الأربعاء، 12 أغسطس 2015

كاد المتصهين أن يقول خذوني!


كاد المتصهين أن يقول خذوني!


أحمد بن راشد بن سعيّد

في أعقاب هجمات 11/9 على الولايات المتحدة، تصاعدت من منابر إعلامية محسوبة على السعودية أصوات نشاز تهاجم الثقافة الإسلامية التي أفرزت، بحسب هذه الأصوات، ظاهرة التطرف. تدرّجت هذه الأصوات في سياق توترها الأهوج إلى مغازلة الكيان الصهيوني معيدة إنتاج خطابه ومردّدة صداه. 

ومع تكرار الحروب العدوانية الإسرائيلية على غزة، تعالت نبرة هذا الخطاب المتصهين الذي أسرف في لوم الضحايا الفلسطينيين وتماهى مع تبريرات العدوان (ألعاب حماس النارية، صواريخ التنك، الصواريخ الكرتونية/ العبثية/العدمية، ثم حق إسرائيل في الدفاع عن النفس).
 لم يشعر الزاعقون على هذه المنابر، وهم قلة لكنها متنفذة، بالعار؛ لأنهم يحظون بدعم خارج الحدود فيما يبدو، ويصدرون عن حماسة «دولية» لما يُسمى «ثقافة السلام»، ورواية «الحرب على الإرهاب» التي طالت لتضم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) 
(انظر مقالي في هذه الصحيفة: «ما وراء النفاق: الخطاب المتصهين والعدوان على غزة، 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2012).
وما هي إلا برهة من الزمن حتى نادى سعوديون كالعسكري المتقاعد عبد اللطيف الملحم بضرورة إنهاء حال العداء مع إسرائيل زاعماً أنها كيان صديق أثبت نجاح أنموذجه، بينما تغرق دول عربية كثيرة في حروب عبثية لا نهاية لها.
ظاهرة التصهين ليست بلا جذور، ولم تحدث صدفة. إنها ثمرة لجهود محمومة منظمة وتحظى بالرعاية. المثقف والأديب السعودي، عبد الله الناصر، تناول هذه الظاهرة في مقال لافت له في جريدة الرياض (7 آب/أغسطس 2015) بعنوان: «من يصدّر الإرهاب؟».

كتب الناصر: «...أجزم أن بين ظهرانينا صهاينة قد زُرعوا ودُرّبوا، وصُنعوا بمهارة كعملاء، وتم اختيارهم بعناية فائقة بعد أن دُرست نفسياتهم، وأفكارهم، وميولهم، وأهواؤهم، و انحرافاتهم، وتاريخهم الأخلاقي، فرُكّز عليهم تركيزاً واعياً، ثم تم استغلالهم فوُضعوا في أماكن مناسبة، ليتدرجوا إلى...مواقع حساسة في إعلامنا العربي كجنود أوفياء، وأكفياء لخدمة المشروع الصهيوني في المنطقة، وللدفاع عنه بحماسة...» 
مضيفاً أنه سبق له التحذير من خطورة هؤلاء على الدولة السعودية وعلى المنطقة برمّتها بوصفهم أهل غدر وخسة متسائلاً: «إلى متى، ولمصلحة من تركُهم يطعنون في صميم كياننا...ويُفرغون سمومهم وأحقادهم (ضد) بلادنا؟» 
مطالباً بالكشف عن أسماء هؤلاء وتعرية أدوارهم، فلم يعد من المقبول «التغاضي عن ممارساتهم الخسيسة» بحسب تعبيره.
وينتقل الناصر إلى نقطة أخرى مرتبطة بظاهرة التصهين، أو ثمرة طبيعية لها، وهي اتهام الثقافة المحلية بإنتاج «الإرهاب» وتنظيم داعش تحديداً. يقول إن ثمة أصواتاً «مغرضة وحاقدة» تصمُ الشعب السعودي بأنه داعشي، وتتهم ثقافته وطريقة حياته ومناهجه التعليمية بإنتاج هذا التنظيم، مجادلاً بأنه ليس من المنطق الزعم «أن الداعشيين - الذين ظهروا في العراق والباكستان والشام وجاؤوا من أصقاع الأرض من الجزائر وتونس وليبيا وفرنسا وبريطانيا وكثير من الدول العلمانية - قد تلقوا تعليمهم على أيدي أساتذتنا ومن خلال مناهجنا».
كان الناصر بهذه المرافعة يرد على عدد من كتّاب الأعمدة و»المثقفين» السعوديين الذين ألهبوا ظهر وطنهم جلداً في الآونة الأخيرة متهمّين ثقافته بتفريخ «الإرهاب». قينان الغامدي، إبراهيم المديميغ، محمد المحمود، ويوسف وفارس أبا الخيل هم فقط أبرز الأسماء.

 في مطلع هذا العام (2 شباط/فبراير 2015) غرّد قينان الغامدي في تويتر: «داعش معششة في كل بيت، وفي معظم العقول...والدولة وصاحب القرار لم يعطوا الأمر ما يستحقه من اهتمام، ومعظم أفراد الهيئة (يقصد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)...فكرهم داعشي».
 المديميغ زعم في تغريدتين له أن داعش «ليست مجرد عصابة»، بل جماعة «تتغذى من ثقافتنا، وتنمو وتنتشر بين ظهرانينا»، وأن الذين يحرضون على القتل قوم من بني جلدتنا (26 حزيران/يونيو 2015).
 يوسف أبا الخيل غرّد بما يلي: «داعش ربيبتنا، نحن صنعناها على أعيننا...الأساس الفكري لها نحن من أنتجه» (17تموز/يوليو 2015).
فارس أبا الخيل غرّد بكلام مشابه: «...داعش هي نبتتكم الشيطانية وكتبكم الصفراء، هي تخلفكم وجهلكم...هي بضاعتكم رُدّت إليكم».
محمد المحمود زعم في تدوينة له في تويتر أن داعش لا يعمل «إلا وفق فتاوى سلفية» (20 حزيران/يونيو 2015)، وأن «أحد رموز التكفير المؤيد التكفيريين القاعديين هو من يصوغ مناهجنا الدينية» (12 كانون الأول/ديسمبر 2013). يا لها من تهمة! يرد الناصر على هؤلاء بالقول إن «الذين يتهمون مناهجنا ومدارسنا...تخرجوا في تلك المدارس، وتعلموا من تلك المناهج»، وإن «جميع مثقفينا وشعرائنا وأدبائنا وعلمائنا وأطبائنا ودعاتنا وأساتذة جامعاتنا وجنودنا الذين يحاربون الإرهاب تخرجوا في تلك المدارس.. فكيف يجرؤ عاقل أو مثقف على...هذا التجني الوقح ...الذي تتبناه الصهيونية...؟».
مقال الناصر حظي بشعبية كبيرة لأنه استجاب لنبض الجمهور وعزف على أوتاره، بينما تلقاه أعداء الثقافة المحلية بغضب يشبه الهستيريا.

مرة أخرى، سجل هؤلاء انطباعاتهم في تويتر. المديميغ قال إن مفردات المقال أصابته بالرعب: «أرهبتني مفرداته وحدته، فقد ذهب بعيداً، وكدت أرى نفسي متصهيناً متأمركاً» (7 آب/أغسطس 2015) مضيفاً أنه يربأ بالكاتب عن «الفكر الداعشي المنحط المنتشر للأسف في مجتمعنا» (8 آب/أغسطس 2015).
محمد القنيبط (أستاذ جامعي) وصف المقال بأنه «متشنج جداً»، و «مليء بمفردات الصحوة والجهاد الأفغاني (7 آب/أغسطس 2015) زاعماً أنه تورط في «التعميم والجزم باتهام الآخرين» (9 آب/أغسطس 2015).
قينان الغامدي سخر من الناصر بمقارنة تشي بسذاجته قائلاً إنه كتب المقال فيما يبدو «أواخر خمسينيات القرن الماضي أيام المد القومي...قبل حادث المنشية...» في القاهرة، لكن «الطريف أن نشره تأخر إلى اليوم» (7 آب/أغسطس 2015). محمد المحمود، كاتب في جريدة الرياض يمتاز بالتطرف وبقدر مدهش من الغباء، نال في تغريدات له من الناصر، فاتهمه دون أن يسمّيَه بأنه «مهرّج جاهل» ليس له «أدنى علاقة بالفكر»، يكيل اتهامات بالتصهين لمثقفين وكتّاب مارسوا نقد الذات من خلال نقد التدين المتطرف(9 آب/أغسطس2015 ).
كان متوقعاً أن ينتفض هذا التيار الذي مرد على وصم ثقافتنا المحلية بكل نقيصة، وتحميلها كل أوزار الكون. وقد رأى السعوديون بأعينهم كيف ينتهز أصحاب هذا التيار كل حادثة عنف، ولو في المكسيك، ليبحثوا عن اسم سعودي أو مسلم وراءها. لم ينس السعوديون والعرب كيف بادرت قناة العربية (الممثلة التلفزيونية للخطاب المتصهين) إلى اتهام مبتعث سعودي بالتفجير المزدوج في بوسطن بالولايات المتحدة منتصف نيسان (أبريل) 2013، كما لم ينسوا مسارعة جريدة الشرق الأوسط (المنبر الورقي لهذا الخطاب) إلى اتهام مسلمين بالتفجير الدموي في أوسلو بالنرويج في 22 تموز (يوليو) 2011، وقد حذفت الجريدة التقرير/العار من موقعها من دون أدنى كلمة اعتذار.
كلمات الناصر قالت الكثير، لكن ثمة أشياء أكثر لم تقلها. التماهي مع الصهيونية لدى شريحة من «المثقفين» السعوديين لم يعد خافياً على أحد.

نظرة سريعة فقط إلى أعمدة الرأي في الصحافة الورقية في أي وقت يشهد عدواناً إسرائيلياً على غزة تؤكد حجم التصهين. لم أجد تفسيراً منطقياً للغضب من مقال الناصر سوى إحساس بعض الغاضبين من أن أصابع الاتهام موجهة إليهم. لكن قد يكون ما ورد في المقال مجرد قمة جبل الجليد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق