الشعراوي: الحرب في زمن الفلوكس
رحل الداعية الشيخ محمد متولي الشعراوي قبل 21 عامًا، بما له وما عليه، وفور رحيله اندلعت معارك الحساب في الدنيا، قبل أن يبدأ الحساب في العالم الآخر، وقتلت المسألة بحثًا واشتباكًا وأخذًا وردًّا، لكن ذلك كله لم يكن ليكفي لغلق الملف، فكان أن انطلقت صرخة ملتاثة: هيا نفتح قبر الشعراوي، ونستدعي رفاته للمثول للتحقيق، مجدّدًا، أمام أمن الدولة أو محاكم التفتيش.
ليس الأمر إثارة موضوعات للإلهاء، وفقط، بل إنه يكشف عن الأزمة الوجودية التي تعصف بمصر، وفحواها العجز الكامل أمام توحش اللحظة الراهنة، والتهرّب من مواجهتها بالجدّية اللازمة، فلنلجأ إلى الحفر في التاريخ والنبش في الماضي إذن، لاستخراج جثث وأفكار نصارعها ونعيد قتلها، لننعم بلحظات من نشوة الانتصار المزيف.
هذه فرصة عظيمة لادعاء الفروسية والفراسة، لا يفلتها أحد من سكان الفراغ، لاستعراض أوهام القوة، فتجد بعضهم ينقض على الغابرين برشاقةٍ وخفة حيوان أليف، يتنقل من منزل إلى آخر، خالعًا ولاءه للسيد الأول، ليرتدي ولاءً آخر لسيد جديد، ثم يلقي مواعظ مجمّدة، مجلوبة هي الأخرى من ثلاجة الماضي، في العلاقة بين المثقف والسلطة، أو رجل الدين والسلطان.
هذا المناخ العبثي يثير شهية باعة روبابيكيا الحواديت الأمنية السارحين في ملكوت السوشيال ميديا لينهالوا بالفؤوس على رأس الرجل الراحل منذ أكثر من عشرين عامًا، وكأنهم يكتشفونه، ويتعاطون مع آرائه وأطروحاته للمرة الأولى، على الرغم من أن هذه الأطروحات كانت ميدانًا للنزال العنيف منذ ظهر في بداية السبعينيات وحتى رحل في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، وما بعدها، تقريبًا بالمداخل ذاتها والحجج نفسها، مع الأخذ بالاعتبار أن مفردات المعركة كانت في الماضي أكثر رقيًا وعمقًا عما يحدث الآن، ويمكنك الرجوع إلى تلك المنازلة الفكرية الضارية التي كان أطرافها الشيخ الشعراوي من جهة، والمفكرين يوسف إدريس وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود من الناحية الأخرى.
في الحروب العسكرية، أيضًا، يكون النكوص إلى الماضي أسهل وأسلم، فتستأنف معركة أكتوبر/ تشرين ثاني 1973 على شريط سينما من إنتاج الحاكم العسكري، ليمنح جمهوره متعة خوض الحرب مرة أخرى، وكأنها تدور الآن، إلى الحد الذي أصاب الممثل "فلوكس" بلوثة حبسته داخل الدور الذي أدّاه، فتستبد به هلاوس أنه شارك في الحرب، ولا يزال، فتطلقه آلة الإعلام العسكري هنا وهناك ليحدّث الناس عن الملحمة التي دارت وانتهت قبل أن يولد، ومع ذلك يسلك وكأنه شاهد العيان والمتحدث الرسمي باسمها.
استدعاء مريح للماضي الحقيقي لملء فراغات حاضر "فوتوشوب" زائف ومصطنع ومنعدم القيمة، وبلا معركة حقيقية، اللهم الحرب على الإنسان المصري في وجوده وحريته وقيمه وعقيدته.
الغريب والمدهش هنا أن الذين سخروا من انفصال الممثل عن الحاضر وانتحاله شخصية محارب من الماضي، يفعلون الشيء نفسه، ويمثلون الدور ذاته مع الشيخ الشعراوي، فيستلون السيوف ويمتشقون الجياد ويطلقون صيحة الحرب على الراحل وتراثه، وكأن المعركة تبدأ للتو ولن تتوقف إلا بإعلان انتصارهم وهزيمة الخصم الذي ترقد جثته تحت الثرى منذ 21 عامًا، ثم فرض فهمهم للإسلام ورؤيتهم للدين عمومًا على الجماهير الغفيرة التي تتعلق بتراث الراحل وترى فيه شيئًا جديرًا بالدفاع عنه والمحافظة عليه.
قلت سابقًا إن مصر باتت وكأنها محبوسة داخل كهف أفلاطون، ظهرها للنور ووجهها للظلام، ومن الخلف يتلاعب السجان بالأشكال والظلال، فيصير ما يراه الناس، منعكساً على الحائط الوحيد أمامهم، من ظلال باهتة للأشياء، هو الحقائق، بالنسبة لهم، وهم على هذه الوضعية الفقيرة من الإدراك.. حتى إذا أخرجوا من ظلام الكهف إلى نور الواقع رفضوا أن يصدقوا أن ما وقعت عليه أعينهم هو الحقيقة، فاستداروا يستدعون صور وشخوص وخيالات الماضي للاشتباك معها.
إنها مصر في طورها "الفلوكس".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق