مبادئ السياسة الشرعية – السكران والطريفي
محمود عطا الله - 6 نوفمبر، 2019
السياسة علم وفن وُجدت منذ وُجد البشر، ﻭﻗﺩ تطﻭﺭﺕ منذ قديم الزمان ﺇﻟﻰ ﺃﻥ وصﻠﻨﺎ ﺇﻟﻰ هذﻩ ﺍﻟﻌﺼﻭﺭ الحديثة ﺍﻟﺘﻲ أصبح مدار حركة ﺍﻟﺒﺸﺭ ومصالحهم ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﻋﻠﻰ تعلقاتها. والسياسة عند غير المسلمين تختلف عما هي عليه عند المسلمين؛ فقد أقاموها على قول: (ليس في السياسة علاقة دائمة، ليس في السياسة مبادئ دائمة، في السياسة مصالح دائمة!).
ومع سيطرة الولايات المتحدة وسائر قوى الطغيان على زمام الأمور في العالم وتشكل النظام العالمي الجديد أصبح مدار السياسة في العالم على “الأسس الميكيافيلية” ﺍﻟﺘﻲ ﺘﻬﺩﻡ ﺃﻤﺎﻡ ﺍﻟﻤﺼﺎﻟﺢ ﻭﺍﻷﻏﺭﺍﺽ ﻭﺍﻷﻫﻭﺍﺀ ﻜل ﺩﻴﻥ ﻭﺨﻠﻕ ﻭﻤﺒدأ، ﺤﻴﺙ ﻻ ﻴﻌﺘﺒﺭ ﻨﻜﺙ ﺍﻟﻌﻬﻭﺩ ﻭﺘﻐﻴﺭ ﺍﻟﻤﻭﺍﻗﻑ ﻭﻨﻘﺽ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﻭﻫﺘﻙ ﺃﺴﺎﺴﻴﺎﺕ ﺍﻷﺨﻼﻕ ﻋﻴﺒًﺎ لأنه صار عرفًا متعارفًا عليه!
أما السياسة عند المسلمين محكومة بالشريعة؛ لذلك تُسمى (السياسة الشرعية). وقد اعتنى علماء المسلمين بهذا العلم اعتناء كبيرًا، و اشتملت كتبهم على تناول أموره، خاصة بعد التوسع الكبير للدولة الإسلامية في العهدين الأموي والعباسي وما بعدهما.
وبدأت علوم “السياسة الشرعية” تتطور كلما طرأت أمور جديدة تحتاج إلى تفصيل وإيضاح، حتى ألّف العلماء كتبًا مستقلة بالسياسة الشرعية بحيث غطت كافة مجالات علاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة المسلمين مع الكفار، سواء في حالة السلم أو الحرب، فتركوا لنا تراثًا هائلًا، ﻭﻤﻨﻁﻠﻘًﺎ ﻴﺘﻜﺊ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﻤﺠﺘﻬﺩﻭﻥ ﺍﻟﻴﻭﻡ ﻷﺨﺫ ﺍﻷﺤﻜﺎﻡ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﺘﻜﺭﺭ ﻤﻌﻁﻴﺎﺘﻬﺎ ﻭﺃﺴﺒﺎﺒﻬﺎ، ﻭﻟﻺﺘﻜﺎﺀ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻻﺠﺘﻬﺎﺩ ﻭﺍﻻﺴﺘﻨﺒﺎﻁ ﻭﺍﻟﻘﻴﺎﺱ ﻓﻴﻤﺎ ﺠﺩﺕ ﻓﻴﻪ ﺃﻭجه ﺍﻟﻤﺴﺎﺌل. وسنحاول هنا أن نلخص أهم مبادئ السياسة الشرعية.
أولًا: لماذا في الشريعة سياسة؟
إن الخلافة الإسلامية وجمع كلمة المسلمين تحت إمرة أمير يقيم فيهم حكم الله -سبحانه وتعالي- من أعظم مقاصد الإسلام وأسمى صور الوحدة والاعتصام التي أمر الله بها في قوله تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا” [آل عمران:103]. وقد أجمع المسلمون من عهد الصحابة -رضوان الله عليهم- على وجوب تنصيب إمام يسوس الناس بشريعة الرحمن ويقيم فيهم حكم الله كما فعل النبي -صلي الله عليه وسلم- استجابة لأمر الله -عز وجل- في قوله تعالي: “وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ”.
نقل الإجماع على وجوب تولية إمام يرعى شؤون المسلمين طائفة من العلماء، يقول النووي: (وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة..) [شرح صحيح مسلم (12/205)، ويقول ابن خلدون: (نصب الإمام واجب، وقد عُرِف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين، لأن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعًا دالاً على وجوب نصب الإمام) [المقدمة -(192)].
واستدلوا بقول الله تعالي:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) [النساء: 59]
ووجه الاستدلال من هذه الآية: أن الله سبحانه أوجب على المسلمين طاعة أولي الأمر منهم، والأمر بالطاعة دليل على وجوب نصب ولي الأمر. قال ابن كثير: “الظاهر -والله أعلم- أن الآية عامة في جميع أولي الأمر من الأمراء والعلماء”، لأن الله تعالى لا يأمر بطاعة من لا وجود له، ولا يفرض طاعة من وجوده مندوب، فدل على أن إيجاد إمام للمسلمين واجب عليهم.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كانَتْ بَنُو إسْرائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأنْبِياءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وإنَّه لا نَبِيَّ بَعْدِي، وسَيَكونُ خُلَفاءُ فَيَكْثُرُونَ قالوا: فَما تَأْمُرُنا؟ قالَ: فُوا ببَيْعَةِ الأوَّلِ فالأوَّلِ، أعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فإنَّ اللَّهَ سائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعاهُمْ.) [متفق عليه].
قال العلامة عبدالعزيز الطريفي -فك الله كربه-: “والمراد من ذلك أن الناس كحال القافلة التي تسير فى الأرض، فمع طريقهم يتيهون عن ذلك ويتفرقون جماعات وينفرد منهم أناس يمنة ويسرة، فيأتي النبي ويقوم بجمع الناس وإعادتهم إلي تلك الجادة”. ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- آخر الأنبياء، ولذلك أخبرنا أن من بعده خلفاء يقومون مقام الأنبياء في جمع كلمة الأمة على شريعة الله، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) [رواه أبو داود]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فإذا كان قد أوجب في أقلِّ الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم، كان هذا تشبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك” (الحسبة ص11).
ويستطيع الناظر لأحوال الناس أن يعرف ضرورة تضمّن الشريعة لسياسة ترعى شؤون المسلمين، فإن الإمامة على رفعة قدرها في الإسلام فهي وسيلة وليست غاية، فوجود إمام للمسلمين إنما يكون لمقاصد عديدة منها:
- سياسة الدنيا بالدين: عن طريق الحكم بما أنزل الله -سبحانه وتعالى- في جميع مناحي الحياة، وينتج عنه جمع كلمة المسلمين، وإقامة العدل ورفع الظلم. ولهذا يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-: (لا بد للناس من إمارة، بَرَّة كانت أو فاجرة) قالوا: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال: (يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “لأن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة” [السياسة الشرعية – 162].
- حفظ الدين: وتكون بالدعوة إليه ونشره باللسان والسنان، ومحاربة البدع ودفع الشبه والأباطيل، وتحصين الثغور حتى يكون المسلمون آمنين على دينهم وأنفسهم وأموالهم، وجهاد الكافرين بعد دعوتهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون…إلخ.
وقد لخَّص الماورديُّ وقال:
الإمامةُ موضوعةٌ لخِلافة النبوَّة في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا، وعَقْدُها لِمَن يقوم بها في الأمَّة واجبٌ بالإجماع.
ثانيًا: السيادة للشرع
فكما قلنا أن السياسة عند المسلمين محكومة بالشرع، فلا سيادة إلا للشرع.
قال تعالي: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة-50]، قال الحافظ بن كثير -رحمه الله-: “ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم… فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله”، فالسيادة كما قال الله -عز وجل- لشرعه فقط، ومن خرج عن حدود سيادة الشرع لسيادة الأغلبية أو لسيادة الآراء والأهواء فقد كفر بدين الله!
قال تعالي:(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [يوسف-40]، قال العلامة السعدي -رحمه الله-: “لأن الحكم لله وحده، فهو الذي يأمر وينهى، ويشرع الشرائع، ويسن الأحكام”، ويقول سيد قطب -تقبله الله-: “والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله؛ ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته. إنما مصدر الحاكمية هو الله”.
وقال تعالى:
(فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء-59]
قال الحافظ بن كثير:”فدل على أن من لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنًا بالله ولا باليوم الآخر”.
وأما قول بعض المنتسبين للإسلام بأن (السيادة للشعب) فهذا مخالف لما جاءت به الأدلة الواضحة من القرآن والسنة، وفيه منازعة لله -سبحانه وتعالى-. فما أقرته “غالبية الشعب” وإن كان مخالفًا للكتاب والسنة وجب العمل به، وما هذا والله إلا الكفر البواح! وهي كما وصفها أبو الأعلى المودودي (حاكمية الجماهير) و(تأليه الإنسان).
تأمَّلْ قولَ اللهِ تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ)[المائدة: 49].
فلو قارَنَّا بينَ هذه الآية وفكرة تقديم سيادة الأمة على تحكيم الشريعة، فإنَّنا سنَجِدُ أنَّ دَعْوى سيادةِ الأُمَّةِ المقابِلةِ للشريعةِ هي المُعَبَّرُ عنها في قولِه: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}، وقولِه عنهم: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، وهذا يدُلُّ على أنَّ مَن قدَّمَ أهواءَ الناسِ على شريعةِ ربِّ العالَمينَ فقد عرَّضَ إيمانَه للتلَفِ وإسلامَه للبُطلانِ. فالمناقِضُ لأصلِ الإسلامِ أنْ تكونَ الشريعةُ مَرهونةً بأهواءِ الناسِ قَبولًا أو ردًّا، وتكونَ آراءُ الناسِ هي الحاكمةُ بشرعيَّةِ النظامِ الذي يَحكُمُهم ويَقْضي بينَهم.
ويتضح لمن شمَّ رائحة الشرع بطلان مقولة (السيادة للشعب!) جملة وتفصيلًا، فالله سبحانه يقول: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، أما يقول هؤلاء -قبح الله قولهم-: (فإن تنازعنا في شيء نرده إلى الشعب، فما يقوله الشعب نقبل به!!) لدرجة أن نسمع قول بعض المنتسبين للإسلام: “نحن نتحاكم إلى الشعب، وإذا قبل الشعب بالشيوعيين فنقبل بقولهم!”، وقول آخرين: “نحن نعرض الشريعة على الشعب وإذا اختاروها نحكم بها!!”. قال شارح الطحاوية: “فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر”، فأصبح تنفيذ أمر الله مرتهنًا بقول الشعب، إذا قبل نطبق حكم الله، وإذا رفض نتحاكم إلى الطاغوت، ألا ساء ما يدّعون!
ثالثًا: السلطان للأمة والحاكم وكيل عنها بالشورى
من الأمور المقررة عند المسلمين أن الحاكم يكون وكيلًا عن الأمة لتدبير شؤونها، لقوله تعالى: (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)، وتوكيل هذا الحاكم يكون بشورى تتم بين المسلمين، لقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ).
والأصل أن الشورى تكون عامة في المسلمين، فعن أنس (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاور الناس يوم بدر) [مسند أحمد]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حادثة الإفك (أما بعد، فأشيروا عليّ في أناس) [البخاري]، وقال-صلى الله عليه وسلم- في عام صلح الحديبية: (أشيروا عليّ أيها الناس) [البخاري].
يقول الشيخ إبراهيم السكران -فك الله كربه-: (فنلاحظ في تلك المواقف التي تروى فيها مشاورات النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يميل إلى “تعميم الشورى”، ويستخدم صيغة “أيها الناس” العامة، أو يخاطب المسلمين خطابًا عامًا)، ويتضح ذلك عندما فوّض الصحابة عبد الرحمن بن عوف لتنفيذ الشورى، فمكث عدة ليالٍ ليشاور الناس (فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن، ثم قال “أما بعد، يا علي إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان) [البخاري]، يقول السكران -فرج الله عنه-: “فنص عبد الرحمن أنه فحص إرادة الناس عامة قدر إمكانه وقدرته، وليس إرادة طائفة خاصة”
و هناك طرق لتولية الإمام منها:
- الاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد، مثل خلافة أبي بكر الصديق، فقد بايعه أهل الحل والعقد من الصحابة، ثم أجمع عليه الصحابة وبايعوه وارتضوا خلافته. وكذلك ثبتت الخلافة لعثمان بن عفان رضي الله عنه لمَّا جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر تولية الخليفة من بعده شورى في ستة من كبار الصحابة، فصار عبد الرحمن بن عوف يشاور المهاجرين والأنصار، ولمَّا رأى ميل الناس كلهم إلى عثمان بايعه أولًا، ثم بايعه بقية الستة، ثم بايعه المهاجرون والأنصار، فثبتت له الخلافة بالاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد. أيضًا ثبتت الخلافة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بالاختيار من أكثر أهل الحل والعقد.
ولكن من هم أهل الحل والعقد؟ يقول النووي: (الأصح أن بيعة “أهل الحل والعقد” من العلماء، والرؤساء، وسائر وجوه الناس الذي يتيسر حضورهم) [روضة الطالبين:10/43]، ويقول الدسوقي المالكي: (وأما بيعة “أهل الحل والعقد”، وهم من اجتمع فيهم ثلاثة أمور: العلم بشروط الإمامة، والعدالة، والرأي) [حاشية الدسوقي:4/298]. ويقول البهوتي: (بيعة “أهل الحل والعقد” من وجوه الناس، الذين بصفة الشهود من العدالة وغيرها، ولا نظر لمن عدا هؤلاء لأنهم كالهوام) [كشاف القناع:6/159].
- تعيين ولي للعهد (الاستخلاف)، مثل خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وذلك بأن يعهد وليّ الأمر إلى من يراه أصلح لولاية أمر المسلمين من بعده، وكذلك فعل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- لما عهد إلى عمر، ولم ينكر ذلك الصحابة. يقول شيخ الإسلام: “ولو قـُدِّر أن عمر وطائفة معه بايعوه، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إمامًا بذلك، وإنما صار إمامًا بمبايعة جمهور الصحابة، الذين هم أهل القدرة والشوكة”.
ويدلّ عليه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطى الرّاية يوم مؤتة زيدًا بن حارثة وقال: (فَإِنْ قُتِلَ زَيْدٌ أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرٌ، فَإِنْ قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ)، قال الخطّابيّ:”فالاستخلاف سنّةٌ اتّفق عليها الملأ من الصّحابة، وهو اتّفاق الأمّة لم يخالف فيه إلاّ الخوارج المارقة الذين شقّوا العصا وخلعوا ربقة الطّاعة” (معالم السنن: 3/351).
- ثبوت البيعة بالقوة والغلبة والقهر، وهي طريقة غير شرعية ابتداء، ولكن إذا تغلب بالقوة والسّيف حتّى أذعنوا له واستقرّ له الأمر في الحكم وتمّ له التّمكين، صار المتغلِّبُ إمامًا للمسلمين وإن لم يستجمع شروط الإمامة، وأحكامُه نافذةٌ، بل تجب طاعته في المعروف وتحرم منازعته بشروط منها:
- أن يكون مسلمًا، وهذا في المبايَع فضًلا عن المتغلب أو المنقلب! لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}[النساء:141]
- أن يقيم الدِّين في الدولة، ويسوسها به، ويقود الأمة بكتاب الله تعالى، ويحكمها بشريعته، لحديث: «إن أُمِّر عليكم عبدٌ مجدَّع -حسبتها قالت أسود- يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا» (مسلم). قال النووي في شرحه: “فأمر صلى الله عليه وسلم بطاعة ولي الأمر ولو كان بهذه الخساسة ما دام يقودنا بكتاب الله تعالى”.
- أن يتغلَّب فعلًا ويستتب له الأمر وتسكن له العامة والدهماء، يقول الإمام ابن عبد البر رحمه الله: “وقال أهل الفقه: إنما يكون الاختيار في بدء الأمر [أي اختيار الأمة للحاكم]، ولكن الجائر من الأئمة إذا أقام الجِهاد والجُمُعة والأعياد، وسكنت له الدَّهماء، وأنصف بعضَها من بعضٍ في تظالمها، لم تجب منازعته، ولا الخروج عليه، لأن في الخروج عليه استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء، وشنِّ الغارات، والفساد في الأرض، وهذا أعظم من الصبر على جَوْرِه وفسقه، والنظر يشهد أن أعظم المكروهين أولاهما بالتَّرك” [انظر: العواصم والقواصم لابن الوزير، 8/ 18].
رابعًا: شروط الحاكم (الإمام)
إن منصب الإمامة العظمى منصب رفيع تتعلق به مصالح الأمة في الدنيا والآخرة، ولذلك اعتنت الشريعة الإسلامية ببيان صفات من يصلح لهذا المنصب ومن لا يصلح، فجاءت النصوص الشرعية مبينة الشروط اللازم توافرها في من يُختار ليكون إمامًا للمسلمين. ومن هذه الشروط:
1-الإسلام
وهذا من الشروط الواجب توافرها في كل ولاية إسلامية، وقد دلت الأدلة على ذلك كما في قول الله تعالى: (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [ النساء: 141]، قال القاضي ابن العربي: “إنَّ الله سبحانه لا يَجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً بالشَّرع، فإن وجد فبِخلاف الشرع، وقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً) [ النساء: 144]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ…) [النساء: 59]، فقوله تعالى “مِنكُمْ” نصٌّ على اشتراط أن يكون ولي الأمر من المسلمين.
ودل على ذلك أيضًا حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: دَعَانَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، قَالَ: (إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ) (رواه البخاري ومسلم)
قال القاضي عياض: “أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل”، وقال ابن المنذِر:”أجمع كلُّ مَن يُحفَظ عنه مِن أهل العلم أنَّ الكافر لا ولايةَ له على المسلم بِحال”، وقال ابن حجَر: “ينعزل بالكفر إجماعًا، فيَجِب على كلِّ مسلمٍ القيامُ في ذلك، فمَن قوي على ذلك فله الثَّواب، ومَن داهن فعليه الإثم، ومن عَجز وجبَتْ عليه الهجرةُ من تلك الأرض”.
2- البلوغ
فلا يُعقل أن يتولى أمر المسلمين من لم يبلغ بعد، فغير البالغ لم تكتمل أهليته بعد، ويكون غيره مسئولًا عنه، ويدل على ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن القلم رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ) [رواه أبو داود و أحمد]. وعن عبدِ اللَّهِ بنِ هِشَامٍ وكانَ قدْ أدْرَكَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذَهَبَتْ به أُمُّهُ زَيْنَبُ بنْتُ حُمَيْدٍ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ بَايِعْهُ، فَقالَ: (هو صَغِيرٌ)، فَمَسَحَ رَأْسَهُ ودَعَا له. فدل ذلك على أن البيعة لا تكون إلا على البالغ، ومن لم تصح بيعته لا تصلح ولايته. قال ابن حَزم: “واتَّفقوا أنَّ الإمامة لا تجوز لامرأةٍ ولا لكافر ولا لصبِي”[مراتب الإجماع:208].
3- الحرية
وهو شرط في صحة الإمامة، لأن المملوك لا يحق له التصرف في شيء إلا بإذن سيده، فلا ولاية له على نفسه، فكيف تكون له الولاية على غيره! قال الماوردي: “نقص العبد عن ولاية نفسه، يمنع من انعقاد ولايته على غيره” (الأحكام السلطانية:111)، وقال ابن بطال: “وأجمعت الأمة على أنها -أي الإمامة- لا تكون في العبيد” (شرح صحيح البخاري: 8/215).
4- الذكورة
فلا تصح ولاية امرأة الولايات، لقوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْض)، قال القرطبي:”فإن فيهم الحكام والأمراء ومن يغزو، وليس ذلك في النساء”، وقال السعدي: “فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة: من كون الولايات مختصة بالرجال، والنبوة، والرسالة، واختصاصهم بكثير من العبادات كالجهاد والأعياد والجمع. وبما خصهم الله به من العقل والرزانة والصبر والجلد الذي ليس للنساء مثله”.
ودل على ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:( لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً ). قال القاضي أبو بكر ابن العربي في “أحكام القرآن” (3/482): “وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ خَلِيفَةً، وَلَا خِلَافَ فِيهِ”، وقال الشوكاني في “نيل الأوطار” (8/304): ” قَوْلُهُ: (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ. . . إلَخْ): فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ، وَلَا يَحِلُّ لِقَوْمٍ تَوْلِيَتُهَا، لِأَنَّ تَجَنُّبَ الْأَمْرِ الْمُوجِبِ لِعَدَمِ الْفَلَاحِ وَاجِبٌ”، وقال البغوي في “شرح السنة” (10/77): “اتفقوا على أن المرأة لا تصلح أن تكون إمامًا ولا قاضيًا”، وقال ابن حزم: “وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة المرأة”.
5- العلم والاجتهاد
اتفق جمهور العلماء على اشتراط العلم والاجتهاد لمن يتولى الإمامة، قال الشاطبي: “إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع” (الاعتصام:2/126)، وقال الجويني: “فالشرط أن يكون الإمام مجتهدًا بالغًا مبلغ المجتهدين مستجمعًا صفات المفتين، ولم يؤثر في اشتراط ذلك خلاف” (غياث الأمم:66). ولكن هذه مسألة اجتهادية لم يرد فيها نص، فإذا وُجِد مجتهد تتوفر فيه بقية الشروط الضرورية والمنصوص عليها فهو المطلوب، فإن لم يتوفر هذا الشرط في الإمام -مع توفر الشروط الواجبة- كان عليه الرجوع إلى العلماء المجتهدين المؤتمنين، لأن الهدف الرئيسي هو الوصول للحق وتنفيذه بقوة السلطان.
6-العدالة
العدالة صفة كامنة في النفس توجب على الإنسان اجتناب الكبائر والصغائر والتعفف عن بعض المباحات الخارمة للمروءة، وهي مجموعة صفات أخلاقية من التقوى والورع والصدق والأمانة والعدل ورعاية الآداب الاجتماعية ومراعاة كل ما أوجبت الشريعة الالتزام به.
قال تعالى: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة: 124]
قال الشوكاني: “وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع” (فتح القدير:1\138)، وقال الجصاص: “فثبت بدلالة هذه الآية بطلان إمامة الفاسق وأنه لا يكون خليفة”(أحكام القرآن:1\70).
وبناء على ذلك فلا يجوز تولية الفاسق ابتداء ولا من فيه نقص يمنع الشهادة، قال القاضي عياض: “ولا تنعقد لفاسق ابتداء” (إكمال المعلم:6\128)، وقال شيخ الإسلام: “فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي أن يكون عدلًا أهلًا للشهادة” (السياسة الشرعية:18).
ولكن هذا الشرط واجب توفره في الإمام عند الاختيار دون التغلب.
7- القرشية
جمهور أهل العلم ذهبوا إلى اشتراط هذا الشرط، وقد حُكى الإجماع على ذلك، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئِمَّةُ من قُرَيشٍ)[رواه أحمد]، وقوله:(الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم) [متفق عليه]، وقوله:(لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)[رواه البخاري].
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم عند هذا الحديث -الناس تبع لقريش-: “هذا الحديث وأشباهه دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة فكذلك من بعدهم”، وقال الماوردي في الأحكام السلطانية في شروط الخليفة: “(الشرط السابع): النسب، وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه”، وقال القاضي عياض: “اشتراط كون الإمام قرشيًا مذهب العلماء كافة، وقد عدوها في مسائل الإجماع، ولم يُنقل عن أحد من السلف فيها خلاف”. وهذا أيضًا شرط في الولاية ابتداء وليس في حالة التغلب.
8- الكفاءة
وهو أحد الشروط المخففة التي يجب توافرها عند اختيار الإمام ولا تشترط في حالة التغلّب، وتنقسم الكفاءة إلى قسمين:
الأول: الكفاءة النفسية، فينبغي في الخليفة أن يكون شجاعًا جريئًا على إقامة الحدود واقتحام الحروب بصيرًا بها كفيلاً بحمل الناس عليها، عارفًا بالدهاء قويًا على معاناة السياسة وحسن التدبير ليصبح له بذلك ما جعل له من حماية الدين وجهاد العدو وإقامة الأحكام وتدبير المصالح. ودل على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر -رضي الله عنه- عندما قال له: (يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) [رواه مسلم].
الثاني: الكفاءة الجسمية، والمقصود بها سلامة الحواس والأعضاء التي يؤثر فقدانها على الرأي والعمل. كذهاب البصر والنطق والسمع، فهذه تؤثر في الرأي، وفقدان اليدين والرجلين يؤثر في النهوض وسرعة الحركة، ومع عدم وجود نص من القرآن ولا السنة ولا إجماع، ولكن مقصود الإمامة لا يتم إلا بمن كانت فيه هذه الشروط، وقد تقررت في أصول الفقه قاعدة: “وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” (العدة، القاضي أبي يعلى: 2\419).
خامسًا: حقوق الحاكم (الإمام)
1- حق الطاعة
إن السمع والطاعة لأئمة المسلمين من أجل الطاعات والقربات عند الله تعالى، ومن الواجبات الملقاة على عاتق كل مسلم، لأنه يطيعهم امتثالًا لأمر الله ورسوله بذلك لا لأشخاصهم. فيرجو من الله الثواب على ذلك.
قال تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) [ النساء: 59 ].
قال الشوكاني: (الأئمة والسلاطين والقضاة وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية) [فتح القدير:1/481]. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني) [البخاري ومسلم]، وعن عبادة بن الصامت قَالَ: (دَعَانَا النَّبِيُّ: فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ)[البخاري].
ولكن عندما أوجب الله -سبحانه وتعالى- على المسلمين طاعة ولاة أمورهم لم يجعل هذه الطاعة مطلقة، وذلك لأن الحاكم والمحكوم كلهم عبيد لله، فإذا قصرت الرعية في حق من حقوق الله تعالى فعلى الحاكم تقويمها بالترغيب والترهيب حتى تستقيم على الطريق، وكذلك الحاكم إذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إنهم -أي أهل السنة والجماعة- لا يجوزون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة، فلا يجوزون طاعته في معصية الله وإن كان إمامًا عادلًا، فإذا أمرهم بطاعة الله أطاعوه) [منهاج السنة:2/76].
2- حق النصرة والتقدير
اتضح لنا عند ذكر واجبات من كانت له ولاية شرعية من ولاة الأمورعِظَم المسئولية الملقاة على عاتقه، ومنها محاربته للفساد والمفسدين، وهذه تجعله في خطر منهم، لذلك فعلى الأمة أن تقوم بجانبه وتساعده على نوائب الحق، ولا تُسْلِمُه لأعدائه المفسدين سواء كانوا داخل الدولة الإسلامية أو خارجها. قال أبو يعلى: (وإذا قام الإمام بحقوق الأمة وجب له عليهم حقان: الطاعة والنصرة، ما لم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة) [الأحكام السلطانية:28].
كما أن على المسلمين احترام الإمام العادل وتقديره والدعاء له وعدم إهانته حتى تكون له مهابة عند ضعاف النفوس، ويدل على ذلك ما جاء عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط) [أبو داود]، وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (ما مشى قوم إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل أن يموتوا) [شرح السنة:10/54].
3- حق المناصحة
يُعد حق النصح من أهم حقوق الحكام على الرعية، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله:(الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) [مسلم]، جاء في شرح النووي على صحيح مسلم: “وأما النصيحة لأئمة المسلمين: معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم”، وصحّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم) [ابن ماجه، أحمد، الدارمي].
وقد دأب الصحابة رضوان الله عليهم على أداء هذا الحق لأئمتهم، وكان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم يَحُثُّون أقوامهم على نصحهم وتقويمهم إذا أخطأوا، ويتضح ذلك جليًّا في خطبة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-: (إني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني)، وجاء عن عمر -رضي الله عنه- قوله:(وأحب الناس إليَّ من رفع إليَّ عيوبي).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق