د. سلمان بن فهد العودة
من مواصفات حامل همّ الإسلام أن تذكره كل قضية يواجهها بقضية الإسلام الكبرى
قضية أخرى: أن من يحمل هم الإسلام فإن كل شيء يذكره بقضية الإسلام الكبرى، فما يشاهده، وما يسمعه، وما يحسه، دائماً يذكره بقضية الإسلام، ومرة أخرى انظر في المشاعر البشرية، مشاعر البشر مع البشر، هذه الخنساء توفي أخوها صخر ، وقصتها معروفة وشعرها فيه، لكن كانت تقول:
يُذكرني طلوع الشمسِ صخراً وأذكره لكل غروب شمسِ فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلتُ نفسي هذه امرأة في الجاهلية، وقد زينها الله تعالى بالإسلام فأقلعت عن مثل هذا، لكنها كانت تتذكر أخاها مع طلوع الشمس ومع غروبها، ومثله أيضاً حارثة أبو زيد لما غاب عنه زيد وفقده في صغره، كان يتغنى ويبحث عنه ويقول:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل فوالله ما أدري وإني لسائل أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل تُذكرنيه الشمس عند طلوعها وتعرض ذكراه إذا غربها أفل وإن هبت الأرياح هيجن ذكره فيا طول ما حزني عليه وما وجل سأعمل نصَّ العيس في الأرض جاهداً ولا أسأم التطوافُ أو تسأم الإبل حياتي أو تأتي علي منيتي فكل امرئ فانٍ وإن غره الأمل فيظل يتذكر ولده الذي فقده من سنين مع الشمس، في طلوعها وغروبها، مع الرياح، مع الذهاب والإياب، كلما نـزل في منـزل تذكر زيداً ، كان زيد هاهنا هذه مشاعر البشر مع البشر، فما بالك بمشاعر الإنسان مع قضية كبرى هي قضية الدين، لابد أن تكون أرقى وأسمى وأعظم وأعمق من ذلك.
ولذلك انظر في هذه النماذج، المسلم -مثلاً- حين يسافر إلى بلد معين، يشاهد مشاهد ومرائي، ويرى مباني، ويرى منشآت، ويرى جسوراً وقصوراً وأموراً كثيرة، ما الذي يلفت نظره؟ خذ نموذجاً، أم سلمة وأم حبيبة .. والحديث في البخاري ومسلم ، ذهبتا فيمن ذهب إلى الحبشة وبعد ذلك رجعوا إلى المدينة المنورة، فماذا حدثت أم سلمة وأم حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رأيا؟ حدثتاه عن كنيسة رأينها بأرض الحبشة ، يقال لها: ماريه، وما في هذه الكنيسة من التصاوير. إذاً: الذي لفت نظر أمهات المؤمنين معبد للنصارى توضع فيه التصاوير، كيف يصورون مريم ، ويصورون عيسى ، ويعلقونها في معبدهم؟ هذا أمر غريب!
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل ).
كذلك حديث جابر ، وقد ذكره الذهبي في مختصر العلو للعلي الغفار ، وهو عند ابن حبان ، وابن ماجه وغيرهم، ( أن بعض المسلمين لما جاءوا من الحبشة أيضاً سألهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ما الذي أعجبكم بـالحبشة ؟ )، هم الآن لم يذهبوا سواحاً، ولكنهم ذهبوا مهاجرين، لكن ما هي مشاعرهم؟ ما هي اهتماماتهم؟ ما الذي يلفت انتباههم؟
فواحد منهم قال: ( الأمر الذي لفت نظري وأعجبني، أني رأيت عجوزاً تحمل قربةً على ظهرها، فجاءها شابٌ مراهق طائش فدفعها، فسقطت هذه القربة، فالتفتت إليه هذه العجوز وقالت: سوف تعلم يا غُدر إذا نـزل الله تعالى يوم القيامة لفصل القضاء، وعرف كل إنسانٍ ما له، ووفيت النفوس ما كسبت، كيف يكون جزاؤك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت.. صدقت، لا قُدست أمةٌ لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع ).
إذاً القضية التي لفتت نظرهم، مشهد من مشاهد الاعتداء على كرامة الإنسان من جهة، والظلم والتعدي، ولو لامرأة عجوزٍ ضعيفة، ومن جهة أخرى: العجب من معتقد هذه العجوز، فإنها تعتقد عقيدة صحيحة أن الله تعالى سوف يبعث الأولين والآخرين، وسوف ينـزل يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، وسوف يجزي الظالمين بما كسبوا، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم وصدقها بما قالت، وقال: ( لا قدست- لا بوركت، لا بقيت- أمة لا يأخذ الضعيف فيها من القوي حقه غير متعتع )، لا يتلجلج ولا يتردد ولا يعيَ بالكلام، بل يتكلم بلغةٍ قوية فصيحة، لأن الحق أنطقه. لكن انظر مشاعر السواح من المسلمين اليوم، قد تجد مسلماً يسيح في بلاد الأرض، فماذا يلفت نظره؟ المباني، جمال الطبيعة، الجبال، الأنهار، المشاهد، المظاهر، الصور، هذه الأشياء كون الإنسان يعجب بها أو يستحسنها، هذا أمر فطري طبيعي، لكن لماذا لا يكون شعور المسلم أعظم من ذلك؟ لماذا لا يتعجب المسلم -مثلاً- من فقدان الإنسانية الموجودة عندهم؟ أو يتعجب المسلم من التقدم الذي أدركوه في مجالات الصناعة والعلم ولم يدركه المسلمون، ويفكر كيف للمسلمين أن يصلوا إلى ذلك، ويحققوا لدينهم نصراً يمنعهم من كيد عدوهم.
أو يفكر في المؤامرات وفي الخطط الصليبية التنصيرية، التي تسعى إلى تحويل المسلمين إلى نصارى في إفريقيا ، وفي إندونيسيا ، وفي غيرها.
المهم أن الإنسان عندما يكون مشغولاً بأمر فكلما رأى شيئاً فإنه يربطه بذلك الأمر الذي يشغل باله، فالإنسان الذي كل همه سرور عينه، أو سرور أذنه، أو سرور قلبه، تجد أنه لا يلفت نظره إلا مظاهر الطبيعة وجمالها، أما سوى ذلك فكأنه لا يعنيه في قليل ولا في كثير.
محمد صلى الله عليه وسلم النموذج الأكمل لكل مسلم، (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ))[الأحزاب:21]، انظر كيف كان هديه وسيرته.
في صحيح البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على سبي، فرأى امرأة في السبي تمشي فإذا رأت صبياً أخذته، وألزقته ببطنها وأرضعته، وضمته إليها، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المشهد )
واستفاد منه في التربية، في ربط ذلك بقضية شرعية،
( قال لأصحابه رضي الله عنهم: هل ترون هذه طارحة ولدها في النار؟، قالوا: لا -والله- يا رسول الله، وهي تقدر ألا تطرحه، قال: والله لله أرحم بعباده من هذه بولدها ).
سعد بن عبادة رضي الله عنه في الحديث الصحيح قال:
( يا رسول الله! أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلاً، أكنت أتركه حتى آتي بأربعة شهود؟ قال: نعم، قال: والله يا رسول الله ما كنت أفعل، كنت أضربه بالسيف غير مصفح- لا أبالي أضربه وأقتله مباشرة- فضحك النبي صلى الله عليه وسلم -ولكنه استفاد من هذا الموقف في تنبيه الصحابة على أمرٍ آخر- فقال: أتعجبون من غيرة سعد ؟ والله لأنا أغير منه، والله تعالى أغير مني )، إذاً: حكم الله تعالى نافذ، وغيرة الإنسان إذا تعدت فإنها ينبغي أن تكون مربوطة بالشرع.
مثل ثالث: ( جيء بمناديل جميلة من حرير بعد إحدى المعارك لا عهد للمسلمين بها، فصار المسلمون يطوفون بها ويتعجبون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذه المناديل؟ والله لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذا وأطيب )، مناديله في الجنة أحسن من هذا، ربط كل قضية تعجب الناس في الدنيا بقضية الدين أو بقضية الآخرة.
يا طيبَ عهدٍ كنت فيه منارنا فبعثت نور الحقِ من فاران وأسرت فيه العاشقين بلمحةٍ وسقيتهم كأساً بغير دنان أشرقت فيه قلوبهم بتوقد الـ إيمان لا بتلهب النيرانِ لم نبق نحن ولا القلوب كأنها لم تحظ من نار الهوى بدخانِ قرأت في بعض الكتب أن مؤذناً أعمى في هذا الزمان، كان جميل الصوت بالأذان، فكان في مجلس، فسمع أن برجاً في لندن عاصمة بريطانيا ، أظنه البرج الذي توجد فيه الساعة المعروفة (بيج بن)، سمع أن هذا البرج قد مال بعض الشيء أو سقط أو أصابه شيء، فحزن وتأثر لذلك وظهر على وجهه الحزن، فتعجب بعض الحاضرين وقال: ما لك يا فلان؟ قال: والله كنت أطمع أن أؤذن عليه يوماً من الأيام.
صراحة هذا حلم قد ينظر إليه البعض على أن فيه سذاجة، وفيه بساطة، وفيه ...، لكن بغض النظر عن سذاجة هذا الحلم أو بساطته، إلا أنه يدلنا على قلب متوتر لقضية الإسلام والمسلمين، قلب -على الأقل- كل همومه وأحلامه تتعلق بقضية الإسلام، وأن يُرفع نداء الإسلام وشعار الإسلام من على أعلى المنابر، وأعلى المواقع، وأعلى الأبنية في بلاد الشرك وبلاد الجاهلية وبلاد النصارى .
إذاً: الشرط الثاني فيمن يحمل هم الإسلام هو: أن يكون الإسلام حياً في ذهنه، حاضراً في قلبه، فيربط ما يرى أو يسمع أو يحس، بالهم الأكبر الذي يقلقه ويزعجه وهو هم الإسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق