يمكننا الجزم بأن من أكبر التحديات التي تواجهها الحالة الإسلامية في مرحلة الصحوة (آخر مئة عام) هي الوقوع في فخ الأنساق المغلقة (الجماعات المنظمة، والتكتلات الدعوية بأشكالها المتعددة). ظهرت الجماعة كخطوة مرحلية للرجوع إلى الخلافة. ويكون الترتيب هكذا: عدد قليل يتعلق بفكرة لم يستوعبوها بشكل جيد في الغالب، ثم يندفعون بحماسة للتنفيذ دون وعي كاملٍ بالسياقات الخارجية، وتتدخل عوامل خارجية: ثقافية وسلطوية وإقليمية ودولية تجتالهم وتأخذهم أو تدفعهم بعيدًا. والعجيب أن كل تصحيح للتجارب المتعثرة يكون بإعادة التجربة الفاشلة مرة ثانية!
ومما يبين تمكن النسق المغلق من الحالة الإسلامية، سواءً التعصب للنسق أو التعصب للأفكار التي يقوم عليها النسق، استمرار تحزب الإسلامين في حالة وجود تحدي خارجي قوي، فمن المسلمات أن التحدي الخارجي يوحد المختلفين ويخصصهم، إلا في حالة الإسلاميين فإن التحدي الخارجي لم يوحدهم ولم يخصصهم. قمة التحدي الخارجي فشلت في توحيدهم. ولك أن تستدعي ما يحدث في المعتقلات والسجون وحال المعتقلين وهم أحزاب متناحرة، لا يصلون خلف بعضهم، وحين وجدوا فسحة من السجان اقتتلوا بأيديهم، وقد حدث هذا الاقتتال في أكثر من معتقل في الظرف الراهن شديد القسوة! يتلى علينا منذ مئة عام درسًا واحدًا خلاصته: أن الأنساق المغلقة لا تتمدد. بل تتفتت وتنشغل ببعضها.
ومن سلبيات النسق المغلق إهدار الإمكانات المادية والبشرية، فلم يثمر النسق المغلق مبدعون، ولا مختصون في فن من الفنون، فلا تكاد تجد مبدعًا في الفكر أو في مجال حرفي إلا منفردًا بعيدًا عن الأنساق المغلقة، وذلك لأن النسق المغلق يعتمد على أهل الثقة، وتأخذ الأقدمية أولوية مطلقة في الغالب، ولا ينشغلون بتوطين تخصصات تنفع الناس وإنما بما ينفع تعميق النسق وتوسيعه، ولا يهمهم رأس المال النخبوي. بل عمليًا يحاربون صناعة النخبة لأنها تقلق من يسيطر على النسق، ويتحول في الأخير إلى حالة من التنافس على الرئاسة أو تأدية نوع أمان اجتماعي لأفراد النسق يهربون إليه من جحيم الحياة التي يعيشونها.
من مظاهر الحرية في النموذج الحضاري الإسلامي إطلاقُ سراح الناس إلى ما يحبون.. إلى ما يحسنون. حين يشب المرء يشتد إلى ما يحب أو إلى ما يحسن
وأهدرت الأنساق المغلقة القدرات المادية فاستخدمت الأموال فيما يمكن تسميته نفاق مجتمعي.. نعم نفاق مجتمعي لتسويق النسق المغلق (الجماعة) لا لدعوة الناس إلى الدين فكل قوم يرفعون شعار نسقهم (جماعة..، حزب..) على رأس من يخدمونه، أو يأخذ صدقتهم ظنًا منهم أنه حين يؤمن بهم فقد آمن بالله وما أنزل على رسوله؛ أو خدمة للأنظمة السلطوية المستبدة بإعالة ملايين الفقراء نيابة عن الدولة، ما يعني تبديد أموال الدعوة في دعم المستبدين، وحتى المجالات التي حاولوا الجد فيها لم تكن بالمستوى المطلوب، وتابع إن شئت ما سمي مراكز دعوية: خدمية أو علمية.
العلمية تقوقعت على خدمة الشيخ، والخدمية لم تنهض بأكثر من الحد الأدنى من الخدمات لتسويق النسق المغلق. وفي الجملة لم ينجح هؤلاء في إنتاج ظاهرة متخصصة في أيٍ من مجالات الحياة، وكانت النتيجة تراجع وانكفاء وصراع داخل الأنساق وبين الأنساق وبعضها، وبين الأنساق والمشاركين لها في نفس التخصص من عامة المسلمين (انظر مجال المحاماة أو المجال الديني مع المتصوفة مثلًا...).
التخصصية هي الفطرة الإنسانية وهي النموذج الإسلامي الأول:
أبرز ما يمكن أن تلاحظه في النموذج العملي للإسلام (الصحابة والتابعين) هو ظهور التخصصية بين الصحابة والتابعين. من مظاهر الحرية في النموذج الحضاري الإسلامي إطلاقُ صراح الناس إلى ما يحبون.. إلى ما يحسنون. حين يشب المرء يشتد إلى ما يحب أو إلى ما يحسن، إن كان محبًا للقتال التحق بالثغور: يتدرب ويتسلح ويجاهد مع المجاهدين دفاعًا عن الدين واعتاقًا لرقاب المستضعفين في الأرض بغير الحق؛ وإن كان من أهل التجارة ذهب إلى السوق يتاجر؛ وإن كان حرفيًا فإلى ما يحسن من حرفة؛ وإن كان ممن يحبون العلم، تربع بين يدي العلماء.
ولم تكن الحرية في التوجه العام فقط. بل كان التوجه العام الواحد (جهاد، تجارة، زراعة، تعلم، حرفية...) به عديد من التخصصات؛ فهذا الذي يمم وجهه شطر حِلَقِ العلم -مثلًا- يجد نفسه أمام ثمار شهية، بعضها قرآن كريم (تلاوة.. قراءات)، وبعضها تفسير، وبعضها حديث، وبعضها فقه، وبعضها شعر، وبعضها مما ابتدع في الدين (كالاعتزال وعلم الكلام).
وليس فقط تعدد أفقي للتخصصات. بل وتعمق في كل تخصص، ففي كل تخصص عديد من الطبقات، فأهل الفقه ليسوا سواء، وأهل التفسير ليسوا سواء، والقراء ليسوا سواء... طبقات بعضها فوق بعض. كل حسب ما يوفقه الله إليه، حتى ينتهي الأمر بأن يكون الفرد علامةً على نفسه، يقف حيث هو وحده مميزًا بما من الله به عليه من صفاتٍ.
والدولة لا دخل لها بحركة الأفراد، لا تأمر أحدَهم بأن يتخصص في هذا أو ذاك. بل تكفل للفرد الحد الأدنى من المعيشة من بيت المال. وفي كل تجمع سكاني حاكم وبيت مال، يأخذ الحاكم من الغني ما فرضه الله عليه من زكاة ويوضع في بيت المال ويوزع بعد ذلك على الفقراء والمساكين ويوزع في التمكين للدين، فلا فقر ولا مهانة. لا يمنُّ الغني على الفقير، ولا يمد الفقير يده للغني. حرية وأمان مادي، وتفعيل تام للإنسان حيث يحب أو حيث يحسن.
وهكذا كان الصحابة، رضوان الله عليهم، كل حيث يحسن، بعضهم لا تكاد تسمع به إلا في التجارة، وبعضهم في القتال، وبعضهم في الرأي والمشورة.. كلٌ نجمٌ ساطعٌ في مكانه.. والجميع يحضر المواقف العامة، ويبرز في كل موقف من يناسبه، فقبل القتال يبرز من له رأي في تحديد موضع القتال، وحال القتال يبرز أهل الاختصاص: مبارزة، رمي،.. ومواقف الرأي يتحدث أهل الرأي فقط– كما حدث في الموقف من أسرى بدر-، وهكذا.
في نموذجنا الحضاري تكون الرتب بالأفعال لا بالدعاوى، والمهام تسند ولا تطلب، فالناس لا يستفتون جاهلًا لأنهم أتقياء، أو متدينون في الجملة، والعالم يعيش بينهم ويعرفونه
ولا يظن أحدٌ أن الناس إن تركوا فإنهم يسيرون في اتجاه واحد، أو يتجمعون في تخصص بعينه؛ أبدًا، لا يحدث هذا، لخمسةٍ: أولها: أن التفاضل في المجتمع الإسلامي بالتقوى لا بالوظيفة كما هو حاصل اليوم، ففي الإسلام أكرم الناس أتقاهم، وأحسنهم خلقًا. (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات : 13).
ثانيها: أن الناس بطبعهم مختصون، كلٌ له ما يحسنه أو ما يحبه؛ وحين يترك لهم العنان لا يتجمعون في نقطة واحدة. يحدث هذا في النموذج الغربي الذي نعيشه، وذلك بسبب ارتباط الدخل المادي والنفوذ الاجتماعي مرتبط بالوظائف في الغالب.
ثالثها: أن في الشريعة ما يعرف بـفروض الكفايات، وهي فروض إن تركت يأثم الجميع. فأحوال الناس كلها بين فروضٍ واجبة وفروضِ كفاياتٍ، وبالتالي تُسد كل حاجاتهم، ويستقيم المجتمع متزنًا بلا خلل، كما قد كان لقرون طوال.
رابعها: أن الفرد كان يتحرك في مساحة كبيرة من الأرض دون أدنى عائق سلطوي أو اجتماعي. حيث شاء يحط رحاله كأنه قد ولد في ذات البلد، فمن الصين (تركستان الآن) إلى جنوب فرنسا يتحرك من شاء متى شاء حيث شاء آمنًا مطمئنًا.
خامسها: في نموذجنا الحضاري تكون الرتب بالأفعال لا بالدعاوى، والمهام تسند ولا تطلب، فالناس لا يستفتون جاهلًا لأنهم أتقياء، أو متدينون في الجملة، والعالم يعيش بينهم ويعرفونه، ولا يدعي أحد الجندية ثم هو يجلس بينهم بعيدًا عن الثغور.. يعربد تجارةً وإرهابًا للآمنين؛ ولا يُؤمن المجتمعُ الخائنَ على ما أوقفوه لفروض الكفايات، فهي أموالهم، دفعوها من قوتهم أو ينتظرون الإفادة منها.
والنموذج العلماني الذي يطبق في بلاد المسلمين لا يسوق الناس كلهم في مسارٍ واحدٍ، لا ينظرون للفروق الفردية: الذكور والإناث، الأذكياء والأغبياء، محبي الحرفة ومحبو التعلم والمطالعة؛ ولذا يتسرب الناس من التعليم، ولذا يكون الفرد مزدوج الشخصية، يتأرجح بين تخصصين أو أكثر، ما يحسنه وما هو مضطر إليه كسبًا لقوت يومه، فتجده صيدلي وسياسي، مهندس وشاعر، محامي وتاجر، فلا يحسن الهندسة ولا يحسن الشعر. والنسق المغلق ماذا يفعل؟ هل يعالج هذا الخلل في واقع الناس؟ هل يسير بهم للعودة إلى نموذجهم الأول؟ أبدًا، بل يزيد الأمور تعقيدًا: ينتج كتلة جديدة تصارع مَن حولها من أجل البقاء والتوسع.. كتلة صراعية. بينما التخصصية تخدم الناس وتوظف طاقاتهم الحقيقية وتقضي على الشغب الذي أوجدته العلمانية
يحشد العدو الصهيوني كل طاقاته، منذ ست سنوات على الأقل، لتثبيت حكم عبد الفتاح السيسي في مصر، وتمكين خليفة حفتر من السيطرة على ليبيا، وتدعيم بشار الأسد في سورية، وتصعيد محمد بن سلمان في السعودية، وتقوية نفوذ محمد بن زايد في الإمارات على كل هؤلاء.
السنوات ذاتها التي تخلّلها الوصول بالخلافات العربية/ العربية إلى حالة العداء الصريح والحروب المعلنة، بكل ما تشمله من جوانب اقتصادية واجتماعية، بل والاقتراب من مرحلة الاشتباك العسكري.
في الأثناء، صارت إسرائيل طرفًا في النزاعات بين العرب وأنفسهم، إذ أصبح كيد العربي للعربي يتطلب تحسين العلاقة مع الكيان الصهيوني، حتى وصلنا إلى مرحلةٍ باتت معها أطرافٌ توقن بأنها انتصارها على عدوها الشقيق مرهونٌ بصداقتها مع العدو التاريخي والتقليدي، الأمر الذي أسفر عن أن عواصم العرب صارت مفتوحةً أمام الصهيوني، سائحًا وزائرًا رسميًا ومشاركًا رياضيًا وعلميًا، كما لم يكن من قبل، وعرفت المنطقة العربية ما يشبه الماراثون التطبيعي، يتنافس فيه الإخوة الأعداء، في لحظةٍ تغلي فيها مشاعر الشعوب العربية بالغضب من توحش هذه الأنظمة، الوديعة للغاية أمام إسرائيل، على شعوبها.
كانت واشنطن وتل أبيب تدركان جيدًا أن حاجة الحاكم العربي إليهما تفوق حاجته إلى شعبه، أو احتياجه إلى أشقائه، بل بلغ الأمر حدود التحريض العلني من الدول العربية ضد بعضها عند الإدارة الأميركية، وفي ذلك تفوّق وأبدع عبد الفتاح السيسي وخليفة حفتر، وبدرجة أقل بشار الأسد الذي أودع مدّخراته من الولاء في بنك روسيا البوتينية، والذي هو في نهاية المطاف مفتوحٌ على تل أبيب.
على أنك لا يمكن أن تلوم الأنظمة الرسمية وحدها في هذا الانبطاح أمام الصهيوني المتحكّم، إذ انزلقت أقدامٌ محسوبةٌ على الثورات العربية في مستنقع الأوهام التي تذهب إلى أن التخلص من الطغيان والاستبداد يتطلب إظهار مرونةٍ ولغةٍ مهذّبة فيما يخص موضوع العلاقة مع إسرائيل وأميركا، وكم من أكاذيب بيعت في سوق النضال الثوري السوداء تم طرحها بصراحة ووقاحة، تقوم على ضرورة طمأنة واشنطن والغرب على أن البديل لن يهدم المعادلة القائمة في الشرق الأوسط، وسيكون ملتزمًا بالمواصفات المطلوبة أميركيًا لمن يحكم في مصر ومحيطها.
نعم، كانت الانتهازية غالبةً على تفكير متصدّري المشهد منهم إلى الحدّ الذي لم يكونوا يمانعون معه في التطبيع المستتر، أو التغاضي عن التطبيع الصريح، إعلاميًا وصحافيًا، وهي الانتهازية التي طالت ما تسمّى جبهات العمل الثوري التي تسامحت مع مقاولٍ هاربٍ بأمواله، لا بأفكاره ومبادئه، من معسكر السيسي، لكنها لا تتسامح أبدًا مع شيخ الأزهر وهو يتخذ مواقف تعد بطولية في مواجهة منظومة التدمير التي تستهدف الثوابت الدينية والوطنية والثقافية في مصر.. هي تلك الانتهازية، كذلك، التي رأت في سموم المعلق الصهيوني، إيدي كوهين، ما يستحق الاقتراب والاحتفاء والاستخدام سلاحًا ضد السيسي.
في ظل هذا المناخ الرائع، كيف لا تمضي واشنطن وتل أبيب في رسم الخريطة الجديدة، من دون أن يفتح حاكمٌ عربي فمه، معترضًا أو حتى مستفهمًا، ومن دون أن يصدر عن جامعة الدول العربية ما يثبت أن فيها بقايا حياة، أو حياء، ولم تفُح رائحتها جثتها المتحلّلة بعد.
وحده، محمود عبّاس، من النظام الرسمي العربي يحتج ويرفض، ويصرخ مناديًا على حل الدولتين، لكن أحدًا لا يجيب.
في أزمنةٍ ليست بعيدة، كان الخبر المنطقي في ظروفٍ أقل فجاجةً ووقاحةً من ذلك، أن يكون رئيس السلطة الفلسطينية قد جال على أربع عواصم عربية على الأقل، وبالتحديد ما تعرف بدول الطوق، وأن تصدُر من أي جحر من جحور السلطة العربية دعوةٌ لقمة عربية عاجلة للتباحث بشأن تلك التي هي أكبر من نكبة وأكثر من نكسة.. وكان من البديهيات أن تشتعل النقابات المهنية وساحات الجامعات العربية ببراكين غضبٍ وشلالات بكاء على الضياع الكامل لفلسطين، والانسحاق التام أمام العدو.
كانت تصنيفات الدول العربية تتحدّد على ضوء الموقع الجغرافي من الاحتلال، فكان لدينا مصطلح "دول الطوق" الذي اخترعه جمال عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي، ويعني ذلك الحزام الذي يطوّق العدو ويحاصره، ويشمل الأردن ومصر وسورية ولبنان ..
الآن لم يعد ثمّة طوق، ولا أسورة، بل صار الكل خواتم في أصابع إسرائيل تقلبها كيف تشاء، ويتنافسون في "تثمين" جهود السيد ترامب، فيما انفردت مصر تحت حكم السيسي بدور حارس حدود إسرائيل الكبرى.
إن المتأمل في واقع الشعوب المسلمة اليوم، وما تعانيه من أزمات نفسية واجتماعية واقتصادية بل وحتى أخلاقية! ليدفعه المشهد للتساؤل؟ إلى متى ستبقى الأمة تدوّن المظالم وتحصي المصائب وتعد الضحايا وتوجه أصابع الاتهامات!
لا شك أن الغالبية العظمى متفقة أن المسؤولية تقع على عاتق الحكومات، ولا يجادل أحد في أن ثورات الربيع العربي كانت دليلا صارخا على رفض هذه الشعوب المسلمة لواقعها المرير ولرغبتها الجامحة في تغيير أنظمة الحكم التي تأنقت في أساليب الاستبداد والقمع والتجويع للرعية وكذا السجن والتنكيل والتشريد لكل من عارض سياساتها وتعدياتها بحق الإسلام والمسلمين.
ولكن هذه الحكومات قد خبرت شعوبها المسلمة وأدركت أن لجام الدين هو السبيل الأنجع لترويضها وتطويعها راغمة فتسكن وتهدأ وتتبدد ثورتها مهما أسرف الحكام في الظلم وقبح التدبير!
وكما أسلفنا من قبل في مقالتنا (آن الأوان لتحطيم آصار علماء السوء) فإن الحاكم قد سخّر لخدمته فريقا متخصصا من المشايخ والعلماء حرفتهم المتاجرة بدين الله وليّ النصوص وتحريف الكلم عن مواضعه في سبيل إخضاع الشعب لأهواء هذا الحاكم وإن كانت تلك الأهواء جريمة كبرى في منظار الإسلام وأئمته.
ويبلغ نشاط هذه الحاشية الملازمة لبلاط السلاطين، ذروته حين يلوح في الأفق دخان ثورة أو رذاذ موجة استنكار أو حتى هتافات مظاهرات احتجاج سلمية!
فما إن تبدأ ملامح السخط بالتبلور إلى رد فعل غير مرغوب فيه عند هؤلاء الحكام، حتى يخرج علينا أبواقهم، وعلماء السوء، المرقعين للظالمين، فيحتلون المنابر والشاشات ويخرجون أوراقهم المهترئة لتكرار نفس سيناريو الحجج البالية! مهمتهم: إحباط النفوس التي اضطرمت حنقا وأسا ورغبة في التغيير.
ولاشك أن أول كرت يرفعه هؤلاء بوجه المستنكرين هو تحريم الخروج عن الحاكم واعتبار جميع الحكام اليوم-الجاثمين على صدور شعوبهم–ولاة أمر مسلمين وجبت طاعتهم ويحرّم الخروج عليهم بل وحتى انتقادهم. وبعرضهم لقائمة من الأحاديث والنصوص التي تدعم قولهم بغض النظر عن الخطأ في تنزيلها على واقعنا، تكبّل أي حجة في المطالبة بتجريم الحاكم!
وقفة
إن قوة أي أمة مسلمة-لا شك-خلْفها حاكم مسلم، يوالي المسلمين ويبرأ من الكافرين، يحكم بما أنزل الله ويطبق شريعته، يُقاتَل من ورائه ويدفع به العدوان، صفته العدل والقسط، والإخلاص والفداء للأمة المسلمة، فتتوازن الأمة داخليا، وتدفع عدوها خارجيا وتزدهر حضارتها وتصلح أحوال الرعيّة. ثم بالعكس كلما فسد الحاكم، فسد معه كل شيء وتزعزعت أركان الدولة وتقهقرت أحوال الرعية وامتدت يد الأعداء الخارجية وعبثت بها أيدي النفاق الداخلية وتنتهي بقصة سقوط حرّ، ولا يمكن أن يقوم حكم في بلاد مسلمة دون قيام العلماء الربانيين لثغرهم، يقوّمون الاعوجاج ويفتون للناس في المدلهمات وأمور العبادة والحياة، ينصحون للحاكم ولا تأخذهم في دين الله لومة لائم، فبهم تتحد فئات الأمة وبهم تتقدم الأجيال للقمة. ولكن إن فسد الحكام وفسد معهم العلماء فالمصاب جلل، كما جاء في الأثر:
(صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، العلماء والأمراء).
نقطة الضعف
ولأن حكامنا أدركوا تماما-كما يدرك العلماء-أن الدافع الأقوى للشعوب للثورة والانتفاض والمطالبة بعزل الحاكم هو أن يرسخ في أذهانهم وجوب عزل هذا الحاكم في شريعة الإسلام، والذي هو في الأخير مرتبط ارتباطا وثيقا حاسما بقضية إسلام هذا الحاكم أو كفره وكذا تطبيقه لحكم الله أو تبديله لشرع الله، وعلموا تمام العلم أن رسوخ هذا الحكم في أذهان المسلمين يترتب عليه نتائج قد تقضي على أحلامهم وعروشهم وينفلت معها عقد أهدافهم. فكان التوظيف المحموم لعلماء السوء، من أجل تبديد أي محاولة تفكير للفصل في هذه القضية -وإن وصلت حالة هذه الشعوب إلى أسوء حالات الظلم والانهيار -وكان الترويج بقوة لتلك الحجج البالية في أن الخروج عن الحاكم فساد في الأرض يوجب العقاب!
ولن تجد حاكما واحدا نصب على ديار المسلمين إلا وله مؤسسة دينية ضخمة تؤمن لهم الشرعية لتأمين انقياد الشعب، الذي يشكل الدين جزءا رئيسيا من تركيبته النفسية والثقافية.
الحكم الشرعي
وإن المتفَق عليه عند علماء الأمة السابقون واللاحقون، هو أن الحاكم الذي لا يجوز الخروج عنه هو المسلم الذي يحكم بما أنزل الله وإن ظلم، فله حق السمع والطاعة في كل ما يأمر به، ما لم يكن معصية، في المنشط والمكره، والصبر على الأثرة، وألا ينازعه أمره وصفته، فإن بدّل حكم الله وحكم بغير ما أنزل! فقد كفر، وجاز الخروج عليه بل وحرّم البقاء تحت حكمه كما في الحديث الصحيح المتفق عليه، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا رسول صلى الله عليه وسلم فبايعناه فكان مما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله، قال صلى الله عليه وسلم:
(إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان).
و معنى– بواحا–يريد ظاهرًا، باديا… (وعندكم من الله برهان) قال: الحافظ بن حجر في شرح البخاري ( أي نقص آية وخبر صحيح لا يحتمل… التأويل. وقال النووي في شرحه لمسلم: (المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام). أي أنه لا يشترط أن يعلن هذا الحاكم الردة عن الإسلام أو الكفر، بل يكفى إظهاره لبعض المظاهر الموجبة للكفر.
لوازم الحكم
إذًا فمسألة الخروج على الحاكم مقرونة بثبوت كفره ثم يترتب عليها وجوب قتاله والخروج عنه، وقد نقل الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم عند شرح الحديث السابق عن القاضي عياض الإجماع على الخروج على الحاكم إن كفر. فقال: قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر. وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل. وقال وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها. قال القاضي عياض: فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة، خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك. فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه فإن تحقق العجز لم يجب القيام ويهاجر المسلم عن أرضه ويفر بدينه”[1].
فإن طوينا صفحة الكفر البواح ونظرنا في أحد موجبات عزل الحاكم الأخرى سنجد ترك الحكم بما أنزل الله موجب رئيسي يجيز عزله، وقد ورد هذا في جمع من الأحاديث النبوية الصحيحة منها الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله)[2].
وإقامة كتاب الله تعني الحكم بما أنزل الله… فمن لم يحكم بما أنزل الله فلا ولاية له.
وأما إن كان الحاكم مسلما لم يتلبس بناقض من نواقض الإيمان، أو كفر فيه من الله برهان أو لم يحكم بغير ما أنزل الله فلا يجوز الخروج عليه ولا عزله.
ووجوب الخروج مشروط بالقدرة والمنعة، وجواز الخروج فيهما مشروط بأن يرجى عقد الإمامة لرجل صالح تتواجد فيه شروط الإمامة، وأما إذا صار الأمر من جائر إلى جائر، أو استلزم مثل استيلاء الكفار على المسلمين، فلا يجوز الخروج.
تزكية فاسدة
ثم إن اجتمعت جريمة كفر الحاكم وحكمه بغير ما أنزل الله وظلمه وتضييعه لحقوق الرعية وموالاته لأعداء الإسلام، فلا يرتاب عاقل حول وجوب عزله وقتاله وإن زكاه جميع علماء السلطان.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن أولئك الذين يزكون من يحكم بغير ما أنزل الله: (إن هؤلاء الطواغيت الذي يعتقد الناس فيهم وجوب الطاعة من دون الله كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، كيف لا وهم يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويسعون في الأرض فساداً بقولهم وفعلهم وتأييدهم. ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلاً لا ينقلهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لأنه لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم)[3]
لقد اعتبر الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجرد عدم التكفير جريمة كبرى، فكيف بمن يتخصص في تزكيتهم وتلميعهم ويشيد بفعالهم ويبرر طاماتهم ويعادي من أنكر عليهم!
واقع الحكام اليوم ولنأتي لواقع حكامنا اليوم، إننا نشاهد أمام أعيننا كفرا بواحا لنا فيه برهان، فأغلب حكامنا يحكمون بما لم ينزل به الله سلطانا، وقد عمدوا لالتزام أحكام الدساتير البشرية الوضعية ومنهم من غرق في وحل الديمقراطية التي تحكم برأي أغلبية الشعب لا حكم الشرع، ومنهم من يجعل الحكم صوريا إسلاميا في حين يخضع لولاية الكفار من اليهود والنصارى علنا ووصلت هذه الموالاة إلى المشاركة مع الكفار في قتال المسلمين لأجل مصلحة الغرب الكافر. ويكفي مثالا الغزو الأوربيوأمريكي لبلاد المسلمين في العراق وأفغانستان الذي حظي بمشاركة هؤلاء الحكام وكل ألوان الدعم البشري والمادي.
هذا دون أن نحسب ما تلبسوا به من أشكال مكفرات الأقوال والأفعال وما أتوا به من أسباب الخروج من ملة المسلمين. ودون أن نحصي سجل المظالم الثقيل الذي تئن لوطأته الشعوب المنهوبة المسلوبة الثروات والحقوق.
وبالنظر للحكم الشرعي في حالة حكامنا الخونة اليوم فإننا سنتفق جميعا ألا ولاية لهم شرعية على الشعوب المسلمة، وهذا يترتب عليه أحكام، منها سقوط ولاية الحاكم وبطلان إمامته، ووجوب الخروج عليه بالقوة وخلعه، بل ووجوب قتله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :(من بدل دينه فاقتلوه)[4]. كما يجب عدم مساعدته ولا العمل لديه ولا مشاركته جريمة الحكم بغير ما أنزل الله بأي منصب أو أي شكل. كما لا يعتبر بعهوده ولا مواثيقه، ولا معاهداته ولا أمانه… لأنه لا يمثل المسلمين. ولدرء مفاسد عزله وجب المسارعة في نصب إمام مسلم بدلا عنه.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري: (إنه-أي الإمام- ينعزل بالكفر إجماعا فيجب على كل مسلم القيام في ذلك فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض).[5]
إننا نشاهد في كل يوم مشهدا تدمي له القلوب، لحكام المسلمين وقد أسرفوا في مولاة الكافرين من يهود ونصارى، فأضحت اجتماعاتهم ولقاءاتهم تعكس تلك المودة والقربى مع أعداء الإسلام رغم تلطخ أيديهم بدماء المسلمين، توقع معهم المواثيق والمعاهدات والتحالفات وتسخر تحت أيديهم الجنود والمعدات والخدمات والولاءات! وأضحت ثروات هؤلاء المسلمين منهوبة وحقوقهم مسلوبة بل وأصبحنا ندفع الجزية وهم الصاغرون. وهذه الحقيقة وحدها-والتي لا يمكن أن يطمسها عالم سلطان-تكفي لأن يتفكر المرء في أي فسطاط يريد أن يكون، هل سيقبل بفسطاط فيه القائد كافرا فقط لأن حاكمه ارتضاه وليا أم أن ينأى بنفسه عن جريمة الكفران! لا يفعلها مسلم عاقل!!
أنطاكية مدينة عظيمة كبيرة تقع غربي مدينة حلب على نهر العاصي قريبا من مصبه في البحر المتوسط وهي تعادل القسطنطينية من حيث المساحة والثراء -تقع اليوم في تركيا- وهي من .. ظلت إمارة أنطاكية الحصينة في مأمن من محاولات الاسترداد الإسلامي التي قام بها القادة العظام أمثال عماد الدين زنكي وولده نور الدين محمود...
تعتبر الحملات الصليبية الشهيرة في القرون الوسطى والتي امتدت لقرنين من الزمان من أكثر الفترات التاريخية امتلاءً بالأحداث والعبر والدروس والمواقف؛ فقد مثلت ذروة الصراع والمواجهة بين العالمين الإسلامي والمسيحي، هذا الصراع الخالد الذي لم يتوقف يوماً منذ ظهور الإسلام وانطلاقه من جزيرة العرب نحو العالمية وربوع الأرض، منذ معركة مؤتة سنة 8 هـ، وحتى كتابة هذه السطور وإلى أن ينزل المسيح -عليه السلام- في آخر الزمان، وسيظل الصراع محتدماً بين العالمين الإسلامي والمسيحي، هذا ترجح كفته تارة، وذاك تارة، وضعف وقوة أحد العالمين تكون دوماً على حساب العالم الآخر، والأيام دول، والليالي حبلى بكل عجيب.
وفي هذا المقال سنعيش مع واحد من هذه المواقف الرائعة التي وقع فيها الصدام بين العالم الإسلامي والمسيحي، استرد فيه المسلمون كرامتهم، وثأروا لهزيمتهم، وحرروا بلادهم، وانتقموا لأعراضهم، بعد طول غيب، ولا تعجب، بعد مائة وسبعين عاماً من الاحتلال الصليبي لبقعة غالية من بقاع العالم الإسلامي -وكلها غالية- ألا وهي أنطاكية درة الجزيرة الفراتية، وواسطة عقد الشام والعراق.
أنطاكية من المسلمين إلى الصليبيين
أنطاكية مدينة عظيمة كبيرة تقع غربي مدينة حلب على نهر العاصي قريبا من مصبه في البحر المتوسط وهي تعادل القسطنطينية من حيث المساحة والثراء -تقع اليوم في تركيا- وهي من أكثر مدن الشام تحصينا تحيط بها المرتفعات من الجنوب والشرق ويكتنفها نهر العاصي من الغرب وتكثر بها الغابات والمستنقعات من جهة الشمال ويحرسها سور مرتفع بالغ التحصين طوله 12ميلا وبه 360 برجا، وتقع قلعة انطاكية على قمة الجبل داخل أسوار المدينة، فتحها المسلمون في عهد الفاروق عمر -رضي الله عنه- على يد أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه-، واستمرت تحت حكم المسلمين حتى قدوم الحملة الصليبية الأولى سنة 491 هـ.
فقد حاصر الصليبيون أنطاكية بداية من سنة 490 هـ ولكنهم لم يستطيعوا الاستيلاء عليها لحصانتها ومناعتها الفائقة وكان يحكمها الأمير السلجوقي ياغي سيان -أحد رجال ملك شاه- من سنة 480 ه؛ فأرسل يستنجد بأمراء الشام فأسرع إليه أمير حمص وأمير الموصل وأمير دمشق بقوات عسكرية قوية حققت انتصاراً سريعاً على الصليبيين ظنوا به أن الأمر قد انتهى فعادوا إلى بلادهم.
في هذه الفترة قرر العديد من قادة الحملة الصليبية الفرار من القتال منهم بطرس الناسك وهو مسعر الحملات الصليبية الشهير بخطبه التي ألهبت حماس الأوروبيين للاشتراك بالحملات الصليبية، قرروا الفرار بعدما رأوا مناعة المدينة وحصانتها، وتوالي النجدات عليها، ولكن وقعت الخيانة من حيث لا يدري أحد !!
فقد قام الأفضل بن بدر الجمالي وزير الدولة الفاطمية الباطنية الخبيثة بمراسلة الصليبين المحاصرين أنطاكية وعقد معهم تحالفاً على أن تكون أنطاكية للصليبين، وبيت المقدس للفاطميين، وكان السلاجقة أعداء الفاطميين قد انتزعوا منهم بيت المقدس؛ فوافق الصليبيون على الفور وتجدد نشاطهم لمواصلة الحصار مرة أخرى.
فائدة الخطيب: مواقف الشيعة والفرق الباطنية عبر التاريخ مليئة بالخزي والعار والخيانة لله ولرسوله وللأمة الإسلامية، وما حكم الرافضة والباطنيون بلداً مسلماً إلا حولوه إلى بؤرة توتر وصراع وإثارة الفتن في أوساط المسلمين، وكان حكمهم ودولهم عبر التاريخ حتى اليوم وبالاً وخبالاً على العالم الإسلامي.
ومما ساعد على سقوط أنطاكية بيد الصليبين أن كثيراً من سكان المدينة كانوا من الأرمن الذين كان هواهم -وما زال -مع العالم المسيحي؛ فقد حاول أمراء الشام بالتعاون مع يا غي سيان أمير أنطاكية الهجوم مرة أخرى على الصليبيين المحاصرين لأنطاكية، ولكن خطة الهجوم تسربت إلى الصليبيين عن طريق الأرمن ففشلت وزاد الطين بلة على أمير أنطاكية، ثم اكتملت فصول الخيانة بقيام أحد الأرمن واسمه فيروز بفتح أحد أبواب المدينة سراً فتسربت القوات الصليبية منه ودخلت المدينة واحتلتها وقتلت كثيراً من أهلها المسلمين، واشترك معهم الأرمن والسريان.
فائدة الخطيب: عدوك هو عدو دينك، أما أوهام الوطنية والأخوة الإنسانية وأشقاء الوطن وزمالة الأديان وحقوق الآخر، كل ذلك خداع ونفاق لا يراد منه إلا التعمية عن أصل الصراع وحقيقة العداوة.
خرج مدد من الموصل بقيادة الأمير "كربوقا" لرفع الحصار عن المدينة، ولكنه وصل بعد سقوط المدينة بأربعة أيام، فشدد عليها الحصار حتى ساءت أحوال الصليبين، إذ وجدوا أنفسهم محاصرين من الداخل والخارج وقلت المؤونة لديهم مما اضطرهم إلى أكل الجيف وأوراق الشجر، وانهارت معنوياتهم ، وفكر الصليبيون في إرسال وفد إلى كربوقا لطلب الأمان منه ليخرجوا من أنطاكية، غير أن "كربوقا" رفض طلبهم وقال لهم: لا تخرجون إلا بالسيف، كما دخلت بالسيف.
وهنا لجأ بطرس الناسك لحيلة خبيثة؛ فاختلق قصة الحربة المقدسة؛ فقد جمع الناس وخطب فيهم، وكان خطيباً مفوها، فقال لهم بأنه رأى القديسين في رؤيا يقول لهم بأن الحربة المقدسة التي طعن بها المسيح عند صلبه، موجودة في أنطاكية، وقد تم نبش كاتدرائية أنطاكية بحثا عن الحربة، وكان قد خبأها هناك ليلاً؛ فاستخرجها أمام الصليبيين؛ فحميت عزائم الصليبيين والتفوا حول زعمائهم، وقويت نفوسهم على الاندفاع تجاه المسلمين وهم في غاية القوة والمعنويات العالية، فكسروا المسلمين وفكوا الحصار عن أنطاكية، واضطر كربوقا للعودة إلى الموصل، وأصبحت أنطاكية إمارة صليبية سنة 492 هـ، وهي أول إمارة صليبية يؤسسها الصليبيون في بلاد الشام.
أنطاكية من الأيوبيين إلى المماليك
ظلت إمارة أنطاكية الحصينة في مأمن من محاولات الاسترداد الإسلامي التي قام بها القادة العظام من أمراء وملوك الشام والموصل الكبار، أمثال عماد الدين زنكي وولده نور الدين محمود ومعهم نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه ومن بعدهم صلاح الدين الأيوبي، وهم الذين حققوا نجاحات هائلة ضد الصليبيين في الشام وقلصوا الوجود الصليبي من أربع ممالك صليبية كبرى يتبعها كثير من مدن وقرى وأحواز الشام، حتى انحصر في إمارة طرابلس وإمارة أنطاكية التي ظلت مستعصية على المسلمين لأكثر من 170 سنة متواصلة.
حدث تغييرات كبرى في القيادة السياسية في المنطقة، فقد تضعضع حكم الأيوبيين بسبب الصراعات الداخلية بينهم، وسادت فترة من المسالمة بين الصليبيين والمسلمين لتردي أحوال الجانبين، ولم يقطع تلك المسالمة إلا الحملة الصليبية السابعة التي قادها ملك فرنسا "لويس" التاسع على مصر والتي كانت سبباً لسطوع نجم المماليك كقوة إسلامية ناشئة تحل محل القوة الآفلة -الأيوبيين -وخلال الفترة الممتدة من 647هـ حتى سنة 658 هـ وقعت تطورات سياسية وعسكرية كبرى في المنطقة أدت لقيام دولة المماليك وسقوط دولة الأيوبيين وكسر التتار لأول مرة في معركة عين جالوت العالمية ثم مقتل بطل المعركة "سيف الدين قطز" واعتلاء "الظاهر بيبرس " كرسي السلطنة مكانه في أواخر سنة 658 ه، ليشهد الصراع التاريخي بين المسلمين والصليبيين فصلاً جديداً من المواجهات لا يقل روعة عن مشاهد الناصر صلاح الدين وإنجازاته الكبرى.
فائدة الخطيب: سنة الاستبدال من سنن الله الجارية في الكون والخلق، تعمل باستمرار وعلى الدوام دون توقف أو محاباة أو تبديل أو تحويل، فالأيوبيون قاموا بجهود رائعة في جهاد الصليبيين وحقق أروع انتصار بتحرير بيت المقدس، ولكن لما مالوا إلى الدنيا وتنافسوها وغرتهم الكراسي واختلفوا فيما بينهم وصار بأسهم بينهم شديد، جرت عليهم السنن، وقيض الله عز وجل للأمة من يحمل همها ويدافع عن بيضها وحياضها، فكان المماليك الذين هم في الأصل عبيد وأرقاء عند الأيوبيين، ولكن الله عز وجل يصنع لدينه وأمته من حيث لا يحتسب الخلق.
بيبرس وترتيب الدولة
كان على بيبرس مواجهة العديد من المواقف الصعبة في بداية عهده، فواجهها بكل حسم وثبات، وأبدى مهارة فائقة وبراعة في المزواجة بين العفو والشدة، وقام بتنظيم شؤون دولته، وسعى لإيجاد سند شرعي تحكم دولة المماليك باسمه، فأحيا الخلافة العباسية في القاهرة، واستقدم أحد الناجين من أسرة العباسيين بعد مذبحة هولاكو في بغداد، ويدعى "أبا العباس أحمد"، وعقد مجلساً في القلعة في 8 محرم سنة 661ه حضره قاضي القضاة وكبار العلماء والأمراء، وقرأ نسب الخليفة على الحاضرين بعدما ثبت عند القاضي، ولُقِّب الخليفة بالحاكم بأمر الله، وقام بيبرس بمبايعته على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، ولما تمت البيعة أقبل الخليفة على بيبرس وقلده أمور البلاد والعباد، فصار الخليفة منصباً شرفيا والسلطة الفعلية بين السلطان بيبرس.
ونظراً للخلفية العسكرية لبيبرس فقد جعل جلّ همه في تقوية الجيش المملوكي استعداداً لخوض صراع طويل المدى مع خصوم الأمة من الصليبيين والتتار، فسعى "بيبرس" إلى تجديد الجيش وإمداده بما يحتاج من السلاح والعتاد، وأولى عناية بالأسطول ودور صناعة السفن المصرية في الفسطاط والإسكندرية ودمياط. وعمل على تحصين مناطق الحدود، وتنظيم وسائل الاتصال ونقل المعلومات من خلال نظام البريد، وتوسع في بناء المنائر لتكون بمثابة نقاط مراقبة متقدمة للحذر من تحركات العدو وهجماته المباغتة.
الاستعداد لتحرير أنطاكية
كان "بيبرس" يرى في الصليبيين عداوة أشد خطراً وأبعداً أثراً من عداوة التتار، فرغم وحشية التتار ومذابحهم التي فاقت مذابح الصليبيين كماً وكيفاً، إلا إن بيبرس كان يرى في الصليبيين عدواً تاريخياً عدواته لا تنتهي، في حين أن التتار كان جهلة برابرة غير متحضرين وأن دخولهم الإسلام مسألة وقت، خاصة بعد دخول القبيلة الذهبية -أحد فروع التتار -الإسلام بعد إسلام قائدهم السلطان العظيم بركة خان حفيد جنكيز خان.
ومما زاد من عزم بيبرس في البدء بالصليبيين وكسر شوكتهم، ما حدث منهم منذ ظهور التتار كعدو شرس في المنطقة. فبعد خروج لويس التاسع من الأسر لم يرجع إلى بلاده فرنسا، بل قضى أربع سنوات في الشام يحاول جاهدًا تصفية الخلافات بين أمراء الصليبيين، والمحافظة على كياناتهم، وتنظيم الدفاع عن إماراتهم الصليبية، فعني بتحصين عكا وحيفا وقيسارية ويافا، وعمل على إعادة الصلح بين إمارة إنطاكية وأرمينية وسعى لإقامة حلف مع التتار، غير أن مسعاه لم يكلل بالنجاح، ثم غادر عكا عائدًا إلى بلاده، ولكن بعد أن فتح الباب لفكرة التحالف بين التتار والصليبيين.
أصبح التحالف بينهم حقيقة واقعة عندما تحالف ملك الأرمن "هيثوم" الأول وأمير أنطاكية بوهيمند السادس -وكان زوج ابنته - مع التتار، واشتركا معهم في الهجوم على عواصم الإسلام ؛ بغداد سنة 656 وحلب سنة 658 ه ودمشق سنة 658 ه.
فائدة الخطيب: كراهية الإسلام هي الرابط الجامع لكل أعداء الأمة على اختلاف الملل والرايات والتوجهات، فتجد الصليبي يتحالف مع اليهودي والمجوسي والهندوسي والوثني والملحد على بينهم من عداوة وبغضاء من أجل الكيد للإسلام وإبادة أهله، وصدق المولى في محكم التنزيل (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).
وبدأت عمليات بيبرس العسكرية ضد الصليبيين في سنة 663هـ؛ فهاجم أولاً "قيسارية" لتأديب ملك الأرمن الغادر على جرائمه بحق المسلمين وفتحها عنوة في 8 من جمادى الأولى من العام نفسه، ثم عرج إلى أرسوف، ففتحها في شهر رجب من السنة نفسها. وفي السنة التالية استكمل "بيبرس" ما بدأ، ففتح قلعة "صفد"، وكانت معقلاً من معاقل الصليبيين، وخاصة بفرسان المعبد أو الداوية، وكانوا من أشد الخلق كراهية ومحاربة للمسلمين، فأمر بإعدام حامية القلعة فضربت أعناقهم في نفس المكان الذي كانوا يضربون فيه أعناق الأسرى المسلمين، وكان "بيبرس" يقود جيشه بنفسه، ويقوم ببعض الأعمال مع الجنود إثارة لحميتهم فيجر معهم الأخشاب مع البقر لبناء المجانيق اللازمة للحصار، ليعطي الأسوة الحسنة لجنوده في البذل والجهاد.
استغل بيبرس صدمة الرعب التي أصابت الصليبيين مما فعله مع فرسان الداوية وكانوا من أشرس الصليبيين في القتال، فإذا بهم كالنعاج المستسلمة للذبح على يد المسلمين، فحاولت باقي الامارات الصليبية عقد مصالحات مع بيبرس يتعهدون فيها بدفع الجزية، وكانت سياسة بيبرس تجاه الصليبيين في الشام تقع على الاستفادة من خلافاتهم الجانبية، فقبل بيبرس الصلح من بعضهم، ورفضها من البعض الآخر، وفي نيته أن يوقع الخلاف والشقاق بين الصليبيين، وقد ركز هجماته العسكرية على مستوطنات الصليبيين في الشمال والجنوب، وبعد سلسلة مناورات عسكرية ماهرة، فوجئ الصليبيين بجيوش بيبرس أمام إمارة أنطاكية تحاصرها من كل اتجاه.
تحرير أنطاكية
كان بيبرس قد استعد لهذه الموقعة الحاسمة خير استعداد، ومهد لسقوط الإمارة الصليبية بحملاته السابقة، حتى جعل من أنطاكية مدينة معزولة، مغلولة اليد، محرومة من كل مساعدة ممكنة، فخرج من مصر في 3 من جمادى الآخرة 666هـ/ 1268م ووصل إلى غزة، ومنها إلى "يافا" فاستسلمت له، ثم نجح في الاستيلاء على "شقيف أرنون" بعد حصار بدأه في 19 من رجب 666هـ/ 1268م، وبفتح يافا وشقيف لم يبق للصليبيين جنوبي عكا التي كانت بأيديهم سوى قلعة عتليت.
ثم رحل "بيبرس" إلى طرابلس وكانت في هذا الوقت تابعة لأنطاكية، فوصلها في 15 من شعبان 666هـ، فأغار عليها وقتل كثيرًا من حاميتها، وقطع أشجارها وغور مياهها، ففزعت الإمارات الصليبية، وتوافد على بيبرس أمراء أنطرسوس وحصن الأكراد طلبًا للأمن والسلام، وبهذا مهّد الطريق للتقدم نحو أنطاكية.
استعمل "بيبرس" الحيطة والحذر في تحركاته حتى يخفي وجهته على جواسيس الصليبيين وكانوا منتشرين في الشام ينقلون أخبار المسلمين؛ فقد رحل "بيبرس" من طرابلس في 24 من شعبان 666هـ دون أن يطّلع أحدًا من قادته على وجهته، واتجه إلى حمص، ومنها إلى حماة، وهناك قسّم جيشه ثلاثة أقسام؛ حتى لا يتمكن الصليبيون من معرفة اتجاهه وهدفه؛ فاتجهت إحدى الفرق الثلاث إلى ميناء السويدية لتقطع الصلة بين أنطاكية والبحر، وتوجهت الفرقة الثانية إلى الشمال لسد الممرات بين قلقلية والشام لمنع وصول إمدادات من أرمينية الصغرى، أما القوة الرئيسية وكانت بقيادة "بيبرس" فاتجهت إلى أنطاكية مباشرة، وضرب حولها حصارًا محكمًا في أول رمضان سنة 666هـ.
وكان "بوهيموند" السادس ملك أنطاكية الصليبي وقتها موجودا في طرابلس، وتولى حماية المدينة نائبه "سيمون مانسل"،فخرج مانسل بجيشه لمحاربة "بيبرس" لكنه وقع في الأسر، ثم هاجم "بيبرس" المدينة لاختبار مناعتها والتعرف على نقاط ضعفها، بعدها قرر استخدام الهجوم الشامل من كل المحاور مع التركيز على نقاط بعينها من سور المدينة الحصين بغية نقبها والدخول منها.
وفي يوم السبت عصراً الموافق 4 رمضان سنة 666 ه الموافق 18 مايو 1268 م كانت أنطاكية على موعد للعودة لحظيرة الإسلام بعد 174 سنة من الاحتلال الصليبي، عندما دخلت قوات "بيبرس" المدينة بعد أن نقبوا أسوارها، وقامت معركة كبيرة حيث أمر بيبرس بقفل أبواب المدينة حتى يمنع خروج أي شخص من المدينة، ليفعل في المدينة مثلما فعله الصليبيون عندما احتلوها أول مرة، ولكن الآلاف استطاعوا اللجوء إلى قلعة المدينة الموجودة بأعلى الجبل، فبعثوا يطلبون الأمان فأمنوا، وصعد السلطان إليهم ومعه الحبال، واستطاع أسر أعداد ضخمة منهم، وفرقهم على الأمراء.
أمر السلطان بجمع الغنائم لتقسم؛ فأحضر الناس الأموال والمصاغ والذهب والفضة حتى صارت تلا، وقسمت بين الناس وطال الوزن فقسمت النقود بالطاسات، وقسمت الغلمان على الناس، فلم يبق غلام إلا وله مال، وتقاسم النساء والبنات والأطفال. وأبيع الصغير باثني عشر درهما والجارية بخمسة دراهم. وأقام السلطان يومين وهو يباشر القسمة بنفسه، فما ترك شيئا حتى قسمه. ثم ركب السلطان إلى القلعة فأحرقها، وعم بالحريق أنطاكية، فأخذ الناس من حديد أبوابها ورصاص كنائسها مالا يوصف كثرة، وأقيمت الأسواق خارج المدينة، وقدم التجار إليها من كل جانب.
وهكذا سقطت المدينة الحصينة في أربعة أيام فقط، في حين ظل الصليبيون من قبل حاصروها قرابة العام حتى احتلوها، ولم يحتلوها إلا بالخيانة كما أسلفنا، وهذا هو الفارق بين جند الإسلام وغيرهم.
كان سقوط إنطاكية أعظم فتح حققه المسلمون على الصليبيين بعد استرداد صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس، وفي الوقت نفسه كان كارثة كبرى ألمت بالصليبيين وزلزلت كيانهم، فقد كانت أنطاكية إحدى المدن المقدسة عندهم -ومازالت - ومن طرائف الفتح أن "بوهيمند" السادس أمير إنطاكية لم يعلم ما حدث لها؛ إذ كان في طرابلس جنوبي إنطاكية، فتكفل بيبرس بإخباره بهذه الكارثة في رسالة تفيض سخرية لاذعة بعثها إليه من إنشاء الكاتب البليغ "ابن عبد الظاهر" صاحب كتاب "الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر"، ومما جاء فيها:
وكتابنا هذا يتضمن البشر لك بما وهبك الله من السلامة وطول العمر بكونك لم تكن لك في هذه المدة بإنطاكية إقامة، فلو كنت بها كنت إما قتيلاً وإما أسيرًا، وإما جريحًا وإما كسيرًا، وسلامة النفس هي التي يفرح بها الحى إذا شاهد الأموات، ولعل الله ما أخرك إلا لأن تستدرك من الطاعة والخدمة ما فات، ومالم يسلم أحد يخبرك بما جرى خبرناك، ولما لم يقدر أحد يباشرك بالبشرى بسلامة نفسك، وهلاك ما سواها باشرناك بهذه المفاوضة وبشرناك، لتحقق الأمر على ما جرى، وبعد هذه المكاتبة الا ينبغي لك أن تكذب لنا خبراً، كما أن بعد هذه المخاطبة يجب أن لا تسأل غيرها مخبراً .
وبينما كان "بيبرس" في إنطاكية وصل إليه رسل الملك هيثوم الأرميني يعرضون عليه اتفاق بمقتضاه يعيدون ما أخذوه من المدن الإسلامية في أثناء الغزو المغولي للشام، مثل بهنسا، ومرزبان، ورعبان، كما ترك فرسان الداوية "حصن بغراس"، وبذلك عاد شمال الشام إلى حوزة المسلمين.
"بيبرس" بهذا الانتصار العظيم أثبت جدارته واستحقاقه لقيادة المنطقة في هذا الظرف السياسي الدقيق، فقد كان تحرير أنطاكية إيذاناً بحركة جهاد كبرى ستنتهي تماماً وللأبد الوجود الصليبي في الشام بعد ذلك بربع قرن تقريباً عندما استطاع "الأشرف بن قلاوون" تحرير طرابلس سنة 691 ه.
أما الصليبيون؛ فقد عمهم الفزع نزلت عليهم كارثة ذكرتهم بضياع بيت المقدس من قبل، وكان سقوط أنطاكية النهاية الفعلية للحملات الصليبية على الشام؛ فقد كان النصارى في أوروبا يتشاءمون من سنة 666 ه لأنها ترمز عندهم -وفق عقيدة المحرفة- لرمز الشيطان، ويعتقدون أنها سنة خروج الوحش؛ فلما وقعت الهزيمة عليهم في أنطاكية زاد يقينهم وعزمهم على التخلي تماماً عن فكرة الحروب الصليبية لأن الرب غير راض عنها!
إنَّ توحيد الله عز وجل ميثاق معقود بين الفطرة وخالقها، ميثاق مودع في كيانها، مودع في كل خلية حية منذ نشأتها، وهو ميثاق أقدم من الرسل والرسالات، وفيه تشهد كل خلية بربوبية الله الواحد، ذي المشيئة الواحدة، المنشئة للناموس الواحد الذي يحكمها ويصرفها، فلا سبيل إلى الاحتجاج بعد ميثاق الفطرة وشهادتها -سواء أكان بلسان الحال هذا أم بلسان المقال كما في بعض الآثار- لا سبيل إلى أن يقول أحد: إنه غفل عن كتاب الله الهادي إلى التوحيد، وعن رسالات الله التي دعت إلى هذا التوحيد أو يقول: إنني خرجت إلى هذا الوجود، فوجدت آبائي قد أشركوا فلم يكن أمامي سبيل لمعرفة التوحيد إنما ضل آبائي فضللت فهم المسؤولون وحدهم ولست بالمسؤول! ومن ثم جاء هذا التعقيب على تلك الشهادة: (أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)؟
إنَّ الأصل في الإنسان التوحيد، والشرك طارئ عليه، ويستدل عليه من: 1- أنَّ الإنسان الأول هو آدم عليه السلام كان نبياً يعبد الله وحده لا يشرك به، وعلم أبناءه التوحيد، حيث سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن آدم: أنبي هو؟ قال: "نعم، نبي مكلَّم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه روحه". ثم وقع بنو آدم في الشرك بعده بأزمان، وهذا يقر ويقول به كل من يؤمن بأن الله هو الخالق، وكل من يؤمن بالأديان السماوية الثلاث، الإسلامية والنصرانية واليهودية، إلا من تابع قول الملحدين منهم. ولم يكن الشرك أصلاً في الآدميين، بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله، لإتباعهم النبوة... فإن آدم أمرهم بما أمره الله به، حيث قال له: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة: 38- 39)، فهذا الكلام الذي خاطب الله به آدم وغيره لما أهبطهم، قد تضمن أنه أوجب عليهم اتباع هداه المنزَّل.
يصف المشركين بأنهم "الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا"، والشرك ألوان وأنماط كثيرة، منهم من يشركون الجن، ومنهم من يشركون الملائكة، ومنهم من يشركون الأجداد والآباء، ومنهم من يشركون الملوك والسلاطين، ومنهم من يشركون الكهان والأحبار
2- أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه أنَّ الفطرة التي فُطرت عليها البشرية كلها هي فطرة الإسلام التي هي التوحيد الخالص.
- (فأقم وجهك للدين حنيفاً): أي: فهذا الدين هو العاصم من الأهواء المتفرقة التي لا تستند على حق، ولا تستند على علم، إنما تتبع الشهوات، والنزوات بغير ضابط ولا دليل، أقم وجهك للدين حنيفاً مائلاً عن كل ما عداه مستقيماً على نهجه دون سواه.
- (فطرتَ الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله): وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين، فالنفس البشرية خالقها الله، ودين الإسلام الذي وعت له كل الرسالات السماوية من عند الله تعالى، وكلاهما موافق لناموس الوجود وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه. والله الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه ويطب له من المرض ويقومه من الانحراف. وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير. والفطرة ثابتة والدين ثابت: (لا تبديل لخلق الله)، فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة. فطرة البشر وفطرة الوجود.
(ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فيتبعون أهواءهم بغير علم ويضلون عن الطريق الواصل المستقيم، والتوجيه بإقامة الوجه للدين القيم، ولو أنه موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن المقصود به جميع المؤمنين.
لذلك يستمر التوجيه لهم مفصلاً معنى إقامة الوجه للدين: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (الروم: 31 - 32)؛ فهي الإنابة إلى الله والعودة في كل أمر إليه. وهي التقوى وحساسية الضمير ومراقبة الله في السر والعلانية والشعور به عند كل حركة وكل سكنة، وهي إقامة الصلاة للعبادة الخالصة لله، وهي التوحيد الخالص الذي يميز المؤمنين من المشركين.
ويصف المشركين بأنهم "الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا"، والشرك ألوان وأنماط كثيرة، منهم من يشركون الجن، ومنهم من يشركون الملائكة، ومنهم من يشركون الأجداد والآباء، ومنهم من يشركون الملوك والسلاطين، ومنهم من يشركون الكهان والأحبار، ومنهم من يشركون الأشجار والأحجار، ومنهم من يشركون الكواكب والنجوم، ومنهم من يشركون النار، ومنهم من يشركون الليل والنهار، ومنهم من يشركون القيم الزائفة والرغائب والأطماع، ولا تنتهي أنماط الشرك وأشكاله. و"كل حزب بما لديهم فرحون" بينما الدين القيم واحد لا يتبدل ولا يتفرق، ولا يقود أهله إلا إلى الله الواحد، الذي تقوم السماوات والأرض بأمره، وله من في السماوات والأرض كل له قانتون.
ب- قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 172). هذه الآية تعرض قضية التوحيد من زاوية جديدة وزاوية عميقة، تعرض من زاوية الفطرة التي فطر الله عليها البشر وأخذ بها عليهم الميثاق في ذات أنفسهم، وذات تكوينهم وهم بعد في عالم الذر.
إنَّ الاعتراف بربوبية الله وحده فطرة في الكيان البشري. فطرة أودعها الخالق في هذه الكينونة وشهدت بها على نفسها بحكم وجودها ذاته، وحكم ما تستشعره في أعماقها من هذه الحقيقة، وأما الرسالات فهي تذكير وتحذير لمن ينحرفون عن فطرتهم الأولى فيحتاجون إلى التذكير والتحذير. إنَّ التوحيد ميثاق معقود بين فطرة البشر وخالق البشر منذ كينونتهم الأولى، فلا حجة لهم في نقض الميثاق -حتى لو لم يبعث إليهم بالرسل يذكرونهم ويحذرونهم- ولكن رحمته وحدها اقتضت ألا يكلهم إلى فطرتهم هذه فقد تنحرف وألا يكلهم كذلك إلى عقولهم التي أعطاها لهم فقد تضل وأن يبعث إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
لقد عرض القرآن الكريم هذا المشهد الرائع الباهر العجيب الفريد، لتلك الحقيقة الهائلة العميقة المستكنة في أعماق الفطرة الإنسانية وفي أعماق الوجود، عرض القرآن هذا المشهد قبل قرابة أربعة عشر قرناً من الزمان، حيث لم يكن إنسان يعلم عن طبيعة النشأة الإنسانية وحقائقها إلا الأوهام! ثم يهتدي البشر بعد هذه القرون إلى طرف من هذه الحقائق وتلك الطبيعة. فإذا "العلم" يقرر أن الناسلات، وهي خلايا الوراثة التي تحفظ سجل "الإنسان" وتكمن فيها خصائص الأفراد وهم بعد خلايا في الأصلاب، وصدق الله العظيم: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ".
إن الله -سبحانه- رحمة منه بعباده، لما يعلمه من أن في استعدادهم أن يضلوا إذا أضلوا، وأن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الانحراف كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفعل شياطين الجن والإنس الذين يعتمدون على ما في التكوين البشري من نقط الضعف
أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال: "مسح ربك ظهر آدم، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ مواثيقهم، وأشهدهم على أنفسهم: "ألست بربكم؟ قالوا: بلى". وروي مرفوعاً وموقوفاً على ابن عباس، وقال ابن كثير: إن الموقوف أكثر وأثبت. فأما كيف كان هذا المشهد؟ وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم؟ وكيف خاطبهم: "ألست بربكم"، وكيف أجابوا: "بلى شهدنا"؟. فالجواب عليه: أن كيفيات فعل الله- سبحانه- غيب كذاته، ولا يملك الإدراك البشري أن يدرك كيفيات أفعال الله ما دام أنه لا يملك أن يدرك ذات الله، إذ إن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية.
- وهناك تفسير لهذا النص بأن هذا العهد الذي أخذه الله على ذرية بني آدم هو عهد الفطرة، فقد أنشأهم مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده، أودع هذا في فطرتهم فهي تنشأ عليه، حتى تنحرف عنه بفعل فاعل يفسد سواءها، ويميل بها عن فطرتها.
أما الأحاديث التي أشارت إلى فطرة التوحيد في أول هذه الفقرة فهي:
- في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تولد بهيمة جمعاء، هل تحسُّون فيها من جدعاء"؟.
- وفي صحيح مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم".
ونحن لا نستبعد أن يكون قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 172)، على وجهه لا على سبيل الحال؛ لأنه في تصورنا يقع كما أخبر عنه الله سبحانه، وليس هناك ما يمنع أن يقع حين يشاءه، ولكنا كذلك لا نستبعد هذا التأويل الذي اختاره ابن كثير، وذكره الحسن البصري واستشهد له بالآية، والله أعلم أي ذلك كان.
وفي أي من الحالين يخلص لنا أن هناك عهداً من الله على فطرة البشر أن توحده. وأن حقيقة التوحيد مركوزة في هذه الفطرة يخرج بها كل مولود إلى الوجود فلا يميل عنها إلا أن يفسد فطرته عامل خارجي عنها! عامل يستغل الاستعداد البشري للهدى وللضلال، وهو استعداد كذلك كامن تخرجه إلى حيّز الوجود ملابسات وظروف.
إن الله -سبحانه- رحمة منه بعباده، لما يعلمه من أن في استعدادهم أن يضلوا إذا أضلوا، وأن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الانحراف كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفعل شياطين الجن والإنس الذين يعتمدون على ما في التكوين البشري من نقط الضعف!. رحمة من الله بعباده قدر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به حتى يرسل إليهم الرسل، ويفصل لهم الآيات، لاستنقاذ فطرتهم من الركام والتعطل والانحراف، واستنقاذ عقلهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات.
ولو كان الله يعلم أن الفطرة والعقول تكفي وحدها للهدى دون رسل ولا رسالات ودون تذكير وتفصيل للآيات لأخذ الله عباده بها، ولكنه رحمهم بعلمه فجعل الحجة عليهم هي الرسالة: (وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، يرجعون إلى فطرتهم وعهدها مع الله وإلى ما أودعه الله في كينونتهم من قوى البصيرة والإدراك. فالرجعة إلى هذه المكنونات كفيلة بانتفاض حقيقة التوحيد في القلوب وردها إلى بارئها الوحيد، الذي فطرها على عقيدة التوحيد. ثم رحمها فأرسل إليها الرسل بالآيات للتذكير والتحذير.
إنها قضية الفطرة والعقيدة يعرضها السياق القرآني في صورة مشهد -على طريقة القرآن الغالبة- وإنه لمشهد فريد، مشهد الذرية المكنونة في عالم الغيب السحيق، المستكنة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود، تؤخذ في قبضة الخالق المربي، فيسألها: "ألست بربكم؟"، فتعترف له سبحانه بالربوبية، وتقر له سبحانه بالعبودية، وتشهد له سبحانه بالوحدانية، وهي منثورة كالذر مجموعة في قبضة الخالق العظيم، إنَّه مشهد كوني رائع باهر، لا تعرف اللغة له نظيراً في تصوراتها المأثورة، وإنه لمشهد عجيب فريد حين يتملاه الخيال البشري جهد طاقته، وحينما يتصور تلك الخلايا التي لا تحصى، وهي تجمع وتقبض، وهي تخاطب خطاب العقلاء، فتعترف وتقرُّ وتشهد، ويؤخذ عليها الميثاق في الأصلاب.
وإنَّ الكيان البشري ليرتعش من أعماقه، وهو يتملى هذا المشهد الرائع الباهر الفريد، وهو يتمثل الذر السابح، وفي كل خلية حياة، وفي كل خلية استعداد كامن. وفي كل خلية كائن إنساني مكتمل الصفات ينتظر الإذن له بالنماء والظهور في الصورة المكنونة له في ضمير الوجود المجهول، ويقطع على نفسه العهد والميثاق، قبل أن يبرز إلى حيز الوجود المعلوم.
المصادر والمراجع:
* علي محمد محمد الصلابي، نوح عليه السلام والطوفان العظيم ميلاد الحضارة الإنسانية الثانية، دار ابن كثير، صفحة 44:35.
* أبو بكر محمد زكريا، الشرك في القديم والحديث، دار الرشد للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1423هـ ـ 2001م، 1/182، 183.
* سيد قطب، في ظلال القرآن، الطبعة الشرعية الثامنة والعشرون، (2009)، صفحة 3/ 1394:1391.