الثلاثاء، 31 أكتوبر 2017

الحركات الانفصالية وأحكام القانون الدولي المعاصر


الحركات الانفصالية وأحكام القانون الدولي المعاصر

عبد الله الأشعل
شهد عام 2017 مظاهر واتجاهات انفصالية حادة شملت العديد من الحالات، كما كانت هناك حالات أخرى سابقة تلح على دول كثيرة، منها رغبة إقليم كيبيك في كندا الاستقلال عن كندا ذات الثقافة البريطانية، وهو الإقليم بثقافته الفرنسية، كذلك يحاول سكان أسكتلندا في بريطانيا أن يستقلوا عن بريطانيا العظمى.

أما في إسبانيا، فإن إقليم الباسك يحارب منذ مدة لإعلان الانفصال عن إسبانيا، كذلك أعلن إقليم كتالونيا في تشرين الأول/ أكتوبر 2017 نتائج الاستفتاء الذي واجهته الحكومة المركزية في مدريد بتطبيق المادة 155 من الدستور الإسباني، والتي تنهي الحكم الذاتي للإقليم وتباشر حكمه بقرارات من الحكومة المركزية، مع تجميد مؤسسات الحكم الذاتي؛ وفقا للدستور.

حق تقرير المصير هو حق معترف به في القانون
الدولي ولكن مختلف على نطاقه وتفسيره

وفي أوروبا أيضا، أعربت بعض الأقاليم في إيطاليا، خاصة في الشمال، عن رغبتها في الانفصال وتكوين دولة مستقلة عن إيطاليا. وبعد انتخاب الرئيس ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية، ظهر اتجاه قوي في ولاية كاليفورنيا، أكبر الولايات الأمريكية الخمسين، يطالب بالاستقلال عن الاتحاد الأمريكي لأسباب متعددة.

أما في العالم العربي، فقد تم فصل جنوب السودان عن جمهورية السودان ولكن باتفاق بين الحكومة السودانية والمتمردين، حيث تم إجراء استفتاء في جنوب السودان حول الاستقلال أو البقاء جزءا من السودان، وقد اختار الجنوبيون الانفصال.

أما آخر حلقات هذه الظاهرة، فهو إجراء استفتاء في الإقليم الكردي شمال العراق أواخر أيلول/ سبتمبر 2017، حيث اختار الشعب الكردي الاستقلال عن العراق، وقد ردت الحكومة العراقية، مثلما فعلت الحكومة الإسبانية، بتطبيق الدستور؛ لأن الاستفتاء يتناقض مع الدستور ومع حكم المحكمة العليا العراقية، بل إن الجيش العراقي قرر إنهاء مظاهر الاستقلال بالقوة في المناطق الكردية، ودخل في صدام مسلح مع قوات البشمركة الكردية.

كل هذه الحالات رفعت شعار حق تقرير المصير، وهو حق معترف به في القانون الدولي، ولكن مختلف على نطاقه وتفسيره. وقد أشرنا في مقاله سابقة إلى أن الحق استخدم تاريخيا لتفتيت الدول، فقد تم استخدامه ضد الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، كما استخدم بعد الحرب العالمية الثانية كأداة ضد الاستعمار الغربي ولتحرير الشعوب المستعمرة، كما استخدم ضد النظم العنصرية التي قام الأجانب في تلك الدول باستعباد الأغلبية من شعوبها، وقد حدث ذلك في جنوب إفريقيا وفي روديسيا الجنوبية (زيمبابوى الآن).

حق تقرير المصير استخدم تاريخيا لتفتيت الدول كما استخدمت
ضد النظم العنصرية التي استعبد فيها الأجانب الأغلبية من السكان

وقد استخدم الغرب حق تقرير المصير لتفكيك الاتحاد السوفييتي، وكان حق تقرير المصير للأقليات القومية والدينية والعرقية، مما أدى أيضا إلى تفكيك الاتحاد اليوغسلافي.

وعندما مارس الصرب مختلف أنواع الجرائم ضد إقليم كوسوفو، الذي كان ضمن الاتحاد اليوغسلافي ويتمتع بالحكم الذاتي، فإن الولايات المتحدة تصدت لجمهورية الصرب وفرضت حظرا جويا عليها بالتعاون مع دول الناتو، بل وجلبت رئيسها ميلوسوفيتش إلى المحاكمة أمام محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة في لاهاي، كما أن الصرب قاوموا استقلال الجمهوريات الأخرى المشكّلة للاتحاد اليوغسلافي، ومن بينها البوسنة والهرسك التي قاومت جرائم الصرب، وفشلت القوات الدولية في حماية المسلمين من المذابح قبل تطبيق اتفاق دايتون عام 1996.

وقد أصدرت محكمة العدل الدولية رأيا استشاريا في 22 تموز/ يوليو 2010 بناء على طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد إعلان الحكومة المؤقتة في كوسوفو الاستقلال، وهي حكومة نشأت بموجب ترتيبات وردت بقرار مجلس الأمن رقم 1244. وكانت المسألة تتعلق بمدى توافق القانون الدولي مع هذا الإعلان، وقد قررت المحكمة أن الإعلان لا يتناقض مع قرار مجلس الأمن، وأنه لذلك لا يخالف هذا الإعلان القانون الدولي.

أثار قرار المحكمة جدلا لأنه انطلق من فكرة أن قرار مجلس الأمن
هو القانون الدولي أو هو جزء من القانون الدولي

وقد أثار هذا الرأي جدلا واسعا في الفقه الدولي؛ لأن هذا الرأى اقتصر فقط على مدى انسجام هذا الإعلان مع قرار مجلس الأمن، وانطلق من فكرة أساسية ليست موضع قبول بين شراح القانون الدولي، وهي أن قرار مجلس الأمن هو القانون الدولي أو هو جزء من القانون الدولي.

ونحيل المتخصصين في هذه النقطة إلى الجدل الذي شهدته محكمة العدل الدولية بين القاضي الهولندي والقاضي الأمريكي؛ في قضية لوكربي التي رفعتها ليبيا ضد الولايات المتحدة. وكان مفصل النزاع هو ما إذا كان مجلس الأمن يصنع القانون الدولي بقراراته، أم أنه ملتزم بالقانون الدولي والميثاق وهو يصدر هذه القرارات. وكانت تلك هي المرة الأولى التي لم يتوقع فيها واضعو الميثاق التي يحدث الصدام فيها بين مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية. وكلا الجهازين منوط بحفظ السلم والأمن الدولي؛ كل حسب اختصاصه.

حق تقرير المصير يجب أن يدرس في ضوء مبدأ
أساسي في القانون الدولي، وهو مبدأ بقاء الدولة

ومن الواضح أن حق تقرير المصير يجب أن يدرس في ضوء مبدأ أساسي وأهم في القانون الدولي، وهو مبدأ بقاء الدولة (survival of the State) الذي يتقدم جميع مبادئ القانون الدولي، فإن كان تطبيق حق تقرير المصير يؤدي إلى فناء الدولة أو الإضرار الجسيم بوجودها، وجب الانحياز إلى مبدأ بقاء الدولة.

وفي الدول المتخلفة يزعم النظام أنه الدولة، وأن بقاءه أهم من انتهاكات حقوق الإنسان التي تكون عادة ثمنا لبقاء النظام. ولذلك، كانت النظم المستبدة سببا في المآسي التي عاناها الأكراد، والزج بالأكراد في الصراعات الإقليمية بين العراق وسوريا وتركيا وإيران في فترات مختلفة.

كانت النظم المستبدة سببا في المآسي التي
عاناها الأكراد، والزج بالأكراد في الصراعات الإقليمية

وفي الأحوال التي ذكرناها، باستثناء حال جنوب السودان، فإن الدستور هو الذي يحتكم إليه في معالجة هذه المشكلة. وفي هذه الحالة، فإن القانون الدولي يدعم سلطة الحكومة المركزية والإطار الدستوري، ويكون لدى الحكومة المركزية سلطة تقديرية واعتبارات المواءمة السياسية؛ لأن التصدي للانفصال قد تكون نتائجة أفدح على بقاء الدولة من الانفصال نفسه. ولذلك، فإن ظروف إقليم كردستان العراق تتماثل تقريبا مع حالة كتالونيا، حيث أعلنت الدول المجاورة رفضها للانفصال، مما يعطى سندا قويا للحكومة المركزية في معالجة الموقف.

صحيح أن وجود الإقليم داخل دولة واحدة قد تم ربما لأسباب تاريخية أو لأسباب قانونية يعكسها الدستور، ولكن لا بأس أن تعيد هذه الأقاليم التفاوض مع الحكومة المركزية حول أوضاعها ومشاكلها، خاصة إذا كان النظام الديمقراطي الذي يستند إلى الأغلبية لا يضع في اعتباره مطالب الأقاليم المضرورة التي ثارت المشاكل بشأنها لمدد طويلة، مثل كاتالونيا والإقليم الكردي.

لا بأس أن تعيد الأقاليم التفاوض مع الحكومة المركزية حول أوضاعها
والنموذج الديمقراطي هو الحل لهذه المشكلة في العالم العربي

أما كردستان والسودان والأقاليم العربية، فإن الاستبداد في هذه الدول هو المسؤول، لكنه يفسر ولا يبرر طلب الانفصال. ولذلك، فإن النموذج الديمقراطي هو الحل لهذه المشكلة في العالم العربي. أما في أوروبا، فقد لاحظنا أن الحكومة المركزية في مدريد قد حرصت تحت حكم الجنرال فرانكو على السلامة الإقليمية للدولة، واتخذت موقفا عنيفا ضد الانفصال؛ وصل إلى حد إعدام قائد الانفصال عام 1940 أثناء الحرب العالمية الثانية. ويبدو أن الوعي العرقي لم يتغير في كاتالونيا من الحكم المستبد إلى الحكم الديمقراطي. 

امتحان صهيوني للمقاومة الفلسطينية

امتحان صهيوني للمقاومة الفلسطينية

 وائل قنديل

قبل انتشال جثامين الشهداء الفلسطينيين في القصف الصهيوني على أحد أنفاق غزة، مساء الاثنين، سارعت إسرائيل إلى الإعلان عن اتصالات مكثفة تقوم بها القاهرة للسيطرة على ردة فعل المقاومة الفلسطينية على الجريمة.
المعنى أن قاهرة عبد الفتاح السيسي تقوم بدور حائط الصد، أو حامي الحمى الذي يهرع إلى تغطية العربدة الصهيونية، من خلال الضغط على الفلسطينيين، كي لا يردّوا العدوان، وهنا يثور سؤال أساس: هل العملية الإسرائيلية جاءت مصادفة؟ بمعنى هل كانت بمثابة رد فعل عفوي على حادث طارئ؟
من المهم الأخذ في الاعتبار النطاق الزمني الذي وقع فيه الاعتداء، إذ يأتي في أجواء مئوية وعد بلفور المشؤوم، بما يسودها من مشاعر غضب فلسطينية، وإيقاظ لحلم التحرير، خصوصاً مع تلك الفجاجة والفظاظة في تصريحات بريطانية، تعبر عن افتخارها بسرقة فلسطين من أهلها ومنحها للصهاينة.

إذن، أرادت إسرائيل وضع المقاومة الفلسطينية في امتحان إجباري، هو الأخطر والأصعب، بعد أن استجابت "حماس" لضغوط نظام السيسي، وتجرّعت كأس مصالحة فرضتها ظروف الحصار الثنائي الذي يطبق على غزة من ناحية القاهرة، وتل أبيب معاً.

الشاهد أنه، منذ الإعلان عن اتفاق المصالحة الفلسطينية، تسعى إسرائيل إلى إعادة صياغته، بحيث يكون اتفاقاً على التخلي عن مشروع المقاومة، ونزع سلاحها، يدعمها في ذلك حديث محمود عباس، طوال الوقت، عن ضرورة إخضاع سلاح المقاومة لسلطته، بما يعني دمج حركات المقاومة في عملية التسوية التي تحاول الإدارة الأميركية، وأطراف عربية في عجلة من أمرها للتطبيع مع الكيان الصهيوني، فرضها على الفلسطينيين، ضمن سيناريو صفقة القرن.

وبهذا العدوان أخيرا، تريد تل أبيب إلقاء حركة حماس، وحركات المقاومة، في أتون اختبار عصيب، اختارت له زمانه ومكانه، وتنتظر الإجابة، وهو ما يجعل الأمر أقرب إلى الإمعان في ابتزاز الفلسطينيين بورقة المصالحة، فإما مصالحة تتخلص من فكرة المقاومة، وتسقطها من حسابات الفعل ورد الفعل، ومن ثم على "حماس" وأخواتها في المقاومة التزام الصمت، وتجرع علقم ضبط النفس.. أو فاجتياح غزة مجدّداً قائم ووارد، في ظروف شديدة البؤس، تتسابق فيها العواصم العربية على كسب ود إسرائيل، ومد جسور التطبيع معها.

 أما وأنه امتحان مفصلي ومصيري للمقاومة، فمن المهم التذكير بفصول المنهج الفلسطيني، كما تم تعديله في وثيقة "حماس" التي أعلنها أخيرا الرئيس السابق للمكتب السياسي للحركة، خالد مشعل، وبشكل خاص البنود 18-19-20 منها، والتي نصت على: 
- يعد منعدماً كلٌّ من تصريح بلفور، وصكّ الانتداب البريطاني على فلسطين، وقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، وكلّ ما ترتّب عليها أو ماثلها من قرارات وإجراءات؛ وإنَّ قيام "إسرائيل" باطلٌ من أساسه، وهو مناقضٌ لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، ولإرادته وإرادة الأمة، ولحقوق الإنسان التي تكفلها المواثيق الدولية، وفي مقدّمتها حقّ تقرير المصير. 
 -  لا اعترافَ بشرعية الكيان الصهيوني؛ وإنَّ كلّ ما طرأ على أرض فلسطين من احتلال أو استيطان أو تهويد أو تغيير للمعالم أو تزوير للحقائق باطلٌ؛ فالحقوق لا تسقط بالتقادم.
 - لا تنازلَ عن أيّ جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض "حماس" أي بديلٍ عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها. ومع ذلك، وبما لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية، فإن "حماس" تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة.  
وأيضاً، لا بأس من التذكير بكلام خالد مشعل عن المقاومة، حين وصفها بالقول "ليست فقط خيارنا الاستراتيجي، وإنما هي حياتنا وهي روحنا".
هل تواجه "حماس" الامتحان، أم تتجاهله، أم تطلب التأجيل؟ أم تستعين بالمراقب (السيسي)، وتكتب ما يمليه ؟

أزمة الخطاب الديني وانعكاساتها الخطيرة(2-3)

أزمة الخطاب الديني وانعكاساتها الخطيرة(2-3)


د. محمد عياش الكبيسي
المشكلة إذاً لا تنحصر في أولئك المطبّلين أو المندسّين على السلك الشرعي، بل هي متأصلة كذلك في الشرعيين أنفسهم ممّن لا نستطيع أن نتهمهم في نواياهم، ولا نشكك في مستوى تكوينهم الشرعي، وهنا تأخذ المسألة بُعداً آخر أشد تعقيداً وأشد تأثيراً.
إن أسّ المشكلة عند هؤلاء يكمن في سوء تقديرهم للموقف، وما ستؤول إليه الأمور، وهذا أمر طبيعي ومتوقع فالمشايخ عادة لا يملكون مؤسسات تعينهم على ذلك، فضلاً عن أن غالبيتهم غير متابع ولا مهتم بالشأن السياسي، ولا يُحسن الاطلاع على ما ينشر في الدول الصانعة والمؤثرة في الأحداث العالمية، ولذلك تكون معلوماتهم قاصرة ومبتورة، وإذا كانت القاعدة المنطقية تقول: «الحكم على الشيء فرع عن تصوّره» فلا شك أن هذه التصورات الناقصة والمبتورة ستؤثّر تأثيراً مباشراً في الحكم.
في هذه الحال يلجأ المشايخ عادة إلى عدة أمور تسهم بمجموعها في تأزيم الخطاب الديني، ومن ذلك:
أولاً: الاستناد إلى الخطاب الذي يمثّل سياسة الدولة، وهذا نهج المؤسسات الشرعية الرسمية، والمشايخ الذين يتمتعون بعلاقات طيبة مع الدولة أياً كانت هذه الدولة، فتقديرهم للموقف يأتي في الحقيقة تقليداً لموقف الدولة، ثم يقتصر دورهم على توظيف الآيات والأحاديث في هذا الاتجاه، والشيخ قد يكون صادقاً مع نفسه وليس منافقاً ولا مطبّلاً، فهو إما واثق حقيقة بما يسمعه من الإعلام الرسمي، وإما أن يكون قاصداً لتعزيز هذه الثقة والتغاضي عن بعض السلبيات دفعاً للفتنة وللمفسدة الأكبر، ولكن هذا التوجّه بطبيعته سيؤدّي على أقل تقدير إلى انقسام الفتاوى والخطابات الدينية بحسب انقسام الدول، إضافة إلى ضعف الثقة بهذا الخطاب، خاصة إذا انكشفت الأمور وظهرت النتائج والعواقب المريرة.
ثانياً: هناك من المشايخ أيضاً من يميل إلى الأحزاب والجماعات الدينية، وقد يكون عضواً فيها، وهو بالتالي يثق بتحليلاتها ومواقفها، ومن ثمّ فهو يتعبد الله بموافقتها، لكنه بالطبع لا يوافقها بعنوانه الشخصي، بل هو يقوم بذلك الدور نفسه الذي يقوم به فريق السلطة و»ولاة الأمر»، فتكون مهمته كذلك توظيف الآيات والأحاديث وقواعد المصلحة والضرورة لخدمة موقف الجماعة، وليس للموقف الذي شخّصه هو، وهذا لا شك اجتهاد مبتور، فهو مقلّد من ناحية ومجتهد من ناحية أخرى، وما ينطبق على اختلاف الدول سينطبق أيضاً على اختلاف الجماعات، وسيبقى عامة الناس يتلقون الفتاوى المتناقضة تبعاً لتناقض الجماعات والأحزاب أو لتناقض الدول.
ثالثاً: بين هؤلاء وأولئك يظهر فريق ثالث وهو في الغالب متذمّر من الفريقين، فيدفعه تذمّره هذا إلى تبني الموقف المتشدد أياً كانت نتائجه، وهذا لا يهمه الواقع ولا ما ستؤول إليه الأمور، بل هو يلجأ إلى ما يسميه «الثوابت»، وهذه كلمة مضللة بعض الشيء، فإدارة الأزمات لا تحكمها الثوابت المطلقة، ولا المبادئ العامة، ولا يوجد في العالم ولا في التاريخ برنامج لإنقاذ المجتمعات يستند إلى الثوابت المجردة، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استجار بمشرك لحمايته، وهاجر وهادن، وقاتل وصالح، وقدّم وأخّر، وساكن اليهود والمنافقين وتحالف مع بعض المشركين، وكتب وثيقتين واحدة مع اليهود وأخرى مع قريش..;



أزمة الخطاب الديني وانعكاساتها الخطيرة(2-3)

معني الحوار بين الأديان




لقد تزايدت في الفترة الأخيرة الأخبار والكتابات حول "الحوار بين الأديان"، وتولى الأزهر إقامة المؤتمرات ورتب لمؤتمر في مطلع هذا العام ، دُعي إليه بكل أسف البابا فرانسيس، وأقول "بكل أسف" لما يقوم به ذلك البابا من محاولات مستميتة لتنصير العالم. فهو مثله مثل الباباوان السابقان وثلاثتهم مجبرون على تنفيذ قرارات مجمع الفاتيكان الثاني، الذي حدد "الحوار بين الأديان" كوسيلة لإقتلاع الإسلام ولتنصير العالم.

      
يقبل القرآن .. ويقتلع الإسلام .. منتهي النفاق      


ولا يسع المجال هنا لنورد كل المراجع الكنسية التي تتضمن شرحاً لمعنى: "الحوار" من وجهة النظر الفاتيكانية أو توجيهات لكيفية تنفيذه ، لكنَّا نشير إلى أهم هذه الوثائق. ففي شهر ديسمبر عام 1984 أصدر البابا يوحنا بولس الثاني نصا إرشادياً بعنوان: " بشأن المصالحة والتوبة في رسالة كنيسة اليوم "، وهو خطاب رسولي يقع في 128 صفحة، مكوّن من ثلاثة أجزاء، نطالع في الفصل الأول من الجزء الثالث منه موضوعاً عن "الحوار"، هو البند رقم 25، ويقع في ست صفحات، ومما جاء فيه: لقد تم إنشاء "المؤتمر العالمي للأديان" من أجل السلام، سنة 1970، ويعد أكبر تحالف دولي لممثلي الديانات الكبرى في العالم من أجل خدمة السلام ، كما يقولون. وفى 6 يناير 2009 افتتح الدلاى لاما مؤتمرا لحوار الأديان تحت عنوان "حوار الأديان ، "سمفونيات عالمية".. وقد تناول هذا المؤتمر بحث الوسائل الممكنة لمعالجة الخلافات بين الديانات الكبرى.

* إن الحوار بالنسبة للكنيسة هو عبارة عن أداة ، وبالتحديد عبارة عن طريقة للقيام بعملها في عالم اليوم.

* إن المجمع الفاتيكاني الثاني قد أوضح أن الكنيسة هي علامة لتلك الأخوة التي تجعل الحوار الصريح ممكناً وتزيده قوة ، وذلك بمقتضى الرسالة التي تتميز بها ، وهي : إنارة الكون كله ببشارة الإنجيل ، وتوحيد البشر بروح واحدة.

*أن الكنيسة تستعمل طريقة الحوار لكي تُحْسِنَ حمل الناس على الارتداد والتوبة سواء أكانوا أعضاء في الجماعة المسيحية بالتعميد والاعتراف بالإيمان ، أم هم غرباء عنها ، وذلك عن طريق تجديد ضميرهم وحياتهم تجديداً عميقاً في ضوء سر الفداء والإخلاص اللذان حققهما المسيح ووكلهما لخدمة الكنيسة .

* أن الحوار الصحيح يرمي – إذن وأولاً – إلى تجديد كل فرد بالارتداد الباطني والتوبة ، مع احترام كل الضمائر، اعتماداً على الصبر والتأني والتقدم خطوة خطوة وفقاً لما تقتديه أحوال الناس في عصرنا.

ويـُعد الخطاب الرســولي المعنون "رســالة الفـــادي" من أهم النصوص التي أصدرها البابا يوحنا بولس الثاني، إذ أنه يلقي مزيداً من الضوء على ما يدور من أحداث في مجال تنصـير العالم . وتكمن أهمية هذا الخطاب الصادر عام 1990 في نقطتين أساسيتين: فهو من ناحية يُعرب عن موقف البابا من الديانات غير المسيحية ، وخاصة من الإسلام ؛ ومن ناحية أخرى يتضمن ما أخفاه البابا من تحريف جـديد لمعنى ما يطلقون عليه "فــداء المســيح" وربطه بين ذلك " الفــداء" وبين كل فرد في العالم وبلا استثناء (البند 14) !.

وكان لا بد من البدء بتوضيح هذه الجزئية تحديدا لأنها الخط الأساسي حاليا في مجال الحوار الفاتيكاني. فكثيرا ما نطالع عبارات من قبيل "لقد حاولنا محاربة الإسلام قرونا طويلة لاقتلاعه وفشلنا، فلنترك الخلافات جانبا ونبحث عن المشترك وتفعيله وستخبو الخلافات وحدها" . وهو ما يوضح محاولة تغيير شكل الصراع ، والهدف واحد لا يتغيّر، فالغرب المسيحي المتعصب هو الذى لا يكف عن محاولات اقتلاع الآخر بل ولا يكف عن ترديد ذلك وإلا فما معنى عبارة "تنصير العالم" ؟

وتقع "رســالة الفـــادي" التي نحن بصددها ، في مائة وأربع و أربعين صفحة ، وتتكون من ثمانية فصول ، تشتمل على واحد وتسعين بنداً . وإن لم يكن موقـف المؤسسة الكنسية من الإسـلام بجــديد ، فإن مغـزى الإضافة الجـديدة التي أجراها البابا على ما يطلقون عليه "فــداء المســيح"، أي تضحيته بنفسه من أجل التكفير عن المسيحيين من ذنب "الخطيئة الأولى" ، يُمثل تحديا لا سابقة له فيما يتعلق بموقف الفاتيكان من المسلمين : إذ أفصح البابا عن أحد قرارات مجمع الفاتيكان الثاني، الذى كان يتم تداوله سرا و تعتيما ، وأعلن رسميا فرض المساهمة في عملية التنصير على كافة المسيحين ، فقد كانوا يتناقلونها صمتا فيما بينهم، أما بهذا الخطاب الرسولي فقد اصبحت معلومة متداولة، و لـم تعــد قـاصرة على رجال الإكليروس وفــرق المبشـرين وإنما على كافة المسيحيين أياً كانت عقيدتهم ...

وقــد قــال أحـد المعلقين البروتستانت وهو أمريكي الجنسية ، يُدعى جرلي أندرسون ،"أن هذا الخطاب يمثل نقطة تحول جديدة، بل إنه يعد أكثر نقطة انطلاق محملة بالآمال لمستقبل اللاهوت الكاثوليكي وللإرساليات التبشيرية" ، وهذه الآمال تعتمد على استخدام كافة المسيحين في عملية التنصير. إذ نُطالع في البند 2 : "إن الرسالة تعني المسيحيين جميعاً والابرشيات والرعايا والمؤسسات والمجمعات الكنسية كلها". ولا يقتصر فرض البابا على هذا النحو، وإنما نطالع في نفس بقية البند، من الخطاب: "إلزام كل الكنائس الخاصة ، وحتى الكنائس المحلية على استقبال المرسلين وإرسالهم لطمأنة غير المسيحين وبخاصة السلطات المدنية في البلدان التي يتوجه إليها النشاط الرسولي ، إذ إن غايته واحدة، هي خدمة الإنسان بإظهار محبة الله التي في يسوع المسيح".

وخدعة الحوار لم تتوقف منذ القِدم ، فما إن خمدت الحروب الصليبية حتى بدأ الحوار بهدف محاصرة الإسلام عن طريق الإرساليات التبشيرية، وهو ما كان قد أعلنه بطرس المبجل (1092 - 1156) ، فهو رائد الحوار بين المسيحية والإسلام في الغرب، إذ قال للمسلمين: "إنه لن يبدأ حرباً صليبية جديدة بالسلاح وإنما بالكلمات". الأمر الذي يكشف عن حقيقة معنى الحوار في المسيحية منذ لحظاته الأولى. ذلك الحوار الذي بدأه نفس ذلك القس المبجل مع "مسلمي إسبانيا وتمخَّض عن إبادتهم جميعاً وإلقاء الإسلام بعيداً عن إسبانيا" على حد وصف (جوليان رييس في صفحة 245) من كتابه المذكور.

وتبدأ مجموعة وثائق الفاتيكان المتعلقة بالحوار في العصر الحديث بما كتبه الكاردينال موريلا (Morella) تحت عنوان "توجيهات من أجل حوار بين المسيحيين والمسلمين". والكاردينال موريلا من الذين ساهموا في أعمال مجمع الفاتيكان المسكوني الثاني (1962-1965)، وقد تم اختياره يوم 19 مايو 1964 ليترأس أمانة سر لجنة الحوار مع غير المسيحيين، التي تفرعت منها بعد ذلك اللجنة البابوية للحوار مع المسلمين . وفى 15 يونيو 1969 أصدر كتابا من 161 صفحة، يتضمن توجيهاته الصريحة للكنسيين العاملين في مجال الحوار مع المسلمين . والكتاب مكوّن من ستة فصول، عناوينها كالآتي: "موقف المسيحي في الحوار؛ معرفة القيم الإسلامية ؛ مختلف الذين نحاورهم من المسلمين ؛ كيف نستعد للحوار؛ أبعاد الحوار الإسلامي-المسيحي؛ عقيدة المسيحي المشترِك في الحوار".

ونورد فيما يلي مقتطفات من هذه التوجيهات ، – علّها تعاون المسلمين ، على الأقل المشاركين منهم في لجان ذلك الحوار المخادع ، رؤية الوجه الآخر للحوار الكنسي مع المسلمين، وهي لعبة قائمة على التلاعب بالألفاظ والغدر من أجل التنصير:

* هناك موقفان لابــد منهما أثناء الحوار: أن نكون صرحاء وأن نــؤكد مسيحيتنا وفقاً لمطلب الكنيسة.

* أخطر ما يمكن أن يوقّــف الحوار: أن يكتشف من نُــحاوره نــيتنا في تنصيره ، فإذا ما قـد تم استبعاد هــذا الموقف بين الكاثوليكي وغير الكاثوليكي فإنه لم يُستبعد بعد بين المسيحي والمسلم ؛ وإذا ماتشكك من نــحاوره في هــذه النية علينا بوقـف الحـوار فـوراً مؤقتا ً، وهــذا التوقف المؤقت لا يعـفينا من تأكيد مواقفنا بوضوح .

* سيفـقد الحوار كل معناه إذا قــام المسيحي بإخفاء أو التقليل من قيمة معتقداته التي تختلف مع القــرآن.

* إن الحضارة التقنية تُــهـدد الإسلام اليوم أكثر من أي وقت مضى ، وعلينا أن ننـتـقد في الإسلام ما يمـثل مساساً بالـحرية الشخصية.

* لايجب على المسيحي أن ينـاقـش مصداقية أو أصالة الحـديث النـبوي فـلن يستمع إليه أي أحـد.

* إن عــدم ممارسة المسلم لأركان الــدين الخمسة لا تعني أنه لا يتمسك بـدينه.

* على جمـيع المسيحين تفـادي الحــديث عن مُـحمد أثنـاء الحـوار بأي استخفاف وعـدم كشف أنهم يحـقرون الإسلام أو ما يحيطون به مـُحمد من تبجــيل.

* علينا بعـدم التـوغـل في خـلافــات الـمذاهب الإسلامية وألا نـفاضل بينها فالكنيسة هي التي تقـوم بذلك من خـلالنا وبواسطتنا.

* أن العـالم الإسـلامي في كل البلدان يسير نحـو الحداثة ويبحث عـن نماذجه في الغرب الأوروبي أو الأمريكي، وهـذا البحث عـن الثقافة الغربية وأنماطها خـير أرضية للحـوار؛ وأول فئة يجب التركيز عليها هـم الطلبة الـذين يـدرسون بالخارج إذ عادة ما يكونوا قـد بـدأوا يتحررون من إسلامهم، فعلينا احتضانهم ومعاونتهم على العثور على الإيمان بالله دون أي انتقادات.

* من أهــم عقبات الحـوار ما قـمنا به في الماضي ضد الإسلام والمسلمين، وهذه المحاورات عادت للصحوة حالياً ، وقد أُضيفت الآن قضية إسـرائيل وموقف الغرب منها ، ونحن كمسيحين نعرف ما هي مسئوليتنا حيال هـذه القضية وعلينا أن نبحث دائماً عن توجه إنساني خاصة أن حـل هـذه المشكلة ليس في أيدينا.

* على المسيحين الاستماع إلى ما يتم في الإسلام حالياً من تحديث بلا تعليق ومتابعة ما يتم في مجال التحديث للمجتمع المدني – وذلك ما يسعدنا.

* في أي حـوار يجب على المسيحي أن يقـنع المسلم بأن المسيحية قـائمة على التـوحيد وألا يناقش أية تفاصيل فـأي كـلام سيقوله المسيحي تبريـراً للعقيدة لن يمكنه أن يقنع به المسلم الـذي لا يـرى في الثالوث إلا المساس بالتوحيد ، ويستند في ذلك إلي سورة التوحــيد (الأخلاص) .

* وقـد أعـطى الكاردينال كـونج محاضرة في الأزهــر في 31 مـارس 1965 حول الطابع المطلق للتوحيد في المسيحية وإنـه إلــه واحــد ، وكــم كانت دهشة الحاضرين كبــيرة وسعادتهـم أكبر وهــم يسمعون أحــد كبار كــرادلة الكنيسة يــؤكـد ذلك ، ولا يجب فهم هـذا الموقف على إنه إنكار للعـقيدة المسيحية أو أن المسيحي عليه أن يتـناسى عقيدته وأسـرارها وخاصه أسـرار الخلاص: إن ذلك ليس إلا تكتيـكاً يـخدم أغـراضنا ، لأن الله واحــد ، لـكنه واحــد في ثلاثـة أقـانيم ، وهـكذا سيقوم المسلم بفـهم الكنيسة وتقبلها.

* أفضل وسيلة لشرح طبيعة الكنيسة هــو وضعها في إطــار عـالميتها ومطالبتها بـوحـدة الناس جميعاً لخـدمة الله وهكـذا فإننا نقترب من مفهوم مجمع الفاتيكان الثاني.

* يجب الاعتماد على الغرس الثقافي ، ولا يجب إغفال الدور الذي يقوم به الغرب في العالم الثالث من تغيير حضاري .

ولعل هذه الشذرات ، وهي شذرات من زخم جد كثير، ان توضح للمسلمين جميعا ، أيا كانت أعمارهم وخاصة للمسئولين الذين ينساقون في لعبة وخديعة الحوار مع لجان الفاتيكان ، أن يدركوا ان المطلوب منهم هو التلاعب بالإسلام وتخريبه بأيديهم .

زينب عبد العزيز

30 اكتوبر2017



الاثنين، 30 أكتوبر 2017

ورابعهم..

ورابعهم..


محمد جلال القصاص
ثلاثية المشهد الصحوي:
ينطلق الجادون من المتدينين من نقطة واحدةٍ ويتجهون لهدفٍ واحد. كلهم من الكتاب والسنة وإلى محاولة استئناف الحياة على قواعد الشريعة من جديد. ولأن الثابت في الشريعة هو الكليات وغيرها متغير حسب الزمان والمكان وحال المخاطب فإن التنوع في واقع المسلمين كثير كثير.

وفي واقعنا المعاصر عامة الحركات الإسلامية التي تسعى لإعادة استئناف الحياة على قواعد الشريعة من جديد.. تلك التي تسعى لتبليغ الناس رسالة ربهم، تتشكل هياكلها الخارجية تبعًا لأزمات المجتمع وإكراهات الأنظمة المستبدة وتعدي القوى الدولية التي تعلن الحرب على الدين والمتدينين (الحرب على الإرهاب). وفي كل مكانٍ وزمانٍ يصطف الجادون في ثلاثة محاور، ثم يأتي رابعهم.

يصطف الجادون تبعًا لميول الناس وإمكاناتهم؛ فبعضهم يقاتل، وبعضهم يتجه للعمل الخيري المجتمعي، وبعضهم يتجه للعمل العلمي الدعوي؛ وكلما تغيرت إكراهات الواقع حدثت التحولات على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة. وكثرة التحولات من كثرة التغيرات والإكراهات والمكر الكبار. ثم يأتي رابعهم، ظاهرًا معهم ولكنه ليس منهم. لا يُعرف رابعهم في الرخاء إلا بلحن القول وينكشف كليةً حين البأس. فالأحداث كاشفة، تكشف المخادع وتكشف لأحدنا من نفسه ما لم يكن يعلمه، ولذا لا يتمنى البلاء عاقل. وتتاح اليوم فرصة لكشف رابعهم.
بدأت إرهاصات التحول في المشهد الخليجي منذ كشفت بعض الأنظمة الخليجية النقاب عن وجهها وأعلنت رفضها التام لأن يحكم المتدينون، وأعانوا عليهم في مصر وغير مصر
دعنا نوضح الفكرة، ثم ندور حولها، ننزع عنها ثيابها ليتضح حالها ومآلها، نعظ غيرنا، ونعظ أنفسنا بغيرنا، ونسأل الله السلامة من شرور أنفسنا ومن شر خلقه أجمعين.

بدأت إرهاصات التحول في المشهد الخليجي منذ كشفت بعض الأنظمة الخليجية النقاب عن وجهها وأعلنت رفضها التام لأن يحكم المتدينون، وأعانوا عليهم في مصر وغير مصر، وما أن بدأت بعض الأنظمة الخليجية تنشط ضد المتدينين حتى بادر (رابعهم) يعين المفسدين، بكتاباتٍ تكشف وتدل على عورات الجادين، فكتب عن (اختلاف الإسلاميين)، ولم يكتف بكتابات توصيفية وإنما قرن ذلك بمواقفٍ عملية، مثل: تبنى قضايا تثير الشقاق وتفرق صف الثائرين على الاستبداد، مثل: (الهوية)، والانضمام للعلمانيين المعارضين للإسلاميين.. ويزعم أنه إسلامي؛ واليوم انكشف (رابعهم) أكثر. وذلك حين زاد التحول المفاجئ في المشهد الخليجي من الوهابية إلى العلمانية، ولأن المقام مقال نستدعي فقط أربعةً كشواهد على (رابعهم):

الأول: الدعوة للتمذهب:
كانت المذاهب الأربعة طرائق لفهم النص الشرعي، ثم أصيبت الأمة بالترف الفكري فحدث تضخيم للجزئيات، ثم دب الجهل والتعصب بين عامة المنتسبين للمذاهب الأربعة حتى تلاسن أتباع المذاهب من العلماء واقتتل العامة بالعصي وعُقد الولاء والبراء على التفاصيل. حينها ظهرت السلفية للإصلاح المجتمعي والديني بالقضاء على التعصب المذهبي، وجعلت مظلتها اتباع الدليل لا التعصب لهذا أو ذاك، رفعت شعارات منها: (كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم، صلى الله عليه وسلم)، (كتاب وسنة بفهم سلف الأمة)، كانت قفزة لما قبل المذاهب الأربعة، وظلت تحافظ على حيادها المذهبي وتمسكها بالدليل لا بالمذهب إلى أيامٍ معدودة، حتى ظهرت الدعوة للمذاهب مرةً ثانيةً. ومن داخل السلفية. ارتد بعض السلفيين عن السلفية.

المشهد الثاني: السلفية والحداثة:
رابعهم هذا بلا مرجعية حقيقية وإنما يتبع فهمه الخاص (هواه) أو هوى من يدعمه أو يخوفه، فكأنه اتخذ من الشعار (كتاب وسنة بفهم سلف الأمة) مطية للتعدي على علماء الأمة ورموزها
تدعي الحداثة أن التاريخ يتحرك في خطٍ مستقيم وأن قيمها وواقعها (نهاية التاريخ)، والسلفية في الجهة المقابلة تمامًا: تعرف أن الأيام دول كما قال العليم الخبير -سبحانه وتعالى وعز وجل- (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس) (آل عمران:140 )، وأن التاريخ صراع بين الأمم؛ وأن دوام الحال من المحال على مستوى الأفراد وعلى مستوى الأمم؛ ومع ذلك خرج علينا (رابعهم) يتبنى فكرة الحداثة الرئيسية وهي فكرة (ماذا بعد؟) (المابعديات)، وكأننا نسير في خط مستقيم، وكأن ما يمضي لا يعود ثانية.

وهي ردة عن السلفية أعلنت صراحةً (ماذا بعد السلفية؟)، ولو أنه على قواعده السلفية لطرح سؤال: كيف الطريق لتصحيح الانحراف في التطبيق؟، كيف الطريق لتطبيق المبدأ السلفي (كتاب وسنة بفهم سلف الأمة)؟ لا أن يتحدث عن مجهولٍ لا يعرفه ويحاول استكشافه بسؤال (المابعديات) الغربي، أو يحاول الدفع بالمشهد لمرحلة جديدة ضد التي تدعو لإعادة استئناف الحياة من جديد على خلفيات إسلامية.

الثالث والرابع: سؤال الصراع وسؤال المرجعية
الثالث: سؤال الصراع: من عدوهم؟! من يصارع هؤلاء؟ من هو عدوهم؟ بالطبع ليس المستبدين، وليس الظلم الواقع على عموم الناس، وإنما الثلاثة الأول الذين اصطفوا في وجه الظالمين.

الرابع: سؤال المرجعية؟: من كبيرهم؟ حين تطرح سؤل المرجعية على هؤلاء لا تكاد تعرف لهم مرجعية، لا من المعاصرين ولا من الأقدمين؛ فلا تكاد تجد مرجعية للسلفيين من المعاصرين أو الأقدمين إلا وتطاول عليها (رابعهم)، صراحةً وبألفاظ شديد القسوة أو ضمنًا بمخالفتهم والرد عليهم، فرابعهم هذا بلا مرجعية حقيقية وإنما يتبع فهمه الخاص (هواه) أو هوى من يدعمه أو يخوفه، فكأنه اتخذ من الشعار (كتاب وسنة بفهم سلف الأمة) مطية للتعدي على علماء الأمة ورموزها. وفي التفاصيل تجد بين صغار هذه الظاهرة شيء عجيب: كل واحد منهم يكبر شخصًا بعينه ويعظمه، متعديًا أنه مرجعيته، ثم بعد قليل ينقلب عليه ويسبه!
راح رابعهم يتبنى قضايا فردية تتعلق بالتدين الفردي، لا تَدَين الأمة.. لا معالجة المعضلات السياسية التي أودت بالأمة إلى الأسر في يد عدوها والإهانة.
والسؤال الآن: ماذا يفعل رابعهم؟، أو بالأحرى: ماذا يفعل برابعهم؟، هل من جديد؟ الفاعل الأقوى اليوم هو الأداة التي تحمل الأفكار للناس: القنوات الفضائية، دور النشر والتوزيع، مواقع وسائل التواصل الرئيسية، رؤوس الأموال ذات التوجهات الفكرية؛ فلا تستطيع قراءة الفاعل كفرد وإنما أصبح الفاعل اليوم معقد (مركب)، بعضه أشخاص وجله أدوات فعل؛ وبالتالي فإن السؤال الأدق: ماذا يراد فعله برابعهم؟

لا جديد، السياسي النجدي يحرك المرتبطين به من أجل إفشال الثلاثة، وفعلها هؤلاء من قبل بعد هزيمة 1967م، بعد أن فشل القوميون العرب في تكوين أمة قومية عربية ناهضة وانتهوا بهزيمة نكراء في 1967، واتجه الناس للمتدينين ثانية، ووجدت مساحة للتمدد الصحوي. حينها فعل (رابعهم) بالأمس ما يفعله اليوم، راح يتبنى قضايا فردية تتعلق بالتدين الفردي، لا تَدَين الأمة.. لا معالجة المعضلات السياسية التي أودت بالأمة إلى الأسر في يد عدوها والإهانة.
والآن يعبث في المشهد، في وقت الجد.. في وقت القتل والتخريب والصولة على الأمة من الجميع يتحدث عن قضايا في غاية التفاهة وضد السلفية، وضد الأعراف الدينية، مثل: إباحة النمص وإباحة لبس البنطال للنساء، وإباحة التدخين للنساء والرجال... إلخ. والهدف تشتيت الجهد وإشغال الناس بالتوافه؛ كما كان يفعل الرسميون من المفتين في التسعينات وكما فعل شيوخهم في السبعينات. والخلاصة: الجادون ثلاثة. ورابعهم ليس منهم بل خنجر بيد عدوهم.

محمد مرسي على مسرح شكسبير

 محمد مرسي على مسرح شكسبير


أحمد عمر


هل يمكن تحويل مأسوات شكسبير الدامية إلى عروض كوميدية مضحكة؟

يقال في مدارس المسرح وفن الدراما؛ إن الموت يجعل الكوميديا تراجيديا.

يضرب بو علي ياسين المثل في شرح أحد أنواع الضحك الشهيرة، وهي سقوط الرجل الوقور في عرض الطريق، فنضحك جميعاً، ويرى بعضهم في التفسير أننا نضحك بسبب طفرة المشهد، ولشعورنا بالنجاة من الحادث، الضحك هو انتصار.
 يقول بو علي ياسين: إن الرجل لو سقط وانكسر، أو جُرح، لفزعنا إلى نجدته وطلب الإسعاف له، فالدم يعطل الطرافة، وهو نذير شؤم.
 الكوميديا والتراجيديا جاران، بينهما برزخ لا يبغيان، لكن يمكن تحطيم الجدار، وقد يؤخذ الجار بالجار، وكان عزيز نسين ماهراً في تحطيم هذا الجدار، وهو الذي قال في تشخيص كتابته الساخرة: حولتُ دموعي إلى ضحكات على وجوه العالم.

 لكن الدموع غير الدم.. في التراجيديا دماء، وهي غالباً ما تعطل بهجة الكوميديا، وحتى تنجو التراجيديا سباحةً في بحر الدم إلى ساحل الكوميديا، علينا أن نقنع الناس بأنّ الدماء التي نزفت من الملك أو من الشعب ما هي إلا مياه مصبوغة باللون الأحمر، أو أن القتلى إرهابيون، أو أن الشعب المقتول هم حاضنة لهم أو دروع بشرية، فقد أفتت إسرائيل بالتخلص من الدروع البشرية، وتأست بها دول عربية. يمكن التخلص من خمسين درعاً بشرياً في سبيل التخلص من إرهابي واحد. قد تتحول التراجيديا إلى كوميديا إذا قلنا بعد المذبحة "خلصت"، فهذا يرسل البشرى، ويَعِد بنهاية التراجيديا، أن نقنع الشعب بأن البلد بألف خير، ونعرض المسلسلات الكوميدية، ومسابقات الجمال، وأن يتحول المفتي إلى مهرج، وإذا تحول المفتي إلى مهرج في مذبحة فهذا يجعل المأساة ملهاة.

 ثمت أمثله كثيرة على الضحك في الجنازات المصرية، وفي المقابر، خذ فلم "الكيف"أو فلم "مقابر مفروشة للإيجار"، خذ فلم "جنة الشياطين" مثلاً، وهو فلم لم أستطرفه، وشعرت بغربة شديدة فيه، لسبب بسيط، هو أن قصة الفلم هي للبرازيلي جورجي أمادو، وهي قصة غير مصرية، ومخالفة للدين الإسلامي والتقاليد العربية، ومن المفارقات أن محمود حميدة ضحى ببعض أسنانه في سبيل إقناعنا بالفلم، ولو ضحى بفكيه ما هو ببالغ غايته.

التراجيديا الشكسبيرية ليست جنازة شخص من عامة الشعب، غالباً هي جنازة ملك، أو جنازة أمّة، أو هي حدث ينتهي بنهاية حزينة مأساوية. وحتى نقلب المأساة إلى ملهاة، ما علينا إلا أن نمضي إلى خصوم المقتول، وسنجد السعادة بالنهاية المأساوية، وقد نجدهم يوزعون السكاكر والفطائر في الضاحية.


لقد كانت نهاية صدام حسين مأساوية، وقد سعد بها خصومه واشتفوا منه، وخلّدوه من غير أن يقصدوا. كانت نهاية مأساوية، لكنها سعيدة لخاتمة طاغية غسل بها بعضاً من طغيانه.

لوحة ليوناردو دافنشي، الموناليزا، ذات الابتسامة الحزينة، أكثر لوحة عالمية تعرضت إلى دغدغة أصابع الكوميديا، ورياح الضحك، ويسبقها تمثال الحرية في واشنطن، ويمكن ذكر بعض وضعيات مقترحة لتمثال الحرية التي رسمها رسامو الكرتون، أو توهموها..

خذ مثلاً: تمثال الحرية يرفع إصبعاً وسطى لزائري أمريكا، أو يرفع إشارة رابعة، أو يحمل قنبلة نووية.. لكننا نتحدث عن الدراما، الآن لنعمد إلى مشهد شهير من مسرحية يوليوس قيصر الشهيرة، مثالاً:
عبد الفتاح بروتوس، وحمدين صباحي، والبرادعي - وتأتأته عنصر كوميدي - قابلة للاستثمار المسرحي والتهريج، يتأمرون على يوليوس عيسى العياض، فيقتلونه قتلاً معنوياً حسدا من عند أنفسهم، وقد استثمر السيسي إعلام الحكومة في تدمير الرجل، فنكل به تنكيلا، وكانوا جميعاً ينفذون مؤامرة قذرة - واعذرونا على الصفة المبتذلة في الإعلام - ويأتمرون بإيعاز من الغرب، ممثلة بالحسناء السندريلا آشتون، موفدة الاتحاد الأوروبي، إلى برّاد مرسي، للاطمئنان على طعامه وميرته. وزيارة برّاد مرسي في السجن مشهد كوميدي، يؤكد علو حضارة الغرب، وقيم الثورة الفرنسية، والجبنة الفرنسية، وكان الغرب قد اطمأن على الشعب السوري، بعد أن أتلف سلاحه الكيماوي بصفقة عرضها بوتين، وضمن أنه سيموت تحت البراميل.

المهم: يُطعنُ يوليوس العياض بخمس وثلاثين طعنة، ثم يأتي عبد الفتاح بلوتوس، ويطعنه الطعنة السادسة والثلاثين، في الظهر طبعاً، فيلتفت يوليوس مرسي وقد بوغت، ويقول: حتى أنت يا حاج عبد الفتاح، ألم نصلِ سوياً جماعة؟ وكان عبد الفتاح بروتوس قد ظهرت له زبيبة من سجود السهو.

 المشهد مأساوي ودموي،  وكان مرسي أول رئيس منتخب منذ سبعة آلاف سنة، وفي زيارته إلى ألمانيا كان ينظر في ساعته، فسخر منه الإعلام  المصري، ثم رأينا عبد الفتاح بروتوس يزور إيطاليا، فرأينا رئيس الوزراء الإيطالي يعبث بهاتفه، والشاويش السيسي يهذي ويخطب. انتخب مرسي بالرغم من كل الدعوة المضادة.  

وكان نوح فيلدمان، أستاذ القانون في هارفارد، قد  قال: الديمقراطية تعني أن الإسلام سيعود. رأينا هذا في كل التجارب الديمقراطية العربية، في مصر وفلسطين.

 سنضحك، وعبد الفتاح يقول، وهو يطعن مرسي بعد أن تمر جملته، على سلسلة من الفلاتر: فلتر الأمانة، فلتر الصدق، فلتر الإخلاص، ويقول: في ستين داهية.. جلد تخين.

 وقد يجد المصريون جملاً أكثر طرافة، فهم معلمو الخليقة في فن الكوميديا، ثم يحولون جلد يوليوس العياض إلى سجادة يمشي عليها السيسي إلى قصر الشعب بسيارته.

 الغرب يحب المسرح، كما يحب المسلمون المسجد.  المسرح معبدهم، وهو الآن يخرج مسرحيات تراجيدية في سوريا ومصر، ويرسل لنا بعض الأطعمة الفاسدة، وبعض الكوندومات الواقية للتكاثر، وواقيات البعوض، ويمنح الجوائز لمثقفين منتخبين بالفلاتر الثلاثة.

وقد بات المسرح السعودي التراجيدي مضحكاً أيضاً.. خذ مشهد إخراج ولي العهد السعودي موبايلين من جيبه، كما يفعل السحرة في السيرك. ربما يُستحدث باب جديد في أبواب نوبل، مثل باب: جائزة نوبل لتحويل الإسلام إلى دين "دايت"، ويقال إننا سنرى قريباً إلى جانب صحيح البخاري ومسلم، صحيح ابن سلمان.

كشف مرسي عن طموحه: الخبز، السلاح، العلم، قال: بنات مصر هن بناتي. الخليجي كان متعوداً على لعب دور الخواجة السائح في مصر، وقد ضمنه بعد الانقلاب، فبات الجرسون هو الرئيس المصري، ويقدم هذه المرة، بدلاً من الشاي والشيشة والراقصة، جزراً مثل تيران وصنافير.. وسيناء.. وصلحه.

تعال نقترح أن عبد الفتاح برتوس يلعب شخصية أخرى، هي شخصية أنطونيو، ويخطب في الجموع المصرية، وقد فعل:

 في المسرحية، أنطونيو خطيب بارع، استطاع قلب المشهد لصالح الشرعية. ليكن أنطونيو هو عصام سلطان، تخيل معي أن هذه الشخصية الكبيرة في السجن، وفي السجن مسرحيات ترهيب وتخويف وتعطيش، أو لنتخيل أن الكتاتني هو أنطونيو، أو أن عميد البياطرة العرب، محمد بديع، صاحب قولة سلميتنا أقوى من الرصاص، هو أنطونيو..

تخيلوا أن يخرج مرسي من السجن، ويروي ما حدث.

 تعالوا نتخيل أن السيسي يلعب أكثر من دور في المسرحية: هو نبي، وفيلسوف، ومشير، وبلياتشو، فيخطب بفلاتره الثلاثة، وينشد فيقول: أنا متحوجش.. فيغير المشهد برمته وهو يتحدث عن الإرهاب المحتمل، ويدعو الشعب إلى دفع الفكة، والدول المجاورة إلى دفع أتاوة الرز. سيكون خطاب أنطونيو في المسرحية مقاطعاً من خطبه العظيمة التي غيّرت وجه مصر، فبات القفا هو الوجه، والوجه هو القفا، وآه يا قفا.

 في سوريا، الضحك صعب، المأساة أكبر من تحويلها إلى كوميديا. أنا أظن، مثل أكثر الناس، أن مصر هي قلب العالم الإسلامي، والغرب يخرج مسرحيتها.

 تعالوا نموت ضاحكين.

رخصة الإنجاب والحرب على الإنسان المصري!

رخصة الإنجاب والحرب على الإنسان المصري!

عامر عبد المنعم

نحن أمام استهانة بالإنسان المصري، ومن يتولون أمره فقدوا حسهم الإنساني، لا يحبون شعبهم، ولا ينتمون لوطنهم، ولا يحترمون دينهم، وكأنهم عرق مختلف من غير المصريين

فتحت الحكومة المصرية النيران على الزيادة السكانية، وصدرت التصريحات من رموز السلطة ضد ما أطلقوا عليه الانفجار السكاني، وتم حشد قوة الدولة لمواجهة هذا الخطر الجديد، الذي اكتشفوه فجأة ليعلقوا عليه الفشل في كل الملفات داخليا وخارجيا، ولإبعاد الأنظار عن بيع ممتلكات الدولة للأجانب، والإلهاء عن أكبر عملية تجريف وتفكيك يتعرض لها المجتمع.
بدلا من توفير الوظائف لملايين العاطلين وبناء المساكن للشباب وإيجاد حلول لمشكلة توقف الزواج الذي أصبح ظاهرة تهدد المجتمع وتؤرق جيلين في الوقت الحالي، راحوا يتحدثون عن تثبيت عدد السكان وإخصاء المصريين، وإظهار الضيق من وجود الشعب نفسه!
وتطورت الحملة التي تقودها الماكينة الحكومية إلى التدخل في الحياة الأسرية وحق الإنجاب؛ بمناقشة قانون يشترط حصول الزوجين على موافقة حكومية ورخصة قبل الإنجاب كل 5 أو 10 سنوات، وفرض غرامة مالية في حال عدم الالتزام برخصة الإنجاب، وحرمان الأطفال من التعليم والعلاج!
تحويل النعمة إلى نقمة
بدأ الحملة عبد الفتاح السيسي في أكثر من مناسبة وهاجم الزيادة السكانية واعتبرها خطرا يهدد التنمية، وعلى خطاه سارت الحكومة، وخرجت علينا منذ أيام وزيرة التضامن غادة والي تهاجم الصعايدة وتتهم محافظات الصعيد بارتفاع نسبة المواليد، وتعهدت بأن الحكومة ستضع خطة للسيطرة على الخصوبة!
ومن التصريحات التي تكشف عداء الحكم الحالي للعنصر البشري والتعامل معه كخطر وكارثة تصريحات اللواء أبو بكر الجندي رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الذي قال في المؤتمر العلمي للمجلس القومي للسكان إن "العالم يحسدنا على المعدل السكاني في مصر، وهناك نسبة 60% منهم شباب يحسدنا عليهم الكوكب، لكن في ظل الأوضاع الحالية، هذه النسبة كارثة وانتحار"
وفي كلمات صادمة أكد الجندي أن "السكان نقمة ومشكلة لأننا لا نملك الموارد التي تصرف عليهم كي يكونوا سكان" أي أنه يرى أن الشعب المصري لا يستحق أن يطلق عليهم "سكان" ولم يكن هذا ذلة لسان لأنه واصل كلامه قائلا: "هم ليسوا سكان الآن.. هم ناس حاجات هلامية عبء على المجتمع بيشدوه تحت".
وهذه اللغة العنصرية، والنظرة المتغطرسة للمصريين وكأنهم "كائنات هلامية" لا تستحق الحياة لغة غير مسبوقة، حيث لا يوجد تمايز عرقي ولا توجد في تاريخنا فكرة التفوق العنصري نظرا لأن المجتمع المصري نسيج واحد لا يعرف مثل هذه النزعة المتعالية.
الطاقة البشرية
هذه المواقف التي لا تدرك أهمية الطاقة البشرية تكشف عن حالة من الجهل والحماقة، فالإنسان ليس هو المشكلة، وإنما الكارثة هي الإدارة الفاشلة التي لا تعرف كيف توظف أهم عناصر قوة الدولة، وتستخف بالعقول وتخوض معارك ضد طواحين الهواء، وتظن أن تحميل المواطنين فاتورة فشلهم يعفيهم من المسؤولية.
لقد قامت الحضارات الكبرى بسواعد البشر، ففي الصين والهند ومصر وبلاد الإغريق، اعتمدت الإمبراطوريات والحضارات على الكثافة السكانية، وحتى الولايات المتحدة كنموذج حديث فإنها لجأت إلى استقدام ملايين السود لزراعة الأرض وتشغيل المصانع وبناء قوتها الاقتصادية والعسكرية لحكم العالم.
عدد السكان الكبير ميزة تضاف لقوة الدولة، فالصين التي يبلغ عدد سكانها 1,4 مليار نسمة والهند التي يبلغ عدد سكانها 1,3 مليار نسمة بهما أكثر من ثلث سكان العالم (7,6 مليار نسمة)، وتصعدان بقوة، بل إن الصين تنطلق نحو الزعامة وإزاحة الولايات المتحدة (324 مليون نسمة).
الصين الآن بسكانها، هي أقوى اقتصاد في العالم، واستطاعت بإدارة مركزية ذكية توظيف طاقاتها البشرية الضخمة، والسيطرة على الاقتصاد والتجارة في القارات الخمس، والتفوق على أمريكا وأوربا، وأصبح المنتج الصيني في كل الأسواق.
والهند هي الأخرى تتقدم خلف الصين بقوة، وبسبب حرية تداول السلطة والقضاء على الفساد استطاعت الحكومة المختارة من الشعب أن توظف الطاقة البشرية الهائلة في حجز مكانها المتقدم في مجالات الفضاء والتقنية حتى أنها تفوقت في مجال البرمجيات، وأصبحت معظم بنوك العالم تعتمد على المبرمجين الهنود.
وإذا نظرنا إلى اليابان التي يبلغ عدد سكانها 127 مليون نسمة يعيشون على مساحة قدرها 377 كيلومترا، أي ثلث مساحة مصر من أكبر الدول المتقدمة في العالم ولها الريادة في عالم التقنية، وكانت القوة البشرية هي سبب الصعود الياباني في العهد الإمبراطوري قديما، وحتى بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية حافظ اليابانيون على تقدمهم العلمي والاقتصادي.
الفرق بيننا وبينهم أن الحكم عندنا يبيع المصانع والأرض والجزر، ويدمر الإنسان ويسلم رقابنا للأجانب، بينما هم يحترمون الإنسان ويبنون المصانع ويزرعون أرضهم ويزيدون الإنتاج ويوظفون الطاقة البشرية بشكل صحيح وعادل.
تجريد المواطن من جنسيته
وقف الإنجاب والسعي لوطن بلا أطفال وخنق المستقبل يتواكب مع ممارسات أخرى ضد المصريين، بالتجويع والتعطيش والإفقار، ولكن لم نكن نتخيل أن يصل بهم الأمر إلى إلغاء حق المواطنة، ففي أبلغ عدوان ضد الإنسان المصري ما جاء في مشروع القانون الذي وافق عليه مجلس الوزراء وأعطى السلطة حق نزع الجنسية بمبررات تنطبق على كل شخص لا يؤيد الحكومة!
 في تعديلات قانون الجنسية تم التوسع في سحب الجنسية المصرية، لتشمل "كل من صدر بحقه حكم قضائي يثبت انضمامه إلى أي جماعة، أو جمعية، أو جهة، أو منظمة، أو عصابة، أو أي كيان، أيًا كانت طبيعته أو شكله القانوني أو الفعلي، سواء كان مقرها داخل البلاد أو خارجها، وتهدف إلى المساس بالنظام العام للدولة، أو تقويض النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي لها بالقوة، أو بأية وسيلة من الوسائل غير المشروعة".
وهذه الصياغة المطاطة تجعل كل المصريين تحت مقصلة الحاكم، فالإدانة تشمل كل من تتهمه الحكومة بالوقوف ضد السلطة حتى لو استخدم طريقة مشروعة، وسواء كان في كيان قانوني أو جمعية أو منظمة بالداخل أو بالخارج، وهذا يعني أن يتحول المصريون إلى "بدون" ليس لهم حقوق وليسوا مواطنين!
ووفقا لهذه الصياغة الشيطانية تستطيع الحكومة نزع حق المواطنة وتهجير المصريين من الأراضي المطلوبة لإسرائيل الكبرى، ومن يرفض التهجير سيتهم بأنه "ضد النظام العام للدولة"، ويساهم في "تقويض النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي"، والغريب أن الحكومة كانت قد أعدت قانونا لبيع الجنسية للأجانب ومن بينهم الإسرائيليين مقابل وديعة دولارية!
نحن أمام استهانة بالإنسان المصري، ومن يتولون أمره فقدوا حسهم الإنساني، لا يحبون شعبهم، ولا ينتمون لوطنهم، ولا يحترمون دينهم، وكأنهم عرق مختلف من غير المصريين، وشعب آخر غير الشعب، يتعاملون مع البشر وكأنهم جاءوا من كوكب آخر.
هؤلاء الذين يحاربون الإنسان يدمرون الوطن، ويضعون نهاية للدولة المصرية، فلا تقوم دولة بدون الإنسان، ولا مستقبل بتدمير الحاضر، ولن تجدي الهتافات بـ "تحيا مصر" 3 مرات بينما المصري يتم تجويعه وإهدار كرامته، والاستخفاف بحقه في الحرية والحياة.
الإنسان هو أكرم خلق الله على الأرض، ومن أجله سخر الله الكون، وهو محور أية حضارة وأساس أية تنمية، ولا تتقدم دولة ترى أن الإنسان هو المشكلة، ولا تحيا أمة ترى أن المواطن هو الخطر.

الأحد، 29 أكتوبر 2017

عملية إسقاط النجم الساطع

عملية إسقاط النجم الساطع


وائل قنديل
عاد عبد الفتاح السيسي من باريس منتشيا بدفء لقائه بالرئيس الفرنسي، ماكرون، الذي قرّر أن يضحي بموضوع حقوق الإنسان، استثماراً في زيارة الضيف صاحب السجل المتخم بالانتهاكات التي يزعم ساكن الأليزيه أنه ضدها.

ماكرون صاحب نظرية في الحكم المدني تقول "إذا نشب خلاف بين رئيس الجمهورية وقائد أركان الجيش، فليرحل الأخير"، ويبدو أن السيسي المنبهر بالرئيس الفرنسي الشاب، كما عبرت عن ذلك صوره وهو يضحك في هستيريا، عاد مسكونا بالقاعدة الماكرونية، فكان أول قراراته عزل رئيس أركانه، صهره الفريق محمود حجازي، من دون مقدماتٍ يمكن أن نفهم منها طبيعة الخلاف الذي أفضى إلى العزل.

تصلح صفحة المتحدث العسكري المصري في "فيسبوك" لمحاولة التعرّف على ملامح الصورة، ولو كنت من متابعي هذه الصفحة، بدقة، طوال الأشهر الماضية، لوجدت أن رئيس أركان الجيش المصري كان أكثر بروزاً، وأكثر حصولاً على الأضواء، في تغطيات الصفحة، بحيث كان يبدو كأنه الرجل الأول، وليس وزير الدفاع، المحصّن دستورياً ضد العزل.

تجد ذلك في كمية الأخبار المنشورة، وتجده في نوعيتها، وتلمسه كذلك في جودة الصور المنشورة ونقائها، بالنظر إلى الاستخدام المفرط في عمليات الفلترة الفنية التي تظهر رئيس الأركان أكثر لمعاناً من وزير الدفاع.

يلفت النظر، كذلك، أن الأخبار المنشورة عن رئيس الأركان تبيّن، إلى حد كبير، أنه المعني، قبل وزير الدفاع، باللقاءات الأكبر والأهم على صعيد العلاقات العسكرية الدولية، وبالأخص الأميركية والأوروبية، فهو النجم البارز في استقبالات ومباحثات "النجم الساطع"، مع القيادات العسكرية الأميركية، على مستوى قيادة المنطقة المركزية الأميركية، والبنتاغون، بحيث كان يبدو وكأنه العنصر الأهم في تحديد مسار علاقات القاهرة وواشنطن عسكرياً، ما يجعل قرار إبعاده، فور عودته من الولايات المتحدة، أمراً مثيراً وملفتاً.

ولو عدت إلى الوراء، على بعد أكثر من ست سنوات، ستكتشف أن اللواء محمود حجازي، قائد المنطقة المركزية، إبّان ثورة يناير 2011 إلى جانب اللواء محمد العصار، الذي كان يوصف بأنه مهندس العلاقات العسكرية مع واشنطن في ذلك الوقت، ومعهما اللواء عبد الفتاح السيسي، مدير المخابرات الحربية، كانوا يشكلون أضلاع المثلث الأهم في هيراركية الحكم العسكري، بقيادة المشير حسين طنطاوي، والفريق سامي عنان، مع ملاحظة أن ثلاثي اللواءات كان الأكثر اقتراباً من أحداث الحراك الثوري اليومي، وتفاعلات الشارع، ومعادلات العلاقة الملتبسة بين الجيش والشعب.
ومبكراً للغاية، عقب عزل حسني مبارك، كان الحوار بين المؤسسة العسكرية والقوى السياسية والحركات الثورية يتم عبر هؤلاء الثلاثة، بما جعلهم الأقرب إلى معترك الحياة السياسية، وكانت الإطلالة الأولى للمجلس العسكري، عبر القنوات التلفزيونية الخاصة، تشمل العصار وحجازي، فيما بقي السيسي في موقعه مسؤولا عن ضبط إيقاع الميادين والشوارع الهادرة بالغضب، وراوياً حكاية العلاقة بين الجيش والثورة، في كل اللقاءات الضيقة المغلقة التي كان يدعو لها المجلس العسكرية شخصيات سياسية وإعلامية وثورية، في الشهرين التاليين لخلع مبارك من السلطة. وكنت شاهداً على واحد من هذه اللقاءات، امتد نحو سبع ساعات، وكان الانطباع الذي خرج به المدعوون، وكانوا ثلاثة، بالإضافة إلى كاتب هذه السطور، أن الجنرالات الثلاثة هم الأكثر تأثيراً في المجلس العسكري الحاكم، من ناحية إدارة العلاقة بين الجيش والشارع، والأقرب فهما للمزاج السياسي العام، وبالتالي الأقدر على التعاطي معه.
وحين تم تعيين عبد الفتاح السيسي وزيراً للدفاع، تم تصعيد صهره حجازي مديراً للمخابرات الحربية، خلفاً له، ثم جاءت لحظة انقلاب 2013، وهيمنة السيسي على السلطة، فكان أن أزاح اللواء محمد العصار، بتعيينه وزيراً للإنتاج الحربي، فيما تم إبعاد محمود حجازي من المخابرات الحربية، وتعيينه رئيساً للأركان، حتى أتت اللحظة المناسبة للتخلص منه نهائيا، وإنزاله من رئاسة الأركان، إلى مجرد مستشار في قصر الاتحادية، كما جرى مع وزير الداخلية السابق، محمد إبراهيم،  شريك السيسي في الانقلاب على الرئيس المنتخب، والذي أقيل وعين مستشاراً أمنياً لرئيس الوزراء.
 ومنذ ذلك الوقت، ابتلعه النسيان، فلم يعد يسمع عنه أحد.
هل سيختلف مصير رئيس الأركان المعزول عن وزير الداخلية السابق؟ هذا سؤال ستجيب عن الأيام.