الأحد، 11 أغسطس 2019

الرئيس الغاني نكروما الذي خذلته مصر بقدر ما أحبها



الرئيس الغاني نكروما الذي خذلته مصر بقدر ما أحبها



د. محمد الجوادي
من بين الزعماء الأفارقة الذين لمعت أسماؤهم في حقبة الحرب الباردة بل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية يأتي اسم الرئيس الغاني نكروما في المُقدمة، وبدون أن ندخل في مفاضلة سريعة بينه وبين غيره من الزعماء الأفارقة المعاصرين له فإننا نستطيع أن نذكر أن مكانته وصلت إلى اختياره رئيسا لمنظمة الوحدة الإفريقية رغم أن غانا لم تكن مقر هذه المنظمة، ولم تكن الأعلى صوتا بين الدول المكونة لها كما أنها لم تكن الأعتى ولا الأغنى ولا الأكبر مساحة ولا الأكثر سكانا.. ومع هذا كانت للرئيس نكروما هذه المكانة المتقدمة، لكن هذا لم يشفع له في مُجريات السياسة الدولية وحكوماتها الخفية بل ربما كان هذا مدعاة لإيذائه والوقوف ضده والقضاء عليه.

كان السبب الثاني لوقوف الغرب والعرب معا ضد الرئيس نكروما هو أنه كان أكثر الزعماء الأفارقة فهما وثقافة وتعلما، وقد انعكس هذا على فهمه وإدراكه فأصبح أكثرهم فهما وتفهما، ولهذا فإنه حين وقع الانقلاب عليه أرسل لعبد الناصر بصريح العبارة أن ينتبه لأن الدور قادم عليه سريعا، ولم تكن هذه الرسالة علنية تماما ولا سرية تماما لكنها جمعت بين العلانية والسرية لأنها كانت حقيقة واضحة، وكان تاريخ هذه الرسالة هو 1966 ومن المؤسف أن الرئيس عبد الناصر لم ينتبه بما فيه الكفاية لما تضمنته رسالة الرئيس نكروما فكانت مأساة 1967 بكل قسوتها وضجيجها.

كان الرئيس نكروما نموذجا للزعيم الوطني المدني المتعلم الذي يقود طموحات شعبه إلى الأفضل عبر تفعيل الحياة الحزبية وصندوق الانتخابات والعملية الديموقراطية بالتزامن مع سعيه للخلاص من المستعمر وقسوته على الأرض والشعب، كان الرئيس نكروما رغم ضُعف عقيدته الدينية، ورغم قلة محصوله من العمل الشعبي قادرا على أن يحشُد الجماهير ويقود حركتها في التعامل مع الغرب من أجل أن يُحقق الآمال التقليدية في الاستقلال وما بعد الاستقلال. بدأ الرئيس نكروما نشاطه السياسي وهو ناضج، فمع أنه ولد 1909 فقد شغلته حياته المهنية في أول الشباب: كان قد تخرج في دار المعلمين في أكرا وعمل بالتدريس ثم نال فرصتين متتاليتين للدراسة في الولايات المتحدة 1935 ثم في بريطانيا 1945 وأصبح متزودا تماما بالفهم الغربي للاقتصاد وإدارة شئونه، كما أصبح قادرا على مواجهة الجماهير ببرنامج محدد.

نجح الرئيس نكروما في أن يخوض معركة مواتية مع البريطانيين من أجل إعلان استقلال غانا، وكانت بريطانيا في ذلك الوقت تتخلص من المستعمرات بطريقة تحفظ لها حقوقا مُستقبلية
في 1947 كانت أولى خطوات الرئيس نكروما في نشاطه السياسي المُعلن أو الصريح ووصل إلى منصب أمين عام مؤتمر شاطئ الذهب أو ساحل الذهب (وهكذا كان اسم غانا في مناغمة مع اسم جارتها الإفريقية الواقعة إلى الغرب منها: ساحل العاج أو كوت دي إيفوار) وكان من الطبيعي أن يبدأ الرئيس نكروما رحلة معروفة مع الاعتقال وفُقدان الحرية ثم مع إعادة بناء الكيان السياسي الذي يعمل من خلاله. وهكذا اعتُقل الرئيس نكروما في 1948 بينما يزعم العالم أنه قدم احترامه لحق تقرير المصير، ويزعم أن الأمم المتحدة قادرة على الحفاظ للشعوب على حقوقها في الاستقلال واسترداد حكم نفسها بنفسها بعيدا عن سطوة الاستعمار.

في 1949 أسس الرئيس نكروما الكيان الثاني الذي عمل من خلاله فأصبح المؤتمر حزبا باسم حزب المؤتمر الشعبي، وكان من الطبيعي أن يُعاد اعتقاله في 1950 ومع هذا فإن الوعي السياسي للجماهير الغانية مكّنها من أن تدعم كفاح الرئيس نكروما بأن تنتخبه وهو في السجن، ومن ثم فقد أصبح على المستعمر أن يُفرج عنه بل وأن يتركه يتولى رئاسة الوزارة في مارس 1952 أي قبل أن تقوم ثورة يوليو بأربعة شهور، هكذا كانت زعامة الرئيس نكروما قد تحققت وتبلورت في صورة استلام الحكم منذ ما قبل ثورة 1952 ومع هذا فإن أدبيات السياسة المصرية تتحدث عن الرئيس نكروما وكأنه صناعة ناصرية، وأنه لم يوجد إلا بفضل لمعان عبد الناصر وقيادته للتحرر الوطني في إفريقيا، وهو نوع من الشوفونية غير المستحبة في صياغة التاريخ بطريقة كانت كفيلة بكراهية الأفارقة (والعرب من قبلهم) لمصر ولطريقتها في الحديث عن الحلفاء.

نجح الرئيس نكروما في أن يخوض معركة مواتية مع البريطانيين من أجل إعلان استقلال غانا، وكانت بريطانيا في ذلك الوقت تتخلص من المستعمرات بطريقة تحفظ لها حقوقا مُستقبلية تمثلت على سبيل المثال في بقاء اللغة الإنجليزية كلغة رسمية لغانا.. ومن الطريف أن اسم غانا كان يُطلق على إمبراطورية إسلامية تقع إلى الشمال من أرض غانا الحالية ولم تكن هذه الإمبراطورية تُسيطر على هذه الأرض التي سماها الأوربيون على طريقتهم بساحل الذهب. لكن ثقافة الرئيس نكروما وطموحه إلى بلورة التاريخ الموحى دفعتاه إلى اختيار هذا الاسم وإعلان استقلال ساحل الذهب بهذا الاسم الغاني الذي يُذكر المستعمرين دوما بالاسم الشبيه وهو غينيا التي لا تشترك مع غانا في أي حد من الحدود.

كان الرئيس نكروما ميالا إلى أن يوجد لغانا ومثيلاتها عُمقا إفريقيا يُساعدها على تجاوز مشكلات الدول حديثة الاستقلال، وكان بحكم دراسته في أمريكا وبريطانيا قادرا على أن يستشرف رغبة الاستعمار القديم في إعادة الدخول إلى الحكم المحلي من خلال الانقلابات العسكرية، وظن الرئيس نكروما وهو معذور أن مصر بوزنها الإقليمي وجهاز إعلامها الضخم ومؤسساتها الثقافية قادرة على أن تحقق له ولغانا هذا العمق الكفيل بتجاوز المرحلة الحرجة من التاريخ الحديث، وهكذا أقبل الرئيس نكروما على مصر بإخلاص ووقف معها على الدوام، بل إنه على عكس ما هو سائد في جيله من الارتباط بالغربيين في الزواج والمصاهرة آثر أن يتزوج من مصر من حيث المبدأ وأن يؤكد بهذا السلوك على فهمه لمستقبل غانا ولمستقبله هو في الحكم.

وهكذا تزوج الرئيس نكروما من السيدة فتحية التي عُرفت بعد هذا باسم فتحية نكروما، وهي أم أولاده الذين يعيشون الآن في القاهرة، ومنهم ابنه جمال صحفي لامع، لكن الصحافة المصرية على عادتها قدمت هذا الزواج لا بطريقة المُصاهرة بين الشعوب ولا بطريقة الاختيار الذكي، وإنما قدمته في صورة فجة على أنه نوع من ولاية الأمر، وكأن عبد الناصر أصبح في تصوير صحافته بمثابة ولي أمر الرئيس نكروما الذي اختار لابنه أن يتزوج من مصر.. ولا تزال هذه الصورة شائعة في ذاكرة المصريين وعقليتهم على الرغم من أن الرئيس نكروما كان أكبر من عبد الناصر بعقد كامل من الزمن (فقد ولد في 1909) وعلى الرغم من أن الرئيس نكروما وصل إلى زعامة بلاده بالانتخاب قبل أن تقوم ثورة 1952.

أسرة الرئيس نكروما جاءت إلى مصر، بينما بقي هو في غينيا حتى أصابه المرض فعولج في رومانيا وتوفي في بوخارست (إبريل 1972) وعاد جثمانه إلى غينيا حيث دفن فيها
في كل الأحول فقد واصل الرئيس نكروما سياسته الاستقلالية وأخلص لقضايا وطنه ولقضايا مصر والعروبة، بل كان من أشد المدافعين عن القضية الفلسطينية وقضايا التحرر العربي. ولم يكن هذا الموقف مريحا للأمريكيين وبخاصة أن الرئيس نكروما كان مُقبلا على النجاح في معارك السياسة الحقيقية، وكان قادرا على التفاوض والصياغات الكفيلة بجمع كلمة الفرقاء من الدول المستقلة حديثا، كما أنه لم يكن من هواة الحروب الأهلية ولا من الذين يستعذبون حكم الشعب بالحديد والنار اللذين يملكهما العسكر.

ومن العجيب أن مصر الرسمية بدلا من أن تحافظ على زعامة الرئيس نكروما وأمثاله بالدعم التقني واللوجيستي الذي كانت تملكه فإنها كانت مشغولة عنه بالمغامرات الناصرية المعروفة، وهكذا امتد الأمريكان بسياسة الانقلابات العسكرية إلى غانا التي استمرت تعاني وطأتها وقسوتها منذ 1966 وحتى 1992 بلا توقف. أما الرئيس نكروما الذي قام الانقلاب عليه بينما هو في خارج غانا متوجها إلى فيتنام في فبراير 1966  فقد حاول استعادة زمام الأمور فلجأ إلى غينيا حيث الزعيم العظيم أحمد سيكوتوري لكنه لم يجد العون الكافي من مصر وغيرها من الدائرين في فلكها فقد كان التوجه الناصري موافقا دون إعلان على التوجه الأمريكي بمنح السيطرة للعسكريين في كل مكان شهد حركة وطنية.

ومع هذا فإن أسرة الرئيس نكروما جاءت إلى مصر، بينما بقي هو في غينيا حتى أصابه المرض فعولج في رومانيا وتوفي في بوخارست (إبريل 1972) وعاد جثمانه إلى غينيا حيث دفن فيها، لكن حكومة غانا استعادت الجثمان فيما بعد وشيعته في جنازة رسمية. بقي من الرئيس نكروما ابنه الصحفي اللامع جمال وابنتاه كما بقي من كتبه، سيرته الذاتية بعنوان "غانا"، وثلاثة كتب مهمة: "أتكلم عن الحرية" "لا يجب أن تتحد أفريقيا"، "الاستعمار الجديد"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق