هل دخلنا مرحلة ما بعد الطائفية؟
تفادت التظاهرات والاحتجاجات في العراق ولبنان، على الأقل حتى الآن، الوقوع في فخ الطائفية. واستطاع المحتجون والمتظاهرون تجاوز خلفياتهم وانقساماتهم الطائفية والمذهبية، ليس فقط من خلال تبنّي أجندة سياسية واقتصادية واجتماعية جامعة، وواعية بضرورة تجاوز البعد الطائفي، وإنما أيضا من خلال محاولتهم الخروج من تحت عباءة الطائفة والمذهب، في خطابهم وأفعالهم وممارساتهم، وذلك بعد أن ظلت الطائفية تهيمن على الخطاب والفعل السياسيين في هذين البلدين طوال عقود، وهو ما تم التعبير عنه في شعار "كلّن يعني كلّن" الذي رفعه، ولا يزال، المتظاهرون في لبنان.
وعلى الرغم من محاولات بعض السياسيين والمسؤولين في البلدين لتغذية البعد الطائفي، من أجل ضرب الحراك و"دق إسفين" بين المحتجين، إلا أن الأمر لم ينجح. بل يبدو أن ثمة وعياً استباقياً لدى المتظاهرين بهذه المسألة، ما جعلهم يتفادون الخوض فيها، خوفاً من تشتيت مطالبهم التي خرجوا لأجلها، وأهمها مكافحة الفساد وإيجاد حلول عاجلة للمشكلات الاقتصادية المزمنة، كالفقر والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية.
وحقيقة الأمر، المدهش في الاحتجاجات الحالية في العراق ولبنان، ليس فقط استمراريتها وعدم تراجع زخمها وإصرار المحتجين على بلوغ مراميهم، وذلك على الرغم من العنف المادي واللفظي الذي يمارس تجاههم، سواء من قوات الأمن أو المليشيات الطائفية والمذهبية، وإنما في قدرتها على تجاوز الطبقة السياسية بمختلف اتجاهاتها وانتماءاتها.
وكان الكاتب قد أشار، في مقال سابق في "العربي الجديد"، إلى مسألة سقوط الطبقة السياسية العربية، باعتباره واحدا من ملامح الحالة السياسية الراهنة في العالم العربي. وهي الحقيقة التي تتأكد كل يوم، حيث فقدت الجماهير العربية الثقة في نخبها ومسؤوليها، بل تعتبرهم أساس المشكلة، وليس الحل. لذا فإن محاولات التغيير الشكلية و"الترقيع" لن تجدي نفعاً مع المحتجين. بل قد تزيد الاحتقان والغضب.
بالطبع، من مصلحة القوى والجماعات والأحزاب الطائفية أن تتحوّل الاحتجاجات والانتفاضات
الحالية في العراق ولبنان من حراك شعبي جامع إلى مجرد مطالب طائفية أو هوياتية، فهذه هي الطريق الوحيدة التي يمكن من خلالها خلخلة المحتجين، وامتصاص زخم حراكهم، ونزع الشرعية عنه. وقد حاولت بالفعل بعض هذه القوى في العراق ولبنان تصوير الاحتجاجات الحالية باعتبارها مؤامرة "طائفية"، تحرّكها أصابع داخلية وخارجية من أجل "إسقاط الدولة". وهو الخطاب نفسه الذي تروجه دوماً الأنظمة والجماعات السلطوية، من أجل تشويه الحراك، وتشكيك العوام فيه وفيمن يقف وراءه. شهدنا ذلك، ولا نزال، في مصر والجزائر وسورية والسودان... إلخ. ولا يدرك هؤلاء أن من يتظاهرون ويحتجون الآن يعبّرون عن جيل عربي جديد، لم يعش الصراعات الطائفية التقليدية، كما هي الحال مع جيل الآباء والأجداد. بل يرى بعضهم أن الطائفية والتطييف، وما يلحقهما بالتبعية، من محاصصة سياسية واجتماعية واقتصادية، هي السبب الرئيسي في بؤس الأوضاع الحالية. كما لا يدرك هؤلاء أن ممارساتهم الفاسدة، واحتقارهم إرادة طوائفهم، هي السبب الرئيسي في خروج الناس إلى الشوارع، مطالبين بعزل هؤلاء القادة الطائفيين، ومحاسبتهم ومعاقبتهم.
نحن إذا إزاء ديناميات "لا طائفية" جديدة، يشهدها أكثر بلدين عربييْن، يتبعان نظام المحاصصة الطائفية، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وهي دينامياتٌ هي ذاتها النتيجة الطبيعية لهذا النظام الذي ثبت فشله في تحقيق مطالب الطوائف. ما دفع "العاديون" المنتمون لهذه الطوائف إلى الانتفاض والاحتجاج، ليس لتغيير النظام الطائفي، وإنما لتجاوزه سياسياً ورمزياً. ويظل التحدّي هو كيفية البناء على هذه الاحتجاجات، العابرة للطوائف والمذاهب، وإلى أي مدىً يستطيع المحتجون والمتظاهرون جعل هذا التجاوز الطائفي عنصراً أساسياً في عملية التفاوض التي قد تحدث مع حكومات البلدين. وهو تحدٍّ ليس سهلاً، خصوصا إذا لم تحقق الانتفاضات الحالية مطالبها، وإذا نجح الطائفيون في تفريغها من مضمونها.
قطعاً لا تمكن المبالغة في الاعتقاد أن الموجة الحالية للاحتجاجات والانتفاضات تعني سقوط الطائفية ونهايتها، ومحو الانقسامات المذهبية. كما يصبح من السذاجة توقع أن تؤدّي هذه الموجة إلى تفكيك البنية الطائفية العربية، وتذويبها في مطالب جماعية، تتجاوز الطائفة لمصلحة الأمة ككل، فالمسألة ليست بهذه البساطة. ولكن ما لا يمكن إغفاله أيضا أن هذه الموجة قد تعطي الأمل بدخول مجتمعاتنا مرحلة جديدة من الاجتماع السياسي العربي، لا تلعب فيه الطائفية دوراً مركزياً كما كانت هي الحال من قبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق