السبت، 30 نوفمبر 2013

القصب وشجرة البلوط!




القصب وشجرة البلوط!






المرونة تصنع التحدِّي، والذين يطاردونك ويقفلون الأبواب في وجهك سيتحولون إلى أسباب سخَّرها الله ترسلك إلى الأعمال والأحوال والأماكن الأفضل!
ثمَّ أحوال جميلة ورائعة لا نذهب إليها باختيارنا فيُسخِّر الله لنا من يدفعنا إليها دفعاً، إنني مَدين لهذه الفكرة المرنة في عددٍ من الأعمال التي اقتنعت بها وتحمّست لها.

المرونة تُسهِّل الاحتفاظ بالعادات وصناعتها.
عندما تستيقظ تشرب ماءً عادياً أو فاتراً أو زيت زيتون أو عصير تفاح.. حسب نصائح الأطباء، عدة خيارات تسمح باستمرار العادة.
المشي يحتاج إلى حذاء خاص، وممشى مُرتّب، ورفقة، وجو مُعتدل؛ ولذا تتخلى عنه.
في "الحاير" كنت أدور كالذئب في الغرفة، وعند خروجنا للفندق -لثلاثة أيام في انتظار لقاء بمسؤول- كنت أدور في الغرفة خائفاً من أن يكون الخروج يعني الابتعاد عن المشي.
أهم من المشي ضبط القرآن ومراجعته، وقيام الليل، والنوافل، والصوم.. وكُلها مما صرتُ أتذكَّر معها أيام السجن بحسرة.
عادات المجتمع يجب ألا تكون صارمة بحيث تُكسر، ولا لينة بحيث يُجهز عليها، يجب أن تكون ثابتة ومرنة وقابلة للتطوير دون خوف أو صراع ..
تعليم المرأة، الدش والتلفاز، الإنترنت، والشبكات الاجتماعية، إجازة يوم السبت، إغلاق الصيدليات أوقات الصلوات، قيادة المرأة السيارة.. إلخ

كان هناك شجرة البلوط على ضفة النهر، وعلى ضفاف شجرة البلوط نما قصب كثير، وفي كل يوم كانت شجرة البلوط تتمايل مع الريح بثبات وثقة وشموخ، وكأنها تقول: انظري إليَّ أيتها القصبة الصغيرة، كيف لا أرضخ لشيء، لأنني قوية، والقصبة لا ترد؛ لأن الأمر لا يستحق كل هذا العناء، في ليلة ما هبت عاصفة هوجاء، أكثر بكثير من المعتاد، وعندما انبلج الفجر، كانت شجرة البلوط مقسومة إلى نصفين وقد انجعف معظمها على الأرض، ولكن القصبة الضعيفة كانت قائمةً، تلوح إلى ضوء الشمس، وتتحدث عن العاقبة!

أقرب آية لمفهوم المرونة العملية الإيجابي هي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (25،24) سورة إبراهيم.

الأصل راسخ وهو الإيمان والمحكم، والفرع متصل بالأصل، ولكنه مرن متحرك يعطي لكل حالة عبوديتها المناسبة، ولذا {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ}، وليس عطاؤها مقصوراً على حال دون حال، وهكذا هي الكلمة الطيبة.

وأقرب نص نبوي لهذا المفهوم هو حديث البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:

« إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا ».

اليسر مرونة، والمشاطّة عسر وانغلاق.

التسديد هدف، وإذا لم يمكن فالمقاربة والمحاولة.

والبشرى مرونة؛ تمنح الإنسان في كل حال أملاً وحسن توقُّع.

السير القاصد المعتدل يحفظ الراحلة من العطب، ويحقق المطلب دون استعجال أو تهور.

{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4،3) سورة النجم.

اللهم صل على معلم الناس الخير.

المرونة عادة.

اليوم ليس كأي يوم الثورة تستجمع قواها لاستعادة مصر

اليوم ليس كأي يوم

الثورة تستجمع قواها لاستعادة مصر
عامر عبد المنعم
11/29/2013
الملايين التي نزلت اليوم في الشوارع والميادين تؤكد أن قطار الثورة بدأ ينطلق ويحمل المزيد من الركاب، ويزداد وزنا وسرعة، كالطلقة، سيدهس كل من يقف في طريقه، ولن تستطيع قوة بشرية وقفه مهما كانت.

جاء قانون منع التظاهر لتكميم الأفواه وربط اللسان أمام قتل الانسان وفرض الاظلام التام.
وجاءت جريمة أسر بناتنا لتفضح مكنون العقليات الخارجة من قعر التاريخ التي تجاوزت اجرام الاستعمار تريد أن تقتل فينا الدين والنخوة والرجولة.
لن تفلح أبواق مسيلمة في إطفاء الغضب ووقف الطوفان فهي أضعف من خيوط العنكبوت.
لن تفلح عصابة السياسيين الانتهازيين الكارهين لهويتنا في تشتيت الغضب الشعبي ولن يستطيعوا الصمود أمام تدفق الفولاذ المنصهر، وسيقفزون من المركب الغارق واحدا تلو الآخر.

لقد سقطت الأصنام.. كل الأصنام، واحترقت العرائس.. كل العرائس.
مصر على موعد مع الفجر بأيدي جيل الشهادة الذي يحب الموت في مشهد مهيب نراه على الشاشات بالصوت والصورة.
هذا الجيل الذي ولد وتربى في عهد مبارك وظنوا أنهم أفسدوه. لقد شاء الله أن يتغير.
هذا الجيل تحول إلى طاقة جبارة لن يقف أمامها طغيان مهما تسلح بالمدرعة والدبابة والمحاكم الظالمة.
قلوب هذا الشباب الصغير كالفولاذ لا يخاف ولا يهتز ويتصدى بصدور عارية للرصاص.

يفهمون أكثر منا رغم فارق العمر، لا ينتظرون توجيها من أحد، لا يسيطر عليهم حزب أو جماعة كما يتوهم الحمقى.
شباب يعرف ماذا يريد وينفذ بشكل عفوي ما يريد، ولديه القدرة على التكيف والتجمع والتحرك.
في السابق لم يكن له قضية فغرق في التعصب الكروي وانشغل في التوافه أما اليوم فلا.
يحملون هم أمتهم ودينهم ويريدون الحرية ولا يقبلون بأنصاف الحلول كما نرى نحن العواجيز.

هذا الجيل تربى في رابعة العدوية والنهضة والميادين.
أدمن رائحة الغاز، واعتاد على طرقعة الرصاص.
لون الدم يزيدهم بطولة وجسارة وتصميما على التصدي للطغيان.
هم خير أجناد الأرض حقا.
هذه المرة وبهذا الجيل ستكون الثورة ليست كأي ثورة..

أما أنتم:يا هؤلاء.. يامن خدرتكم السكرة، وأذهبت بعقولكم النشوة الزائفة..
يامن تقتلون..
يامن على أعراضنا تعتدون..
يامن بديننا وقيمنا وانسانيتنا تستهزئون..
يامن تظنون أنكم ستحكمون بالقتل والترويع..

اسمعوا كلام الناصحين..

السعيد من فهم ووعى، وابتعد عن طريق القطار المندفع والطوفان المتدفق، وكان كخامة الزرع أمام الريح، وهيأ نفسه مع الواقع على الأرض وليس ما يتخيله بحساباته الخاطئة.
والشقي من ركبه العناد، وأعماه الغرور وكان فاقد البصر والبصيرة، وأصر على أن يقف أمام القطار ينتظر المصير المحتوم، يظن أنه سيظل واقفا كالصنوبر ولا يريد أن يصدق أن الصنوبر لن يصمد أمام الريح العاتية، التي ستقصفه قصفا.
انضموا إلى جيل الشهادة ولاتقفوا أمامه، تكسبوا أنفسكم وتكسبوا شعبكم ويتوقف النزيف، وننقذ مصر من كيد الشياطين.

اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون

الطرطور !!


الطرطور !!


د محمد عباس


أغرق في دراسة الثورات الفرنسية والروسية والإيرانية ومقارنتها بالثورة في مصر..

نقاط التشابه مذهلة.. والفيس بوك -ومعظم قرائه- لا يحتملون الدرسات الطويلة.
رجعت إلى ما كتبته منذ عشرين عاما في مقالات منشورة ففوجئت بأشياء مذهلة كنت قد نسيتها..
منها على سبيل المثال أنني أتنبأ بأن الدكتور محمد سليم العوا سيكون الرئيس الذي توافق عليه أمريكا..ومنها أن غباء النائب العام السوفيتي ووصول بعض القضاة إلى درجة مذهلة من السفالة والإجرام والفساد والرشوة والتواطئ كانت هي الأسباب الرئيسية في انهيار الاتحاد السوفيتي..
كان جورباتشوف هو الرئيس الطرطور وكان يلسين هو المجرم الذكي المتواطئ مع الغرب لتفتيت بلاده ( في ستين داهية!!) ولولا الغباء والإجرام والفساد في النائب العام وقضاته لأمكن إنقاذ الاتحاد
السوفيتي من الانهيار.
في الثورة الفرنسية كان الملك لويس السادس عشر قد تحول أيضا إلى طرطور وتحول الوزراء الحمير بالغباء والخسة والخيانة إلى معاول لا لهدم نظام الحكم فقط بل لهدم الدولة نفسها ولتراجعوا في ذلك ما كتبه لويس عوض في كتابه عن الثورة الفرنسية ص 69 (وكذلك ما كتبه ألكسندر ديماس) حين كتب أحد قيادات الثوار" مارا: قيادي بارز وعضو كميونة باريس" بيانا إلى الشعب الفرنسي بعنوان : "كشف القناع عن الوزراء" يقول فيه:
- إخواني: لاحظوا سلوك الوزراء لتحددوا سلوككم، إن هدفهم هو حل جمعيتنا الوطنية، وسبيلهم الأوحد هو الحرب الأهلية ينفخون في نار الفتنة،إنهم يحيطونكم بجهازهم الضخم من الجند والحرب.
نقاط التشابه الأخرى مذهلة بحيث دفعتني لترداد الجملة التي لا أحبها ولا أصدقها من أن التاريخ يكرر نفسه.
أما المزعج حقا فكان المكتوب عن الثورة الإيرانية حين تحول الشاه أيضا إلى طرطور رغم دمويته ضد الثورة التي لم يكن لها أن تنجح لولا إعدام مئات الآلاف ومطاردة ضباط جهاز الأمن هناك-السافاك- وقتلهم في الشوارع بطرق بشعة وتقديم لحمهم طعاما للكلاب..
أيضا : قتل ستالين خمسين مليونا كي تنجح ثورته!!
أما روبسبير فقد قطع رقاب 16000 في عامين بالجليوتين..
...
ترى:
هل من حقي أن أدعو:
- اللهم امنحنا الثمرة دون أن ندفع مثل هذا الثمن..

لغز العسكر وكيف حلَّه رسول الله


لغز العسكر وكيف حلَّه رسول الله


د. ياسر صابر

حين فازت جبهة الإنقاذ فى الجزائر بالإنتخابات البرلمانية بنسبة تزيد عن 80 بالمائة، إنقلب عليها العسكر بقيادة الجنرال خالد نزار، وإنتهى الأمر بالزج بعشرين ألف من الجبهة فى السجون، ونشبت حرب راح ضحيتها 200 ألف من الأبرياء.
وحين وصل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم فى تركيا بدأت معركة تكسير العظام بين العسكر والنظام الجديد مازالت فصولها تدور حتى الأن.
أما فى مصر فلم يمكث برلمان الثورة أكثر من أربعة أشهر حتى بادر المجلس العسكرى بحله، وأصبح حسب الرؤية العسكرية فى حكم الماضى وكأن شيئاً لم يكن.
 واليوم حدث ماهو أكبر من ذلك بالإنقلاب على الرئيس المنتخب (حسب ديمقراطيتهم التى يؤمنون بها ) والزج بقيادات الإخوان فى السجون .
 وهكذا تبدو العلاقة بين التغيير والعسكر غامضة وتترك أسئلة كثيرة ؛ هل العسكر بطبيعتهم ضد التغيير ؟ أم أنه لغز العسكر ؟
إن أى نظام سياسى يحتاج إلى قوة تحميه، والأنظمة السياسية فى العالم الإسلامى، التى قامت على أنقاض دولة الخلافة لم تخرج من رحم الأمة وإنما أوجدها الإستعمار، وماكانت هذه الأنظمة لتبقى لولا وجود قوة مادية تحميها، وقد عمل الكافر المستعمر الذى أوجد هذه الأنظمة على كسب ولاء قادة الجيوش فى عالمنا الإسلامى، حتى يستطيع الإبقاء على أنظمته التى أقامها، وبهذا الولاء أصبحت هذه الجيوش حامية للأنظمة العلمانية بالرغم من أن أبنائها هم أبناء الأمة ويدينون بعقيدتها.
والتغيير الذى يحدث لهذه الأنظمة لايخرج عن نوعين؛ 
الأول هو التغيير الشكلى الذى يذهب بحاكم ويبقى على النظام العلمانى أى على نفس المنظومة الفكرية، وماأكثر الإنقلابات التى قامت فى العالم الإسلامى على هذه الشاكلة وأدت إلى تغيير الحكام.
 أما النوع الثانى فهو التغيير الذى يذهب بالنظام كله والأساس الذى قام عليه ويوجد مكانه نظام الإسلام، وهذا النوع من التغيير هو الذى يشكل صعوبة، وينتهى دائماً بالصدام وعادة مايُحسم الأمر لصالح العسكر بحكم أنهم أصحاب القوة المادية، ولهذا فإن أى محاولة للتغيير تصطدم بالعسكر لاتخرج عن كونها نوع من أنواع العبث .
فهل يعنى هذا أن تستسلم الأمة ولاتهُب من أجل تغيير النظام العلمانى ؟
إن الوقوف مع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقفة تشريعية تجيب لنا عن هذا التساؤل بوضوح، فرسول الله قد حسم هذه المسألة قبل 14 قرناً من الزمن حيث عمل على التغيير لإقامة نظام جديد يقوم على أساس الإسلام، وبالرغم من وجود أهل القوة أيضاً فى زمنه، إلا أنه أنجز طريقه وأقام دولته، فماذا فعل رسول الله ؟
إن الفهم الدقيق لسيرة المصطفى يبين بجلاء أنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على كسب أهل القوة فى المجتمع لفكرته ليكونوا هم القوة التى تحمى الدولة التى يريد إقامتها، وتظهر السيرة بجلاء أن طلب رسول الله للنصرة من القبائل قد قام على أساس نصرة الإسلام، عن عقيدة وإيمان، وليس من أجل مصالح آنية. وهذا تبينه السيرة حين أتى رسول الله بنى شيبان وقد كانوا يجاورون فارس فى منازلهم فعرضوا عليه النصرة من جهة العرب دون الفرس، فكان جوابه عليه الصلاة والسلام لهم " ماأسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، إنه لايقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه"
وأستمر على ذلك إتصال الرسول بأهل القوة إلى أن يسر له الله أهل النصرة فى العقبة الثانية فبايعوه بيعة الحرب ، جاء في سيرة ابن هشام في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في البيعة: "ثُمّ قَال: أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ. قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمّ قَالَ: نَعَمْ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ (نَبِيّاً) لَنَمْنَعَنّك مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللّهِ، فَنَحْنُ وَاَللّهِ أَبْنَاءُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرًا (عَنْ كَابِرٍ)" فتمت بذلك كلمة الله وقامت للإسلام دولته.
نعم هذه هى سيرة المصطفى تبين كيف تعامل مع أهل القوة فى عصره، فلم يصطدم بهم، بل عمل على كسبهم للإسلام ثم توجيه قوتهم لتكون هى الحامية للدولة الإسلامية الأولى التى أقامها فى المدينة عن يقين وإيمان وليس من أجل مصالح آنية من منصب أو جاه.
حدث هذا بعد أن كسبهم رسول الله لفكرته فكان إيمانهم بالإسلام وتأثرهم بعقيدته هو المحرك لهم فقاموا بحماية الدولة وزادوا عنها بأنفسهم وأموالهم، قربة لله، وطمعاً فى رضاه.
لهذا فإن أى حركة تسعى للتغيير الحقيقى دون أن تكسب ولاء الجيوش لفكرتها، فإن هذا يعتبر عبثاً يؤدى حتماً إلى الصدام، فالأصل أن تسعى الحركات والأحزاب الساعية للتغيير أن تكسب الجيوش لفكرتها.
والسؤال الأخر الذى يطرح نفسه ماهى الفكرة التى يمكن أن تجذب قادة الجيوش وتحررهم من التبعية التى هم غارقون فيها؟
إن الفكرة الوحيدة القادرة على كسب ولاء الجيوش وقادتها، هى الفكرة الإسلامية حين تصل لأصحابها مبلورة فى مشروع حقيقى، تجعل من يُخاطَب بها قادر على أن يضع يده ليتلمس صحتها وقدرتها على صياغة منظومة جديدة تعيد للأمة كرامتها وتخلصها من التبعية للكافر المستعمر.
لذلك إن أردنا أن نحل لغز العسكر فما علينا إلا أن نحمل مشروعاً مبدئياً يقوم على عقيدة الإسلام، يقدم هذا المشروع تصوراً كاملاً عن الدولة بجميع أجهزتها ودستورها وعلاقتها بغيرها من الدول ورسالتها التى يجب عليها أن تحملها، ثم نخاطب بهذا المشروع أهل القوة من جيوش الأمة، بعدما يكون لهذا المشروع رأياً عاما منبثقاً عن إدراك أن الإلتزام بهذا المشروع هو عبادة لله.
فقط بالمشروع الإسلامى الحقيقى نستطيع أن نحرر العسكر من التبعية للغرب ونحولهم إلى حماة للعقيدة، والذى يجب أن يكون هو الأصل.
 فقط بالإسلام يمكن أن نمتلك قلوب وعقول كل أبناء الأمة حين نخاطبهم خطاباً قوياً مؤثراً، فإن كان رسول الله قد كسب غير المسلمين إلى الإسلام ثم حول قوتهم لقوة تحمى الإسلام، فمن باب أولى أن يكون كسب أبناء المسلمين أسهل!
إن العقبة الكبرى أمام كسب العسكر، هو منافستهم فى تبعيتهم للغرب، وهذا يحدث حين يقوم المشتغلون بالتغيير بالإندماج فيما يسمى بالنظام الدولى والقبول بالحفاظ على العلاقات مع الطرف الأخر فى الصراع (أمريكا)، والقبول بكل ماتمخض عن هذا النظام الدولى الغاشم من إتفاقيات لم تقم أساساً إلا من أجل الحيلولة دون التغيير الحقيقى، فمن يسير فى هذا الطريق فهو يحافظ على النظام العلمانى شاء أم أبى، ويحافظ على علاقته بأعداء الأمة مهما كانت نواياه، وإذا كان هذا هو الحال، فالطبيعى أن يرى العسكر منه معادياً لهم فى نفوذهم، لأن الصراع سيتحول إلى منافسة فى إرضاء الغرب والسير فى منظومته.
إن تحييد الإسلام عن الصراع سيزيد الهوة بين أبناء الأمة الواحدة، ويجب ألا ننسى أن الأجهزة الأمنية لم يصل مستواها فى البطش والإجرام إلى هذه الدرجة إلا بعد غياب الإسلام أى فى ظل النظام العلمانى.
 والإسلام هو الذى يعيد لمن يعملون فى هذه الأجهزة الأمنية كرامتهم وعزتهم المفقودة والتى إنتزعها منهم الحكام العملاء الذين حولوا هؤلاء من رجال أمن إلى رجال رعب.
فليشمر الجميع عن سواعدهم ويتمسكوا بالمشروع الإسلامى الحقيقى الذى يجمع أبناء الأمة ولايفرقهم، لنحول العسكر من قتلة مجرمين إلى أبطال حقيقيين كما كان سلفهم، وبهذا نكون قد حللنا لغز العسكر الذى حير الجميع وحله رسول الله قبل 1435 عام.
" وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" الأنعام 153

إعدام بلد لإرضاء طاغية

 إعدام بلد لإرضاء طاغية 


موقع المسلم  | 27/1/1435 هـ
أصبح الحديث عن نفاق الغرب وازدواجية مكاييله في التعامل مع البشر من نافلة القول، نتيجة تواتر الأحداث وتكاثر الشواهد عليه، من قضية فلسطين النازفة منذ ستة عقود من الزمان ونيف، إلى إبادة ملايين العراقيين، وتشريد ملايين آخرين، إلى وأد مشروع دولة البوسنة والهرسك كدولة مستقلة لجميع مواطنيها، إلى تصفية الشعب الأفغاني وجزء من الباكستاني تحت شعار "محاربة الإرهاب".. إلى رعاية أصناف الإرهاب –وليس مجرد غض النظر عنها!!-ما دام الضحايا من المسلمين: في كشمير وميانمار وفلسطين وسوريا وإيران...
فالإرهاب الصهيوني والصفوي والصليبي موضع عناية غربية متفق عليها، فلا معتقل جوانتنمو يضم أحداً من المنخرطين في هذا الإرهاب "المباح أو المستحب" ولا الطائرات بلا طيار تلاحقه وتصفيه مع عشرات المدنيين في اليمن وباكستان وأفغانستان و.....!!

بالرغم من كل تلك الحقائق الساطعة، تبقى الحالة السورية أشد قسوة من سابقاتها من الكوارث التي كشفت تلاعب الغرب بالقيم التي يتشدق بها والشعارات التي يرفعها فوق متاجره الخادعة..

فهي المرة الأولى التي يتعامى العالم كله فيها عن إبادة جماعية دينية وطائفية دنيئة، للأكثرية الساحقة من شعب، لكي يبقى طاغية عميل يحظى بحماية يهودية صليبية صفوية مشتركة..
ولعل فضيحة كنائس مونتريال الكندية الأخيرة تكمل المشهد بإضافة نوعية فاقعة، فهذه الكنائس التي رفضت إيواء القس الطلياني باولو داليليو متذرعة بأنها "لا تتدخل في السياسة!!" هتكت سترها مجدداً بيديها، إذ إنها ستستضيف الشبيحة المنصرة آجنيس التي يسميها السوريون(حمالة الحطب) لتدافع عن جرائم نيرون الشام تحت سقف الكنيسة التي تخلت عن نصرة كاهن نصراني فقط لأنه يؤيد ثورة الشعب السوري على جزاره، وهذه الحمالة الحطب سبق أن زارت القدس المحتلة ودافعت بحراسة الاحتلال عن بشار "المقاوم الممانع"!!
وبالرغم من تكتم اليهود على حمايتهم غير المسبوقة لعميلهم وابن عميلهم طاغية الشام، خرجوا عن تقيتهم ليبث تلفزيون صهيوني تقريراً ميدانياً عن مشاركة مجرمين يحملون جنسية المحتل اليهودي في قتل السوريين تحت لواء خامنئي وصبيه بشار، بتواطؤ صريح من حكومة نتنياهو وأجهزته الاستخبارية!!

ويكفي الغرب الدموي عاراً وشناراً، ما توثقه منظمات ومؤسسات حقوقية أممية وغربية، عن مستوى وحشية القتلة الصفويين والنصيريين في سوريا..
فمجموعة أبحاث أوكسفورد التي لا يمكن تصنيفها في نطاق الجهات "الأصولية الإسلامية" خلصت إلى أن جزار الشام الخائن أزهق أرواح أكثر من 11 ألف طفل قُتلوا من بداية الثورة السورية حتى نهاية شهر أغسطس 2013م، وذلك من أصل أكثر من 110 آلاف قتيل من المدنيّين تم توثيقهم.
وبحسب التقرير، فإن الأسلحة الثقيلة كانت مسؤولة عن حوالي ثلاثة أرباع القتلى من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 17 عامًا، بينهم 2008 أطفال على الأقل قُتلوا بوساطة استهدافهم بالقصف الجوي لطائرات النظام السوري، بينما كانت الأسلحة النارية الخفيفة مسؤولة عن مقتل ربع الأطفال، بينهم أكثر من 750 طفلاً تم إعدامهم ميدانيًا، وحوالي 400 طفل تم قنصهم، ويشير التقرير إلى أدلة واضحة أن القناصة قصدت استهداف الأطفال بشكل محدد.
كما أشار التقرير إلى 128 طفلاً على الأقل قُتلوا في الغوطة شرقي دمشق بوساطة الهجوم الكيمياوي في 21 أغسطس من العام الجاري، وذلك من بين مئات المدنيين الذين استنشقوا غازات الأعصاب السامة.

وقد اعتمد التقرير على قواعد البيانات المجموعة من مصادر متعددة في المجتمع المدني السوري، والتي سبق أن نشرتها الأمم المتحدة، واعتمدت عليها في إحصاءاتها، إلا أن الجديد فيه في كونه درس تفاصيل وقدم معلومات إحصائية لم يسبق أن تم تناولها سابقًا.
ويكشف تقرير للأمم المتحدة عن مأساة ملايين الأطفال السوريين المشردين من ديارهم، قائلاً:إن الاطفال السوريين اللاجئين يدفعون ثمناً باهظاً للحرب الدائرة في بلادهم إذ يجبرون على ترك دراستهم والعمل لساعات طويلة بأجور زهيدة.

وذكرت مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للمنظمة الدولية أن نحو 300 الف طفل من الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين في لبنان والأردن قد لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس حتى نهاية 2013.

وأشار التقرير
إلى أن نصف اللاجئين السوريين البالغ عددهم نحو 2.2 مليون شخص هم من الأطفال الذين يبدأ بعضهم العمل من سن السابعة ويواجهون أخطارا جسيمة يومياً حتى مع وجودهم خارج مناطق الصراع.
وقال أنطونيو جويتريس رئيس المفوضية في مقدمة التقرير "إن لم نتحرك سريعا فسيكون هذا الجيل الجديد من الأبرياء من الضحايا الدائمين لهذه الحرب.


كما أفاد التقرير بأن ثمة مؤشرات على أن عدداً كبيراً من حديثي الولادة يصبحون "بلا دولة جنسية" إذ "فشلت" الدول المستضيفة للاجئين في تسجيل معظم المواليد الجدد.

صورة اليوم








حرائر الإسكندرية الصادر بحقهن الحكم الانقلابي الجائر بالسجن 11سنة لكل منهن وإيداع القصر بالأحداث:
- روضة حسام شلبي، السن:22سنة، بكالوريوس هندسة 2013
- علا علاء الدين إبراهيم، 18 سنة، أولى هندسة
- آية طارق مصطفى ، 18 سنة، أولى صيدلة
- سمية رجب علي، 18 سنة، أولى علوم
- مها محمد مصطفى، 18 سنة، أولى علوم
- منى ماهر البلتاجي، 18 سنة، أولى علوم
- آلاء أسامة العراقي، 22 سنة، خريجة فنون 2013
- سارة عبدالقادر، 19 سنة، كلية فنون - إعدادي ديكور
- إسراء جمال شعبان، 19 سنة، إعدادي فنون
- سمية بشر، 18 سنة، كلية الآداب - أولى علم نفس
- جهاد موافي جابر، 18 سنة، كلية الآداب - أولى علم نفس
- فاطمة الزهراء نبيل، السن: 15 سنة، 2 ثانوي
- رضوى رمضان عبدالحميد ، 15 سنة، 1 ثانوي
- سلمى رضا محمد، 15 سنة، 1 ثانوي
- يمنى أنس محمد أبو عيسى، 15 سنة، 1 ثانوي
- نسمة منير السيد ، طالبة بالثانوية
- مودة محسن مصطفى، 15 سنة، 1 ثانوي
- خديجة بهاء الدين محمد، 16 سنة، 2 ثانوي أزهري معهد فتيات سيدي بشر
- عائشة عبدالله عبدالسميع، 16سنة، 2 ثانوي أزهري، معهد فتيات سيدي بشر
- آية كمال الدين حسن، 17 سنة ،3 ثانوي
- سونيا عبدالحميد أحمد، ليسانس وماجيستير حقوق، أم لولد وبنت

رسائل التاريخ (12)

رسائل التاريخ (12)
حبس معارضى الملك فؤاد 6 سنوات و7 شهور, وحبس صحفى جريدة الشعب وحدهم 10 سنوات!! 


نواصل فى هذه الرسالة عقد مقارنة سريعة بين العهود الملكية (فى ظل الاحتلال) وحكم مبارك فى مجال قمع رموز الحركة الوطنية من خلال مؤشر المحاكمات فى العيب فى الذات الملكية, وهو أشد أنواع المعارضة.
لاحظنا أنه فى عهد الخديو عباس فإن كل الأحكام الصادرة فى عهده ضد جميع معارضيه كانت 3 سنوات وشهر واحد.
وهو نفس المعدل تقريبا فى عهد فؤاد (1917-1936) إلا أن حكما شاذا ضد رسام الكاريكاتير رخا هو الذى أخل بالمعادلة، فرفع إجمالى سنوات الحبس لكافة رموز المعارضة خلال العهد كله إلى 6 سنوات و9 شهور. ولا يدخل فى هذا الإحصاء المحاكم العسكرية التى كانت تعقد لنشطاء ثورة 1919.
 وبالتالى فإن عقد المقارنة بين العهدين لابد أن تلتزم بذلك وتكتفى بإحصاء عدد سنوات حبس الرموز المعارضة من القادة السياسيين والكتاب والشعراء، وهذا ما لم يفكر أحد فى إحصائه فى عهد مبارك, لأن الجهد شاق والأرقام ستكون فلكية، فمع استبعاد محاكمات الشباب والنشطاء حتى تكون المقارنة سليمة، فلا شك أن مبارك حبس رموز المعارضة والصحفيين مئات السنين على الأقل, ويدخل فى ذلك الأحكام الصادرة على قادة الإخوان المسلمين، والسياسيين الذين اعتقلوا أو حبسوا تحت بند التحقيق من تيارات اليسار والناصرية والإسلاميين.
إن هذا الحصر يحتاج لجهاز أو لجنة تعمل لعدة أسابيع، ولكن عدد سنوات الحبس لن يقل عن مئات, إن لم يصل إلى آلاف السنين, ولدى إحصاء دقيق عن حالة الصحفيين فى عهد مبارك:
1. كاتب هذه الرسالة حبس 4 سنوات فى قضايا نشر و2 سنة من أجل عيون غزة = 6 سنوات.
2. محمد هلال - سنة.
3. جمال فهمى - 6 شهور.
4. صلاح بديوى - 2 سنة.
5. عصام حنفى - سنة.
6. عمرو ناصف- 3 شهور.
7. عبده نوبى - سنة.
المجموع 11 سنة و 9 شهور، ولكاتب هذه السطور نصف (الشيلة) وصحفيو الشعب شالوا 10 سنوات!!
وهذه السنوات الخاصة بالصحفيين وحدهم أكبر من كل عدد سنوات حبس الصحفيين ورموز المعارضة فى عهدى عباس الثانى وفؤاد مجتمعين, الأول استمر 22 سنة والثانى 19 سنة، المجموع 41 سنة أى أكثر من عهد مبارك بـ 10 سنوات!!
ماذا جرى فى عهد فؤاد ببعض التفصيل؟
- 1 سنة حبس للهتاف ضد الملك - مرسى حسن عبد الشفيع.
- 6 شهور اعتقال بأمر عسكرى لكتابة مقال ضد الملك – محمد بك غيته.
- 6 شهور حبس لكتابة مقال ضد الملك - محمد الههياوى.
- 9 شهور - عباس العقاد - مقالات ضد الملك.
- 6 شهور - محمد فهمى الخضرى صاحب جريدة المؤيد التى نشرت للعقاد.
- 3 سنوات ونصف سنة - الفنان محمد عبد المنعم رخا رسام الكاريكاتير بتهمة العيب فى الذات الملكية.
ويكتنف الغموض هذا الحكم القاسى ضد رخا, ويقال أن أحدا أضاف فى المطبعة على الرسم (يسقط الملك) وصدرت الجريدة هكذا.
ولكن عهد مبارك أيضا شهد حبس رسام الكاريكاتير عصام حنفى لمدة عامين, تم تخفيضهما فى النقض إلى عام واحد.
وقد شهد عهد فؤاد قضايا عديدة أخرى, ولكنها انتهت إلى البراءة كقضية عصام الدين حنفى ناصف (عيب فى الذات الملكية)، أو إلى غرامة مضحكة: عشرين جنيه - وهى مضحكة حتى بأسعار العشرينيات لأنها غرامة على سب الملك!!
أما التابعى وإبراهيم خليل فقد صدر عليهما حكم بالحبس 6 شهور مع إيقاف التنفيذ (عما نشره ضد الملكية فى روز اليوسف).
 أما بالنسبة لزعماء ثورة 1919 فقد اتبعت السلطات البريطانية أسلوبا مبتكرا تميز به الاستعمار البريطانى، وهو النفى للخارج، كما فعلوا مع أحمد عرابى, والنفى أخف من السجن, لأنه أتاح لسعد زغلول ورفاقه ممارسة حياتهم بصورة طبيعية فى عدن ومالطة وجبل طارق, كما لم يعدموا وسيلة للاتصال بالداخل من وراء المراقبة.
 ولكن النفى لم ينفع هذه المرة فى تهدئة الأوضاع, بل ساهم فى تأجيج الثورة، ورضخ الإنجليز وتراجعوا عن قرار النفى، وعاد الزعماء يمارسون حياتهم السياسية بمنتهى الحرية، ويعدون الدستور، ويشكلون الوزارات الوطنية.. إلخ.
 ولكن فى المقابل فإن الإنجليز (ولا نقول الملك فؤاد لأنه لم يكن صاحب القرار الأول فى هذا المجال) لم يتعاملوا بأى رأفة مع المظاهرات الشعبية فى ثورة 1919، ولا مع العصيان المدنى الذى تحول إلى قطع خطوط السكك الحديدية وإقامة جمهوريات مستقلة (زفتى وغيرها).
أما العقاد فقد حبس 9 شهور فقط رغم أنه قال تحت قبة البرلمان:
سنحطم أكبر رأس فى البلد إذا حاول عرقلة الدستور. ثم عاد وكرر ذلك فى مقالات عدة، وعندما خرج من البرلمان ولم يعد لديه حصانة تمت محاكمته على هذه المقالات.
ومن طرائف عهد فؤاد أن بيرم التونسى لم يتعرض لأى عقوبة أو مشكلة بعد أن كتب:



و لما عدمنا بمصر الملوك
تمثل على العرش دور الملوك
ما نبنا إلا عرشك يا تيس التيوس
جابوك الانجليز يا فؤاد قعدوك
وفين يلقوا مجرم نظيرك ودون
لا مصر استقلت و لا يحزنون


ولكن بيرم (المصرى الهوى) التونسى الأصل تجاوز كل الحدود حين كتب زجلا بمناسبة مولد فاروق, أكد فيه أنه جاء نتيجة علاقة حرام قبل الزواج, بدليل أنه ولد قبل مضى 9 شهور على الزواج!! وكل الذى حدث كرد الفعل أن البوليس ألقى القبض على بيرم ورحلوه على إحدى متن إحدى البواخر لفرنسا.
(المعلومات من: العيب فى الذات الملكية - د. سيد عشماوى. والحقيقة أن هذا الكتاب يستند إلى أهم المراجع التاريخية التى كتبت حول العهد الملكى).

*****
وهذه الظاهرة: أى قسوة الأنظمة "الوطنية" بالمقارنة مع الأنظمة فى عهد الاحتلال، مسألة متكررة ولم تحدث فى مصر وحدها, بل فى عدد من الدول العربية، وفى حدود علمى لم أجد أى مؤرخ يتصدى بالتحليل لهذه الظاهرة العجيبة.
ولكن يمكن الإشارة إلى عدد من التفسيرات الأولية:
- أن الاحتلال البريطانى - فيما عدا لحظات الثورة الشعبية أو الكفاح المسلح - كان يميل إلى التعامل برفق مع المعارضة السياسية للاحتلال، ويحاول أن يمثل دور المتحضر الملتزم بالقانون.
- إن مصر فى مطلع القرن العشرين كانت تعيش صحوة قانونية، ففكرة القانون وسيادة القانون، وفكرة الدستور كانت طاغية فى البلاد، وغذاها المصريون الذين سافروا إلى أوروبا وشاهدوا تطور نظمهم السياسية، وانعكاس ذلك على تطورهم الحضارى والاقتصادى, بل كان قادة الحركة الوطنية من دارسى القانون، ولم تكن أفكارهم بعيدة عن الجذور الإسلامية: (الشورى - البيعة - رفض فكرة الملكية وتوريث الحكم).
- كانت هذه الدعوة للدستور ودولة القانون تحرج سلطات الاحتلال، ولا تلقى قبولا من الملوك. ووجه الحرج لدى الإنجليز أنهم جاءوا لاحتلال مصر كدعاة تحضر، وهم أصحاب فكرة الدستور والبرلمان والديمقراطية والملك الذى لا يحكم، ومع ذلك فإن الإنجليز - كما يفعل الأمريكان اليوم - كانوا ضد تطوير التجربة الديمقراطية، وكانوا مع استمرار الحكم الاستبدادى, وضد تأسيس برلمان له سلطات حقيقية. فالمهم هو الحفاظ على مصالحهم واستقرار النظام التابع لهم. وهم يوقنون أن الديمقراطية الحقيقية لن تحمل إلى مقاعد البرلمان والوزارة إلا أعداء الاحتلال!!
- ومع ذلك ظلت فكرة القانون قوية (وهذا أمر سنعود لتناوله فى رسائل قادمة) منذ مطلع القرن العشرين حتى ثورة 1919 ثم حتى يوليو 1952. ولولا ثورة 1919 لما تطورت وتأصلت فكرة الدستور والنظام الدستورى واحترام القانون.
- كان أحمد حسين يحمل الأدب السياسي المصاحب للحركة الشيوعية المسئولة عن تحطيم فكرة القانون، بنشر فكرة المرجعية الثورية والثورة المضادة. وأعداء الثورة، وإن استئصال هؤلاء مسألة مفتوحة تبيح استخدام كافة الوسائل. وأصبحت المرجعية الثورية بديلا للقانون (أى قانون) وأن الحركات الوطنية التى وصلت للحكم بعد الحرب العالمية الثانية تأثرت بهذا المناخ وذاك الفكر، واستخدمت نفس الشعارات لإبادة معارضيها.
وتقدر بعض الدراسات أن الاتحاد السوفيتى فى عهد ستالين آباد 20 مليون روسى وسوفيتى معارض, وهو ما لم يفعله النظام القيصرى.
وما حدث فى سجون عهد عبد الناصر لم يحدث 1% منه فى عهد الملكية والاحتلال، وكذلك الأمر فى عهد مبارك.
 بل إن الذين اعدموا فى عهد مبارك فى محاكم عسكرية وصل عددهم إلى العشرات.
 وهو رقم مهول بالمقارنة مع المحاكم العسكرية فى عهد الإنجليز، حيث تبرز حادثة دنشواى التى أعدم فيها نفر قليل.
 إن حادث دنشواى يعد من قبيل لعب الأطفال بالمقارنة مع ما فعله حكم مبارك مع معارضيه، وبانتهاكات حقوق الإنسان الواسعة على يد رجال شرطته فى عهد الطوارئ المستديم.
 ويحسب لعهد السادات أنه كان الأقل انتهاكا لحقوق الإنسان.
- النظم الوطنية سواء كانت حقيقية (عهد عبد الناصر) أو مصطنعة (عهد مبارك) بمعنى أن الحكام مصريون فى بلد غير محتل ولكن إرادتهم مسلوبة للأجنبى، هذه النظم ولنسميها (المصرية) بطشت أكثر من قوات الاحتلال, وبغض النظر عن التفسيرات الأولية التى سقناها.
فإن هذا الظلم غير مقبول, ولا يمكن الصبر عليه إذا جاء من بنى جلدتنا. وبدون أى دعوة لعودة الاحتلال الأجنبى!
فإنه لا يوجد مبرر للصمت على جرائم نظام يدعى الوطنية والمصرية، حتى يمارس قتل المصريين بحرية وينتهك أبسط حقوقهم الإنسانية.
إن جنسية المستبد هنا تأتى فى المحل الثانى, فأعماله هى المهمة، بل إن معارك التحرير الكبرى لإرادة الإنسان جرت بين أبناء الجلدة والعمومة (فى بدر وأحد والخندق).
إن الدرس المستفاد من كل ذلك، أن الاستقلال الوطنى الذى نسعى إليه دوما، يجب ألا يتعارض مع القانون، وسياسة القانون، وكافة الحريات, وأنه لا معنى للاستقلال الوطنى المزعوم مع التوسع فى انتهاكات حقوق الإنسان، وأنه لا حق للحاكم المصرى (وفقا لبيانات البطاقة الشخصية) أن ينكل بالمصريين بدعوى أنه حاكم "وطنى" وحريص على مصلحتهم كوالدهم!
 لابد من إحياء فكرة القانون وسيادته كحصن للعدالة وكأمان للجميع.
 ولنتذكر أن المساواة أمام القانون هى فكرة الرسالات السماوية المتتالية، وأنها فكرة الإسلام، وأن هذا هو تراث الشريعة الإسلامية الذى استوعبته أوروبا.

مجدى أحمد حسين

رسائل التاريخ كاملة

أين مواقع المصلحـين حين الشدائد والفتن



أين مواقع المصلحـين حين الشدائد والفتن 

أ. د. سليمان بن حمد العودة

لا بد قبل الحديث عن مواقع المصلحين حين الشدائد والمحن من تأكيد:


أ - سنة الله في الابتلاء، وهي سنةٌ ماضية في الأولين والآخرين، {الـم1 أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ 2 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: ١ - ٣].

وكلما عظُم الإيمان عظمت الفتنة: (أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يبتلى الرجلُ على حسب إيمانه، فإن كان في دينه صلابةً زيد له في البلاء)[1].

ب - بين المصائب والمعاصي:


ومع هذه السنة الربانية هناك سنة وقدر آخر حكم الله به وهو خير الحاكمين، ذلك هو الصلة بين المصائب والمحن والمعاصي والذنوب وعقوباتها وآثارها، والتقصير في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو كان ذلك في خير القرون الذين قيل هم في (مصاب أحد): {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وفي الآية الأخرى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 36].

وهنا إحالاتٌ واتهاماتٌ للآخرين، والمُتهمون غير سالمين.. نعم إننا نزكي أنفسَنا أحياناً من حيث نشعر أو لا نشعر، ونظنُّ أن المصابَ بغيرنا، والمعاصي ليست من نصيبنا، وفينا خللٌ ولدينا تقصير.. قد ندرك بعضَه، وقد يغيبُ عنا الكثيرُ من عيوب أنفسنا، وحين تحلّ المصائبُ تدعونا بالقوة إلى أن نفتشَ في أحوالنا، ونتهمَ أنفسَنا اتهاماً لا يحبطُ ولا يقعدُ بها عن العمل، لكنه يصحح ويرشد المسيرةَ، وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه: «إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ المُوبِقَاتِ»[2].

ولابن القيم - رحمه الله - كلامٌ جميلٌ في المعاصي وأثرها.. انظره في الداء والدواء.

وثمة منكراتٌ قد لا يقيم لها بعضُ الأخيارِ وزناً.. وهي من المصائب والبلايا، ذلكم حين لا يتمعّرُ الوجهُ، ويضعف الإنكارُ.. وعنها قال ابن القيم: (وأي دين وأي خير فيمن يرى محارمَ الله تنتهك، وحدودَه تضيّع، ودينَه يترك، وسنةَ رسوله صلى الله عليه وسلم يُرغبُ عنها، وهو باردُ القلب، ساكتُ اللسان، شيطانٌ أخرس)... إلخ كلام جميل في[3].

ويقول الشيخ حمدُ بن عتيقٍ - رحمه الله -: (لو قُدِّر أن رجلاً يصوم النهار، ويقوم الليل، ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع ذلك لا يغضب، ولا يتمعر وجهه... فلا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله، وأقلهم ديناً..

ثم نقل الشيخ عمن حدثه عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - أنه قال: أرى ناساً يجلسون في المسجد على مصاحفهم، يقرؤون ويبكون، فإذا رأوا المعروف لم يأمروا به، وإذا رأوا المنكر لم ينهوا عنه، وأرى أناساً يعكفون عندهم، يقولون: هؤلاء (لحى غانمة)، وأنا أقول: إنهم (لحى فوائن)، فقال السامع: أنا لا أقدر أقول إنهم لحى فوائن، فقال الشيخ: أنا أقول: إنهم من العمي البكم)[4].

فلا بد من مراجعة النفس، والتفتيش عن الأخطاء، والنظر في المناهج، وأسباب النكبات والمعاصي فينا وفي غيرنا.

ونعود للسؤال: أين مواقع الصالحين حين تقع الشدائدُ والفتنُ؟

والمقصود بالسؤال: استفسارٌ عن موقعهم في الأحداث، وجهودهم في دفع البلاء، وإسهاماتهم الإيجابية حين تقع الفتن، وهنا عدة وقفات (واجبات، مشاريع، مبادرات، مدافعات... إلخ).

وقد قيل: (وما المرءُ إلا حيث يضع نفسَه)، وأبلغ من ذلك وأصدق: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37].

وهنا أسجل (من هذه الواجبات والمبادرات) ما حضر في الذهن، لأفتح الباب للإضافة والتسديد.

تحرير مصطلح (الفتنة) في المواقف العملية:

إذ إن تحريرَ المصطلحِ علمياً (نظرياً) تمتلئ به الكتب، لكن المهم هنا: تحريره في المواقف العملية حين الشدائد، فمن الناس من يتخذ من (الفتنة) وسيلةً للغياب عن المشهد حين تقع النوازل، ويُعفي نفسه من جهادِ الكلمة، وقولِ الحق، ودفعِ الباطل، فإذا ما بان للمسلم وجه الحق فلا يجوز له أن يتخلف عن البيان وفي وقت حاجته، وبما يقتضيه البيان (من حكمة، ومراعاة للمصالح والمفاسد...)، والمهم ألا يقعد حيث يجب القيام بأمر الله وعبوديته من الأمر والنهي.

الصبر حين البلاء:

فلا يمكن أن يَسْلَم أهلُ الإيمان من بلاءٍ على قدر جهادهم، وهو طريق الرسل وأتباعهم، وهنا لا يسوغ الجزع ولا الخور، ولا التسخط والقلق، بل لا بد من احتساب الأجر، وصلاح النوايا، والبشرى بقدر الله الشرعي، دون تمنٍّ للقاء العدو، أو تحميل للنفس من البلاء ما لا تُطيق، وفي الحديث الصحيح: (لا ينبغي للمؤمن أن يُذل نفسه، يتعرض للبلاء ما لا يُطيق)[5].

والناس يختلفون بين (العزيمة) و(الرخصة)، والمهم القدر الأعلى من الصبر، والحد الأدنى من المجاهدة.

(الذكر الحسن):


ومع ما في الصبر من عظيم الأجر لمن احتسب حتى (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه، وولده، حتى يلقى اللهَ وما عليه خطيئة)[6]؛ إلا أن ذلك قد يكون غير منظور للناس، بل لصاحب البلاء نفسِه، لكن هناك ما يُسلي ويسري عاجلاً، ألا وهو (الذكر الحسن) لأهل البلاء والإيمان، قال ابن القيم: (مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ: أَنْ يَرْفَعَ لَهُ بَيْنَ الْعَالَمِينَ ذِكْرَهُ، وَيُعْلِي قَدْرَهُ، وَلِهَذَا خَصَّ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ 45 إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 45-46].

وقَالَ إبراهيم:
{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 84]، وعن محمد صلى الله عليه وسلم قال الله {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [سُورَةُ الشَّرْحِ: 4]، ثم قال: فَأَتْبَاعُ الرُّسُلِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمْ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمُتَابَعَتِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ خَالَفَهُمْ فَإِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مُخَالَفَتِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ)[7].

والواقع في القديم والحديث يشهد على ذلك، فكم من صادق شُهر اسمُه بسبب عداوة ومعاقبة الظالمين له، فوقع عليه من الظلم ما ذكّر به من لم يعرفه، وأحبه من لم يسمع منه..

وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت

أتاح لها لسانَ حسودٍ


محكمات الدين أصول ومنطلقات في البلاغ والدعوة:

محكمات الدين لا يسع المسلم إلا التسليم لها، والعمل بها، وعلى المصلحين أن يُعنوا بها ويرسخوها لعامة الأمة وخاصتها، ويجعلوا منها ميداناً رحباً للحديث والتأليف، والشرح والبيان؛ إذ هي أقصر الطرق وأنفعها للبلاغ والإقناع، وهي أعظم حجة لقطع الطريق على أهل الريب؛ فتوحيدُ الله بالعبادة، والتسليمُ لشرعه، وتحريمُ الشرك، ومحبةُ الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعتُه فيما أحب المرءُ أو كره، وتثبيتُ أركان الإسلام والإيمان والإحسان، وحفظُ الضرورات الخمس (الدين، النفس، المال، العرض، العقل)، والولاءُ للمؤمنين والبراءةُ من المشركين، والعزةُ لله ولرسوله وللمؤمنين، وإحقاقُ الحق، وزهوقُ الباطل، وتحريمُ الظلمِ والإثمِ والزنا والخمر والربا وسائرِ الفواحش، والأمرُ بالأخلاق الفاضلة من العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.. ونحو ذلك من محكمات في الدين لا تقبل المساومة والجدل، وتمثل (أم الكتاب) كما قال تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]، والأمُ هو الأكثر والأصل كما قال العالمون[8].

هذه المحكمات تتأكد الحاجة لبيانها وتعميمها كلما كانت الظروف داعيةً لها في أزمان الشدائد والفتن، وكلما حاول المبطلون اختراقها بأساليب ملتوية، وطروحات غريبة، ويحتاج كذلك للحديث عن هذه المحكمات في سبيل وحدة الأمة، إذ «الواجب تقديم الإسلام في التطبيق والدعوة من خلال المحكمات والأساسيات لا من خلال الاجتهادات والخلافات السائغة أو غير السائغة»[9].

وليس يخفى أن عالَم اليوم يموج بعقائدَ باطلةٍ، ومذاهبَ فكريةٍ منحرفةٍ، وفرقٍ ضالةٍ، وانفتاحٍ إعلاميٍ مهولٍ.. ومن هنا فعلى المسلمين كافةً، وعلى المصلحين خاصةً، أن يُعنوا بهذه المحكمات والمنطلقات الإسلامية، دليلهم قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)[10]، وميزانهم قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.

ومن رام المزيد عن هذه المحكمات وأهميتها وتطبيقاتها، فليراجع ما كتبه (د. عابد السفياني: المحكمات حوار وتطبيقات).

العزلة المشروعة والمذمومة:

لا شك هناك عزلةٌ مشروعةٌ أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لمن؟ ومتى تكون؟ وكيف؟ هذا هو المهمُ، إذ قد يتصور طالبُ علم، أو قادرٌ على المساهمة في دفع الشر وإقرار الحق.. أنه معذورٌ باعتزالِ الفتنة، والغياب عن الأحداث.. وتلك قضيةٌ بين العبد وربه، فإذا ما اشتبهت على الإنسان الأمورُ إلى درجةٍ لا يعرف فيها أين يكون الحق؟ وأين يوجد الباطلُ؟ وأشهدَ اللهَ على ذلك، بعد تحري الأسباب الممكنة.. فهنا قد يسوغ للإنسان أن يعتزل، كما فعل بعض الصحابة حين الفتنة الواقعة بين المسلمين.. لكن الأصل الاختلاط بالناس، والمساهمة بالدعوة والإصلاح، ودفع المنكرات: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 11]، و«المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»[11].

وهنا نموذج وتصحيح للعزلة، ففي[12]: عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: خَرَجَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى الْجَبَّانَةِ (الصحراء) يَتَعَبَّدُونَ، وَاتَّخَذُوا مَسْجِدًا وَبَنَوْا بُنْيَانًا، فَأَتَاهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَقَدْ سَرَّنَا أَنْ تَزُورَنَا، قَالَ: مَا أَتَيْتُكُمْ زَائِرًا، وَلَسْتُ بِالَّذِي أَتْرُكُ حَتَّى يُهْدَمَ مَسْجِدُ الْجَبَّانِ، إِنَّكُمْ لأَهَدى مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟! أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ النَّاسَ صَنَعُوا كَمَا صَنَعْتُمْ مَنْ كَانَ يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ، وَمَنْ كَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَنْ كَانَ يُقِيمُ الْحُدُودَ؟! ارْجِعُوا فَتَعَلَّمُوا مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ، وَعَلِّمُوا مَنْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ.

قَالَ: وَاسْتَرْجَعَ فَمَا بَرِحَ حَتَّى قَلَعَ أَبْنِيَتَهُمْ وَرَدَّهُمْ.

تعميق الوعي بالحق:


فتلك مهمةٌ كبرى لأهل الإيمان، سلكها المرسلون وأتباعُهم، وأعلنوها لقومهم عبر (مصطلحات، وقيم، ونداءات، وتحذيرات متكررة) تملأُ آياتِ القرآن الكريم من مثل قوله تعالى (على ألسنة هؤلاء المرسلين والمؤمنين): {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا}[الأعراف: 140]، {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38]، وحين يختلط على الناس الحقُ أو شيءٌ منه، فلا بد للعالِمين من البيان والبلاغ، ولا يجوز كتمانُه: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]. إنه ميثاقٌ عظيمٌ أخذه الله على أهل الكتاب: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 178].

ومع بيان الحق لا بد من كشفِ الباطل، ورفعِ التلبيس والتدليس، وكشفِ الكذب، وفضحِ الخونة، واستبانةِ سبيل المجرمين، وأشدُ ما يكون التلبيس حين تقع الشدائدُ والمحنُ، وتحل الفتنُ، فيُصوّر الباطلُ حقاً وعكسه، والمعروفُ منكراً ونقيضه.. وهكذا..
ومن هنا تتحتمُ مسؤولية كشف الباطل والمبطلين (بسيماهم) وهو الأصل، أو بأسمائهم وأفعالهم إذا لزم الأمر، وقد جاء الإنكار في القرآن الكريم صريحاً: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 79].

وأهلُ العلم والدعوة، والفكرِ النزيه، والشرفاءُ، وأهلُ المروءةِ والكرمِ... هم المؤهلون لهذه المهمة الشريفة.

معركة الفكر والقيم في عمقها وأهدافها:

مما ينبغي أن يُتفطن له على الدوام وفي أزمنة الشدائد على الخصوص، أن رحى المعارك الدائرة في الفكر والقيم، وبين الأخيار وخصومهم، أعمق مما يتصوره البسطاء، ولا بد من كشف ما يريد أن يسطحه أهل الريب، ذلك أنهم وحتى لا يُتفطن لمكرهم يُبسطون طروحاتهم، ويلبسونها لبوس (التجديد) و(التطوير) و(الانفتاح)، أو غير ذلك من مصطلحات خادعةٍ، لتُمرر هذه الطروحات وتُقبل، ولا يجترئ معترضٌ عليها حتى لا يُرمَى بالتخلف والرجعية أو نحوها من ألقاب (تحييد) و(محاصرِة) للرافضين للفساد.. فليُنتبه لهذا جيداً.

وثمة أمرٌ آخر ينبغي التفطن له، وهو أهم، وذلك بتصوير الفكرة أو المشروع المراد بأبسط مظاهرِه، وعدم الإفصاحِ عن أهدافه العميقة، وذلك لسهولة تقبله حين يفصل عن توابعه وآثاره.. ولعله بالمثال يتضح المقال، وقضية المرأة نموذج صارخ، وخذ على سبيل المثال (قيادتها للسيارة)، فالأمر لا ينتهي عند القيادة، بل يراد الوصول إلى (الحجاب)، ويراد (تحرير المرأة من قَوامة الرجل)، ويراد (نشر الفساد، وابتزاز المرأة)، ويراد (سفرها بلا محرم) و(تصوير المرأة) وضرورة إيجاد (شرطة نسائية).. وهكذا قُل ما شئت من أمور ستتبع (قيادتها للسيارة)؛ ولذا فمن البساطة والتغفيل مناقشة الأمر مناقشةً فقهيةً تنتهي عند حدود (ألم تركب المرأة البعير؟)، أو (طرح الخلاف الفقهي في تغطية وجه المرأة)، أو حكاية (المرأة والسائق الأجنبي).. أو نحو ذلك.. مما لا يقيم أهلُ الريب له بالاً، بل يهدفون إلى ما أبعد من ذلك.. هذا نموذجٌ وقِسْ عليه غيرَه مما يطرح أحياناً، ويلبَّس في طرحه، أو يُهون من شأنه.. وعلى أهل العلم والفكر والرأي أن يُجلُّو الصورة، ويكشفوا مخطط الفساد.. وحتى يتأكد الأمرُ وفي قضية المرأة طرحت تباعاً (الاختلاط في المراحل الأولى)، و(المرأة والرياضة)، و(المرأة والأندية النسائية)، وأخيراً (حضور المرأة للمدرجات الرياضية)، ودمج المرأة مع الرجل، و(عمل المرأة في المستلزمات النسائية)... إلخ القائمة التي تؤكد أن القضيةَ (مشروعٌ متكاملٌ لتغريب المرأة) من التغفيل أن يفصل بعضُه عن بعض.. ولعل الأنظمة الصارمة والمدونة في سياسات بلادنا عطلت تنفيذ هذه المشاريع برهةً من الزمن، ولعل الأغلبية الساحقة وفي بلادنا كذلك والرافضة لهذه الطروحات الغريبة، تعطلها مستقبلاً، لا سيما إن انضم إلى ذلك وعود من المسؤولين في بلادنا بعدم الاستجابة لهذه المطالب المخالفة لقيمنا وأنظمتنا.

تمايزُ الصفوف:

ففي أزمان الأزمات والفتن، تتجلى المواقف، ويتمايز الناسُ، وإذا قيل لخير القرون على أثر مصاب أحد: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]، فغيرهم بالتمييز من باب أولى، وهنا يتسنى لأهل العلم والدعوة أن يتعاملوا مع الناس حسب مواقفهم، وأن يرصدوا ويكتشفوا المواقف وأصحابها على حقيقتهم.

حتى لا يُخترق العلماء والأمراء:

هؤلاء هم أولو الأمر، وهم يُعلمون الناس ويقودونهم، يُسألون فيفتون، ويأمرون فيُطاعون، بصلحهم يصلح الناسُ، وباجتماعهم على الحق يسعد المجتمعُ، وبتعاونهم على البر والتقوى تأمن البلادُ والعبادُ، ومن حظهم وحظ المجتمع أن يوفقوا لبطانةٍ صالحةٍ تدلهم على الخير وتعينهم عليه، وقاتل الله (بطانة السوء)؛ فكم أفسدوا ما بين الحاكم والمحكوم، بل وبين العالم والأمير، ومن قرأ التاريخ بعمق وجد علاقةً بين صلاح الراعي وصلاح من حوله، ووجد أثرَ ذلك في العدل والاستقرار والرخاء، كما يشهد التاريخ على أثر بطانة السوء على أولي الأمر في حصول الفتن، وانقسام الناس، ونزع الثقة، وتأرجح الطاعة المشروعة، والمصلحون أقدر الناس على قراءة التاريخ، وبيان آثار القطيعة بين العلماء والأمراء، وأحرى الناس بنصح الأمراء، وتحذيرهم من بطانة السوء، وشؤم المنتفعين لأنفسهم على حساب مصالح المجتمع والدولة...
ودعونا نضرب لنوعي البطانة نموذجاً من التاريخ، ونقرأ آثارهما:

أما نموذج البطانة الصالحة ففي الدولة (الأموية) ومع الخليفة (سليمان بن عبد الملك) - رحمه الله - حيث كان (رجاء بن حيوة) - رحمه الله - كبير المنزلة عند سليمان بن عبد الملك، وهو ثقةٌ عالمٌ فاضلٌ، وقد أجرى الله على يديه الخيرات (كما نقل الذهبي في السير: 4/558 – 560)، وليس يخفى أن (رجاء) هو الذي أشار على (سليمان) أن يكون الخليفة من بعده (عمر بن عبد العزيز) - رحمه الله - في قصةٍ تمتلئ بها كتب التاريخ، ومعلوم ما حصل للمجتمع والدولة والأمة باستخلاف عمر بن عبد العزيز الذي اشتهر عهده بالعدل والرخاء.

أما النموذج الآخر: فكان في الدولة (العباسية)، وفي زمن (المأمون والمعتصم والواثق)، حين وقعت (فتنة القول بخلق القرآن)، وامتُحن الناسُ، وأوذي العلماءُ، وحصل تفرق وشرورٌ وبلاءٌ وفتنة، وكان قطبا رحى هذه الفتنة من بطانة السوء:

أ. (بشر بن غياث المريسي)، قال عنه ابن كثير:
شيخ المعتزلة، وأحد من أضل المأمون [البداية والنهاية: 10/118]، وقال كذلك: كان المأمون على مذهب الاعتزال لأنه اجتمع بجماعة منهم (بشر المريسي)، فخدعوه وأخذ عنهم المذهب الباطل، ودعا إليه، وحمل الناس عليه قهراً، وذلك في آخر أيامه.. [البداية والنهاية: 10/312].

ب. (أحمد بن أبي دؤاد)، وعنه قال الخطيب: كان موصوفاً بالجود والسخاء.. غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على الامتحان بخلق القرآن، ثم نقل أنه ولي قضاء القضاة للمعتصم ثم الواثق، وكان (ابن أبي دؤاد) هو الذي يمتحن العلماء، ويدعو إلى القول بخلق القرآن.. [تاريخ بغداد: 4/142].

وقال الذهبي عنه: ابن أبي دؤاد: جهمي بغيض [الميزان: 1/97]، وقال في السير: كان ابن أبي دؤاد يوم المحنة أَلِباً على الإمام (أحمد) يقول: يا أمير المؤمنين، اقتله، هو ضال مضل [11/170]، ومعلوم ما جرى بسبب هذه المحنة من الشرور، حتى قال ابن كثير: وهذه المحنة التي هي أُسُّ ما بعدها من المحن، والفتنة التي فتحت على الناس باب الفتن[13]، وفي النهاية، وبعد السجن والأذى، ينصر الله الحق بـ (المتوكل)، ويعلو ذكر الإمام أحمد، ويطلبه (المتوكل) مستشاراً فيعتذر.

أما ابن أبي دؤاد فيبتلى بمرض (الفالج)، فيبقى طريح فراشه، لا يستطيع أن يحرك شيئاً من جسده، وحُرم لذة الطعام والشراب والنكاح[14].

أما الخلفاء (المأمون والمعتصم والواثق) فيصف حالهم (المتوكل) حيث يقول حين كتب رجل رقعةً إلى المتوكل يقول: يا أمير المؤمنين، إن أحمد يشتم آباءك، ويرميهم بالزندقة. فكتب فيها المتوكل: أما المأمون فإنه خلط فسلط الناس على نفسه، وأما أبي المعتصم فإنه كان رجل حرب ولم يكن له بصر بالكلام، وأما أخي الواثق فإنه استحق ما قيل فيه.. ثم أمر أن يضرب الرجل الذي رفع إليه الرقعة مائتي سوط، فأخذه عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم فضربه خمسمائة سوط، فقال له الخليفة: لم ضربته خمسمائة سوطٍ؟ قال: مائتين لطاعتك، ومائتين لطاعة الله، ومائة لكونه قذف الرجل الصالح أحمد بن حنبل[15].

وإذا كان ما سبق نموذجاً للتأثير على الخلفاء، فالعلماء كذلك يتأثرون أو يُؤثر عليهم، وفي فتنة القول بخلق القرآن السابقة، وقع تأثيرٌ (أو اختراق) للعلماء حتى أجاب لهذه الفتنة طائفةٌ عد منهم ابنُ كثيرٍ ما يزيد على ثلاثين عالماً، ومنهم جهابذةٌ في العلم، أمثال: يحيى بن معين، ومحمدِ بن سعد (صاحب الطبقات)، وأبي خيثمة (زهير بن حرب)، وبشرِ بن الوليد الكندي، وأبي نصر التَمَّار... وغيرهم[16].

بل ذكر ابنُ كثير أن المأمونَ دعا إلى هذه الفتنة خلقاً من مشايخ الحديث، والفقهاءِ، وأئمةِ المساجد، وغيرِهم، فأجابوا؛ لأنه (وكما ذكر ابن كثير) كان يعزل من لا يجيب عن وظيفته، وإن كان له رزق على بيت المال قطع، وإن كان مفتياً منع من الإفتاء، وإن كان شيخَ حديثٍ رُدعَ عن الإسماعِ والأداءِ، ووقعت فتنةٌ صماءٌ، ومحنةٌ شنعاءٌ، وداهيةٌ دهياءٌ، فلا حول ولا قوة إلا بالله[17].

وهنا ينبغي أن يفرّق بين من أجابَ مُكرهاً، ولعل أكثر هؤلاءِ العلماءِ كذلك، ومن أجاب دون إكراه، ولهذا دافع الذهبي عمن أكره منهم، وعلق على كون الإمام أحمد لا يرى الكتابةَ عن أبي نصر التَمَّار ويحيى بن معين بقوله: «قلت: هذا أمر ضيق، ولا حرج على من أجاب في المحنة، بل ولا على من أكره على صريح الكفر عملاً بالآية، وهذا هو الحق، وكان يحيى رحمه الله من أئمة السنة، فخاف من سطوة الدولة، وأجاب تقية»[18].

مدُّ الجسور وتجسير العلاقات مع شرفاء الناس وعامتهم والحذر من أهل الريب والتلون:

وهذا متمّم لما قبله، إذ لا يكفي (معرفة الخبيث من الطيب)، بل يمكن الاتصال والتنسيق والتعاون مع أصحاب المواقف المشرفة دعماً لهم، واستفادةً مما لديهم، وتعاوناً معهم على البر والتقوى، وتوسيعاً لدائرة أصحاب الحق، مع رصد خطوات الباطل وكشف المبطلين، وهل يخفى أن العامي من الناس قد يكون له دورٌ في تثبيت العالم الجبل، وقصة الإمام (أحمد بن حنبل) مع أعرابي (الرحبة) (جابر بن عامر) الذي قال لأحمد.. أنت إمامُ الناس فاثبت... إلخ القصة المشهورة.

بين المسكنات والاستراتيجيات.. لا بد من (المبادرة) حين الفتن لتسكنها، والتقليل من مساحة شرورها وتأثيرها، وذلك بالبيان العاجل، وحضِّ الناس على الثبات، والتثبيت، وعدم الاستعجال بالأقوال أو الأفعال إلا بدليل وتثبت: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، وإيضاح الحق ولزومه، وكشف الباطل ورموزه.. وهكذا من خطوات عاجلة ومسكنة.. وثمة ما هو أبقى وأهم، ألا وهو التفكير بمبادرات طويلةِ الأجل، ومشاريع (عُمْرِية)، سواء كانت فرديةً أو جماعيةً، لا تتأثر بالأزمات، بل تسهم في علاجها بشكل مُعمّق، وهنا لا تُستنفد الجهود كلها في أُطرِ (الدفاع)، بل يكون لجهود (البناء، والمشاريع الاستراتيجية) نصيبٌ كبيرٌ في الإصلاح والدعوة، ونشر الحق ومدافعة الباطل.

وبين المشاغلة والدعوة:

إذ لا بد من (مشاغلةِ أهلِ الباطل) والاستمرار في الإنكار عليهم مشاريعهم الإفساديةِ والتغريبيةِ، وفتح الملفات كلما ظنوا أنها أغلقت واستقرت، وبأرقى الوسائل، وأنجع الطرق، فتلك مدافعةٌ مشرعةٌ {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]، ومع المشاغلة لا بد من استمرار سوق الدعوة، وعدم التوقف عن مشاريع الخير، وطرح المبادرات إثر المبادرات، فتلك تعطي فرصاً لانتشار الخير، وتمنحُ فرصاً للراغبين في عمل الخير، وتؤسس لأعمال ومشاريع مستقبلية يصعب تجاهلها أو إلغاؤها، وهي في النهاية من أمضى وسائل محاربة الباطل وتحجيم المبطلين.

الرقي بمستوى الخطاب الدعوي:

لا شك أن خطاب القرآن منطلق مهم في الدعوة والإصلاح، فالتأمل في آياته بعمق، ورصد تجارب المرسلين، وطرائق دعوتهم بوعي؛ يسهم في رفع الخطاب الدعوي، وثمة منعطفٌ مهم في الرقي بمستوى الخطاب الدعوي ربما كان غائباً أو ضعيفاً فيما مضى، وقد آن الأوان لتفعيله حاضراً ومستقبلاً، ألا وهو (ثقافة الحقوق) في الخطاب الدعوي، فنحن في زمن (المرافعات) و(المحامين) و(دعاوى الاعتراض)، و(المطالبة بالحقوق)، و(المنظمات والهيئات)... إلى غير ذلك، ومهما كان نصيب المصداقية منها، أو نسب قبولها، فيمكن استثمارها في الخطاب الدعوي المعاصر، أو غير ذلك من أنماط (مشروعة) للرقي بمستوى الخطاب الدعوي، وتجديد وسائله.

رصد الأزمات والتحري والدقة في رصد الأحداث وتسجيلها:

فما يقع اليوم سيصبح تاريخاً للغد، والأجيال المعاصرة للحدث إن احتاجت إلى معرفة الحقيقة دون تلبيس، فحاجة الأجيال القادمة التي لم تشهد هذه الأحداث أشد؛ لتستفيد من عبرها ودروسها، وحتى لا تبدأ الطريق من بنيان الأولى في أحداث تتكرر وتتشابه، وليس من فارق فيها سوى فارق الزمان أو المكان.

حرب الإعلام:


معارك اليوم تعتمد الإعلام، وتتكئ على آلاته الحديثة، وقنواته واسعةُ الانتشار، بالغة الأثر.. ومن هنا فلا بد لأصحاب الحقِ أن يأخذوا بنصيبهم الوافر من هذه الآلة المؤثرة في المعركة، فيدعموا (القائم المفيد)، وينشئوا (الجديد)، ويهتموا بوسائل الاتصال المجتمعية الحديثة، حتى تكون هذه وتلك عوناً لهم على بيان الحق، وكشف الباطل، وحتى لا يضطروا إلى وسائل أو مؤسسات إعلامية (لا يملكونها)، وقد تخونهم أحوج ما يكونوا إليها.. وهنا مسؤولية مشتركة، فإعلاميون متميزون يقترحون ويخططون، ومفكرون وعلماء يدعمون بعلمهم وفكرهم، وأغنياء ومنفقون يدعمون بمالهم، وشركات إعلامية لها سبق، وبيوتُ خبرة تتبرع بتجاربها وتقصر الطريق على المبتدئين.. وهكذا تتكامل القوى، ويتعاون الناسُ على البر والتقوى، وفي النهاية سيكون لهذا الإعلام دورٌ في محاصرة ترويج الباطل عبر آليات ووسائل إعلام فاسد، يعتمد الكذب وتزوير الحقائق، وفتنة الناس.

الفأل الحسن وحُسن الظن بالله:


فالفألُ الحسن دائماً وفي زمن الشدائد بالذات، نهج الأنبياء عليهم السلام وأتباعِهم، وأول الرسل صلى الله عليه وسلم تتقاصرُ القرون في دعوته، وصبره وحسن ظنه بربه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] حتى أخذهم الطوفان، بل بلغنا بالخبر الصادق أنه دعا قومه (ليلاً ونهاراً) (سراً وجهاراً) وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم قال لصحابه:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وأُوحِي إليه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]، وفي سيرته العملية دروسٌ في الفأل وحسن الظن، يكفي من ذلك أنه في غزوة (الأحزاب) وزلزلة أهل الإيمان يَعِدُ أصحابَه حين الاستعداد للمعركة وهم يحفرون الخندق بفتوحات ستكون في الشام، وفارس، واليمن، وفي نهاية المعركة يبشر المسلمين ويعدهم على أثر الهجمة الشرسة للأحزاب ويقول (متفائلاً) بمستقبل زاهرٍ للإسلام والمسلمين: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم)، وقد كان، فلم يغزُ المشركون المدينة بعد الأحزاب، وفي رواية: ففرح المسلمون واستبشروا[19].

وبين نوح ومحمد (عليهما الصلاة والسلام) موسى عليه الصلاة والسلام، يعِدُ قومَه (بني إسرائيل) ورغم الاستذلال والاستضعاف بالقوة والتمكين: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 128 قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ}[الأعراف: 128-129]، والنتيجةُ تحقق وعدُ الله، وصدق فألُ موسى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137].

إن على أتباع المرسلين أن يبعثوا هذه الروح المتفائلة دائماً، لا سيما حينما تنقبض النفوس وتصاب بالإحباط على أثر الضربات والصدمات المتتالية، وأن يربطوا الناسَ بخالقهم، فلا يقع شيءٌ في هذا الكون إلا بإذنه.

والدعاء سلاحٌ متين:


به يُكثر القليل، ويُهزم الجمعُ، ويتهاوى الظلمُ، وينتصر المظلومون، وطالما فرطنا في هذه العبادة والعبودية لله (الدعاء هو العبادة)، به استنصر المرسلون، وبه كشف اللهُ الضراءَ، ومنادي السماء يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، والرحمن يذكرنا برفع البأساء ويقول: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43].

ومن الدعاء المطلوب: التعوذ بالله من الفتن، وجماعها في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، وفتنة القبر، ومن فتنة النار)[20].

حتى لا يَخْلَقُ الإيمان:

فالإيمان قولٌ وعملٌ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد ثبت في الحديث: (إن الإيمان ليَخْلَقُ في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم)[21]، والواقع يشهد أن الأزمات والفتن تحرك الإيمان، فإما أن تزيده أو تنقصه، ومن علائمِ أهلِ الإيمان أن الفتن كلما اشتدت كلما زاد سوقُ الإيمان في قلوبهم، أوليس الله قد قال عن خيار الأمة:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، ومن علائم أهلِ الريب والنفاقِ أنها تضيقُ صدورُهم بالنازلات والمحن، وربما ودّوا أنهم خارج دائرة المكان، أو لم يكونوا في ذلك الزمان، وقد قال الله عنهم: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ}، وفي الآية الأخرى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا}[النساء:72].

وكثرة العبادة برهان على الثبات:

فليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، وإنما الإيمانُ عقيدةٌ، وتكاليفٌ، وعبادةٌ، وأياً ما كانت هذه العبادةُ خاصةً لذات الإنسان لتزكية نفسِه وفلاحِها، أو متعديةً لنفع الآخرين ودعوتهم.. فتلك مؤشرٌ على استقرار النفس، وعظيمِ الثقة بالله، والقربِ منه، والأنسِ بعبوديته، وحيث تشحنُ النفوسُ في الفتن وربما انشغلت بالقيل والقال، أو مجرد متابعة الأخبار، كان أجر العبادة في الهرج (الفتن) كهجرة إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم كما صح الخبر بذلك: (العبادةُ في الهرجِ كهجرٍ إليّ).

مشاريع جماعية ورسم خريطة طريق مستقبلية:

وحين تكون الهجمةُ على أهل الإسلام جماعيةً، ومن أصحابِ المللِ والنحلِ، أو الأفكارِ الهدامةِ؛ فلا بد أن يكون اتقاءُ هذه الهجمة بشكل جماعي، يتداعى فيه المسلمون وبكافة شرائحهم وأعمارهم وأجناسهم للتعاون على البر والتقوى، والتناصرِ، والتناصحِ، وجمعِ الكلمةِ، وردمِ فجوات الاختلاف، ومن لم يستطع القيام بوحده بمشروع لخدمة الإسلام، يمكن أن ينضمَّ إلى غيره، وهكذا تتضافرُ الجهودُ، وتستثمرُ الطاقاتُ، ولا يبقى في المجتمع عاطلٌ أو مترددٌ، فالحكم لله، ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وعليكم بالجماعة فإن يدَ الله مع الجماعة، وإذا توحد من أصلهم الافتراق كان حقاً على أهل السنة والجماعة أن يتحدوا ويتعاونوا، ولا بد من الوعي بأن أعداءَ الأمة (يمرحلون) خصومهم، لكنهم في النهاية يستهدفون كلَّ من وقف رافضاً سبيلهم، مستنكراً هجمتهم، وإن بدأوا (بالثور الأسود) (فالأبيض على الطريق).

والحذر الحذر من الانتكاسة، والحور بعد الكور.. فالهداية فضلٌ من الله وتوفيقٌ.. والثباتُ على الحق حتى الممات فضلٌ ومنَّةٌ.. وقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»[22].

لا بد من الوقوف عند أحاديث الفتن وتأمّل فقهها، ولا بد من الدروس والمحاضرة في الثبات وعوامله، ولا بد من أحاديث عن الانحراف عن صراط الله المستقيم ومخاطره.. وفي النهاية لا عاصم من أمر الله إلا من رحم، والدعاء بالثبات مطلب.

نعم، هم القدوات والمنارات، والظن بهم الثبات والتثبيت للناس، وحيثما زلوا أو ضعفوا كان الضعفُ والانحرافُ لمن وراءهم كبيراً.. لا بد من العلم والحذر من فتنة الشبهات والشهوات.. ولا بد من الإكثار من قراءة سير الثابتين، وفي مقدمتهم الأنبياءُ والنبلاءُ، ولا بد من تواصيهم بالحق، وتواصيهم بالصبر، وقبل ذلك وبعده لا بد من سؤالهم وإلحاحهم على ربهم بالثبات أسوةً بمن سلفهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].

ألا يا عباد الله فاثبتوا.. وثبِّتوا تغنموا ويسلم غيرُكم.

تصحيح المصطلحات وقلب التهم:

ثمة مصطلحاتٌ يتلاعب بها المبطلون، ويُوصف بها البرآءُ من الناس، وفي كل حينٍ تُرحّلُ التهمُ إلى آخرين، حتى تتم محاصرةُ الأخيارِ، بل المتدينين بشكل عام، بهذه الألقاب المثيرة للمجتمع، مثل مصطلحات (التطرف)، و(الأصولية)، و(الإرهاب)، وهكذا من مصطلحات جديدة تروّج الآن، وما من شك أن (الإرهاب) منه محمودٌ كما في قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}[الأنفال: 60]، ومنه مذمومٌ، وهو ما تجاوز به المرءُ حدودَ الله، وأرهب خلقَ الله بغير حق. وكذا (التطرف) مذموم لكن بشقيه (الغالي، والجافي).. وهكذا تُحرّرُ المصطلحات، ويُمنع تلاعبُ أهل الريب فيها وتصديرها.

ومن الجميل كذلك ومع تحرير المصطلح أن يُقلبَ على أهل المنكر منكرُهم، وتُرد إليهم بضاعتُهم، ويوصفون بما يستحقون، ومصطلح (الاسترهاب) مصطلح قرآني {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف: 116]، وهذا المصطلح (الاسترهاب) خليق بمن يتهمون بغير حق، ويُرهبون بلا برهان، فهل نسوّق لهذا المصطلح الشرعي الغائب عن الساحة؟

ركنا الصدع بالحق وأقل درجات الإنكار:

ليس يخفى درجاتُ إنكارِ المنكرِ في السنة.. لكن هناك مقولة جميلة للذهبي حدد فيها ركنين للصدع بالحق فتأملوها، قال الإمام الذهبي - رحمه الله - في ترجمة (الإمام أحمد): (الصدع بالحق عظيمٌ، يحتاج إلى قوةٍ وإخلاصٍ، فالمخلصُ بلا قوةٍ يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يُخْذَلُ، فمن قام بهما كاملاً فهو صِدِّيقٌ، ومن ضعف فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب، ليس وراء ذلك إيمان، فلا قوة إلا بالله)[23].

فقه إدارة الأزمات:

لا بد من فقه في إدارة الأزمات يحافظُ على المكتسباتِ، ويحقق مزيداً من المنجزات، ويفرق بين ما يصلح في مكان دون مكان، أو زمان دون آخر، والقراءةُ الفاحصةُ للأحداث بعمقٍ يتجاوزُ الوقوفَ على مجرد الأسباب للأزمة إلى عمقها وآثارها، والموقف الشرعي منها، وكيف الخروج فيها بأفضل المكاسب وأقل الخسائر.. ومن تأمل في سيرة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وجد فيها فقهاً وعمقاً لإدارة الأزمة حري بأتباعهم أن يقتدوا بهم.




:: مجلة البيان العدد 316 ذو الحجة 1434هـ، أكتوبر – نوفمبر 2013م.


[1] أخرجه أحمد والبخاري وغيرهما، صحيح الجامع: 1/333.

[2] أخرجه البخاري: ح 6492.

[3] أعلام الموقعين: 2/176.

[4] الدرر السنية: 8/78.

[5] صحيح الجامع: 6/253.

[6] صحيح الجامع: 5/192.

[7] الداء والدواء 114.

[8] انظر: أصول الجصاص: 1/373، أصول السرخسي: 1/165، عن عابد السفياني في المحكمات: ص 16.

[9] عابد السفياني: المحكمات ص 12.

[10] أخرجه أحمد وغيره.

[11] صحيح الجامع: 6651.

[12] شرح السنة للبغوي 10/54.

[13] البداية والنهاية: 10/365.

[14] البداية والنهاية: 10/464.

[15] البداية والنهاية: 10/385.

[16] البداية والنهاية: 10/308 - 309.

[17] البداية والنهاية: 10/309 - 310.

[18] الذهبي، سير أعلام النبلاء: 11/87.

[19] فتح الباري: 7/397.

[20] متفق عليه.

[21] صحيح الجامع: 2/56.

[22] صحيح مسلم: ح 231.

[23] سير أعلام النبلاء: 11/234.

فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر

فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر

يزيد صايغ
باحث رئيسي في مركز كارنيغي للشرق الأوسط

يدور الصراع في مصر بين المسؤولين الجدد المُنتَخَبين ديمقراطياً، وبين المجلس الأعلى للقوات المسلحة، حول قيادة مستقبل البلاد في حقبة مابعد مبارك. فالمجلس الأعلى، الذي حكم مصر منذ أوائل العام 2011، يسعى إلى ترسيخ وصايته على البلاد في الدستور. والسلطات المدنية تحاول بدورها انتزاع السلطة من مؤسسةٍ عسكريةٍ شكّلت دعامة الحكم السلطوي لعقود، وتسعى الآن إلى البقاء فوق القانون. وهذا الواقع إنما يضع مصير العملية الانتقالية في مصر على المحك.

بعد العام 1991، وسّعت القوات المسلّحة المصرية توغّلها التام في كلّ مجال تقريباً من مجالات نظام حسني مبارك القائم على المحسوبيات.

 وجرت استمالة كبار الضباط عبر وعدهم بتعيينهم بعد التقاعد في مناصب رئيسة في الوزارات والهيئات الحكومية والشركات المملوكة للدولة، ومنحهم رواتب إضافية وفرصاً مربحة تُمكِّنهم من كسب دخل إضافي وزيادة موجوداتهم المادية، وذلك مقابل ولائهم للرئيس. جمهورية الضباط هذه شكّلت أداةً أساسيةً للسلطة الرئاسية، ولاتزال تحتفظ بنفوذها السياسي المتغلغل حتى بعد سقوط مبارك، مخترقةً جهاز الدولة والاقتصاد على السواء، لا على مستوى القيادة وحسب، بل أيضاً على المستويات كافة.


لذلك، وبغية تفادي الوصاية العسكرية الصريحة، لابد أن يتوصّل كلٌّ من الرئيس الجديد، محمد مرسي، والأحزاب السياسية في مصر، إلى توافق راسخ على الحدّ من الصلاحيات الاستثنائية التي يسعى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى تضمينها في الدستور الجديد. كما أنه من الضروري تثبيت الرقابة المدنية الفعّالة على تفاصيل ميزانية الدفاع وأي مصادر أخرى للتمويل العسكري.

مع ذلك، يجب أن يلزم القادة المدنيون الحذر. فكلما أحرزوا مزيداً من التقدّم، كافحت جمهورية الضباط أكثر لإحكام قبضتها على ما لها من سلطات، مستخدمةً شبكاتها الواسعة المتغلغلة في جميع أنحاء جهاز الدولة بغية عرقلة سياسة الحكومة وإصلاحاتها، وإعاقة تأمين الخدمات العامة، وتقويض النظام الديمقراطي الناشئ. إن جمهورية مصر الثانية لن تولد إلا عندما تزول جمهورية الضباط عن الوجود.

اليد الطولى لجمهورية الضباط
قدَّمَ تسليم المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة رسمياً إلى الرئيس المنتخب محمد مرسي، في 30 حزيران/يونيو 2012، مؤشّراً مهماً على نهاية مرحلة مضطربة في عملية الانتقال السياسي في مصر وبداية أخرى يبدو أنها ستكون أطول وأكثر تعقيداً. إذ سيتعيّن على الرئيس المنتخب، في المستقبل القريب، أن يتعامل مع المجلس العسكري الذي يمارس السلطة التشريعية صراحةً، ويسعى إلى السيطرة على صياغة الدستور الجديد. أما على المدى البعيد، فسيواجه المسؤولون المنتخبون ديمقراطياً "جمهورية الضباط"، المتمثّلة بشبكات عسكرية مستديمة تخترق كل فروع ومستويات إدارات الدولة والقطاعات الاقتصادية المملوكة لها تقريباً.

 ومالَم يتم تفكيك جمهورية الضباط، فسوف تستخدم نفوذها السياسي الواسع وسيطرتها على الجيوب البيروقراطية والاقتصادية الرئيسة لمنع مرسي أو أي رئيس بعده من ممارسة السلطة الحقيقية، وإسقاط أي حكومة مستقبلية لاتكون على مزاجها.

واليوم بلغت جمهورية الضباط امتدادها الأوسع. فيتمتّع كبار الضباط بإمكانية الوصول إلى مجموعة واسعة من الوظائف الحكومية بعد التقاعد، وبرفض الحصول على الخدمات والسلع المدعومة، وبالسيطرة على الموارد والفرص الكبيرة ضمن الاقتصاد المدني، وبالمكانة الاجتماعية المرموقة. كما أن جمهورية الضباط تمارس سيطرة حصريّة على ميزانية الدفاع، والمساعدة العسكرية الأميركية، والشركات المملوكة للمؤسّسة العسكرية. يُضاف إلى ذلك أن جمهورية الضباط تستند إلى شعور عميق بالأحقيّة المؤسّسية والشخصية. ولذا، إن تقليصها وردّها إلى حجمها الطبيعي سيكون عملية دقيقة وطويلة تستغرق سنوات عديدة.

من جانبه، أخذ المجلس العسكري يحدّد المصالح التي يعتزم الدفاع عنها بصراحة متزايدة، فرسم الخطوط الحمراء، وأصدر تحذيرات غير مسبوقة في فظاظتها، ردّاً على كل مايعتبره تحدّياً للمكانة الاستثنائية التي يحتفظ بها لنفسه. ومن هنا تبدو المؤشّرات مثيرة للقلق. يسعى المجلس العسكري إلى فرض إدراج مواد في الدستور المصري الجديد تمنحه وصاية عسكرية دائمة. ولو نجح في ذلك، فستكون قدرة السلطات المدنية في المستقبل على وضع السياسات المستقلّة وتنفيذها لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي تواجه مصر مقيّدة بشدّة. وفي هذه الظروف، سوف تعاني أي حكومة منتخبة ديمقراطياً من عدم استقرار مزمن.

دمج المقرّبين
ظهرت جمهورية الضباط في الأصل في أعقاب إطاحة النظام الملكي على يد القوات المسلحة المصرية في العام 1952، وخصوصاً بعد تثبيت العقيد جمال عبد الناصر رئيساً للبلاد عن طريق الاستفتاء الشعبي في العام 1956. وقد جرى نزع الصبغة العسكرية جزئياً عن مجلس الوزراء إلى حدّ كبير في عهد خلفه أنور السادات في السبعينيات، واستمر هذا الاتجاه في ظلّ التهميش السياسي الظاهري للقوات المسلحة المصرية خلال رئاسة حسني مبارك، التي بدأت في العام 1981، وهو رابع عسكري يشغل هذا المنصب منذ أن تعيَّنَ اللواء محمد نجيب رئيساً للوزراء في العام 1952، ثم رئيساً للجمهورية في العام 1953.
 لم تَزُل جمهورية الضباط يوماً، بل توسّعت بأشكال جديدة لتصبح الدعامة الأساسية لنظام مبارك القائم على المحسوبيات، إلى أن خرجت من ظلّه لتتولّى السلطة الكاملة في أوائل العام 2011.

على النقيض من تصوير القوات المسلحة المصرية في عهد عبد الناصر على أنها عامل تغيير اجتماعي في "الثورة من فوق"، التي أطلقها الرئيس آنذاك، حيث أشرفت على إعادة توزيع الأراضي و"مَصْرَنة" القطاعين الصناعي والمالي في الخمسينيات، وثم على السياسات الاشتراكية بدءاً من أواخر العام 1961 فصاعداً.
أدّى دمج القوات المسلحة ضمن نظام مبارك إلى تخلّيها الكامل عن مهمتها الإيديولوجية السابقة. فتم استقطاب كبار الضباط إلى النظام الرئاسي القائم على التمتّع بالنفوذ والمحسوبية، وجرت استمالة القوات المسلحة ونزع الصبغة والدور السياسيَّين عنها. لكن بدل أن تنأى المؤسّسة العسكرية بنفسها عن الساحة، باتت خفية بفضل حضورها الطاغي: حيث تغلغلت جمهورية الضباط في الحياة المدنية لدرجة أصبح معها وجودها أمراً اعتيادياً وطبيعياً، ليس في نظر الآخرين وحسب، بل أيضاً، وهذا الأهم، في نظر أفرادها أنفسهم.

طائفة الضباط
بعد العام 1991، سارت عملية الدمج في نظام المحسوبية التابع لمبارك، من خلال الوعد بمنح "بدل ولاء" يحصل عليه كبار الضباط عند التقاعد، وذلك مقابل امتناعهم عن الانخراط في السياسة وقبولهم لرواتب متدنّية نسبياً، خلال سنوات الخدمة في القوات المسلحة. بالنسبة إلى الغالبية العظمى، يتضمّن هذا البدل فرصة لمواصلة وظيفة في القطاع الحكومي، مايضيف راتباً ثانياً إلى المعاش التقاعدي العسكري، ولكل منهما العلاوات والبدلات المرتبطة به.

يمكن للمتقاعدين العسكريين الذين تربطهم علاقات مع جهات نافذة أن يأملوا في تعيينهم في وظائف في الجهاز الحكومي المدني توفّر لهم فرصاً مربحة خاصة تمكِّنهم من تأمين دخل إضافي أو مضاعفة موجوداتهم المادية إلى جانب الرواتب والمعاشات. بالنسبة إلى القلّة، يجري التعيين الثاني بالتزامن مع الخدمة الفعلية في القوات المسلحة، مايخدم تكوين السيَر الذاتية وبناء العلاقات تمهيداً للحصول على مناصب أفضل بعد التقاعد. في كثير من الأحيان، يكون هؤلاء الضباط في طريقهم إلى تولّي مناصب قيادية عليا في فروع القوات المسلحة التي ينتمون إليها، ويمكن أن يطمحوا إلى الانضمام إلى مجالس إدارات الشركات التجارية المملوكة للدولة بعد تقاعدهم من الجيش. وهؤلاء هم الأكثر حظاً، والأكثر ولاءً.

فضلاً عن ذلك، نشأ بدل الولاء بوصفه حافزاً قوياً للصفين الثاني والثالث من الضباط كي يمتثلوا للنظام ريثما يأتي دورهم. بالنسبة إلى الضباط الذين يتقاعدون برتبة لواء، ويحصلون على مبلغ مقطوع يصل إلى 00040 جنيه مصري (6670 دولاراً)، ومعاش تقاعدي شهري يصل إلى 0003 جنيه (500 دولار)، لابدّ أن يشكّل احتمال حصولهم على رواتب شهرية تتراوح بين 100000 ومليون جنيه (16670 إلى 166670 دولاراً)، بحسب بعض التقارير، حافزاً قوياً. لكن نظام المحسوبية بات يعمل اليوم بطريقة مغايرة للنمط السائد في الثمانينيات، عندما عمل وزير الدفاع آنذاك، المشير عبد الحليم أبو غزالة، لكي يحقّق توجُّه القوات المسلحة نحو الاكتفاء الذاتي اقتصادياً الفائدة لجميع الضباط بلا استثناء. أما في عهد المشير محمد حسين طنطاوي، الذي عُيِّن وزيراً للدفاع في العام 1991، فإن فئة قليلة من أصحاب الرتب العليا ظلّت تحقّق القدر الأكبر من المكاسب نتيجة دمجها في نظام مبارك، فيما خسر الضباط ذوي الرتب المتوسطة والدنيا الكثير من المكاسب والمزايا الصغيرة إثر تعديل الإنفاق العام في مصر بعد ذلك الزمن.

رسّخت سياسة مسار مزدوج غير رسمية هذا الفصل. وفقاً لضباط ومسؤولين حكوميين سابقين أُجريَت معهم مقابلات لإعداد هذه الورقة، فإن صغار الضباط، ممَّن يعتبرون ذوي توجّهات سياسية أو غير جديرين بالثقة، لاتتم ترقيتهم بعد رتبة رائد، وبدلاً من ذلك يستكملون سنوات الخدمة الاعتيادية ثم يتقاعدون كما هو معهود في أوائل الأربعينات من أعمارهم على أبعد تقدير. وحدهم الضباط الذين يعتبر ولاؤهم مؤكداً يتجاوزون هذا الحاجز غير المرئي. وعندما يصل هؤلاء الضباط إلى الرتب الوسطى – أي مقدم، عقيد، عميد - يميلون إلى تحمّل رواتبهم وظروفهم المعيشية المتواضعة على أمل أن دورهم سيأتي أيضاً.

هذا لايعني أن عدد المستفيدين كان متواضعاً. بل على العكس تماماً، إذ تضخّمت "طائفة" الضباط الكبار، كما وصفها عالم الاجتماع المصري أنور عبد الملك في أوائل الستينيات، بشكل كبير نتيجة لعدد من التدابير. وكانت باكورة ذلك استحداث رتبة عسكرية رفيعة جديدة، هي فريق أول، في نهاية فترة التدخّل المصري في الحرب الأهلية في اليمن بين العامين 1962 و1966. هذا أدى إلى زيادة كبيرة جداً، ودائمة، في عدد الضباط الذين يمكن ترقيتهم إلى رتبة فريق ولواء.

إضافةً إلى ذلك، ظلّ احتياج القوات المسلحة إلى كبار الضباط ثابتاً على الرغم من انتهاء حالة الحرب مع إسرائيل في العام 1979، حيث يبلغ عدد الجنود في الخدمة الفعلية 468500، و479000 في الاحتياط، و72000 في القوات شبه العسكرية المرتبطة بالقوات المسلحة. كما توفّر القوات المسلحة عدداً كبيراً من كبار الضباط التنفيذيين والإداريين في وزارة الداخلية ومديرية المخابرات العامة التي تتبع الرئيس.

ولعل مازاد من عدد كبار الضباط هي الترقية التلقائية من رتبة عميد عند التقاعد (السن القصوى 54 سنة) إلى رتبة لواء. هذا يزيد من مكافأة نهاية الخدمة والمعاش التقاعدي والعلاوات والبدلات الأخرى، ويزيد إلى حدّ كبير عدد الألوية المتاحين للتعيين في الجهاز الحكومي المدني والشركات التجارية المملوكة للدولة.

يرتكز هذا النظام أيضاً إلى آلية "الاستدعاء"، وهي العقود التي تبلغ مدّتها ستة أشهر قابلة للتجديد والتي يتم إصدارها لجميع الضباط الكبار عند التقاعد، وتسمح لهم بالبقاء في الزي العسكري وفي الخدمة الفعلية (باستثناء قيادة العمليات). ويمكن تجديد عقود الاستدعاء لمدة تصل إلى عشر سنوات، علماً أنها قد تمتدّ في بعض الأحيان إلى ضعفي هذه المدة. وتنفّذ العقود حتى لو كان المتقاعدون يشغلون مناصب أخرى مقابل راتب في القطاع المدني، سواء كان عاماً أم خاصاً. وبالنسبة إلى حَمَلة رتبة لواء، الذين يبلغ سن تقاعدهم الأقصى 58 سنة، فالاستدعاء يعزّز عضويتهم في جمهورية الضباط ويمدّ نفوذ القوات المسلحة بشكل كبير خارج الحدود الرسمية للمؤسّسة العسكرية.

عوامل الدمج في نظام محسوبية مبارك

ثمّة عوامل ثلاثة متضافرة دفعت دمج جمهورية الضباط في نظام المحسوبية التابع لمبارك. كان أولها تصميم مبارك على ألا يجازف بصعود رجل عسكري قوي آخر يمكن أن يشكّل تحدّياً لسلطته.
 وقد انعكس هذا في قيامه في العام 1989 بإقالة وزير الدفاع أبو غزالة، الذي كان يتمتع، بحسب اعتقاد الكثيرين، بشعبية تفوق شعبية رئيس الجمهورية، سواء داخل القوات المسلحة أم بين عامة الشعب.
 وبعد فترة فاصلة تولّى خلالها اللواء يوسف صبري أبو طالب (الفريق لاحقاً)، والذي يحظى بتقدير كبير، هذا المنصب، عُيّن طنطاوي وزيراً للدفاع في أيار/مايو 1991.
في ظلّ طنطاوي، الذي وصفه ضباط مصريون لم يكشف عن أسمائهم بأنه "كلب مبارك"، حسب مانُقِل عنهم في برقية للسفارة الأميركية في العام 2008 نشرها موقع "ويكيليكس"، تم استقطاب المستوى القيادي في القوات المسلحة إلى قلب نظام المحسوبية.

ثانياً، أدّى الصراع المتصاعد مع الجهاديين الإسلاميين المسلحين، والذي ازداد مرارة بعد محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا في العام 1995، إلى تسريع ضمّ سلك الضباط في القوات المسلحة إلى داخل نظام مبارك، علماً أن ذلك لم يكن واضحاً في البداية، نظراً إلى الاتجاه نحو زيادة الاعتماد على الأجهزة الأمنية.
 فقد ازداد عديدها ليصل إلى مايقدّر بـ1.4 مليون، وفقاً لبعض التقديرات، عند إطاحة مبارك، أو مايعادل قرابة 1.5 أضعاف حجم القوات المسلحة واحتياطيها مجتمعَين. في غضون ذلك، ارتفعت ميزانية وزارة الداخلية السنوية ثلاثة أضعاف مقارنةً بالزيادة التي شهدتها ميزانية الدفاع (أنظر الجدول 1).1

شاع الاعتقاد أن ظهور "الدولة الأمنية" قد همّش القوات المسلحة، لكن صعود نجم الأجهزة الأمنية في المعركة ضد الإسلاميين، الذي حوّل الأنظار عن المؤسسة العسكرية، كان نوعاً من ذرّ الرماد في العيون لأن القوات المسلحة استمرت في لعب دور لاغنى عنه في المحافظة على النظام.
 أصبح المتقاعدون العسكريون يشغلون وظائف في جميع مستويات الحكم المحلي، حيث عملوا كذراع تنفيذية وأمنية موازية تتبع في نهاية المطاف الرئيس من خلال المحافظين الذين يعيّنهم. كما قامت القوات المسلحة، ولاتزال تقوم، بتقديم الضباط من الخدمة الفعلية لتولّي عدد كبير من المناصب القيادية والإدارية العليا في وزارة الداخلية ومديرية المخابرات العامة، مايدلّ ويؤكّد على دور القوات المسلحة العضوي في الحفاظ على نظام مبارك.

أما العامل المتضافر الثالث فتمثّل في نقطة التحوّل التي حدثت في العام 1991 عندما أطلق مبارك حملة كبرى لخصخصة المشاريع الاقتصادية التابعة للقطاع العام، على خلفية شطب جزء كبير من ديون مصر الخارجية، وإعادة التفاوض بينها وبين صندوق النقد الدولي على اتفاقية العام 1987، في أعقاب حرب تحرير الكويت. لم تؤدِّ الطريقة التي أُديرَت بها الخصخصة إلى "رأسمالية الدولة" ولا إلى اقتصاد سوق حرة حقيقي، بل إلى تطوّر رأسمالي مشوّه. وقد وفّر ذلك فرصة لكبار الضباط في القوات المسلحة للوصول إلى حيِّز كبير من الاقتصاد المصري الذي بقي مملوكاً للدولة. ويتم هذا الاحتواء للضباط ليس فقط من خلال التعيين في مجالس إدارات تلك الشركات، بل أوجدت الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية الجديدة في الفترة التالية فرصاً جديدة للضباط السابقين المتواجدين في الإدارة المدنية، للحصول على الثروة أو لزيادة أملاكهم وموجوداتهم.

العودة إلى المجتمع العسكري

يمكن اعتبار جمهورية الضباط التي عاودت الظهور بعد العام 1991 شكلاً مسخاً من "المجتمع العسكري" الذي قام في عهد عبد الناصر، وفقاً للوصف الذي أطلقه آنذاك أنور عبد الملك. إذ كان الدمج في نظام مبارك يعني أن مبارك هو الذي يتولّى "مجمل سلطة القرار السياسي، وليس مجرّد السيطرة على جهاز الدولة".2 بقيت القوات المسلحة لاعباً أساسياً في "نظام الحكم متعدّد الأطراف المتصارعة" المؤلّف من قوى مؤسسية وسياسية متنوّعة بإشراف الرئاسة، ومنها الأجهزة الأمنية والاستخبارية، والجماعات الاقتصادية الرئيسة، والحزب الوطني الديمقراطي، وخصوصاً عقب صعود نجم جمال مبارك، نجل الرئيس، ومَن حوله من وزراء ورجال أعمال متنفّذين بعد العام 2000، الذي هدّد بإخفاء أو تقليص نفوذ القوات المسلحة.3 وعلى الرغم من تغلغل جمهورية الضباط إلى أعماق جهاز الدولة، لم يُضفِ ذلك على المؤسسة العسكرية دوراً سياسياً استثنائياً.
 في الواقع، لم يكتَفِ مبارك بتطبيق تحذير عبد الناصر بأننا "لانريد سياسيين داخل الجيش"، بل عكس أيضاً وبنجاح أطروحة عبد الناصر القائلة بأن "الجيش ككلّ يشكّل في حدّ ذاته قوة في العملية السياسية الوطنية".4 إن عملية دمج كبار الضباط من قبل مبارك، التي ضمنت ولاءهم وإذعانهم له، أبعدتهم في الوقت نفسه عن واقع مصر الاجتماعي والسياسي، وقلّصت قدرتهم على المبادرة أو الإبداع، لكنّها لم تقلّص من رغبتهم في حماية سلطاتهم المكتسبة وامتيازاتهم المتراكمة.

يظهر ذلك الإرث جلياً اليوم في سلوك المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تسلّم مقاليد الحكم التنفيذية والتشريعية الكاملة من مبارك في 11 شباط/فبراير 2011. ويتألّف المجلس في العادة من وزير الدفاع ومساعديه الأساسيين (للشؤون المالية والقانونية وغيرها)، ورؤساء أركان فروع القوات المسلحة الرئيسة، ورؤساء الاستخبارات العسكرية وغيرها من المديريات، وقادة المناطق العسكرية الخمس. ولقد عمل المجلس الأعلى جاهداً لإقناع الضباط وضباط الصف والأفراد بأنه يمثّل مصالح القوات المسلحة ككلّ، وليس فقط مصالح كبار الضباط أو الشريحة العليا منهم. لكن، في الواقع، سعى المجلس إلى الدفاع عن الموقع المتميّز للمؤسسة العسكرية، التي تمتطي جهاز الدولة واقتصادها من خلال شبكات الضباط العاملين والمتقاعدين التي تتكوّن منها جمهورية الضباط. وإذا مابدت الفواصل بين القوات المسلحة والمجلس الأعلى وجمهورية الضباط غير واضحة، فيعود ذلك إلى حقيقة أنها مغشية وضبابية فعلاً. فإن ذلك الغموض، ومعه إمكانية التنفّذ من هيئة إلى أخرى وحرية التصرف، هو بعينه مايجهد المجلس العسكري لإدامته.

غير أن المجلس العسكري اضطر، على الرغم من ذلك، إلى الخضوع إلى عملية اختبار وتعلُّم غير مألوفة حين خرج من ظل مبارك واحتلّ موقع الصدارة في السياسة المصرية في أوائل العام 2011. فقد وجد صعوبة جمة في تقديم رؤية اجتماعية أو برنامج اقتصادي أو خطة سياسية متكاملة للعملية الانتقالية، وتعثّر مراراً حين حاول أن يصوغ تحديداً واضحاً لمصالحه أو أن يبتكر صيغاً دستورية لحمايتها. لم يكن المجلس رافضاً تماماً للسماح بحدوث انفتاح سياسي وإعلامي، كما لم يكن قادراً بشكلٍ كامل على التنبّؤ به أو الحيلولة دون حدوثه. لكنه كان أيضاً عاجزاً عن تصوّر أي سياسة تتطلّب إصلاحاً جوهرياً أو تغييراً هيكلياً إذ يعتبر أن ذلك ينطوي بالضرورة على تهديد ضمني له، فكيف به أن يشرع بمثل هذه السياسة. بل على العكس تماماً، عندما وجد المجلس العسكري نفسه في مواجهة عملية انتقالية غير مألوفة ومقلقة، لجأ إلى قيمه الأبوية وإرثه السلطوي، فاتخذ المواقف المتحفّظة والدفاعية أكثر فأكثر كلما شعر بوجود تحدٍّ مباشر لمكانته أو مصالحه الأساسية. وهذا يفسّر الكثير من ارتباكه وتردّده وتغييره المتكرر للمسار طيلة تعامله مع العملية الانتقالية.

مع ذلك، كان المجلس العسكري يصرّ بعناد تام على احتكار السلطة لتحديد الترتيبات الانتقالية، وتسلسلها، وجدولها الزمني. فقد رفض أن يحذو حذو نظيره الجيش التونسي، الذي ترك مهام تخطيط العملية الانتقالية وإدارتها بعد هروب الرئيس زين العابدين بن علي في كانون الثاني/يناير 2011، إلى "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"، المؤلّفة كلياً من المدنيين.
 في المقابل، أجاب المجلس العسكري لمحاوريه من المدنيين الذين اقترحوا ترتيباً مماثلاً بعد إطاحة مبارك: "نحن لانعمل على هذا النحو. لانعمل من خلال لجان مدنية عسكرية مختلطة".
لكن تبيَّن أن إدارة المجلس العسكري للعملية الانتقالية في مصر تتّسم بالفوضى، إذ شوّش المجلس على العملية الدستورية، وأخّر التشريعات التي تحتاج إليها البلاد جداً، وتدخّل بطريقة مزاجية في الإدارة المالية؛ كما فشل في إصلاح وزارة الداخلية وإعادة العمل الشرطيّ، مع أن هذا كان أحد المجالات التي كان يمكن أن يحقّق فيها تقدّماً حقيقياً.

هذا السجل الحافل يؤكّد أن تصوير المجلس العسكري لنفسه منذ إطاحة مبارك بأنه وصي على الثورة المصرية، ينطوي على قدرٍ كبير من التحوير.

فهو لم يبدأ بالعملية الانتقالية، بل اضطلع فيها في أحسن الأحوال بدور القابلة الذي فرضته عليه حركة الاحتجاج الجماهيرية، أو تصرّف في أسوأها على نحو استباقي، حيث أزاح الرئيس لكي يجهض حصول تغيير ثوري أعمق ويحمي نفسه. ويجدر التذكير بأن طنطاوي قد شغل منصب وزير الدفاع على مدى السنوات العشرين الأخيرة لحكم مبارك، وهي أطول فترة يمضيها أي شخص في هذا المنصب منذ تأسيس الدولة المصرية الحديثة والجيش العصري على يد محمد علي في أوائل القرن التاسع عشر.5 كان طنطاوي، إلى جانب أعضاء آخرين في المجلس العسكري، بمَن فيهم كبار مساعديه في وزارة الدفاع، قد تجاوزوا بالفعل سن التقاعد الرسمي المحدّد لكبار ضباط القوات المسلحة، وذلك قبل نقل السلطة إليهم في العام 2011 بوقتٍ طويل. وهذا لايمكن تفسيره إلا من خلال دورهم في حماية نظام المحسوبية الذي أقامه مبارك والاستفادة منه. البقاء كل هذه المدة الطويلة في المنصب إنما يعكس الولاء السياسي من جانب طنطاوي وزملائه الضباط لمبارك، وليس كفاءتهم المهنية العسكرية.

هذا الاستنتاج أكّده التقييم المسرّب من موظفي السفارة الأميركية في برقية تعود إلى العام 2008 بأن "الجهوزية التكتيكية والعملياتية للقوات المسلحة المصرية قد تراجعت" في عهد وزير الدفاع. ويصف ضباط ومسؤولون أميركيون مطّلعون على برامج المساعدات العسكرية لمصر القوات المسلحة المصرية بأنها لم تعد قادرة على القتال. أما الخبيران البارزان في الشؤون المصرية، كليمنت هنري وروبرت سبرنغبورغ، فيقولان بصراحة: "ليس الجيش المصري قوة محترفة منيعة كما يصوِّره الكثيرون. فهو مترهِّل وتتكون نواته من ضباط مدلّلين تم تسمينهم ضمن نظام المحسوبية الذي أقامه مبارك. أما تدريبه فيتّسم بعدم الانتظام، في حين تعاني معداته من افتقار شديد إلى الصيانة، كما يعتمد على الولايات المتحدة للحصول على التمويل والدعم اللوجستي".6 ويظهر ضباط مصريون صغار تم الاستشهاد بهم من دون ذكر أسمائهم في برقيات ويكيليكس وفي تقارير صحفية نشرت مؤخّراً - إدراكاً مماثلاً لهذا التراجع، في حين يشكو كبار الضباط المتقاعدين الذين تمَّت مقابلتهم في إعداد هذه الورقة من كون القوات المسلحة لاتزال تتمسك بعقيدة العمليات السوفييتية ولاتزال تحتاج إلى تطوير قدرة حقيقية في العمليات القتالية بالأسلحة المشتركة، على الرغم من أن الأميركيين يتولّون منذ ثلاثة عقود أعمال التدريب إلى جانب إقامة المناورات الأميركية المصرية المشتركة.

باختصار، يبدو أن القوات المسلحة أصبحت أكثر انغلاقاً من دون أن تكتسب الكفاءة كقوة مقاتلة.
وبمعزل عن المظهر الخارجي للمؤسسة العسكرية المصرية، وإبرازها لذاتها كمؤسّسة تتسم بالحرفيّة في المقام الأول، أصبحت بلا ملامح واضحة، تمثّلها شبكات الضباط غير الرسمية التي تتغلغل في جهاز الدولة واقتصادها عبر نقاط لاتعدّ ولاتحصى، بقدر ماتمثّله فروعه القتالية الرسمية. لم تُختبَر القوات المسلحة في القتال منذ أربعة عقود – باستثناء مساهمة محدودة في عملية "عاصفة الصحراء" في الكويت في العام 1991، ويصفها الضباط الأميركيون بأنها كانت "خائبة" - وبالتالي يبدو أن الروح الجماعية لدى كبار الضباط تعتمد على الذهنية الدفاعية والتصوّر المحافظ بأن الإصلاح والتغيير يشكّلان مصدر تهديد كامن لهم، أكثر من اعتمادها على شعور حقيقي بأنها تضطلع بمهمة وطنية. هذا التراجع في الاحتراف المهني لدى القوات المسلحة المصرية وفاعليتها العملياتية ناتج إلى حدّ كبير عن التحوّل الهام الذي شهدته جمهورية الضباط بعد العام 1991.
جمهورية الضباط، النموذج المُعدَّل

من الشائع أن يكون للمؤسّسة العسكرية في الأنظمة الديكتاتورية حضور كبير ليس في المواقع الحكومية وحسب، بل أيضاً في المجالات التي تقع تماماً خارج نطاق اختصاص القوات المسلحة في مجالات الإدارة العامة، والبنية التحتية، والخدمات، والشرطة وأجهزة حفظ النظام العام، وفي مجالات الاقتصاد التي تسيطر عليها الدولة. وقد سارت عملية تنحية القوات المسلحة عن المشاركة العلنية أو المباشرة في السياسة في عهد مبارك جنباً إلى جنب مع تغلغل كبار الضباط في جهاز الدولة، وبالتالي في الاقتصاد السياسي في البلاد، حيث بلغ ذلك حدّاً غير مسبوق. وبعد أن انحسرت جمهورية الضباط إلى حدّ ما في عهد السادات، وخلال العقد الأول من حكم مبارك، نجد أنها تتوغل حالياً في القطاعين المدني والاقتصادي على نحوٍ أوسع بكثير، وهي تفعل ذلك لا على مستوى "المرتفعات المُسَيطِرة" وحسب، بل أيضاً على جميع المستويات.
نظرة تشريحية

كتب عبد الملك في العام 1967 أن الضباط الذين "نزعوا زيّهم العسكري وتخلّوا عن كل امتيازات الرتبة... حصلوا في المقابل على وظائف رئيسة في الدولة، مشكّلين بذلك الأغلبية الساحقة من كبار الموظفين الدبلوماسيين، ونسبة كبيرة من رؤساء ومديري وأعضاء مجالس الشركات الحكومية، إلخ. كما شكلوا نسبة كبيرة جداً من الوزراء ووكلاء الوزراء، والمدراء العامين ومدراء الوزارات المختلفة، إضافةً إلى السواد الأعظم من كبار العاملين والإداريين في الأجهزة الأمنية، فضلاً عن نسبة كبيرة جداً من المناصب الرئيسة في مجال الثقافة والصحافة والإذاعة والتلفزيون".7 وقدّر عبد الملك أن قرابة 1500 ضابط "تم تعيينهم في المراتب العليا في المؤسسة غير العسكرية" بين العامين 1954 و1962. 8أدّى إضفاء الصبغة المدنية على المجلس الوزاري وإدارات الدولة في عهد السادات إلى تغيير هذه الصورة بشكل ملحوظ مع بداية الثمانينيات، لكن المثير للاهتمام أكثر هو أن تشخيص عبد الملك يصلح مجدداً وبشكل دقيق لوصف الوضع الحالي.

اليوم، يكاد لايوجد دبلوماسيون مصريون (عدا الملحقين العسكريين) من القوات المسلحة، كما أن عدداً قليلاً من كبار المسؤولين في وسائل الإعلام ينتمون إليها سابقاً، مع أن مَن انتمى إليها منهم يشغل مناصب رئيسة في تلك الوسائل.
 لكن ارتفعت نسبة الوزراء ذوي خلفية عسكرية مجدداً خلال حكم مبارك، مقارنةً بعهد السادات: فإن الضباط السابقين في القوات المسلحة قد احتفظوا بشكل شبه دائم بحقائب الدفاع، والإنتاج الحربي، والطيران المدني، والتنمية المحلية (الحكم المحلي)، كما أمسك بعضهم أحياناً بوزارات أخرى مثل النقل، والاتصالات، والبيئة، والتضامن الاجتماعي (الشؤون الاجتماعية). إضافة إلى ذلك، كثيراً مايكون وكلاء الوزراء والمدراء العامون للوزارات من العسكريين المتقاعدين.

بيد أن التركيز على عدد الضباط السابقين في المناصب الرفيعة، والذي يُعتبر تقليدياً مؤشّراً على عسكرة (أو تراجع عسكرة) السياسة والحكومة في مصر، يؤدّي إلى حجب عدد العسكريين المتقاعدين في المناصب الإدارية في جميع مستويات الإدارات المدنية والشركات التجارية المملوكة للدولة.
 فعدد هؤلاء يصل إلى الآلاف، وذلك خلافاً لما كان عليه الحال في عهد عبد الناصر، حيث كانوا يتركّزون في المراتب العليا من تلك القطاعات، وقُدِّر عددهم آنذاك بـ1500. كما أن أغلبية الذين يشغلون المناصب العليا هم ممَّن يحملون رتبة لواء، مايعني أن هناك آخرين كثراً وأقل وضوحاً للعيان من "الضباط الإداريين" من الرتب المتوسطة في وظائف أدنى في جميع أجهزة الدولة. فضلاً عن ذلك، يتوفّر الضباط السابقون على خيار البقاء في زيهم الرسمي إذ كانوا لايزالون يخدمون المؤسسة الدفاعية، والاحتفاظ عموماً بـ"امتيازات الرتبة"، وهذا أيضاً خلافاً لما كان عليه الحال في عهد عبد الناصر.

تُجسِّد جمهورية الضباط الشاسعة والمترامية الأطراف اليوم نتيجة تراكمية لوظيفتين رئيستين قامت بهما خلال السنوات العشرين الأخيرة من حكم مبارك.
فقد عملت، أولاً وقبل كل شيء، كحامي السلطة الرئاسية للملاذ الأخير وأداة للمحافَظة على النظام عبر تغلغله البيروقراطي في الدولة المصرية. ولم يمارس سلطته من خلال السيطرة المباشرة على مجلس الوزراء، كما كان عليه الحال في عهد عبد الناصر. وتركّز التغلغل البيروقراطي بشكل خاص على هيئات رقابية وإدارية منتقاة، وعلى الحكم المحلي، وعلى الأجهزة الأمنية ولو بطريقة يشوبها التوتّر أحياناً.

وتمثّلت الوظيفة الثانية في توفير مسارات لمواصلة الوظيفة وضمان الدخل المالي لكبار الضباط في مرحلة مابعد التقاعد، وتأمين مصادر دخل رئيسة للقوات المسلحة ككلّ.
ولعل هذا يشكّل الإرث السياسي لعملية الدمج في نظام مبارك، الذي تسعى جمهورية الضباط إلى الاحتفاظ به كأولوية اليوم. وقد تحقّق ذلك من خلال اختراق القوات المسلحة لجهاز الخدمة المدنية بشكل عام، والسيطرة على بعض الخدمات والبنية الأساسية والأشغال العامة، والبرامج المتعلّقة بالأراضي (حيث يتّخذ الكثير منها حالياً شكل شركات تجارية مملوكة للدولة)، والسيطرة الحصرية على المشروعات الاقتصادية المملوكة للمؤسّسة العسكرية.

الأجهزة الرقابية والإدارية المركزية

من بين أجهزة الرقابة المتعدّدة في الدولة المصرية، يمكن القول أن هيئة الرقابة الإدارية تُعتبر الأهم. وهي تمثّل أيضاً النموذج الأكثر أهمية لاختراق المؤسسة العسكرية للإدارات المدنية. تأسّست هذه الهيئة في العام 1958 للتحقيق في الانتهاكات الإدارية والمالية، ويشمل اختصاصها مكافحة الفساد في جميع أنحاء البلاد، وفي أجهزة الدولة كافة، باستثناء القوات المسلحة، التي لاتخضع إلى أي رقابة مدنية عدا رقابة الرئيس، الذي كان دائماً عسكرياً سابقاً إلى أن تم انتخاب مرسي.

كان من الواضح أن الهدف من هذه الهيئة هو أن تكون أداة للسلطة الرئاسية. فهي واحدة من بين "عدد كبير من الأجهزة والمبادرات الرامية إلى مكافحة الفساد... والتي يسيطر عليها الرئيس بشكل مباشر أو غير مباشر".9
 ويطابق دورها دور هيئة النيابة الإدارية، التي أنشئت بموجب قانون وُضِع في العام 1954 لإجراء تحقيقات قضائية في الفساد المالي والإداري في جهاز الخدمة المدنية، كما يتقاطع مع وظائف الجهاز المركزي للمحاسبات، الذي كان أيضاً يرفع تقاريره حصراً إلى الرئيس منذ العام 1988. الفرق المهم هو أن رئيسَي وموظفي الهيئتين الأخيرتين هم من المدنيين، وتحديداً من المحامين والمحاسبين المؤهّلين، في حين يأتي رئيس وكبار مسؤولي هيئة الرقابة الإدارية دائماً من القوات المسلحة، حيث يرأس خليط من ضباط الجيش والشرطة أقسامها التنفيذية وفروعها الإقليمية.

في ظل حكم مبارك، عملت هيئة الرقابة الإدارية كوسيلة لترهيب المعارضين ومعاقبتهم، والسيطرة على مؤيّدي النظام. وكان بالإمكان أيضاً كبح جماحها عندما تهدّد تحقيقاتها السياسيين أو رجال الأعمال المقرّبين من الرئيس. في العام 1996، استُبدِل رئيسها اللواء أحمد عبد الرحمن، بعد إصراره على متابعة التحقيق في قضية فساد ضد وزير الإسكان إبراهيم سليمان.10 وكان بديله اللواء هتلر طنطاوي أكثر إذعاناً على مايبدو، حيث جدّد له مبارك ثلاث مرات. بعد تقاعد طنطاوي في العام 2004، نُشِرَت اتهامات بأنه استغلّ منصبه للحصول على عدد من الأملاك، بما في ذلك سكن ضباط مدعوم وأراض في مناطق تطوير عالية القيمة، حيث يُزعَم أنه نقل بعضها إلى أولاده وأحفاده.11
كما جُدِّد لخليفة طنطاوي، اللواء محمد التهامي، أربع مرات منذ أن انتهى تعيينه الأصلي في العام 2008، كان آخرها من جانب المشير طنطاوي رئيس المجلس العسكري في كانون الأول/ديسمبر 2011، على الرغم من المزاعم بأن التهامي كان أيضاً متورّطاً بممارسات فاسدة.

إضافة إلى ذلك، تمثّل هيئة الرقابة الإدارية وسيلة لاستعادة اختراق الجيش لإدارات الدولة. إذ يتلقى جميع وزراء الحكومة بشكل روتيني قوائم من هذه الهيئة - وكذلك من هيئة التنظيم والإدارة في القوات المسلحة - تحوي أسماء ومؤهّلات الضباط الذين شارفوا على التقاعد ويسعون إلى الحصول على وظائف جديدة. للوزراء إسمياً الحرية في عدم توظيف أي منهم، لكن من الواضح أن بعض الوزارات والإدارات المدنية أصبحت أشبه بإقطاعات عسكرية يشغل فيها الضباط السابقون دائماً المناصب العليا.

ويتعزّز هذا النمط من خلال عمل الهيئة المركزية للتنظيم والإدارة، المسؤولة عن تطوير وإصلاح جهاز الخدمة المدنية وعن "التعبئة للمجهود الحربي" وفقاً للمادة 8 من القانون الرقم 118 للعام 1964، الذي أنشئت بموجبه. رئيسها الحالي، اللواء صفوت النحاس، انضم أصلاً عند تقاعده من سلاح الجو، إلى طاقم مكتب رئيس الوزراء الدكتور عاطف عبيد، ليشغل منصب الأمين العام لمجلس الوزراء إلى أن تم تعيينه في الهيئة المركزية في العام 2004، مايؤكّد على وجود الحلقة التي تتعزّز ذاتياً من الشبكات والتعيينات لعسكريين في المناصب الإدارية المدنية.
الحكم المحلي

يشهد مجال الحكم المحلي المجال أكبر تركيز للضباط المعيَّنين في مناصب مدنية، حيث يلعبون دوراً مباشراً في المحافظة على النظام، على جميع مستويات السلطة البلدية بدءاً من المحافظات وصولاً إلى أحياء المدن والقرى. وقد برز الحكم المحلي أساساً في عهد عبد الناصر باعتباره وسيلة مهمة لتأكيد سيطرة الرئيس على أنحاء البلاد، وذلك عبر موازاة، والحدّ من، سلطات ومسؤوليات وحتى ميزانيات الوزارات الحكومية المركزية وغيرها من الهيئات والسلطات المدنية العامة. المحافظون هم ممثلو الرئيس وأعلى المديرين التنفيذيين وأرفع مسؤولي أمن في كل محافظة. ويُعتبَر التقسيم الموازي لمصر إلى خمس مناطق عسكرية مُكمِّلاً للهيمنة على الهيئات المدنية، باعتبار أن إحدى مهام قادة المناطق العسكرية هي التنسيق مع المحافظين والسلطات المدنية المحلية لضمان الأمن الداخلي.

ظل هيكل الحكم المحلي يتّسم بدرجة عالية من التراتبية الهرميّة منذ العام 1960، عندما أُعيد تقسيم البلاد إلى 26 محافظة، حيث تتدفّق السلطة حصراً من أعلى إلى أسفل. يوجد في مصر حالياً 27 محافظة، في أعقاب عملية إعادة التنظيم الأخيرة التي شهدها العام 2011، علماً أن محافظة القاهرة تنقسم أيضاً إلى أربع مناطق إدارية، يرأس كلاً منها نائب محافظ، ثلاثة منهم ضباط سابقين. في المرتبة الهرمية التالية يوجد 166 "مركزاً" و200 منطقة حضرية توصَف بأنها "مدن" على مستوى البلاد ككلّ (وفقاً لإحصائيات العام 2002). ثم تأتي مئات أحياء المدن– كان في القاهرة وحدها 23 حياً في العام 2002، و34 بحلول العام 2012 وفقاً لإحدى الإحصائيات، إلى جانب أحياء الجيزة، التي تشكّل محافظة منفصلة، علماً أنها جزء من مدينة القاهرة الكبرى - و4617 قرية، منها 920 قرية كبيرة بما يكفي ليكون لها مجلس محلي خاص بها (بحسب إحصائيات العام 2002).

يُشكَّل الهيكل بكامله عن طريق التعيين من أعلى. إذ يعيّن رئيس الجمهورية المحافظين في حين يتولّى رئيس الوزراء تعيين رؤساء المراكز والمدن والأحياء؛ ويعيّن المحافظون رؤساء القرى، أما وزارة الداخلية فتُعيِّن العمدة في القرى الصغيرة "التابعة" التي ليس فيها مجالس محلية. فهناك مجلس محلي على كل مستوى بدءاً من المحافظة نزولاً، يتألّف أعضاؤه من الموظفين برواتب الذين يعيّنهم رؤساء كل مستوى كي يتولّوا المهام التنفيذية، ويرأس كل مجلس أمين عام وأمين عام مساعد. وهناك هيكل موازٍ من "المجالس الشعبية المحلية" المنتخبة التي توفّر لمسة ديمقراطية، لكنها لمسة تجميلية بحتة كونها لاتملك أي صلاحيات تنفيذية على الإطلاق، وتقوم فقط بتقديم نصائح "استشارية" إلى جانب الموافقة اسمياً على الميزانيات المحلية.

وباستثناء "المجالس الشعبية المحلية" – وذلك لسبب واضح يتمثّل في أنها لاتتمتّع بأي صلاحيات أو موارد تُذكَر – يوجد عدد كبير من الضباط السابقين في مستويات وأنحاء هيكل الحكم المحلي كافة، مايوفِّر لهم الأمان الوظيفي بعد التقاعد، فيما يخدم وجودهم بسط نفوذ السلطة الرئاسية لتشمل كل ركن من أركان البلاد. يجدر الذكر أن 50-80 في المئة من المحافظين لهم خلفية عسكرية في أي وقت من الأوقات منذ التسعينيات، في حين جاء 20 في المئة آخرين من الشرطة أو أجهزة الأمن الداخلي.12 فضلاً عن ذلك، يجري توزيع مناصب المحافظين وفقاً لنمط واضح، حيث يتولّى عادةً قادة المناطق العسكرية السابقون (وهم من القوات البرية) مناصب المحافظين في محافظات القاهرة (أو المناطق الفرعية الأربع)، والسويس وسيناء، على سبيل المثال، في حين يتولّى الدفاع الجوي وحرس الحدود والبحرية مناصب المحافظين في المحافظات الغربية والجنوبية والإسكندرية ومحافظة البحر الأحمر.

غير أن تركيز المعلِّقين عادةً على عدد المحافظين الذين يتم استقدامهم من القوات المسلحة يُخفي بشكل صارخ الحجم الحقيقي لتوغّل المؤسّسة العسكرية في الحكم. فالضباط المتقاعدون يشغلون نسبة أكبر من المناصب الثانوية، مثل نائب المحافظ، ومدير مكتب المحافظ، والأمين العام والأمين العام المساعد للمجلس المحلي في المحافظة.
 ويتكرّر هذا بشكل واسع النطاق في كل المستويات الإدارية الدنيا من المراكز والمدن وأحياء المدن والقرى. ويكفي ذكر مثال واحد لتلخيص النمط العام: في 22 شباط/فبراير 2012، وقَّع وزير الإنتاج الحربي، اللواء علي إبراهيم صبري، اتفاقاً لتطوير سوق الجملة في محافظة الجيزة، وقد وقَّع عن الطرف الآخر الرئيس التنفيذي لسوق الجملة اللواء محمد سامي عبد الرحيم، وذلك بحضور نائب محافظ الجيزة اللواء أسامة شمعة والأمين العام للمجلس المحلي اللواء محمد الشيخ ومساعده اللواء أحمد هاني. على الرغم من هذا المثال، وحتى لو كان هناك ضابط سابق واحد فقط يشغل منصباً في كل هيئة تنفيذية ضمن كل مستوى من مستويات الحكم المحلي – وهذا بالتأكيد افتراض متواضع جداً – يصل المجموع الكلي للمناصب التي يشغلها ضباط سابقون من القوات المسلحة في هيكل الحكم المحلي على المستوى القومي إلى نحو 2000.

ولاتنتهي المسألة هنا. فالحكم المحلي يكرّر عمل الوكالات الحكومية المركزية أو يشرف عليها، في مجال الخدمات والتنمية الاجتماعية والصحية والرعائية والتربوية، حيث يوجد للمحافظة، وكل مركز من المراكز والمدن التابعة لها، مدراء للتخطيط والعقارات المالية والمشاريع و الشؤون الفنية والهندسية. إضافةً إلى ذلك، يدير هؤلاء مجموعةً واسعةً من الدوائر الخدماتية وفروع شركات المرافق العامة والكيانات الحكومية الأخرى، التي تحتاج جميعها إلى الموظفين. في كثير من الحالات، تُملأ هذه الوظائف بالضباط السابقين. وفي كثير من الأحيان يتولّى أيضاً المتقاعدون من القوات المسلحة، وكذلك من أجهزة الشرطة أو الأمن، رئاسة الدوائر المتخصصة. وهذه تشمل، على سبيل المثال، دائرة المحاجر والخدمات الجيولوجية وشعبة البيئة في محافظتي سيناء والبحر الأحمر، وهما محافظتان غنيتان بالموارد الطبيعية المجزية وتوفران فرصاً للحصول على دخل إضافي غير رسمي. وبما أن لدى المحافظين مستشارين عسكريين، فمن الطبيعي أن يأتي هؤلاء المستشارون من القوات المسلحة. وبإضافة هؤلاء المتقاعدين إلى المجموع العام، يصل عدد الضباط السابقين الذين يشغلون مناصب إدارية في مفاصل الحكم المحلي كافة إلى آلاف عدة.

بدا أن ظهور "الدولة الأمنية" في عهد مبارك بعد العام 1991، التي احتلّت فيها الأجهزة الأمنية موقع الصدارة في فرض سلطة الرئيس في الحفاظ على النظام، أزاح القوات المسلحة إلى الهامش. وأدّى ذلك أحياناً إلى التنافس الحاد على الموارد والنفوذ المؤسّسي. وقد نظر ضباط القوات المسلحة إلى وزارة الداخلية وأجهزة الشرطة والأمن المرتبطة بها نظرة ازدراء تعمّقت خلال العقد الأخير من حكم مبارك، وعاد ذلك جزئياً إلى الاعتقاد أنها مشتركة في دائرة الفاسد التي أخذت بالتوسّع منذ صعود نجم جمال مبارك، نجل الرئيس، والسياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي تبنّاها. غير أن تغلغل ضباط القوات المسلحة في وزارة الداخلية ومديرية المخابرات العامة، ودور المتقاعدين العسكريين والأمنيين على حدّ سواء في هيكل الحكم المحلي، إنما يوحي أيضاً بدرجة من تكامل الأدوار بين المؤسستين العسكرية والأمنية في الحفاظ على النظام.

ويرجّح أن يزداد ذلك التكامل بشكل ملحوظ، بعد أن أكّد المجلس الأعلى للقوات المسلحة صدارته منذ تولّيه السلطة في شباط/فبراير 2011. فقد أضعف مباحث أمن الدولة وحجّمها، وترك الشرطة وقوات الأمن المركزي ذات المعنويات المنهارة تائهةً، فيما رفع من شأن مديرية المخابرات العامة لتكون ذراعه وأداته الداخلية الرئيسة إلى جانب الاستخبارات العسكرية، التي كان وزير الدفاع طنطاوي قد أوكل إليها ببعض مهام المراقبة الداخلية حتى قبل سقوط مبارك بسنوات عدة. وعلى الرغم من أن الشرطة والأجهزة الأمنية سوف تُلحَق مجدّداً بالسلطات المدنية من الآن فصاعداً، إلا أن ذلك سيكون اسمياً، والمجلس العسكري يتموضع بوضوح ليحتفظ بالنفوذ الحاسم. ومايشير إلى ذلك هو إعادة تأهيل مباحث أمن الدوة وقوات الأمن المركزي، الفاقدة للشرعية منذ انتفاضة 2011. فإن تحسين قدراتها البشرية وعتادها من شأنه إراحة أجهزة القوات المسلحة (الاستخبارات والشرطة العسكرية) من عبء حفظ النظام العام، غير أن سعي المجلس العسكري أيضاً إلى حسين صورة أجهزة الأمن الداخلي لدى الجمهور خلال مديح دورها في حماية الدولة منذ ثورة العام 1952، إنما يعزّز من ارتباطها بجمهوية الضباط ويعيد ضمناً اصطفاف قطاع الأمن بكامله خلف القوات المسلحة. وصحيح أن كل ذلك لن يزيل تماماً التنافس بين المؤسستين، غير أن المرجح أن يزداد التكامل في مابين اختراق المتقاعدين العسكريين والأمنيين لجهاز الدولة، مايعزّز مرتكزات جمهورية الضابط.

الخدمة المدنية
يخترق ضباط القوات المسلحة السابقون قطاعات الخدمة المدنية كافة، حيث يديرون الجامعات، أو يتواجدون في مجالس إدارة الكليات الأكاديمية أو مراكز البحوث المتخصصة، كما يعملون مدراء وموظفين في المعاهد القومية للمقاييس والمعايير وللتغذية، وجمعيات حماية المستهلك ومراقبة المياه، والمستشفيات الحكومية والملاعب الرياضية. كما يرأس ضباط آخرون هيئات متنوعة مثل الإذاعة والتلفزيون، والمجلس القومي للشباب، والهيئة العامة للأبنية التعليمية، والجمعية العامة للمعاهد القومية التي تتولّى إدارة المدارس الأجنبية التي صودِرَت في أواخر الخمسينيات، إضافة إلى الهيئة العامة للتنمية الصناعية. كما يتولّى المتقاعدون العسكريون رئاسة وشغل قسم كبير من الوظائف في الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء - التي تُعتبَر المصدر الرئيس للبيانات بالنسبة إلى جميع الجهات الحكومية والجامعات ومراكز البحوث والمنظمات الدولية - وفي العديد من الهيئات التي تخدمها. والقائمة تكاد لاتنتهي.

المرافق والأشغال والبنية الأساسية العامة

ثمّة عدد مُلفِت من الضباط (معظمهم من المتقاعدين، لكن بعضهم لايزال في الخدمة الفعلية) هم أعضاء في مجالس الإدارة لمجموعة كبيرة من المرافق العامة المملوكة للدولة ومشاريع البنية الأساسية الرئيسة ومايرتبط بها من أشغال وخدمات. العديد من هذه المرافق هي جزء من الشركات التجارية القابضة الكبيرة التي تأسَّست كمشاريع اقتصادية مملوكة للدولة خلال المرحلة الأولى من الخصخصة بدءاً من العام 1991 (أي تحويل المشاريع الاقتصادية للقطاع العام إلى شركات تجارية تعمل في إطار القواعد المالية للضرائب والأجور المطبّقة على الشركات الخاصة).

كما أن الضباط هم رؤساء أو أعضاء في مجالس إدارة الشركات القابضة للطيران والمطارات، والنقل البحري والبري (بما في ذلك جميع هيئات الموانئ البحرية) والكهرباء والمياه والصرف الصحي – والعديد من شركاتها الفرعية التي تملكها جزئياً أو كلياً. كما يهيمنون على قطاعي النفط والغاز الطبيعي التابعَين للقطاع العام، وعلى شركات الخدمات المتّصلة بها. والأمر نفسه ينطبق على بعض المرافق الأخرى مثل الشركة المصرية للاتصالات "إيجيبت تيليكوم" Egypt Telecom، التي هي الآن شركة مساهمة تحتكر خطوط الهاتف الثابتة، وتمتلك حصة متنامية في سوق الهواتف المحمولة، كما ينطبق ذلك أيضاً على الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات.

يتمتع المتقاعدون العسكريون أيضاً بتمثيلٍ كبير في الوزارات والهيئات الحكومية التي تتعامل مع القطاعات المتعلّقة بالأراضي مثل الإسكان، وإدارة العقارات، والأشغال العامة، والاستصلاح والتنمية الزراعية، والسياحة. فهم يهيمنون على الجهاز المركزي للتعمير التابع لوزارة الإسكان، والذي يتولّى بناء المساكن والطرق الدائرية في المدن والجسور. كما يضطلعون بدور قيادي في هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، التي يديرها لواء متقاعد في القوات المسلحة. ويرأس المتقاعدون العسكريون أيضاً الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية، وهي الهيئة المسؤولة عن مشاريع الري والاستزراع العملاقة في "توشكي" وفي شمال سيناء والعوينات الشرقية والوادي الجديد، والقطاعات ذات الصلة مثل الصوامع والتخزين الزراعي. كما يتولّى عسكريون متقاعدون إدارة هيئة التنمية السياحية وهيئة الأوقاف، التي تتولّى إدارة الأوقاف الإسلامية ومصادر دخلها بالتوازي مع وزارة الأوقاف.

يوفّر الحصول على وظيفة في هذه الهيئات المختلفة عملاً مضموناً للمتقاعدين. على سبيل المثال، ينتقل الضباط السابقون في سلاح الطيران مباشرةً إلى قطاع الطيران المدني والمطارات. كما ينتقل ضباط البحرية إلى العمل في مجال النقل البحري والموانئ البحرية وقناة السويس. أما نظراؤهم في سلك الإشارة فينتقلون إلى العمل في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات؛ في حين يتّجه أفراد الجيش إلى مجال البناء والنقل البري والأشغال العامة. ويتولّى عادةً رؤساء الأركان السابقون من مختلف أفرع القوات المسلحة، الذين يتقاعدون برتبة فريق، أكثر المناصب الإدارية ربحيةً، حيث يترأسون العديد من أكبر الشركات القابضة المملوكة للدولة. لكن حتى أولئك الذين يجري تعيينهم في مجالس إدارات الشركات الفرعية، أو يتم توظيفهم كمستشارين، يشكّلون أقلية تحظى بالامتيازات بالمقارنة مع العدد الأكبر من المتقاعدين العسكريين الذين يُدمَجون في إدارات الدولة المدنية (كما ستتم مناقشته ذلك لاحقاً).

المشاريع الاقتصادية العسكرية
تدير جمهورية الضباط اقتصادها العسكري الرسمي الخاص، الذي يدرّ عليها مصادر دخل لاتمرّ عبر الخزينة العامة. يوجد مكتب خاص في وزارة المالية يُدقِّق في حسابات القوات المسلحة والهيئات التابعة لها، وعلى الأرجح بالتنسيق مع مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية، إلا أن بياناته وتقاريره لاتخضع إلى سيطرة أو إشراف البرلمان أو أي هيئة مدنية أخرى. ويُعتقَد أن جزءاً من العوائد يُنفَق على بدلات الضباط ومساكنهم، وعلى إدخال تحسينات أخرى على مستويات المعيشة. أما الباقي فيُعاد استثماره أو يُستخدَم لتكملة الإنفاق على الصيانة والعمليات والمقتنيات التي لاتغطيها ميزانية الدفاع أو المساعدات العسكرية الأميركية.

يتكوّن الاقتصاد العسكري من أربعة أقسام رئيسة هي: الصناعات العسكرية التي تتبع وزارة الإنتاج الحربي، والهيئة العربية للتصنيع المملوكة للدولة، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابعة لوزارة الدفاع، والمشاريع المُدِرّة للدخل الخاصة بالقوات المسلحة، بما في ذلك النوادي والفنادق العسكرية وعقود الأشغال العامة المدنية التي تتولاها هيئة الهندسة العسكرية، ودائرة الأشغال العسكرية، ودائرة المياه التابعة لها. وقد تفرّع هذا القطاع بأكمله إلى مجموعة متشعّبة ومتنوّعة ومتزايدة الأهمية للإنتاج المدني وتقديم الخدمات في القطاع المدني منذ التسعينيات. وشيئاً فشيئاً يتصرّف اقتصاد المؤسّسة العسكرية كقطاع تجاري، ساعياً إلى إقامة الشراكات أو المشاريع المشتركة مع الشركات المحلية والأجنبية الخاصة، وباحثاً عن فرص للتصدير والاستثمار في الخارج.13

"هذا لنا": إعادة النظر في المجتمع العسكري المصريإن أحد أكثر الأمور لفتاً للنظر المفارقة بين المدى الشمولي لحضور القوات المسلحة في حياة مصر، وبين قلّة مايعرفه أي شخص من خارج المؤسسة العسكرية، وربما من داخلها، بتركيبتها الاجتماعية. ويعكس هذا المزيج المتناقض من التغلغل والعزلة الطريقة الخاصة التي تفاعلت بها جمهورية الضباط في آن مع التحول الاقتصادي الليبرالي الجديد وتوطيد السلطوية السياسية منذ العام 1991.
في العقد الأول، اتّسم تفاعلها أساساً بالتكيّف السلبي. فقد نُقِلَت الشبكات غير الرسمية، التي تشكّلت في الكلية العسكرية وخلال الخدمة الفعلية، إلى داخل الإدارات المدنية للدولة، وذلك مع قيام الضباط الموظفين في تلك الإدارات بتعيين زملائهم المتقاعدين في مناصب إدارية أو هيئات استشارية. كما استُنسِخَت تلك الشبكات في مشاريع تجارية مملوكة للدولة، حيث يقوم المدراء والإداريون ومسؤولو المقتنيات من ذوي الخلفيات العسكرية بمنح العقود إلى الإدارات الإنتاجية أو الخدماتية في القوات المسلحة، أو بتلقّي عقود منها لإنجاز مجموعة واسعة من خدمات البناء والتصنيع والتركيب والتجهيز والصيانة.

تعاملت جمهورية الضباط بدرجة أكبر من المبادرة مع الفرص الاقتصادية والاجتماعية التي وفَّرها تعميق الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية الجديدة منذ أوائل الألفية الثالثة. وتتمدّد شبكات الضباط حالياً على نحو متزايد إلى القطاع الخاص أيضاً، إذ إن عدداً قليلاً فقط من الشركات المسجَّلة رسمياً توظّف ضباط متقاعدين أو احتياط، كما أن الضباط قد يكونون في طور تشكيل شركاتهم الخاصة للفوز بعقود من الباطن. ولايقلّ أهمية عن ذلك طموحُ الشركات التجارية المملوكة للدولة التي يديرها عسكريون متقاعدون، والشركات المملوكة للمؤسّسة العسكرية، للعمل في الأسواق الإقليمية والدولية الأوسع.

باختصار، أصبح كبار الضباط المتجذرين بقوة في قطاعات الاقتصاد المدني أكثر ميلاً إلى المبادرة التجارية والاقتصادية. فهم يمتطون الحدّ الفاصل بين المجالين العسكري والمدني، والعام والخاص، لكنهم لايزالون يعتمدون حتى الآن اعتماداً كلياً على التعيين السياسي والمنصب الإداري في داخل الدولة لتأمين مدخل إلى الاقتصاد والحصول على الفرص. وسواء كانوا يطمحون بصورة متعمّدة إلى الاندماج التام في "الطبقة الوسطى الجديدة" الآخذة في الصعود أم لا، إنهم بالتأكيد يحاكونها عبر تلمّسهم للفرص التي تمكِّنهم من تأمين زيادات حادّة في الدخل القابل للتصرّف به، والمضاربة في قطاع العقارات، والانتقال إلى مايشبه المجتمعات المسوّرة.

لاتزال هذه الاتجاهات في طور النشوء. إذ لاتوجد حدود واضحة المعالم بين المرحلة الأولى من الدمج في نظام مبارك للمحسوبيات خلال التسعينيات، وبين المرحلة الثانية التي تزامنت مع تكثيف السياسات الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية الجديدة وتعميق الخصخصة بدءاً من العام 2000. كما أن الحدود مبهمة بين جناح جمهورية الضباط الذي يتّسم بميله البارز إلى المبادرة التجارية والاقتصادية، وبين السواد الأعظم من سلك كبار الضباط. لكن بالنسبة إلى الجميع شكَّل الارتفاع الكبير في المداخيل القابلة للتصرف بها الفائدة الأكبر، ولو أنها توزّعت على نحو غير متكافئ في أوساط جمهورية الضباط برمّتها.
الاستيلاء على فرص الدخل

يعتبر ضباط القوات المسلحة العاملون والمتقاعدون على حقّ أن الرواتب وظروف الخدمة متدنّية، ويدركون تماماً أن الرواتب في القطاع الخاص، وحتى في المؤسّسات التجارية المملوكة للدولة، قد ارتفعت أكثر بكثير من مرتباتهم خلال العقدين الماضيين من الخصخصة المتتالية. وكما يشير المتقاعدون على سبيل المثال، إن الحدّ الأدنى لراتب الطيار الذي يعمل في شركة الطيران الوطنية، مصر للطيران، يفوق بمرات عدة راتب طيار مقاتل من سلاح الجو يمتلك سنوات عديدة من الخبرة. وهذا يفسّر الشعور بالامتعاض الذي يبديه بعض المتقاعدين عند سماعهم الحديث عن "امتيازات" المؤسّسة العسكرية. لكن بالنسبة إلى غالبية الضباط المتقاعدين، الفرصة لزيادة المعاشات التقاعدية، وتعويضات نهاية الخدمة، وعلاوات التقاعد الممنوحة لمدى الحياة براتب مُكمِّل ثانٍ، والبدلات الإضافية المتّصلة به، هي الأمر الأهم.

تبدأ الفرص خلال الخدمة الفعلية في الواقع، بالنسبة إلى الضباط الذين يتم انتدابهم إلى وزارة الدفاع أو الكليات العسكرية أو الشركات أو المصانع المملوكة للمؤسّسة العسكرية، أو الذين يُعَيَّنون ملحقين عسكريين في السفارات المصرية في الخارج أو "أعضاء منتدبين" في مجالس إدارة الشركات التجارية المملوكة للدولة. جميع هؤلاء يتلقون راتباً ثانياً، إلى جانب المكافآت أو البدلات أو المزايا الإضافية المرتبطة بكل منصب.

يأتي في المستوى الأعلى التالي المتقاعدون العسكريون الذين يُعيَّنون كمستشارين في الوزارات وفي الهيئات الحكومية الأخرى، أو في الشركات التجارية التي تقدم خدماتها لتلك الوزارات والهيئات. ويتمكّن أصحاب النفوذ من الحصول على عدد من هذه التعيينات الاستشارية بالتوازي، التي ينطوي في الغالب أو في المُطلَق، على القيام بغير المهام الشكلية أو بالحضور الرمزي. وتشير التقارير إلى أن الرواتب الاستشارية تتراوح بين 6000 و28000 جنيه مصري (1000 و4670 دولاراً) في الشهر، إلى جانب البدلات والمكافآت التي تُقدَّر بـ10000 جنيه (1667 دولاراً) شهرياً. تُعتبَر هذه المبالغ لاتُذكَر وفقاً للمعايير الدولية، لكنها بالتأكيد أعلى من معاشات التقاعد التي يحصل عليها كبار ضباط القوات المسلحة في نهاية خدمتهم (حيث لايتجاوز راتب اللواء الـ500 دولار).

أما الأوفر حظاً فهم المتقاعدون العسكريون الذين يُعيَّنون في مجالس إدارة الشركات التجارية المملوكة للدولة، أي الشركات القابضة والشركات التابعة لها أو المشاريع المشتركة معها، التي يبلغ عددها الإجمالي نحو 150. ويشير بعض الضباط الذين يتحدّثون من داخل المؤسسة الأمنية أو الإدارية، إلى أنه من الشائع أن تتراوح الرواتب بين 100 ألف و500 ألف جنيه شهرياً (16666- 83333 دولاراً) شائعة، ويُعتقَد أيضاً أن الشراكات الخفيّة ترفع الدخل السنوي لمَن يحصلون على أعلى أجر إلى مابين 12 و100 مليون جنيه (مليونا دولار و16.67 مليون دولار).14 ثمة مقياس يُعيَّن بواسطته كبار القادة العسكريين في الشركات القابضة المملوكة للدولة الأكثر ربحية عند تقاعدهم، في حين يتم تعيين الأقل رتبة في شركات فرعية أو تابعة. ويتّبع منحُ المناصب الإدارية في المؤسسات التابعة للقوات المسلحة، مثل النوادي الاجتماعية والفنادق، منطقاً مشابهاً، مع أن جدول الرواتب فيها أدنى بكثير يُمنَح المتقاعدون العسكريون المتنفّذون أفضل المواقع، مثل وسط القاهرة أو المنتجعات الساحلية قرب الاسكندرية أو العريش، في حين يتولّى أصحاب الحظوة الأقلّ إدارة مرافق أقلّ جاذبية في أماكن نائية نسبياً.
إستنساخ طائفة الضباط

يُضاف إلى الدخل القابل للتصرف به توفير المساكن المجانية أو المدعومة للضباط، التي يحقّ لهم قانوناً تأجيرها أو بيعها. وكما هو الحال بالنسبة إلى حقهم في الحصول على راتبٍ ثانٍ، فإن الضباط العاملين، الذين يكلّفون بواجبات خارج القوات المسلحة، يحصلون على مسكن إضافي عن كل وظيفة جديدة يحصلون على راتب من خلالها. من الواضح أن هذا الأمر يفيد على وجه التحديد الضباط ذوي الرتب المتوسطة والعليا المؤهلين لهذه التعيينات، وليس صغار الضباط. كلما ارتفعت الرتبة، ازدادت جودة المساكن، إذ بات كبار القادة يحصلون الآن في العادة على فيلات بدلاً من الشقق. ويستخدم بعض الضباط الدخل الناتج عن الإيجار أو البيع لبدء مشاريع خاصة بهم، في حين يشتري بعضهم الآخر أسهماً في شركات القطاع العام المملوكة للقوات المسلحة أو التي يرأسها ضباط سابقون، أو يساهمون معاً في إطلاق مشاريع خاصة بهم، مثل المجمّعات السكنية ومراكز التسوق.

نطاق كل ذلك كبير. فبحلول منتصف الثمانينيات، "تم بناء مايقرب من خمسة في المئة من مجموع المساكن التي شُيّدت في البلاد من قبل الجيش ولأجل الجيش، بما في ذلك نسبة كبيرة داخل المدن العسكرية الجديدة المتناثرة في الصحراء".15 ومنذ العام 1991، أشرف وزير الدفاع طنطاوي على انتقال سكن الضباط بالجملة باتجاه مايسمى بالمدن العسكرية أو المدن "الصحراوية"، حيث شُيِّد 24 منها، في حين لاتزال ثلاث مدن أخرى قيد التخطيط والإنشاء ولايزال يُطلَق اسم "المدن العسكرية" على أول جيلين من هذه المدن، التي تم تخصيص قطع سكنية كبيرة منها ومايرتبط بها من مرافق للضباط. هذه المدن، التي يُطلق عليها حالياً اسم "المجتمعات العمرانية الجديدة"، مفتوحة أيضاً أمام الطبقة الوسطى الجديدة الصاعدة التي توسّعت مع تعميق خصخصة الاقتصاد المصري خلال العقد الماضي. وهي تفاخر حالياً بسكانها البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة، ويُتوقَّع أن يصل عددهم النهائي إلى 17 مليون نسمة. ومع انتقال الضباط إلى تلك المدن، استأجر أو استملك المدنيون المنتمون إلى الطبقة الوسطى أو دون الوسطى والتجار الصغار مساكنهم السابقة في مناطق مثل مدينة نصر في القاهرة، التي بنيت أصلاً لإسكان الضباط، مايقدّم دليلاً إضافياً على الفصل المترسّخ بين الفضائين العسكري والمدني.

وتعزّز العزلة نفسها بنفسها. تتجدّد شبكات الضباط في النوادي الاجتماعية الكثيرة التي يقيمها كل فرع وإدارة من القوات المسلحة، وحتى المصانع العسكرية كل على حدة، في المدن المصرية الرئيسة. توفّر هذه الأندية الخدمات المدعومة لسلك الضباط، سواء العاملين منهم أم المتقاعدين، حيث تُستخدم كصالات أفراح أو لتقديم الطعام في المناسبات الاجتماعية الأخرى، وذلك بنصف سعر الصالات التجارية. كما يوفّر بعضها الإقامة المؤقّتة للضباط، إضافة إلى الفنادق والمنتجعات التي تديرها المؤسسة العسكرية في المناطق الساحلية المرغوبة في سواحل الشمال وسيناء والبحر الأحمر. وبإمكان المدنيين أيضاً، الذين لديهم المال والعلاقات، استخدام مختلف هذه المرافق، وفي أغلب الأحيان هؤلاء هم أفراد الطبقة السياسية أو أجهزة الدولة أو أبناؤهم. ولعل مايكشف عن طبيعة الوعي الطبقي الجديد لجمهورية الضباط هو أن المنقّبات والرجال الذين يرتدون الجلابية الفلاحية، يُمنَعون من دخول النوادي العسكرية، وذلك لما لهذه الأزياء من دلالة واضحة على تدنّي المستوى الطبقي.16

فضلاً عن ذلك، تدير القوات المسلحة متاجر وتعاونيات استهلاكية ومحطات وقود خاصة بها، حيث يستطيع العسكريون وأفراد عائلاتهم شراء السلع الاستهلاكية بأسعار مخفّضة. كما تحصل العائلات على "كارنيه"، وهي قسائم لشراء الاحتياجات المنزلية الأساسية؛ وقد يحصل الضباط المتنفّذون على عدد إضافي من الدفاتر "الكارنيه" الإضافية، بدلاً من العدد المخصّص لهم والذي يكون عادةً اثنين أو ثلاثة، حيث يستطيعون إعطاءها إلى الأقارب أو الأصدقاء. هذه الميزات الأخيرة مُتاحة لجميع الجنود وضباط الصف والضباط المتطوّعين (أي غير المجنّدين) في القوات المسلحة والبالغ عددهم 148500، لكن هذا يحجب حقيقة أن معظم المزايا والامتيازات تُجيَّر لصالح كبار الضباط.

لايزال الدخول إلى سلك الضباط يوفّر وسيلة لارتقاء السلم الاجتماعي وضمان الأمان الوظيفي بالنسبة إلى الكثيرين.17 لكن فيما لحق سلك الضباط بالأنماط الاستهلاكية والسكنية المنفصلة للطبقة الوسطى الجديدة، أصبح الانضمام إلى السلك يتّسم بدرجة أقل بكثير من الديمقراطية. وأدّى ذلك إلى إلغاء تدريجي لأحد أهم مظاهر المساواة الاجتماعية التي تميّز بها عهد عبد الناصر، والتي سهّلت دخول أبناء العائلات الفقيرة أو الأمية وعائلات الطبقة دون الوسطى إلى الكليات العسكرية. أما الآن، فلا تتجاوز نسبة الترقّي من رتبة جندي متطوّع أو ضابط صف (غير المجنّدين) عشرة في المئة من نسبة الضباط الجدد الذين يتم قبولهم. أما الذين يصبحون ضباطاً بهذه الطريقة، فلا يُرَقَّون إلى مابعد رتبة نقيب، مايحدّ من عدد ونفوذ المقبولين ممَّن ينتمون إلى جماعات الدخل المحدود. ويشكّل التحصيل العلمي حاجزاً إضافياً، حيث يُحظَّر على المتقدِّمين الذين لايحمل والداهم شهادات جامعية من دخول الكلية العسكرية. وفي كل الأحوال، ينتمي الحاصلون على درجات عليا في امتحانات القبول عادةً إلى عائلات قادرة على تحمّل نفقات المدارس الخاصة أو الدروس الخصوصية الإضافية.
المدنيون بوصفهم أعيالاً

يتمثَّل الوجه الآخر لآثار الاندماج في نظام المحسوبيات الذي أسّسه مبارك على جمهورية الضباط، في تخلّيها عما تبقّى من تعلّق بإرث العهد الناصري المتمثّل في السياسات الحكومية الاجتماعية الهادفة إلى إعادة توزيع الثروة. وتبنَّت بدلاً من ذلك مقاربة أبوية تجاه الغالبية العظمى من المصريين الذين لم يستفيدوا من الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي طُبِّقَت خلال العقد الماضي. وقد تحولت الرعاية الاجتماعية والتنمية إلى صدقات وحظوات، بدل أن تكون استحقاقات، تمنح وفقاً لتقدير ومزاج القادة، باستخدام الأموال والأصول التي يتحكّمون بها حصراً.

فحين تبني القوات المسلحة الجسور والطرق السريعة بين المدن والطرق الدائرية والمخابز ومحلات الجزارة في الأحياء المدنية الفقيرة، ومحطات تنقية المياه وتحليتها، تصفها بأنها "هدية إلى شعب مصر"، متجاهلةً حقيقة أن الموارد المستخدمة في نهاية المطاف تأتي من المال العام أو ينبغي أن تدخل إلى خزينة الدولة. وحرصاً منها على تعزيز صورتها كفاعلة خير، تعلن القوات المسلحة دورياً كذلك عن توزيع عشرات الآلاف من "الشنطات" الغذائية المجانية على الفقراء والمستفيدين من الضمان الاجتماعي في عيدي الفطر والأضحى.

