قانون:ولقد كرمنا بني آدم/وإنما ولدتهم أمهاتهم أحرارا
بقلم د . عبدالله الحامد
والذلة هي فقدان المناعة، الذي يجر على الأمة كل الموبقات، فكل استسلام للحجاج يفضي حتما إلى الاستسلام لقيصر، هذه نهاية تلك البداية، وهذا ليس دليلا على أن الكرامة صنو الحياة، بل على أنها هي روح الحياة.
قانون:ولقد كرمنا بني آدم/وإنما ولدتهم أمهاتهم أحرارا
الحاكم الذي يغتال الكرامة شر من الوحش الذي يغتال الحياة
أ=ما مقتضى: كرمنا بني آدم نصوص الكرامة قطعية كلية:
لقد كرم الله تبارك وتعالى الأناسي وفضلهم على كثير من مخلوقاته فقال "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير من خلقنا تفضيلا " (الإسراء : 70 )،ومن تكريمه الإنسان أن أمر الملائكة بالسجود له، فقال تعالى: "وإذا قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " ( سورة ص:71).
وكل ذلك لأن الباريء الكريم خلق الإنسان لعبادته اختيارا، ولم يجبره على العبادة إجبارا، فقال:"وهديناه النجدين"، ولا يتم للإنسان أن يكون عبدا لله اختيارا، مالم تتوافر حريته عن من سواه فلا يخضع إلا لله ، ولا يطيع إلا الله ، ولا يخاف إلا الله، ولا يرجو إلا الله، فتنازل الإنسان عن حريته وكرامته لمخلوق مثله، إنما هو تنازل عن درجة الآدمية الفطرية، وهبوط في الدرك الحيواني، هذا المعنى أشار إليه عمر بن الخطاب عندما قال: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".
ولا يجوز ترويع الإنسان مسلما كان أو غير مسلم أيضا بأي حال من الأحوال كما في الحديث الشريف "لا يحل لمسلم إن يروع مسلما " ( رواه أبو داود والترمذي) وعن أحمد في رواية عند الطبراني "لا تروعوا المسلم فان روعة المسلم ظلم عظيم".
وقال تعالى : " إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبيناً "، أي ما لم يكن باغيا محاربا، ويستوى فى هذه الحقوق غير المسلمين مع المسلمين، لأنها حقوق تكتسب بالمواطنة والذمة. ولذلك لا تجيز الشريعة الإسلامية لأمير أو رئيس أن يؤذي فرداً أو جماعة، أو أن يضربهم ، كما لا يجوز أن يعتقلهم أو يقتحم بيوتهم، إلا بحكم القضاء العادل، فضلا عن أن يروع أطفالهم ومحارمهم.
حرم الإسلام التجسس وتتبع العورات، فقال تعالى:"يا أيها الذين امنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا"
وأكدت السنة تحريم تجسس الدولة على المجتمع، وقد ذكر ابن خلدون خطورة تجسس الدولة على الشعب، وما يؤدي إليه من المفاسد .
وحرم الإسلام كل قول أو عمل يمس كرامة الإنسان، فحرم الغيبة والنميمة، وحرم الهمز واللمز والتنابز بالألقاب، قال تعالى: "يا أيها الذين امنوا لا يسخر قوم من قوم عسى إن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء عسى إن يكن خيرا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون، يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه؟" (الحجرات: 11-13) وقال تعالى: "ويل لكل همزة لمزة" وقال: "ولا تطع كل حلاف مهين هما مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم ".
ب- حرية التنقل والسفر:
أباح الإسلام للإنسان التنقل داخل الوطن والسفر خارجه، بحرية تامة ، لأن الحركة شأن الحياة والأحياء، ولا حياة دون تنقل، فالإنسان يغدو ويروح، للبحث عن العمل والكسب والمعاش، ولقد أباح الله التنقل للتجارة والاكتساب، وعده من نعمه على عباده فقال تعالى : " هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ، فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور " (الملك:15) ومن وصايا عمر بن عبد العزيز: "افتحوا للمسلمين باب الهجرة"، وقوله " دعوا الناس تتجر بأموالها في البر والبحر، ولا تحولوا بين عباد الله ومعايشهم "،وكان المسلمون وغيرهم ينتقلون داخل بلاد الإسلام، وخارجها للتجارة والسياحة وطلب العلم.
وبناء عليه لا يجوز للحاكم أن يمنع أحدا من التنقل والسفر والحركة؛إلا قضاء لعقوبة أو تحقيقاً لمصلحة راجحة أو دفعاً لمفسدة متوقعة، وأن تقرر ذلك جهة محايدة عن الحكومة، مفوضة شعبيا، هي سلطة القضاء. وأي حكومة تمنع الناس من السفر ، فإنما هي حكومة طغيان، وذلك أمر قطعي دلت عليه الأدلة اللفظية والمعنوية، التي تقرر مقاصد الشريعة، لقد قرر الإسلام ذلك قبل إن يقول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م: "لكل فرد حرية النقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة، ويحق لكل فرد إن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده ، كما يحق له العودة إليه" (المادة :13).
ومن أنواع السفر الهجرة من دار الكفر أو الاضطهاد والاستبداد والإهانة، إلى دار الإيمان أو الحرية والكرامة، وهو حق للمسلم أو واجب عليه-حسب الحال والغاية والمآل-لا يجوز للمسلم أن يمنعه منه خوف فقر أو كبد، قال تعالى " والذين امنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ، والذين آووا ونصروا ، أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم " (الأنفال: 74).
ولذلك فإن القيود التي تضعها الحكومات، لحجر الناس، قيود مهينة، لأن من حق الإنسان أن يتنقل في بلاد الإسلام، ولا سيما الهجرة من بلد الضيق على أرض الله الواسعة، قال تعالى: " يا عبادي الذين امنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون " (العنكبوت:56).
ج=حاكم يغتال الكرامة شر من وحش يغتال الحياة:
ولا تتضح أهمية الكرامة في الشريعة، إلا بتصور علاقتها بالحرية والاختيار، وعلاقة الحرية والاختيار، بقاعدة (التسخير) الذي ورد في النصوص الشرعية: "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً " (الجاثية 13) و " وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ، وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار " (إبراهيم : 32-33) فكل ما حول الإنسان مسخر لنفعه، فقد عده الله من نعمه الظاهرة والباطنة، إذ أخرج من الأرض ماءها ومرعاها ، والجبال أرساها متاعا للبشر ( كما في سورة النازعات )، وشق الأرض، وأنبت فيها الحب، والزيتون والنخل، والحدائق الغلب، متاعاً للبشر ( كما في سورة عبس).
لقد حمى الإسلام كرامة الإنسان من الإهانة والإذلال، فقال تعالى "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " فلا خير في الذليل المهين، لأنه لا يصلح لحمل رسالة الإسلام إلا الأحرار الأعزة الكرام ، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:" لا تضربوا المسلمين فتذلوهم". إن العقيدة الإسلامية توجب على المسلم أن يكون عزيزاً كريماً ، وتوصي الإنسان بالتمرد على كل ذل واستعباد، لأن عبوديته لله ، تشده إلى الله فلا يرى عظيما غير الله، ولا يرى مخوفاً غير الله، ولا يرى مرجواً غير الله:
عش كريما أو مت وأنت عزيز =بين ضرب الطلى وخفق البنود
وأي حكومة تذل الإنسان، وتروضه على الخضوع والركوع والطاعة العمياء، فقد حرمته شيئاً أغلي من المال والشراب والغذاء والدواء، إنه الكرامة والعزة " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين [من الحكام وفقهائهم الخانعين] لا يفقهون"(انظر: عبد الكريم زيدان: الفرد في الشريعة الإسلامية).
الناس في الشريعة أحرار مكرمون، وكرامتهم ثابتة بأصل الخلقة الإنسانية، مؤمنهم وكافرهم،فالله هو الذي وهبهم الكرامة، وما وهبه الله لا يجوز للدولة انتقاصه، فضلا عن إلغائه، لأن الدولة إنما وظيفتها حفظ الحقوق، لا العدوان عليها، وهذا المبدأ مهم جدا، لكي لا يقول الفقهاء الخانعون لغبش الاستبداد: ينبغي الصبر على الحاكم الظالم، وينبغي التضحية بالعدل من أجل الأمن، ولكي لا يزيدوا الطين بلة فيقولوا: إن طاعة الحاكم الجائر من أصول العقيدة!، (للمزيد انظر رد الكاتب ترهاتهم في كتيب السلفية الوسطى: سلفية العدل عديل الصلاة، لاسلفيات الاستسلام للطغاة، ما أقاموا الصلاة/دار الناقد الثقافي دمشق 1430هـ).
أي عقيدة هذه وأي سلف صالح يتحدثون عنه، وكل أمن يقوم على انتهاك الكرامة، فإنما أمن فرعوني ، وهو ظلم مبين، وهو من صفات الطاغوت، كما قرر القرآن الكريم، في قصة موسى وفرعون، في مطلع سورة القصص"إن فرعون علا في الأرض ".
ولكي يتبين أن الكرامة صنو الحياة، ينبغي أن نتذكر أن الإسلام فرض جهاد الطغاة من الحكام جهادا سلميا، كما شرع جهاد المعتدين على الدولة جهادا حربيا بالسيوف، كلاهما فرض عين،ولمزيد من مقاربة ذلك انظر للكاتب(كيف تكون الكلمة أقوى من الرصاصة[جهاد الاستبداد السلمي] الدار العربية للعلوم بيروت).
بيد أن الطغاة شر من الغزاة لأن الغزاة لا يقتلون كل الناس، بل يقتلون المحاربين، ولكن الطغاة يسلبون الأمة العزة والكرامة، فيجعلون أهلها أذلة، كما قالت بلقيس"وجعلوا أعزة أهلها أذلة"، والذلة هي فقدان المناعة، الذي يجر على الأمة كل الموبقات، فكل استسلام للحجاج يفضي حتما إلى الاستسلام لقيصر، هذه نهاية تلك البداية، وهذا ليس دليلا على أن الكرامة صنو الحياة، بل على أنها هي روح الحياة.
د= قانون:إنما ولدتهم أمهاتهم أحرارا:
فالمساواة من القيم الإسلامية العظيمة، وهي من صوالح الأخلاق الإنسانية، التي اهتدت اليها الطبائع والخبرات فى الأمم، وأكدتها الشرائع والنبوات منذ القدم.
إن الناس سواسية أمام القانون، (بشرط أن يكون القانون عادلا لا فرعونيا) وهي قاعدة قانونية استقرت في التشريعات العالمية منذ الثورة الفرنسية، التي رست على ضوء منها مبادئ حقوق الإنسان العالمية، التي استرشد الناس فيها ، بما وهبهم الله من فطرة الطبائع ، وما بقي لديهم من ومضات الشرائع، وكلا المصدرين إنما هو من هبة خالق السماء والأرض، لا محاباة لفرد على آخر، ولا تميز لأحد على أحد، بلون أو جنس أو قبيلة أو منصب، أو مال أو قرابة أو مذهب. وقد طبق هذا القانون المسلمون الأولون في عهد النبوة والخلافة الراشدة.
ومن نماذج ذلك قصة عمر بن الخطاب مع عمرو بن العاص، فقد لطم أحد أبناء عمرو بن العاص قبطياً مصريا، لأن القبطي سبقه في المضمار، صارخا في وجهه: كيف تسبق ابن الأكرمين ؟ فرحل القبطي من مصر إلى المدينة، مشتكيا عمرا إلى عمر ، فأمر الخليفة عمرو بن العاص وابنه بالحضور، فلما حضرا
قال الخليفة للقبطي: أهذا الذي ضربك ؟
فقال القبطي:نعم .
فقال الخليفة للقبطي: اضربه ، فأخذ القبطي يضربه حتى اشتفى.
فقال الخليفة للقبطي :زد ابن الأكرمين، ثم التفت الخليفة للقبطي مخاطبا عمرا: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
كأن عمر يخشى على المسلمين-ماحدث بعد ذلك- أن يتأثروا بأنماط قمع فراعنة مصر وأكاسرة المدائن، وقياصرة الروم.