الأحد، 9 أغسطس 2015

الأصولية بين الغرب والإسلام

الأصولية بين الغرب والإسلام


إحسان الفقيه


ابن باديس يُدرك اختلاف مدلول اللفظين (اليسار واليمين) بين الغرب والإسلام، وهو هنا يستخدم هذه الألفاظ المشتركة بمعناها الإسلامي، فاليسار من اليُسر، وأهل اليمين هم من أصناف الفائزين يوم القيامة.
*إن أزمة ترويج المصطلحات الغربية دون النظر في مدلولاتها من الآفات التي تلبس على الجماهير في قضايا الفكر الإسلامي، والكلمة كما يقول الأديب والشاعر الفرنسي فيكتور هوجو: "عبارة عن كائن حي".
وكما أن البعض قد روّج للعلمانية باعتبارها تشير إلى العلم والتقدم والتحضر، وروّج للاشتراكية باعتبارها مرادفاً للعدالة الاجتماعية، وروج لـ الليبرالية باعتبارها مرادفاً للحرية، فإن هناك من يقتبس من الغرب مصطلح "الأصولية" ويقوم بتركيبه ودمجه مع محاولة إحياء التراث الإسلامي، تحت اسم "الأصولية الإسلامية".
*مصطلح الأصولية الذي يعني العودة إلى الأصل أو المنبع، هو في أساسه مصطلح غربي (الأصولية المسيحية) انسحب على محاولات التجديد وإحياء التراث الإسلامي وبعث الفكرة الإسلامية بنسختها الأولى (الأصولية الإسلامية)، وهما وإن اشتركا في اللفظ، إلا أن بينهما كما بين السماء والأرض من حيث المضمون.
*الأصولية المسيحية هي مذهب فكري بروتستانتي ظهر في أمريكا بنهاية القرن التاسع عشر، ويعتمد التفسير الحرفي للكتاب المقدس، حيث عارض هذا المذهب أية محاولات للتأويل الأدبي أو التاريخي لنصوص الكتاب المقدس، وناهض أتباعه كل محاولات التوفيق بينه وبين العلم الحديث.
أصحاب هذا المذهب أخذوا موقفا مُعاديا من الاجتهاد والابتكارات العلمية وإعمال العقل، وتجسّد مذهبهم في شكل منظمات مع بداية القرن العشرين، مثل "الاتحاد الوطني للأصوليين" و"جمعية الكتاب المقدس"، و"المؤسسة العالمية للأصوليين المسيحيين".
فالأصولية المسيحية إذن كما نقل الدكتور صالح الحساب في كتابه "الإسلام الذي يريده الغرب" عن روجيه جارودي وغيره: "هي جمود في مواجهة التطوّر، وتراث في مواجهة الحداثة، وتحجّر مذهبي في مواجهة الحياد".
وأبرز عقائد الأصولية المسيحية في أمريكا:
القول بألوهية المسيح...
عقيدة الفداء، وهي أن المسيح افتدى البشر من خلال الصلب المزعوم، تكفيرا عن خطاياهم..
الإيمان بالعصر الألفي السعيد، حيث يؤمنون بأن المسيح سيرجع ويحكم العالم...
وأما في التراث الإسلامي، فلم يكن فيه موضوع لهذا المصلطح في أي فترة من تاريخ الإسلام، إلا في أمرين:
الأول: مصطلح أصول الدين، ويطلق غالبا على علم التوحيد وأصول الاعتقاد.
والثاني: مصطلح أصول الفقه، وهو كما يعرفه أهل العلم بأنه "علم يتعرف منه على كيفية استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية".
*فالملاحظ أن هناك فرقين جوهريين بين الأصولية المسيحية والأصولية الإسلامية يجعل من الظلم إقحام هذا المصطلح في الخطاب العام للعالم الإسلامي.
الفرق الأول أن الكتاب المقدس لدى المسيحيين لا تصح نسبته للخالق، حيث عبثت فيه أيادي البشر، في مقابل القرآن الكريم قد عصمه الله من التحريف.
والفرق الثاني، أن الأصولية المسيحية حالة جامدة مغلقة أمام أي أفكار تجديدية، في مقابل الفكر الإسلام الذي يبعث الله في كل زمن وعهد من يجدده ويعيده إلى منابعه الأولى، ويستغل قواعده العامة في التعاطي مع الواقع والمُستجّدات، وذلك لأن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان.
*ويطلق الغرب مصطلح الأصوليين أو الإسلام الراديكالي على الإسلاميين الذين يقومون بمحاولات تجديدية لإحياء التراث الإسلامي والعودة إلى الأصل الأول.
يقول الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون في كتابه (الفرصة السانحة) عن الأصوليين المسلمين: "مُصممون على استرجاع الحضارة الإِسلامية السابقة عن طريق بعث الماضي ... والذين يهدفون إلى تطبيق الشريعة الإِسلامية، وينادُون بأن الإِسلام دين ودولة، وعلى الرغم من أنهم ينظرون إلى الماضي فإنهم يتخذون منه هدايةً للمستقبل، فهم ليسوا محافظين، ولكنهم ثوارٌ!".
*فأين ما قال نيكسون عن الأصولية المسيحية التي تتشبث بنصوص اعترتها كلمة البشر، وحبست الناس في فلكها وعادت كل فكرة تجديدية، وقتلت الابتكار والإبداع، من المسلمين الذين يسعون للعودة إلى الأصل والمنبع، ليستمدوا منه ما يشقون به طريق الحضارة والنهضة؟
استيراد هذا المصطلح الغربي وإقحامه في الفكر الإسلامي خطأ فادح، حيث يساوي بين النص الإسلامي المعصوم وبين الكتاب المقدس لدى المسيحيين والذي هو مقطوع بتحريفه.
تقول د. زينب عبد العزيز في كتابها: "هدم الإسلام بالمصطلحات المستوردة:(استخدام عبارة الأصولية في مجال الإسلام لا تستقيم، ومرفوضة، إذ أنها تفترض وجود مثل هذا التحريف الذي رأيناه في الأناجيل، وبالتالي فهي تفترض تصلب رأي رجال الدين، وإصرارهم على الحفاظ والدفاع عن نص عبثت به الأيادي على مر التاريخ، وهو أمر مستبعد وغير وارد، لأن علماء الإسلام يتمسكون ويدافعون عن نص منزل كريم).
كما أن هذا المصطلح يتهم الشريعة الإسلامية (ظلما) بالجمود والركود كحال الأصولية المسيحية، بينما هي في الأصل فتحت باب الاجتهاد فيما يُسوّغ فيه الاجتهاد، وأعطت مساحة واسعة للتجديد وتنزيل النصوص على المستجدات وفق قواعدها وضوابطها.
*يقول د. محمد عمارة: (أما مصطلح الأصولية بمعناه الغربي فهو غريب عن الواقع الإسلامي، مُقحم عليه بقوة القصف الإعلامي، لأنه يعني في الغرب: أهل الجمود، بينما هو في التراث الإسلامي عنوان على: أهل التجديد والاجتهاد والاستدلال والاستنباط).
لذا ينبغي للعقلاء أن يتريثوا في الترويج لأي مصطلح وافد على البيئة الإسلامية، قبل النظر والتعمّق في مدلوله، فالإسلام يواجه حملة شرسة لتغريب وعلمنة المُسلمين، والزجّ بهم لجحر الضبّ الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر أو ذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق