الفضيل الورتلاني.. جيفارا الإسلام السياسي
د. محمد الجوادي
مفكر سياسي
الفضيل الورتلاني في رأيي هو ثالث أبرز أعلام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي قادت الحركة الإسلامية في الجزائر منذ تأسيسها سنة 1931، كان من أقرب الشخصيات لمؤسسيها العلمين العظيمين الإمام عبد الحميد بن باديس والإمام محمد البشير الإبراهيمي رحمهما الله، وقد امتد نشاطه الفاعل والمؤثر في خمس دول وهو ما لم يتح لغيره فقد أثر بفكره وحركته ونشاطه المبشر وقيادته وتوجيهه في الجزائر وفرنسا ومصر واليمن ولبنان بما لم يتح بالقدر ذاته لغيره من قادة العمل الميداني.
وإذا كان العالم يطنطن بجهاد جيفارا الذي تعدى الحدود فإن الورتلاني يسبقه أثرا وتأثيرا وفضلا. فقد ساهم مساهمة فعالة في التمكين لمبادئ العلماء جمعية في الجزائر ثم في فرنسا وفي صفوف العمال الجزائريين هناك. ثم كان مسئولا في القاهرة عن مأسسة العمل التحرري في شمال إفريقيا كله وفي صياغة التآخي بين فكر الإخوان المسلمين وجمعية العلماء المسلمين الجزائرية، ثم تولى توجيه الحركة الإسلامية والوطنية في اليمن.
ولد إبراهيم بن مصطفى الجزائري المعروف بـ الفضيل الورتلاني في 2 يونيو 1900 في بلدة بني ورثيلان بولاية سطيف شرقي الجزائر، وإليها انتسب، وجاءت شهرته بالورتلاني، ونشأ في أسرة من أهل العلم، ويذكر أنه حفيد الشيخ الحسين الورتلاني صاحب الرحلة المشهورة.
في القاهرة وجد الفضيل الورتلاني المناخ المناسب للنشاط الإسلامي والتحرري المثمر، واستقر الفضيل الورتلاني في مصر حيث قضى فيها ألمع وأخصب سنوات حياته |
درس الفضيل الورتلاني علوم اللغة العربية على علماء بلدته، ثم انتقل إلى مدينة قسنطينة سنة 1928 حيث استكمل دراسته على يد العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس، فتلقى عنه التفسير والحديث والتاريخ الإسلامي والأدب العربي، وتأثر به المصلح الكبير وبطريقته في الإصلاح، وأصبح منذ سنة 1932 مساعداً له في التدريس، ومتجوّلاً لصالح مجلة الشهاب ومجلة البصائر ومرافقاً لابن باديس في بعض رحلاته.
ولما كان الشيخ عبد الحميد بن باديس منتبها إلى الضرورة القصوى للرعاية الروحية للمغتربين الجزائريين في فرنسا، فقد اختار تلميذه النابه الفضيل الورتلاني للقيام بهذه المهمة الشاقة التي تتطلب، إيمانًا بالقضية وإخلاصًا لها، ورغبة في الإصلاح والتغيير، وقد بدأ الفضيل الورتلاني مهمته الجليلة هذه في 1936 مبعوثًا عن الجمعية، وأقام في باريس، وبدأ نشاطه المكثف بهمة عالية، واتصل بالعمال والطلبة الجزائريين بفرنسا، وتولى تأسيس مراكز وفصولا لتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي، واستطاع خلال عامين أن يفتتح كثيرًا من المجتمعات الثقافية في باريس وضواحيها وبعض المدن الفرنسية الأخرى.
ومكنته فرصة وجوده في باريس فاتصل بالدارسين العرب في الجامعات الفرنسية، وتوثقت بينهم المودة والصلة، وكان من هؤلاء العلامة الكبير الدكتور محمد عبد الله دراز والشيخ عبد الرحمن تاج، والعلامة السوري محمد المبارك، والشاعر عمر بهاء الدين الأميري.
وقد أقلق هذا النشاط السلطات الفرنسية فضيقت على الفضيل الورتلاني حركته، وجاءته رسائل تهدده صراحة بالقتل، بعدما قررت منظمة "اليد الحمراء" الإرهابية اغتياله، فما كان منه إلا أن غادر فرنسا إلى إيطاليا بمساعدة الأمير شكيب أرسلان الذي وفّر له جواز سفر فانتقل إلى إيطاليا ومنها إلى القاهرة 1940 - 1939م القاهرة حيث آثر الانتساب إلى الأزهر فحصل على شهادته العالمية.
وفي القاهرة وجد الفضيل الورتلاني المناخ المناسب للنشاط الإسلامي والتحرري المثمر، واستقر الفضيل الورتلاني في مصر حيث قضى فيها ألمع وأخصب سنوات حياته، وسرعان ما أصبح من أقرب المقربين للإمام الشهيد حسن البنا الذي بلغ تقديره له أنه كان ينيبه في القاء درس الثلاثاء بالمركز العام لجماعة الإخوان نظرًا لملكاته الخطابية وقدرته على الإقناع بل كلفه بالإشراف على تأسيس بعض شعب الجماعة في مصر.
وفي القاهرة الليبرالية الحافلة بالحياة والفكر والحرية أسس الفضيل الورتلاني اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر سنة 1942 وجمعية الجالية الجزائرية سنة 1942 وجبهة الدفاع عن شمال إفريقيا 1944 وكان هو أمينها العام وكانت تضم في عضويتها الشيخ محمد الخضر حسين وحفيد الأمير عبد القادر الجزائري والأمير عبد الكريم الخطابي المغربي. ثم أسس مكتبا لجمعية العلماء المسلمين في القاهرة (1948) واستقبل فيه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي سنة 1952.
ثم جاءت النقلة الفاصلة حين امتد نشاط الفضيل الورتلاني بتكليف من الإمام حسن البنا إلى مساندة الأحرار في اليمن، التي كانت تموج بحركة طموحة في الإصلاح والتغيير، وكان الإمام حسن البنا على علم بما يجري في اليمن، ومِن تطلُّع إلى الخروج بالبلاد من عزلتها وفقرها وجهلها، وقد وصل اليمن 1947 وعمل على توحيد صفوف المعارضة والتأليف الموضوعي بينها، وقاد الثورة بخطبه الحماسية.
وفي فبراير 1948 حدث ما هو معروف من نجاح المعارضة اليمنية في الوصول إلى الحكم بعد إزاحة الإمام يحيى، لكن الإمام أحمد يحيى حميد الدين عارض هذه الحكومة الدستورية في صنعاء واتهمها باغتيال والده وإهانة أخواته وقاد ثورة مضادة وجمع القبائل الموالية له وحارب النظام الجديد وأسقط النظام الدستوري في 13 مارس 1948 وتولى الإمام أحمد عرش اليمن، وحُكم عليه بالإعدام وأصبح مطلوباً حيث قضى أربع سنوات متستراً قضاها في التجوال في الدول الأوروبية والتقى بالشيخ الإبراهيمي ونائبه الشيخ محمد العربي التبسي في سويسرا، ورفضت الدول العربية استقباله إلى أن وافق لبنان بفضل رياض الصلح رئيس وزراء لبنان على استقرار الفضيل الورتلاني في بيروت.
وبعد قيام ثورة 1952 عاد الورتلاني إلى مصر بعد غياب عدة سنوات، واستقبله العلماء والسياسيون استقبالاً حسنًا؛ نظرًا لماضيه المشرِّف في الجهاد، وعاد إلى نشاطه وجهاده، ولعب أهم الأدوار في بزوغ الثورة الجزائرية التي اشتعلت على أرض بلاده 1954. حتى انطلقت الثورة الجزائرية في 1نوفمبر1954.
غداة اندلاع الثورة الجزائرية نشر الورتلاني مقالاً في 3 نوفمبر1954 بعنوان "إلى الثائرين من أبناء الجزائر: اليوم حياة أو موت" وفي 15نوفمبر1954 أصدر مع الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بياناً بعنوان: "نعيذكم بالله أن تتراجعوا" وفي 17فبراير1955 شارك في تأسيس "جبهة تحرير الجزائر" التي كانت تضم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي وممثلي جبهة التحرير: أحمد بن بلة، حسين آيت أحمد، محمد خيضر، وبعض ممثلي الأحزاب الجزائرية: الشاذلي مكي وحسين لحول، عبد الرحمن كيوان، أحمد بيوض.
ولم تَطُل مدة إقامة "الفضيل الورتلاني" بالقاهرة، بعد انقلاب 1954 فقد غادرها إلى بيروت 1955 بعد استئثار عبد الناصر بالسلطة واعتقالاته للإخوان المسلمين وإعدام ستة من قاداتهم. وكان من حسن حظ الفضيل الورتلاني أنه تمكن من مغادرة القاهرة سنة 1955م متوجهاً ثانية إلى بيروت بعد أن تأكد من تآمر المخابرات المصرية عليه وعلى أستاذه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي. لقي ربه في إحدى مستشفيات مدينة أنقرة في 12 من مارس 1987م وبعد سنوات من الجحود، نقلت رفاته من تركيا ليعاد دفنها في مسقط رأسه ودفن في مسقط رأسه بالجزائر.