعات نوم جنرال الضرورة. فالأستاذ محمد حسنين هيكل، قبل رحيله، يقول للميس الحديدي، عنه إنه ينام ساعتين فقط، ومصطفى بكري يقول لنفسه إنه ينام أربع ساعات في اليوم، وباقي اليوم شغل من أجل مصر. هل في أي مكان في العالم، من الأول إلى ما بعد الثالث، سمعت عن اشتعال المجتمع السياسي جدلاً بشأن نوم الرئيس، من خلافٍ حول عدد الساعات، إلى القلق على صحته الجسدية والذهنية. 

الرئيس لا ينام، تلك كانت أم القضايا التي ينبغي أن تبقى وحدها موضع الاهتمام والقلق، لا سد النهضة، ولا الخراب الاجتماعي والسياسي، ولا الفساد الذي بلغ حجمه 600 مليار دولار، وفق الجهاز المركزي للمحاسبات، حتى تشعر من فرط انزعاجهم أنهم ربما يدعون إلى مليونيةٍ ترفع شعار "الشعب يريد تنويم الرئيس"، إلى الحد الذي تخيلنا أنهم  ربما يتوافقون على تسيير دورياتٍ لمثقفي السلطة، تتولى مهمة نوم الرئيس، يقصّون عليه الحواديت، ويهدهدونه ويعزفون الموسيقى الهادئة، ويغلون اللبن ويقدمونه إليه دافئاً، كي ينام ملء جفنيه. 

ووصل الأمر إلى أن يبدي الزميل عماد الدين حسين في "الشروق" انزعاجه من عدم نوم الرئيس، متأثراً بحديث هيكل عن أرق سيادته "أتمنى أن يبادر الرئيس السيسي إلى وقف هذه العادة فوراً، لأنه لا يمكن لشخصٍ أن يواصل حياته بمثل هذا المعدل من ساعات النوم"، قال عماد، مستندا إلى قول هيكل إن الجنرال أخبره بنفسه إنه لا ينام إلا ساعتين يومياً.

الآن، وبعد سنة، تنتحب النخب وتلطم الخدود على بكاء الرئيس. وكالعادة، يتم استنزال اللعنات على الشعب الذي يدفعه إلى "العياط" أمام الميكروفون  والكاميرا، ويصبح واجب الوقت، بعيون الفاشية السيسية، أن تتحوّل الأمة من حالة البكاء من الزعيم إلى حالة البكاء على الزعيم، العاجز، الغارق في أوهام فرادته وريادته.. فليتوقف الجميع عن الحياة، لا طعام، لا كلام، لا تنفس، ولتبادر مصر كلها إلى هدهدة الرئيس، حتى يتوقف عن البكاء، التليفزيوني، شديد الاحترافية.

كان سفلة الإعلام والسياسة، ومازالوا، يسخرون من الرئيس المنتخب، محمد مرسي، لأن اسم عائلته الأخير كان "العياط"، افتتحها وحيد حامد، بخيال السيناريست المريض بالعنصرية والكراهية، وتلقفها "البلوفر" الذي كان يرى نفسه الأجدر بحكم مصر، بدلاً من هذا الذي يحمل في نهاية اسمه "العياط"، ثم مضى إعلام صفيق، وبذيء، يعزف النغمة ذاتها، في أكثر صور المعارضة ابتذالاً وانحطاطاً.

الآن جنرالكم "يعيّط عياطاً تمثيلياً باهتاً"، فهو "عيّاط" محترف، يتقمص أشهر الشخصيات الدرامية، المزيفة، التي قدمها أحد أذرعه المسرحية، محمد صبحي، إذ التماهي كامل بين السيسي وشخصية "علي بيه مظهر" التي قدمها صبحي، كوميديان حسني مبارك والسيسي، قبل عقود، ذلك النصاب الجاهل الفاشل، الذي يقترف مهازل وكوارث، ثم يدّعي أن العالم كله يحاربه، والحظ يعانده.

منذ اعتلى الحكم، يلعب السيسي على ثيمةٍ واحدة، هي الجوع، رافعاً شعاراً وحيداً يقول: املأوا زنازيني بأولادكم وبناتكم، وجوعوا، وقاطعوا الأكل، حتى أبني لكم وطناً، فكانت دعوته الخالدة للشعب أن يقسم الرغيف إلى خمسة أجزاء، لحل مشكلة الغذاء، ثم تطور الأمر إلى "نجوع كي لا نهدم الدولة". 

الدولة هنا هي القوات المسلحة، كما خرجت منه الكلمات، أخيراً، الدولة هي  رأس النظام وعضلاته، أما الشعب فليس أكثر من وقودٍ لحافلتها المتهورة، وحطب لمدفأتها، وهذا المعنى عاد لتأكيده، عقب حادث الطائرة الروسية في شرم الشيخ، وقبل ذلك أعلنها وهو يفتتح مسجداً يحمل اسم معلمه المشير حسين طنطاوي "لازم لازم إن شالله ما ناكلش عشان نبني بلدنا".