وقد لجأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة بصورة متزايدة إلى تبنّي هذا الموقف الأبوي، بعد أن بدأت علاقته بالأحزاب السياسية الجديدة، وخصوصاّ الإسلاميين، تتّسم بالخصومة بعد صيف العام 2011. ففي تشرين الأول/أكتوبر، على سبيل المثال، أعلن طنطاوي تخصيص 3876 فداناً من الأراضي التي يسيطر عليها الجيش لبناء مساكن للمدنيين في أسيوط، ثم أصدر مرسوماً يقضي بالتبرع بملياري جنيه مصري (333 مليون دولار) من أموال الجيش لبناء "مساكن اجتماعية" في المدن لذوي الدخل المحدود، وذلك في ذروة الاحتجاجات المناهضة للمجلس العسكري التي شهدها شهر تشرين الثاني/نوفمبر. كانت المبادرة الأخيرة جزءاً من خطة وطنية لبناء مليون وحدة سكنية في كل محافظات مصر على مدى خمس سنوات؛ وتقوم القوات المسلحة ببناء 25000 وحدة منها، إلى جانب "التبرع" بأراضٍ في القاهرة وحلوان ومدن أخرى. بعد ذلك بأسبوعين فقط، أعلن المجلس العسكري أنه سيقرض البنك المركزي مبلغ مليار جنيه (167 مليون دولار) لدعم الجنيه المصري حين تعرّض سعر صرفه إلى التراجع. باختصار، يزعم المجلس العسكري أنه ضخّ مامجموعه 12.2 مليار جنيه مصري (2.33 مليار دولار) من موارده الخاصة في جهاز الدولة خلال السنة المُنتَهية في آذار/مارس 2012.

تقوم هذه النزعة الأبوية للمجلس العسكري على ثقافة عسكرية تعتبر المدنيين أقلّ شأناً أو "أعيالاً".
في عهد عبد الناصر كانت الجداريات والأشكال الفنية الأخرى في وسائل الدعاية السياسية تُظهِر الجنود وهم يصنعون المستقبل يداً بيد إلى جانب الفلاحين والعمال والمعلمين أو المثقّفين.
لكن الملصق الذي تصدَّر الحملة الإعلامية التي أطلقها المجلس العسكري، في آذار/مارس 2012، تحت عنوان "الجيش والشعب إيد واحدة"، كشف عن نظرة مختلفة تماماً.
يتمثّل الجيش، في هذا الملصق، في صورة جندي بكامل عدّته القتالية، أما الطفل الرضيع الذي يحمله هذا الجندي بين ذراعيه فهو كناية عن "الشعب". ويستحضر ذلك إلى الذهن المصطلح العامي المصري "عيال" (أي المُعالين) الذي يُستخدَم لوصف الزوجات والأطفال، والذي يذكِّر أيضاً بالنداء المباشر الذي وجّهه مبارك إلى "أبنائي" الشعب المصري في خطاب متلفز خلال الأيام الأخيرة من حكمه.
وهذا يعكس الاعتقاد بأن المجلس العسكري هو بالضرورة "الأعلم" عندما يتعلّق الأمر بمصالح مصر واحتياجاتها، كما يعكس قناعته، التي لاتقل أنانيّة عن ذلك الاعتقاد، بأن السياسيين والبيروقراطيين المدنيين أقل كفاءة ونزاهة ووطنية، أو على أقل تقدير يحتاجون إلى التوجيه الأبوي.

وقد استخدم الخطاب المعادي للمدنيين لتبرير اختراق الضباط السابقين لجميع أجهزة الدولة، وإشراك القوات المسلحة والشركات والهيئات الاقتصادية العسكرية في تقديم الخدمات الاجتماعية والمنافع العامة الأخرى إلى جانب مجموعة واسعة من السلع الاستهلاكية. وتعود جذور هذا الخطاب إلى سعي عبد الناصر إلى تعزيز مؤهّلات كبار الضباط، ليجعل منهم "مجموعة من الكوادر التكنوقراطية القادرة على تحدّي نظرائها المدنيين بفاعلية".18
 لكن الادعاء اليوم بأن المدراء العسكريين يستطيعون القيام بكل شيء على نحو أفضل من نظرائهم المدنيين، ينطوي على قدرٍ من التضليل والخداع. فإن قدرة المتقاعدين العسكريين على "تدبير الأمور" هي نتيجة مُتوقَّعة لأنهم هم الذين أوجدوا جزءاً كبيراً من النظام الإداري الذي يعملون ضمنه وتتوغل فيه شبكاتهم، مايسهِّل عليهم السلوك بسهولة وأمان عبر دهاليزه.

في الحقيقة، إن ارتفاع معدلات الفساد في مصر (صنّفتها منظمة الشفافية الدولية في العام 2011 في المرتبة 112 من بين 182 بلداً) ومؤشّراتها الاجتماعية الضعيفة (يعيش 40 في المئة من السكان عند أو تحت خط الفقر المتمثل بدولارين في اليوم، في حين عاودت الأمية الارتفاع لتصل إلى 27 في المئة وفقاً للأرقام الرسمية) لايُعتبَر مؤشراً إيجابياً على المساهمة التي قدمتها جمهورية الضباط لإدارة الدولة المصرية.
لذلك، لجأ المجلس العسكري مراراً وتكراراً إلى خطاب قومي قائم على استحضار "انتصار" القوات المسلحة في حرب العام 1973 ضد إسرائيل، مقروناً بإشاراته المتكرّرة إلى "الأيدي الخفيّة" و"المؤامرات الخارجية"، للدفاع عن مصادرته الحقَّ في تحديد المصلحة الوطنية.

يستخدم المجلس العسكري هذا الخطاب ليدافع عن زعمه بأنه لايمكن عموماً ترك الشؤون الخارجية والدفاع في أيدي القادة المدنيين، وليؤكّد على حقّه في التدخّل في مجالات السياسة الداخلية مثل توفير الغذاء أو إعادة الهيكلة الاقتصادية بحجّة أنها قد تؤثّر على الأمن القومي من خلال التسبّب في حدوث اضطرابات اجتماعية وعدم استقرار سياسي.
ويدّعي المجلس العسكري، عبر وضع هذه العناوين تحت عنوان "الأمن القومي"، أن له وضعاً خاصاً يستوجب اعتباره وصيّاً على النظام الدستوري في مصر، مايضفي عليه واجب منع التأثيرات المحتملة المُزَعزِعة للاستقرار الناجمة عن عملية التحوّل الديمقراطي "المفرط". وها هو يقوم بذلك الآن باسم "الثورة": فمن خلال مصادرته لهذا المصطلح، والخلط بينه وبين إطاحة القوات المسلحة النظامَ الملكي في العام 1952، يعيد المجلس العسكري تنصيب نفسه على أنه الأب المؤسّس للتحوّل الديمقراطي في مصر، ويبرّر احتفاظه بالسلطات التقديرية والاستقلال الكاملين.

الدفاع عن جمهورية الضباط
قام المجلس العسكري، وبعناد متزايد منذ إطاحة مبارك، بالتعبئة للدفاع عن مكانته الاستثنائية، وعن المصالح الجوهرية لجمهورية الضباط، فيما قدّم ذلك وكأنه دفاعاً عن القوات المسلحة. فبعد عقود نأى بنفسه فيها عن لعب دور مباشر في السياسة الوطنية والحكومة، أعاد منذ تولّيه السلطة في شباط/فبراير 2011 تعريف علاقته بالدولة المصرية، وبالتالي تأكيد أولوياته المؤسّسية والسياسية على نحو أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. ويسعى المجلس العسكري إلى الحفاظ على امتيازاته السياسية، ومكافآته المادية، ومكانته الاجتماعية التي يعتقد أنها جميعاً استحقاقات لقاء دفاع القوات المسلحة عن مصر، كما يسعى إلى تعزيزها بحصانة قانونية رسمية عن أي من أفعاله، ماضياً أو مستقبلاً، على حدّ سواء.

وبالنسبة إلى المجلس العسكري، هذا يفضي على وجه التحديد إلى تأكيد حقه في السيطرة المطلقة على ميزانية الدفاع، والمساعدات العسكرية الأميركية، واقتصاد المؤسّسة العسكرية الرسمي والمشاريع التابعة له. كما يمارس حرية التصرّف المطلقة في استخدامه الأصول والموارد الناشئة عنها جميعاً. فضلاً عن ذلك، يرغب المجلس العسكري في الحفاظ على النفوذ الفعلي لجمهورية الضباط في جهاز الدولة وفي الجزء المملوك للدولة من الاقتصاد المصري، وعلى الفرص التي يوفّرها هذا للتمدّد إلى القطاع الخاص أو القطاع المختلط على نحو متزايد. أما نجاح المجلس العسكري أو فشله في الحفاظ على الوضع الراهن من خلال إنشاء وصاية عسكرية رسمية، فيتوقّف على كيفية تطوّر العملية السياسية والدستورية في الفترة المقبلة.

تشكّل الوصاية العسكرية
كان فرض شكل من أشكال الوصاية العسكرية أمراً مرجّحاً على الدوام، لكنه لم يكن حتمياً. لقد أصبح المجلس العسكري أكثر قوة وأكثر عرضة في آن، بعد إطاحة مبارك. فالانتفاضة الشعبية قذفته إلى واجهة الصدارة السياسية، لكنها اضطرّته أيضاً إلى البحث عن وسائل يعوّض بها خسارة شبكة العلاقات الشخصية والتفاهمات غير الرسمية التي أمّنت جمهورية الضباط في ظل حكم مبارك.
 ولعلّ هذا يفسر سلسلة المحاولات التي يقوم بها المجلس العسكري لتحويل السلطات التي تولاها في شباط/فبراير 2011 إلى مبادئ "فوق دستورية" من شأنها إضفاء الطابع المؤسّسي الثابت على امتيازاته وحصانته ضمن ترتيبات رسمية، ووضعها بشكل دائم فوق الدولة المصرية.

كان آخر هذه المحاولات الإعلان الدستوري المكمّل الذي أصدره المجلس العسكري في 17 حزيران/يونيو 2012. بهذه الخطوة، أعلن المجلس عن نيته الانتقال إلى الموقع القيادي الأول، منهياً فترة العِرضة وعدم اليقين التي نجمت عن إطاحة مبارك في السنة السابقة. في ظاهر الأمر، فإن السلطات المُطلَقة التي أسبغها المجلس العسكري على نفسه صالحة فقط إلى أن يُصاغ دستور جديد يحدِّد صلاحيات الرئاسة والبرلمان ويسمح بإجراء انتخابات عامة جديدة.
 لكن عملياً، رتّب المجلس العسكري "المجالات المحجوزة" التي يسعى إلى تكريسها كصلاحيات واستثناءات دائمة في الدستور الجديد. وقد وضع المجلس نفسه في منزلة بارزة تمكّنه من فرض الشروط، وخصوصاً عبر تمكين نفسه من طلب إعادة صياغة المواد الدستورية التي يعترض عليها، وجعْل انتخاب برلمان جديد يتوقّف على إقرار الدستور الجديد.

إضافةً إلى ذلك، جاء الإعلان الدستوري المكمّل على الفور في أعقاب القرار الذي اتخذته المحكمة الدستورية العليا – التي يرأسها قاضٍ عسكري سابق عيّنه مبارك في العام 2009 – باعتبار انتخاب ثلث أعضاء البرلمان غير قانوني وقانون الانتخابات الجديد الصادر في تشرين الأول/أكتوبر 2011 غير دستوري. على ذلك، أصدر المجلس العسكري مرسوماً إضافياً أمَرَ بحلّ البرلمان برمّته.
وبذلك ألغى الإعلانان الصادران عن المجلس العكسري كل شيء أُنجِز تقريباً خلال الأشهر الستة عشر السابقة من المرحلة الانتقالية.
وهكذا، فرض فعلياً المجلس العسكري من جانب واحد مرحلة انتقالية ثانية، من دون التشاور مع الأحزاب السياسية ومرشّحي الرئاسة كما فعل في الماضي. وحدها الانتخابات الرئاسية جرت وفقاً للإجراءات والجدول الزمني اللذين حدّدهما المجلس العسكري في 30 كانون الثاني/يناير 2012.

حتى في ذلك الوقت، لم يُغامِر المجلس العسكري بالنتيجة، فتحرّك بسرعة لتعزيز موقفه. وبعد يوم من نشر الإعلان الدستوري المُكمِّل، أعلن المجلس العسكري إعادة تشكيل مجلس الدفاع الوطني، الذي كان قد أحياه قبل أربعة أيام، وأصدر القواعد والإجراءات التي تحكم عضويته.
كان مجلس الدفاع حتى ذلك الحين غير فاعل، فقد أنشئ أصلاً في عهد عبد الناصر ثم أُسِّس رسمياً في دستور العام 1971 كأداة للسلطة الرئاسية، لكن لم يصدر قانون يحدّد نظامه الأساسي، ونادراً ما اجتمع أو مارس أي سلطة واضحة. ويسعى المجلس العسكري الآن إلى تحويل مجلس الدفاع إلى آليّة مؤسّسية يمكنه من خلالها ضمان استقلاله الدائم عن السيطرة المدنية، وفي الوقت نفسه ممارسة الرقابة والتدخّل، وفقاً لتقديره، في مجالات السياسة المدنية.

طبقاً للدستور، يترأّس رئيس الجمهورية مجلس الدفاع الوطني، لكن المجلس العسكري حشد كل الظروف ضدّه بإعلانه أن المجلس سيتكوّن من 16 إلى 17 عضواً، منهم 10 إلى 12 من صفوف المجلس العسكري. وقرّر كذلك أن مجلس الدفاع لاينعقد أو يتّخذ قرارات إلا بحضور أغلبية أعضائه. هكذا، فإن مجلساً عسكرياً مصغّراً سيقود فعلياً الدولة المصرية بشكل دائم.

وتأكيداً على استقلاليته وحرمان مرسي بشكل استباقي من سلطاته أكثر من ذلك، أعلن المجلس العسكري تالياً أنه عيّن جنرالاً مديراً للرئاسة. ثم أكّد المجلس أن رئيسه طنطاوي سيحتفظ بمنصب وزير الدفاع في الحكومة القادمة وبصلاحيات القائد العام للقوات المسلحة المصرية.

بين الوصاية العسكرية و"الدولة الخفيّة"

يتعيّن على مرسي والأحزاب السياسية في مصر التوصّل إلى توافق قوي على الحدّ من السلطات الاستثنائية التي يسعى المجلس العسكري إلى تضمينها في الدستور الجديد، من أجل تجنّب قيام وصاية عسكرية صريحة. كما عليهم تعزيز هذا التوافق من خلال ماتبقّى من العملية الانتقالية وبمستوى من الوحدة الوطنية لم يظهروه حتى الآن. وعليهم الإدراك بأن هواجس ضباط القوات المسلحة حيال رواتبهم وظروفهم المعيشية حقيقية، والبحث عن سبل لكي تعالج الحكومة تلك الاحتياجات الفعلية. غير أن ذلك يعزّز ضرورة تحقيق الرقابة المدنية الفعّالة على تفاصيل ميزانية الدفاع وأي مصادر تمويل أخرى تستفيد منها القوات المسلحة، بما في ذلك المساعدة العسكرية الأميركية والاقتصاد العسكري. فيجب توفير احتياجات القوات المسلحة كأحد واجبات السلطتين التشريعية والتنفيذية، وليس كاستحقاق يمليه المجلس العسكري عبر سلطاته التقديرية.

ولايقلّ أهمية عن ذلك بالنسبة إلى الهيئات المدنية الناشئة أن تقف في وجه ادّعاءات المجلس العسكري بأنه يقوم بدور الوصاية بوصفه "حامي" الدستور، أو أنه يتمتّع بوضع استثنائي يضعه بشكل دائم فوق السلطة والقانون المدنيَّين. ويظهر مرسوم أصدره طنطاوي في 10 أيار/مايو 2011، يمنع مقاضاة ضباط القوات المسلحة المصرية، العاملين والمتقاعدين على حدّ سواء، المتّهمين بـ"الكسب غير المشروع" أمام غير المحاكم العسكرية، أن عدم الخضوع إلى القانون المدني يشكّل هاجساً خاصاً للمجلس العسكري.

لم يتعلّم المجلس العسكري حتى الآن أنه لايمكنه أن يحتفظ بكل شيء وألا يتخلّى عن أي شيء. بيد أنه غير قادر على ترجمة السلطات التي لايزال يملكها أو المستويات العالية من الثقة والقبول التي لايزال ينالها من المواطنين عامةً، إلى تعبئة سياسية فعّالة، ولا إلى إضفاء الشرعية على تدخّله المستمر في المجال المدني. هذا يوفّر لمرسي والطبقة السياسية الجديدة الناشئة إمكانية توسيع الانفتاح الديمقراطي في مصر بحيّز ضيّق ولكن حيوي. لكن يجب أن يتوقّعوا أنهم كلّما تقدّموا، ازدادت مقاومة الشبكات والمعاقل الإدارية المتبقية لجمهورية الضباط. إن حضورها ونفوذها باديان تماماً للعيان حتى الآن، غير أن قيام السلطات المدنية بتقليصها في ظلّ التحوّل الديمقراطي قد يجعلها تتحوّل إلى "دولة خفيّة" مُبطَّنة، تعرقل سياسات الحكومة والإصلاحات وتعيق تقديم الخدمات العامة، مايؤدّي إلى تقويض أداء وشرعية السلطات المدنية المنتخبة ديمقراطياً. ولن تولد الجمهورية الثانية في مصر إلا عندما تُفَكَّك جمهورية الضباط وتُستَخرَج من باطن الدولة المصرية بالكامل.


هوامش

  1. أرقام وزارة الداخلية من وزارة المالية، بحسب:
    International Crisis Group, Lost in Transition: The World According to Egypt’s SCAF, Middle East Report, No. 121, 24 April 2012, p. 10.
    أرقام وزارة الدفاع مأخوذة من إصدارات متعاقبة من الميزان العسكري، المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، لندن.
     
  2. Anouar Abdel-Malek, ”The Crisis in Nasser’s Egypt”, New Left Review, I/45, September-October 1967, p. 73
     
  3. أدين بهذا المصطلح إلى توفيق أكليمندوس، مراسلة إلكترونية، 23 تموز/يوليو 2012.
     
  4. Anouar Abdel-Malek, Egypt: Société Militaire, Editions de Seuil, 1962, p. 330
     
  5. محمد بك لازوغلو (1822-1839)، أول شخص يشغل هذا المنصب، هو الوحيد الذي قاربت مدة شغله المنصب المدة التي أمضاها طنطاوي. بين العام 1839 وبين إطاحة الملكية في العام 1952، شغل 47 شخصاً آخرين المنصب، بعضهم أكثر من مرة، وأُجري 15 تعييناً آخر (بما فيها تعيينات مكرّرة) في السنوات الـ40 للجمهورية الأولى، إلى أن أصبح طنطاوي وزيراً للدفاع. الوزيران اللذان أمضيا مدة خدمة طويلة قبله في الحقبة الجمهورية هما عبد الحكيم عامر (1954-1967) وعبد الحليم أبو غزالة (1981-1989). وفقاً للموقع الرسمي للقوات المسلحة المصرية http://www.mmc.gov.eg
     
  6. الاقتباس من:
    ”A Tunisian Solution for Egypt’s Military: Why Egypt's Military Will Not Be Able to Govern”, Foreign Affairs, 21 February 2011.http://www.foreignaffairs.com/print/67290
     
  7. Anouar Abdel-Malek, ”The Crisis in Nasser’s Egypt”, New Left Review, I/45, September-October 1967, p. 75
     
  8. Anouar Abdel-Malek, ”Nasserism and socialism”, The Socialist Register, Vol. 1, 1964, p. 45
     
  9. بحسب:
    The Business Anti-Corruption Portal, The Austrian Development Agency’s, accessed 19 February 2012. http://www.business-anti-corruption.dk/country-profiles/middle-east-north-africa/egypt/initiatives/public-anti-corruption-initiatives/

     
  10. وفقاً لمسؤول كبير سابق في الهيئة، المقدّم معتصم فتحي، في مقابلة بعنوان "ضابط في الهيئة الإدارية: فاسدون كبار في الحكم"، موقع صحيفة الوفد، 3 آذار/مارس 2011.
    http://www.alwafd.org/index.php?option=com_content&view=article&id=20568&catid=151&Itemid=69
     
  11. ثمة عرض تفصيلي لذلك في مقالة محمد سعد خطّاب تحت عنوان "لماذا لاتحاكموا هتلر طنطاوي وضباط الرقابة الإدارية الفاسدين فوراً؟"، مدوّنة سودانيز أونلاين، 22حزيران/يونيو 2011.
    http://www.sudaneseonline.com/arabic/permalink/5408.html
     
  12. عدد المحافظين من خلفية عسكرية في عهد السادات مأخوذ من:
    Robert Springborg, Mubarak’s Egypt: Fragmentation of the Political Order, Westview Press, 1989, p.5
     
  13. يوجد وصف لذلك في:
    Shana Marshall and Joshua Stacher, ”Egypt's Generals and Transnational Capital”, Middle East Report, No. 262, Vol. 42, Spring 2012
     
  14. عن الرواتب الشهرية، أنظر مقابلة مع ضابط الأمن السابق اللواء محمد مصطفى الكاشف، موقع صحيفة الوفد، 1 نيسان/أبريل 2011.
    www.alwafd.org/حوارات-وملفات/95-حوارات/29638-الكاشف-مكالمة-تيلفون-تحمي-تجار-المخدرات
     
  15. Robert Springborg, "The President and the Field Marshal: Civil-Military Relations in Egypt Today”, MERIP Middle East Report, July-August 1987, p. 8
     
  16. فُرِضَت القيود نفسها على الدخول إلى مراكز التسوق التجارية ("المول") التي تملكها أو تديرها جمعيات الضباط المتقاعدين، إلى أن تبيّن أن زواراً أثرياء من دول الخليج يرتدون الملابس المشابهة.
     
  17. بحسب:
    Zainab Abul-Magd, ”The Egyptian Republic of Retired Generals”, Foreign Policy, 8 May 2012.
    http://mideast.foreignpolicy.com/posts/2012/05/08/the_egyptian_republic_of_retired_generals#.T6mg6L1GjvN.facebook
  18. Anouar Abdel-Malek, ‘The Crisis in Nasser’s Egypt’, New Left Review, I/45, September-October 1967, p. 75.