أجمل ٥ سير ذاتية مبكرة.. جبرا وبئره الأولى
“وجئت إلى الحياة غير راغب فيها، وغير مرغوب فيّ“! “وبدأت أحبو، فخرجت إلى فناء الدار أكتشف ما فيه دون أن أعبأ بالظلام الذي يخيم عليه في النهار… وكانت الفرحة تملؤني كلما فتح باب البيت الخارجي ورأيت الشمس تغطي الحارة…”، “كنت أحبو حول النور كلما فتح الباب الخشبي الأخضر، ولكن كانت محاولاتي تتحطم كل مرة؛ فما أكاد أصل إلى العتبة حتى تخطفني يدا أمي…”.
بهذه العبارات اللذيذة، وبالكثير من مثيلاتها، يرسم لنا “عبدالحميد جودة السحار” لوحات جميلة من طفولته.. ونستمتع كثيراً حين نطالع طفولات الأدباء التي يسطرونها ببيانهم الساحر ولغتهم العالية.
لكي يكتب الأديب كتابًا عن طفولته، ينبغي أن يكون مغامرًا كبيرًا، ولكي نصدّق كل ما نقرأ من ذكريات الطفولة ينبغي أن نكون متطرفين في السذاجة!
ذلك بأن تلك السّيرة الجميلة اللذيذة معلولةٌ من عدة أوجه كما يعبر علماء مصطلح الحديث؛ فهي أولاً تنقل طفولة كاتبها كما يتذكرها، وليس كما هي عليه، والفارق هائل بين الواقع وبين ما نتذكره حين يبعد عهدنا به؛ ذلك بأن الذاكرة ليست دفترًا مكتوبًا بقلم الحبر، بل بقلم الرصاص، وهي كتابةٌ تعاد وتكرر مرات ومرات، كي يحافظ الدماغ على تصور متسق للحياة بغض النظر عن الأحداث الواقعية؛ الذاكرة -مع كل أسف- ليست محايدة، ولا هي وسيط موثوق!
في الكتابة عن الطفولة شجن مضاعف.. شجن الحديث عن زمان لن يعود، يبدو شديد الجمال لمجرد أنه صار في ذمة التاريخ. وهو أيضًا شجن الحديث عن مكان لن يعود أبداً كما كان، قد لا يتبدل بنيانه، لكن الناس يتبدلون، وكذلك الظروف والحكايا.
وهي، ثانيًا، انتقائية مزدوجة، تنقل لنا ما يريد الكاتب إيصاله من طفولته، لا طفولته كلها، على تفاوتٍ كبير في مستوى الشفافية بين أرباب الأقلام بطبيعة الحال. وقد يكون من السهل على المرء أن يكتب كل ما يتذكره عن طفولته، مهما تكن “الفظائع” التي اجترحها؛ إذ الطفولة شافعٌ لا يُردّ، ولكن يصعب على الكاتب أن يجعل من سيرة طفولته حفلةً فضائحيةً ضحاياها أبواه أحدهما أو كلاهما، وإخوته وأخواته، وعائلته القريبة أو البعيدة. وليس شرطًا أن يكون المحجوبُ قبيحًا، بل يكفي أن يراه الكاتب غير لائق بأن يُذاع لأي مبرر.
وقلّ أن يكتُب أحدٌ سيرته الذاتية دون أن يعرّج على طفولته في صفحات الكتاب الأولى، وثمة من يطيل، ومن يوجز، ولكن ثمة من الكتّاب من أفردوا ذكريات طفولتهم بالتأليف، واليوم أود أن أحدثك عن بضعة كتب من هذا اللون، حديث من قرأها فخرج من كل واحد منها بانطباع مختلف.
أوائل زيارات الدهشة
ولد الشاعر محمد عفيفي مطر في الريف المصري، وعاش طفولته كلها وصدر شبابه في القرية، حيث البساطة، والفقر، والخرافات المستحكمة في أذهان الأميين والأميات من الناس، وحيث اللعب بالطين والبوص ونوى البلح وأغطية الزجاجات، وملاقاة الذئب ذات ليلة عند “الغيط”، والكوليرا، والموت! الموت الذي واجهه محمد عفيفي مطر في طفولته: موت إخوته الذين ولدوا قبله، وإخوته الذين ولدوا بعده، وموت المرأة التي كانت “أمه” بالتبني أو البيع -لا أدري!- وموت أحد أحبّ أساتذته بالمدرسة إلى قلبه.. وهكذا.
في سيرته الطفولية “أوائل زيارات الدهشة.. هوامش التكوين” ينقلنا محمد عفيفي مطر إلى طفولته في القرية، وعبر حكايات قصيرة، قد لا تطول الواحدة منها أكثر من صفحتين، يُطلعنا ببراعة آسرة على وجوه مختلفة من حياته: خيالات الطفولة: إذ كان يظن أن القرآن امرأة، لأنه وعى -أكثر ما وعى في طفولته المبكرة- أمه وهي تترنم بآي القرآن الكريم.
ويحدثنا عن شعوره بالعار كلما نظر إلى واحد من أفراد العائلة لأنه توهم ظلاً ما في المزرعةِ قردًا على وشك أن يهاجمه، وحين يصبح طالبًا في المدرسة يصور لنا بقلمه الشاعر المرهف لمحات من حياته الدراسية: “على ضوء مصباح من الصفيح ذي فتيلة طويلة يعبث الهواء بلهبها ودخانها، كانت أمي تصاحبني في الفجر إلى محطة القطار كل يوم لأتعلم في مدرسة المدينة القريبة”.
وحقاً، كانت “”أوائل زيارات الدهشة” من أجمل وأمتع ما قرأت من ذكريات الطفولة، على أن كل ما سيأتي من سير الطفولة لا يخلو من متعة كبيرة.
طفل من حقول الكاكاو
في كتيب لطيف لا يكسر حاجز خمسين صفحة، وفي سبعة عشر فصلاً قصيرًا، وبرشاقة يحسد عليها، يسطر لنا الروائي البرازيلي جورجي أمادو قطعًا من طفولته، إذ نشأ في عالمٍ تكتنفه الأخطار ويتنفس فيه الموت! كان والده واحدًا من المصارعين على امتلاك ما يكفي من الأراضي الخصبة التي لا يمتلكها أحد، والتي ستغدو فيما بعد مزارع كاكاو وحقول قصب.
يحدثنا أمادو عن طفولته في صدر القرن العشرين، عن الجدري الأسود الذي عاش طفولته في أمنةٍ منه، وعن تنقل الأسرة بين عدة مدنٍ برازيلية، ويقص علينا “طفولة شكلتها أراض اغتصبت، ورجال مدججون دومًا بالأسلحة في عالم بدائي حيث تسود الأوبئة والطاعون والأفاعي والدم والصليب على امتداد الطرقات، وهو أيضًا عالم البحر ونسائمه، والشطآن والأنغام والجميلات…”.
البئر الأولى
أما الأديب والفنان الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا؛ فقد أراد ابتداءً أن يكتب سيرةً ذاتية كاملة تستغرق حياته، لكنه استعظم الأمر وبعدت عليه الشقّة؛ لأن تدوينه لسيرته يقتضي العود إلى آلاف من الوثائق والمراسلات ونحوها؛ فآثر أن يكتب سيرته بالتقسيط، وقد تعثر في دفع الأقساط فخسرنا سيرةً ماتعةً وأكثر.
ولم يزل جبرا بين تقليص وتقليص لمشروع السيرة حتى استقر على كتابة سيرة لسنواته الاثنتي عشرة الأولى، وكتبها تحت ذلك العنوان الماتع: “البئر الأولى”.. بئر الطفولة، الذي تتجمع فيه التجارب والرؤى والأصوات الأولى.
بقلمه الرشيق يحكي جبرا عن طفولته في بيت لحم، ونشأته في كنف عائلة نصرانية متدينة متواضعة الحال، يصف البيت الذي ولد فيه، وظروف الحياة ومغامرات الطفولة، والتعليم الأولي في مدرسة الروم الأرثوذوكس، وكيف كانت جدته أحنى عليه من أمه، تحوطه بالحماية ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فإن لم تجد سبيلاً إلى دفع العقاب قبل حدوثه؛ خففته بعد وقوعه ويسرت للصبي الشقي سبيل الهرب!
وفي الصفحات الأخيرة من “البئر الأولى” يكتب لنا جبرا خاتمةً تشوقنا إلى كتابٍ لاحق لن يأتي أبدًا، ويرسم خطوطًا عريضةً لمرحلة الفتوة والشباب، بما فيها من وعي، ومعارف، وكتابة وترجمة، وتدريس ثم ابتعاث، وأشياء أخرى.
العمق الرمادي
كتب الشاعر الروسي الكبير “يفغيني يفتوشينكو” سيرته الذاتية المبكرة على غير إيمان بأهميتها فما يبدو، فقد قال في السطر الأول منها: “إن سيرة الشاعر الذاتية هي قصائده، أما ما عدا ذلك فليس سوى تعليق”.
وبعد المقدمة الرشيقة، شأنها شأن باقي السيرة، يحكي يفتوشينكو عن تاريخ ميلاده “١٩٣٣” وعن مسقط رأسه في سيبيريا، ويتحدث عن عائلته التي كانت تدين بالولاء للثورة البلشفية، وتخرج إلى الميادين في التظاهرات العمالية، وتهتف للثورة، وللزعيم!
طفولة يفتوشينكو لم تخل من الذكريات العصية على النسيان؛ فقد عايش هجوم النازيين على روسيا في نهايات الحرب العالمية الثانية، وكان يفتوشينكو، الطفل الرومنسي الذي رضع الوطنية مع حليب أمه، لا يعد الألمان بشرًا، بل أعداء!
ومع تقدم يفتوشينكو في مدارج الطفولة، يطلعنا على القناعات الجديدة، والاكتشافات الحديثة التي اكتسبها من تجاربه الشخصية في حياته، وذلك بلغة شاعرة، وتفكير يتجاوز إطار المتوقع في كثير من الأحيان.
في المرحلة الإعدادية، وفي الخامسة عشرة من عمره؛ يطرد يفتوشينكو من المدرسة لذنب لم يرتكبه، وتلح عليه أمه كي يعود إلى المدرسة معتذرًا؛ فيأبى، ويهرب من المنزل، ويعمل في بعثة جيولوجية بكازاخستان، وعلى امتداد صفحات هذه السيرة اللذيذة.. ثمة حكايات كثيرةٌ، واكتشافات جميلة لحقائق من الحياة.
وفي مراهقته، وقبل أن يبلغ يفتوشينكو السادسة عشرة؛ أخذت قصائده تنشر، وصدر ديوانه الأول، واستحوذ الحديث عن الشعر على ما تبقى من صفحات السيرة التي تقارب المئتين.
مرايا ساحلية
رحلتنا مع السير المبكرة تصل إلى محطتها الأخيرة: “مرايا ساحلية.. سيرة مبكرة” للروائي السوداني الكبير أمير تاج السر، الذي سكب سني حداثته بـ”بورت سودان” في قالب روائي أخاذ.
في ساحات هذه السيرة الروائية نجد الكثير والثير من الذكريات عن شخصياتٍ، وأماكن، وطقوس، وعادات، وأسماء وأشكال، عايشها أمير في سنواته الأولى، “عزيزو” المجذوب، و”حميدة” المرأة الجميلة غريبة الملامح، و”بشارة البيجاوي” المتسول الذي ولد بلا يدين، والعم “حمزة” الذي أغرم به الأطفال لحكاياته الساحرة.
ويروح أمير تاج السر ويغدو في سراديب الذاكرة، يستخرج لنا من جراب طفولته تفاصيل مدينته: البيوت، والمقابر، والمستشفى، والحديقة، والقطط، وعيد الأضحى، ورمضان الذي يغدو صعبًا في الصيف، وساحة المولد، التي يؤمها الناس ليلة المولد محتفلين، ويستغلون فراغها باقي أيام العام ليجعلوها ملعباً لكرة القدم، والسوق الكبير الذي يجد فيه الناس ما يحتاجون من عربي المنتجات وإفرنجيها، والمدرسة، والشوارع النظيفة، وتفاصيل أخرى كثيرة.
وأخيرًا
في الكتابة عن الطفولة شجن مضاعف.. شجن الحديث عن زمان لن يعود، يبدو شديد الجمال لمجرد أنه صار في ذمة التاريخ. وهو أيضًا شجن الحديث عن مكان لن يعود أبداً كما كان، قد لا يتبدل بنيانه، لكن الناس يتبدلون، وكذلك الظروف والحكايا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق