قراءة في أسلوب الرافعي[1]
عادل بن أحمد باناعمة
10/4/1430 هـ
1ـ الطفولة و النشأة
ولد الرافعي سنة 1880م بقرية ( بهْتيم ) من قرى القليوبية في بيت جده لأمه[2] ، وذلك أن أمه أسماء بنت الشيخ أحمد الطوخي الحلبي آثرت أن تكون ولادتها الثانية في بيت أبيها الذي كان تاجرا تسير قوافله بالتجارة بين مصر و الشام[3] . ثم تنقل الرافعي بين دمنهور والمنصورة و كفر الزيات تبعا لأبيه حتى استقر به المقام في طنطا ؛ حيث تولى أبوه رئاسة محكمتها ، وهناك في حارة ( سيدي سالم ) نشأ الرافعي و ترعرع .
كانت الأسرة الرافعية أسرة علم و دين ، تأخذ أبناءها بالتربية الدينية القويمة ، وتغرقهم في الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة . و بدأ الرافعي تحصيله العلمي على والده الشيخ القاضي ، و ثقف من مجالس الأشياخ والعلماء الذين كانوا يختلفون إلى أبيه علما كثيرا ، حتى إذا بلغ العاشرة كان قد حفظ القرآن و جوّده[4]. و تأخر دخوله إلى الابتدائية إلى عام 1892م ، وهو حينئذ ابن اثنتي عشرة سنة ؛ حيث ابتدأ دراسته في دمنهور ثم أتمها في المنصورة ، وكان هذا كل حظه من التعليم النظامي ، و لم يظفر طوال حياته بغير الشهادة الابتدائية .
وقد ظهر نبوغه منذ صغره ، حتى لقد راودته نفسه أن يضع في العربية كتابا يجعل شواهدها فيه من نظمه في سائر أبوابها و مسائلها ، وكان قد آثر منذ صباه الحديث بالفصحى ، و نعى على رفاق درسه هذه العامية المزالة عن أصلها ، راغبا بذلك في بعث لغويٍّ صحيح ، و متسترا به من جهة أخرى على قلة حظه من العامية المصرية ؛ فلقد كانت في لهجته ملامح سورية تنمُّ عن أصله ؛ إذ كان فقد السمع قبل أن يتم تمامه ويكون أهلا لغِشيان المجالس ، و اقتصر سماعه على ما لقفه من والديه من لهجة سورية ؛ فضعف بذلك حظه من عامية أهل مصر ، وكان يقول لصفيه العريان : " فلتكن أنت لي قاموس العامية ! "[5] .
قلت : إن الرافعي لم يتم دراسته بعدَ الابتدائية ، و مردُّ ذلك إلى مرض شديد لزمه فلم يغادره حتى ترك في أذنيه وقرا ، و في صوته حبسة ، و مازال سمعه يضعف شيئا فشيئا وصوته يتضاءل و يحتبس حتى انقطع عن كل صوت حوله و هو في مطلع العقد الثالث من عمره ، و رجع صوته " أشبه بصراخ الطفل فيه عذوبة الضحكة المحبوسة استحيت أن تكون قهقهة "[6] .
غير أن الرافعي استعاض عن هذه المدارس بعكوف جاد على مكتبة أبيه العامرة ، وتطواف مبارك في رياض كتب السلف ، و ساعدته على ذلك علته التي أفضت به إلى اعتزال الناس ، و تعويض ما فاته من سمعه بعلم و أدب يجعلان له بين الناس مكانا عليّا .
2ـ البنية الثقافية
ذكرتُ من قبل أن الرافعي نشأ نشأة علمية أدبية ؛ إذ حفظ القرآن و هو دون العـاشرة ، ثم أخذ عن أبيه علما كثيرا في الفقه و الحديث و الأصول و غيرها من العلوم الدينية .
و لم يكتف الرافعي بما حصل عن أبيه شفاها ، بل عكف على مكتبته يعب من نهرها المتدفق ما وسعه ذلك ، ثم أدمن النظر كذلك في مكتبة الشيخ القصبي و مكتبة الجامع الأحمدي في طنطا ، وكانت له جولات مع كتب الحديث و الأدب شعرا و نثرا ، حتى لقد حفظ نهج البلاغة و هو دون العشرين ، حفظه في القطار بين طنطا وطلخا ذاهبا إلى وظيفته و آيبا منها[7] . وكان يقرأ كل يوم ثماني ساعات متواصلة[8] . بل ذكر العريان أن الرافعي احتاج مرة أن يعبر عن معنى في أسلوب من أسلوبه فتأبى عليه القول ؛ فأخذ يغمغم برهة ، فإذا هو يقرأ لنفسه من ذاكرته بابا من كتاب المخصص لابن سيده[9] ! وكان إلى ذلك بصيرا بدقائق النحو و خواص التراكيب و فروق اللغات[10] .
ولم تكن تلك الثقافة التراثية هي كل حظ الرافعي ، بل كان له بصر بما جد من علوم إنسانية لدى الغرب ، وقد عرف الفرنسية معرفة حسنة ، وقرأ بها عدة سنوات بعض ما اتفق له من كتب العلم و الأدب[11] . ومما قاله في معرض رده على سلامة موسى : " كذب سلامة في زعمه أني لا أعرف لغة أجنبية ، فأنا أعرف الفرنسية و أستطيع الترجمة منها " ، وحكى البدري عن زينب ابنة الرافعي أن أباها كان يتخذ عصر كل يوم مجلسا يراجع فيه المعْلمة الفرنسية مستعينا بمعاجم فرنسية و عربية ، وذكر أنه وجد بين أوراقه قطعة من صحيفة فرنسية و قد جرى فيها قلم الرافعي بخط فرنسي بادي الجمال و الوضوح[12] .
و الناظر إلى ما كان يوصي الرافعي تلميذه أبا رية بقراءته يجزم بسعة اطلاع هذا الأديب و تمكنه من الآداب الغربية[13] ، و لا يقف الأمر عند معرفته أسماء الكتب ، بل نجده إذ يناقش خصومه يعرض للحديث عن آداب اللغات الأوروبية " كأنه لم يكن يفوته منها شيء أحضر أو ترجم "[14].
و هكذا نرى أن الرافعي يتكئ في ثقافته على التراث العربي الإسلامي ، و أنه إلى ذلك أحاط خبرا بما لدى الآخرين ، ولكنها الإحاطة التي لا تفضي إلى الذوبان و التبعية ، و إنما هي الإحاطة التي تمنح العقل قوة و طاقة و عافية يعود بها إلى تراثه أوفر ما يكون نشاطا ، و أحد ما يكون بصيرة .
و من خلال هذه البنية الثقافية نستطيع أن نتلمس المؤثرات في أسلوبه و لغته ، فأول ذلك كتاب الله عز وجل و حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم . و أدل شيء على تأثير لغة الكتاب العزيز و الحديث الشريف على لغته ما ذكره كاتب في مجلة أمريكية من أن الرافعي لو ترك ( الجملة القرآنية ) والحديث الشريف و نزع إلى غيرهما لكان ذلك أجدى عليه و لملأ الدهر[15] .
و ثاني هذه المؤثرات ما حفظه من تراث العرب ، و بيان فصحائهم ، وقد سبق أن ذكرنا حفظه لنهج البلاغة و فصول من المخصص ، و كثرة قراءته في كتب الجاحظ وابن المقفع و أبي الفرج ، وقد قال ابن خلدون ( رحمه الله ) : " و على قدر جودة المحفوظ ، وطبقته في جنسه ، و كثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ … ثم تكون جودة الاستعمال من بعده ، ثم إجادة الملكة من بعدهما … لأن الطبع إنما ينسج على منوالها "[16] .
و ثم مؤثر ثالث هو قراءته الواسعة في شتى فنون الثقافة الإسلامية ، ونحن نعلم أن لغة كثير من المصنفين من فقهاء أو محدِّثين أو مؤرخين أو غيرهم لم تكن محل ثقة عند نَقَدة الاستعمال اللغوي ، وحسبك أن الأصمعي قد خطأ سيبويه و أبا عبيدة و الأخفش[17] . وقد ظهرت في كتابة الرافعي أساليب تأثر فيها بلغة هؤلاء المصنفين .
أما رابع المؤثرات فهو ما ولع به الرافعي من النظر في الكتب المترجمة ؛ فقد " تسللت إليه بعض عبارات التراجمة ، واستعملها من غير أن يفطن إلى ما وراءها ، على الرغم من شدة حساسيته "[18] ، وصارت جملته من أجل ذلك في نظر البعض " تشبه الجملة المترجمة أحيانا لفرط تحررها من الأنماط القديمة "[19] ، و أحسب أنه تأثر كذلك بما كان يقرؤه من الفرنسية مباشرة .
3ـ مذهبه في الكتابة
تحكم مذهب الرافعي في الكتابة أصول نظرية آمن بها و اتخذها نبراسا ، ثم بنى عليها فنه و أدبه . و لعلي أشير هنا إلى نصوص من أقواله ترسم لنا ملامح هذه الأصول :
أ. " إن كلمةً قرأتها لفكتور هوجو كان لها أثر في الأسلوب الأدبي الذي اصطنعته لنفسي ، قال لي الأستاذ فرح أنطون مرة : إن لهوجو تعبيرا جميلا يعجب به الفرنسيون كل الإعجاب وهو قوله يصف السماء ذات صباح : ( و أصبحت السماء صافية كأنما غسلتها الملائكة بالليل ) . و أعجبتني بساطة التعبير و سهولة المعنى ؛ فكان ذلك حذوي من بعد في الإنشاء "[20] .
ب . " لعل غموض بعض الفلاسفة و بعض الشعراء هو من دليل الطبيعة على أنهم زائدون في الطبيعة " [21] .
ج. " إن مذاهب العرب واسعة ، و لنا ما لهم من التصرف في الاستعمال إذا لم نخرج عن قاعدتهم ، و قد يزيد الإنسان حرفا لاستقامة الأسلوب ، و إن خالف نقل اللغةِ ، كما يزيد العرب و يحذفون من أمثال ذلك ، وهو كثير في كلامهم ، والقرآن أبلغ شاهد عليـه ، فدعنا من هذا و مثله ، و أعتقد أن مذاهب العرب ليست بالضيق الذي يتصورونه "[22] .
د. " لا قيمة لكاتب لا يضع في اللغة أوضاعا جديدة "[23] .
هـ. " لا نقول : هذه العربية كاملة في مفرداتها ، و لا إنه ليس لنا أن نتصرف فيها تصرف أهلها "[24] .
و. " إن القول بأن هذه فصيحة ، وهذه مولدة قد مضى زمنه ؛ فإنما الباعث عليه قرب عهد الرواة من فصحاء العرب في الصدر الأول ، ثم تقليد علماء اللغة المتأخرين لأولئك الرواة تحقيقا بشروط هذا العلم الذي يحملونه … إذا كنا في كل كلمة نقول : نص الجوهري ، و ابن مكرم و المجد ، و فلان و فلان ، و نغفل عما وراء ذلك مما تنص عليه طبيعة اللغة من أوزانها و قواعدها ، و طرق الوضع و الاستعمال فيها ؛ فما نحن بأهل هذه اللغة ، و لا بالقائمين عليها ، و لا هي لغة عصرنا "[25] .
ز. " إن الخاصية في فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها ، و لكـن في تركيب ألفاظـها "[26] .
ح. " الكاتب العلمي تمر اللغة منه في ذاكرة و تخرج كما دخلت عليها طابع واضعيها ، و لكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع و تخرج عليها طابعه هو "[27] .
ط. " ما أرى أحدا يفلح في الكتابة و التأليف إلا إذا حكم على نفسه حكما نافذا بالأشغال الشاقة الأدبية كما تحكم المحاكم بالأشغال الشاقة البدنية "[28] .
ي. " يريدون فوق ذلك أن يطرحوا عنا كَدَّ الصناعة ؛ لتكون خاتمة عجائبنا في هذا الجيل صناعة بلا كدٍّ "[29].
ك. " و لقد ذكروا أن أناتول فرانس كان من التوفر على التنقيح ، و التلوم على السبـك ، و الحوك في كتابته و أسلوبه بحيث يكتب الجملة الواحدة مرة إلى مرتين إلى سبع مرات أو ثمان ، ينقح في كل ذلك و يهذب و يتعمل ، فهذا عندهم طلق مباح ، ولكنّ بعضه عندنا و إن جاء بالمعجزات يكفي لأن يقلب المعجزة إلى حيلة و شعوذة "[30].
ل. " إن مدار العبارات كلها على التخيل و تصوير الحقائق بألوان خيالية لتكون أوقع في النفس ، و من هنا كان الذين لا معرفة لهم بفنون المجاز أو لا ميل لهم إلى الشعر لا يميلون إلى كتابتي ، و لا يفهمون منها حق الفهم ، مع أن المجاز هو حلية كل لغة و خاصة العربية ، و لا أعد الكاتب كاتبا حتى يبرع فيه ، وهذا الذي جعلني أكثر منه مع أنه متعب جدا "[31] .
م. " و ما المجازات و الاستعارات و الكنايات و نحوها من أساليب البلاغة إلا أسلوب طبيعي لا مذهب عنه للنفس الفنية "[32] .
إن هذه النصوص ترسم ملامح المذهب الكتابي الذي يرتضيه الرافعي ، وهو مذهب يقوم على الأصول التالية :
1ـ بساطة التعبير و وضوح المعنى .
2ـ التوسعُ في مذاهب العربية ، و عدم الاقتصار على تقليد أساليب الأوائل ، والتجديدُ الدائمُ في ألفاظها و أساليبها ، على أن يكون ذلك وَفق طبيعة اللغة و أوزانها وقواعدها .
3ـ العناية بالتراكيب أكثر من العناية بالألفاظ ، و مراعاة تناسبها و موسيقاها .
4ـ تميز الأديب في أسلوبه ، و أن تكون عباراته عليها طابعه هو .
5ـ الكدّ و الاجتهاد في الكتابة ، و معاودة النظر و التنقيح ، و إنكار مذهب السهولة و الاسترسال فيها .
6ـ الاحتفال بالمجاز و العناية به .
و كل هذه الملامح ظاهرة فيما كتب الرافعي إلا ما ذكره من بساطة التعبير ووضوح المعنى ، فإن هذا لا يسلَّم له في كل ما جاء به ، فقد كان الرافعي نتيجة لتتبعه دقائق المعاني و إغراقه في المجاز ، وتوليده المعنى من المعنى ، و الفكرة من الفكرة ، يغرق أحيانا في الغموض حتى لا تكاد تدرك مراده و مبتغاه ، وقد تنبه الأدباء لمثل هذا الغموض في أسلوبـه ، و استغله خصومه للطعن عليه و الزراية به ، حتى لقد قال طه حسين عن كتابه ( حديث القمر ) : " اللهم إني أشهد أني لا أفهم شيئا … ومهما يكن من شيء فإن الذين يريدون أن يروضوا أنفسهم على الطلاسم ، واقتحام الصعاب ، و تجشم العظائم من الأمور يستطيعون أن يجدوا في كتاب الرافــعي ما يريدون " [33] ! ورأى آخرون من أنصار الرافعي أن هذا الغموض إنما هو " من تحريه صفة الشعر و البيان "[34] ، ونعَتَه صدّيق شيبوب بروعة الغامض ، و شبهه بالأديب الفرنسي ( موريس باريس )[35] ، وقال العريان : " و من هذا الكتاب ـ يعني حديث القمر ـ كانت أول التهمة للرافعي بالغموض والإبهام واستغلاق المعنى عند فريق من المتأدبين ، و منه كان أول زادي و زاد فريق كبير من القراء الذي نشؤوا على غرار في الأدب لا يعرفه ناشئة المتأدبين اليوم "[36] .
على أن الرافعي حين كتب في الرسالة ، وصار له جمهور ، تبسط في أسلوبه ، و مال إلى الوضوح ؛ إذ كان من قبل يكتب لنفسه ، و إرضاء لفنه ، غير عابئ بوضوح المعنى لدى قارئه ، إذا كان هو يراه واضحا في نفسه ، فلما أدرك حق قرائه عليه تخفف من ذلك الغموض ، ومن هنا ظهر الفرق بين كتابه : ( وحي القلم ) و بين غيره من كتبه .
و يحسن هنا أن ننقل كلمة للزيات حاول بها أن يفسر شِيَةَ الغموض التي تعرو بعض ما كتب الرافعي ، قال ( رحمه الله ! ) : " كان يحمل الفكرة في ذهنه أياما يعاودها في خلالها الساعة بعد الساعة بالتقليب و التنقيب و الملاحظة و التأمل ، حتى تتشعب في خياله وتتكاثر في خاطره ، و يكون هو لكثرة النظر والإجالة قد سما في فهمها على الذكاء المألوف ، فإذا أراد أن يعطيها الصورة ويكسوها اللفظ ، جلاها على الوضع الماثل في ذهنه ، وأداها بالإيجاز الغالب على فنه ، فتأتي في بعض المواضع غامضة ملتوية وهو يحسبها واضحة في نفسك وضوحها في نفسه "[37].
قلت : إن الملامح التي رسمها الرافعي للكتابة الأدبية الناضجة قد تحققت في أدبه هو إلا ما ذكره من الوضوح و السهولة و البيان ، و لنتلمس ذلك فيما كتبه و ما رواه عنه أصفياؤه وخلطاؤه .
توسع الرافعي كثيرا في مذاهب بناء الجملة ، و لو أراد أحد " أن يتتبع ما أجدَّ الرافعيُّ على العربية من أساليب القول لأخرج قاموسا من التعبير الجميل يعجز عن أن يجد مثله لكاتب من كتاب العربية الأولين "[38] ؛ فمن ذلك قوله : شيطان ليطان و سهلا مهلا على الإتباع ، واختراعه كلمة ( أما قبل )[39] ، و إيثاره ( آخر أربع مرات )[40] في مقابل : رابع مرة ، وإدخاله حرفا على حرف من نحو قوله : في هل[41] ، و استخدامه كلماتٍ ينازعه في فصاحتها غيره مثل : اكتشف ، و الزهور ، و الورود[42] ، و تجويزه النسبة إلى الأخلاق[43] ، وذهابه إلى قياسية التضمين[44] . و سوف يظهر لنا من خلال التحليل النحوي للمستويات التركيبية في الجملة الرافعية أن له تراكيب كثيرة يرفضها الأصل النحوي ؛ فمنها ما يتأتى تخريجه بتأويل و نحوه ، و منها ما لا يكاد يستطيع أحد إخراجه من دائرة الخطأ ، وكل ذلك مرده إلى جرأته و توسعه .
و تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الجرأة و هذا الاقتحام مما لا يكاد يخلو منه أديب فذّ خلال تاريخ العربية الطويل ، و أنا أنقل هنا كلمة لابن جني ( رحمه الله ! ) تبسط وجه العذر في ذلك ، و تبين مأتاه ، قال ( رحمه الله ! ) و هو يتحدث عن الضرورات و إقدام الشاعر عليها : " فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها وانخراق الأصول بها ، فاعلم أن ذلك على ما جَشِمَه منه و إن دلَّ من وجه على جوره و تعسفه ، فإنه من وجه آخر مؤذن بصِيالِهِ و تخمُّطه ، و ليس بقاطع دليل على ضعف لغته ، و لا قصوره عن اختيار الوجه الناطق بفصاحته ، بل مثَلُه في ذلك عندي مثل مُجْري الجَموح بلا لجام ، ووارد الحرب الضروس حاسرا من غير احتشام ، فهو وإن كان ملوما في عنفه وتهالكه ، فإنه مشهود له بشجاعته وفيض مُنَّتِه ؛ ألا تراه لا يجهل أن لو تَكَفَّر في سلاحه ، أو أَعْصَم بلجامٍ جوادَه ، لكان أقرب إلى النجاة ، وأبعد عن المَلْحاة ، لكنه جشِم ما جشِمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله ، إدلالا بقوة طبعه ، ودلالة على شهامـة نفسـه "[45] ، ولله هذه الكلمة الجليلة التي فاه بها ابن جني ( رحمه الله ! ) .
ومن كل ما سبق كان الرافعي على شدة حفاظه على أسلوب العربية يبني جمله وعباراته على نمط لم يكن قط كتلك الأنماط التي عرفت لسابقيه من فحول البيان ، وعلينا وقد عرفنا ذلك أن نحسن الظن به وبغيره من كبار المنشئين ، " ونحاول استكشاف أسرار التراكيب لديهم ، حتى تلك التي تبدو على أنها ـ من وجهة نظرنا ـ مخالفات نحوية يرتكبونها "[46] .
و أما الملمح الثاني و هو العناية بالتراكيب أكثر من العناية بالألفاظ ، فهو بَيِّنٌ كذلك في كل ما كتب . و قد كان الرافعي ( رحمه الله ! ) يعتدُّ الكتابة هندسة كهندسة البناء سواء بسواء ؛ فكما أن الفرق بين منزل حسن و آخر قبيح إنما هو في تناسب أجزائه ، وتلاؤم أطرافه ، و حسن تخطيطه ، فكذلك الفرق بين كلام حسن و كلام قبيح ، فالألفاظ هي الألفاظ و إنما الشأن في نسقها و إلف بعضها لبعض ، ووقوعِ كلٍّ موقعَه اللائق به . وتأمل قوله : " ههنا خوان في مطعم كمطعم الحاتي مثلا عليه الشواء و الملح والفلفل والكواميخ أصنافا مصنفة ، و آخر في وليمة عرس في قصر و عليه ألوانه وأزهـاره ، ومن فوقه الأشعة ، ومن حوله الأشعة الأخرى من كل مضيئة في القلب بنور وجهها الجميل ، أفترى السهولة كل السهولة إلا في الأول ؟ و هل التعقيد كل التعقيد إلا في الثاني ؟ ولكن أي تعقيد هو ؟ إنه تعقيد فني ليس إلا "[47] ؛ ولذلك " كانت له عناية واحتفال بموسيقية القول ، حتى ليقف عند بعض الجمل من إنشائه برهة طويلة يحرك بها لسانه حتى يبلغ بها سمعه الباطن ، ثم لا يجد لها موقعا من نفسه فيردها و ما بها من عيب ليبدل بها جملة تكون أكثر رنينا و موسيقى "[48] .
و تميُّزُ أسلوب الرافعي ، و مباينته لكل أسلوب سواه ، و دلالته على صاحبه ، مما اجتمعت عليه الكلمة ، و لا أعلم أديبا معاصرا حاز من هذه الفضيلة ما حازه الرافعي ؛ فقد " كان في الكتّاب طريقة وحده "[49] ، وكان يكتب في الصحف مرارا بدون توقيع فينمُّ أسلوبه عليه ، حصل ذلك في مقالات ( على السفود )[50] ، و في مقالة ( جنود سعد )[51] ، و هو و إن كان يحفظ و يقرأ لأعلام الكتاب فإنه كان " يجمع أطرافا من أولئك بطريقة رافعية "[52] . لقد استطاع الرافعي " أن يكون أمثولة فريدة في غناء البيان العربي وحيـاة البلاغة … ألا ترى أن عبارتـه و جملته و أسلوبـه تظهر لقارئيه للوهـلة الأولى ؟ "[53]
و أما تعبه في الكتابة و كدُّه فيها فقد بلغ فيه الغاية ، و عرف ذلك عنه ، و دفع ذلك طه حسين إلى أن يقول عن كتاب ( رسائل الأحزان ) : " إن كل جملة من جمل الكتاب تبعث في نفسك شعورا قويا أن الكاتب يلدها ولادة ، و هو في هذه الولادة يقاسي ما تقاسيه الأم من آلام الوضع "[54] .
كان الرافعي ( رحمه الله ! ) " يجهد جهده في الكتابة ، و يحمل من همها ما يحمل "[55] ، وكان " لا يرحم نفسه إذا حملها على شيء "[56] ، و ربما اقتضاه المقال الواحد أن يقرأ مئات الصفحات كما حدث عند كتابته مقالة ( البلاغة النبوية ) ، فهو "لم يتهيأ لكتابتها حتى قرأ صحيح البخاري كله قراءة دارس ، و أنفق في ذلك بضعة عشر يوما … ثم كتب الفصل بعد ذلك في ثلاثة أيام "[57] . وقل مثل ذلك فيما كتبه عن شوقي و حافظ فهو لم يقدم على ذلك حتى قرأ ديوانيهما قراءة متذوِّقٍ متأمِّلٍ[58] ، وحسبي أن أشير هنا إلى نُتَفٍ من أقواله يصف فيها ما عاناه من نصب في تأليف كتابه أوراق الورد :
ـ " لأني شديد التعب في هذا الكتاب ، و الكتابة فيه عسرة جدا "[59] .
ـ " أوراق الورد انتهى ، و سأبدأ في التنقيح و التبييض و هو عمل شاق ، و الله المعـين ، و هذا الكتاب تعبت فيه كثيرا "[60].
ـ " وقد تعبت فيه أشد التعب "[61] .
ـ " لا بد أن أوراق الورد كان طاحونة للأعصاب "[62] .
ـ " كل هذا التخريب العصبي جاء من أوراق الورد و من النزلة الملعونة "[63] .
لقد كان الرافعي يأخذ الكتابة مأخذ الجد ، و ما كان يرضى فيها بالسهولة التي تفضي إلى سقوط المبنى و المعنى ، و لم يرض قط أن يشعوذ على قرائه بكلام غير محرر ليملأ به فراغا من صحيفة .
و أما المجاز و إكثاره منه ، فحسبك شاهدا عليه أن تقـرأ كتبه الثلاثة : ( حديث القمر ) و ( رسائل الأحزان ) و ( السحاب الأحمر ) ؛ فإنك لن تعدم فيها فنونا من المجاز متداخلةً آخذا بعضها بحجز بعض ، يُسْلِمُك الواحد منها إلى الآخر . وربما أفضى به التوسع في المجاز ومخاطرته فيه ومداخلة بعضه في بعض إلى درجة من الغموض و التعقيد[64] .
4ـ كيف كان يكتب ؟
غرض هذه الفقرة بيان ( الطقوس ) التي كان يتبعها الرافعي و هو يمارس الكتابة ، وقد عقد صفيُّه العريانُ فصلا ممتعا كشف فيه عن طريقته ( رحمه الله ! ) ، و خلاصتها : أنه كان يُعمل ذهنُه أبدا في البحث عن موضوعاته ، يستخرجها مما يراه أو يقرؤه ، و من ثم كان يحمل دائما في جيبه ورقات يضمّنها خواطره و أفكاره و عناوين موضوعاته . فإذا اختار موضوعه ترك فكره يعمل فيه ، حتى إذا اجتمع له ما يرضاه أخذ في ترتيب معانيه ، وتنسيق أفكاره ، و حذف فضولها ، و حينئذ يشرع في الصياغة .
و أول ما يعنيه من ذلك بدء الموضوع و خاتمته ، فإذا جاءه من ذلك ما يرضاه ، أخذ أُهْبَتَه للإملاء ، و استعد لذلك بقراءة يسيرة في كتاب لإمام من أئمة البيان كالجاحظ وابن المقفع و نحوهما ، ثم يشرع في إملائه ، وكان إبان ذلك يغلق شرفته ، و لا يأذن بصوت ولا ضوضاء حتى يفرغ مما هو فيه بعد ساعات أربع أو تزيد ، يتخذ خلالها فنجانة أو اثنتين من الشاي و القهوة ، وربما أشعل دخينة أو دخينتين .
فإذا فرغ من إملائه عمد إلى الشرفة يستنشق هواءها ، ثم أوى إلى فراشه ، ثم يكون أول عمله في الصباح بعد صلاة الفجر أن يعود إلى مقاله فيقرؤه و يصححه . هذه هي مقالة الرافعي " مقالة هي عمل الفكر ، و كد الذهن ، و جهد الأعصاب ، و حديث النفس في أسبوع كامل ، ولكنها مقالة ! "[65] .
( [1] ) انظر ترجمته في : الأعلام للزركلي 7/235 ، و الرافعي الكاتب بين المحافظة و التجديد للدكتور مصطفى البدري ، و مصطفى صادق الرافعي فارس تحت راية القرآن للدكتور محمد رجب البيومي ، و وحي الرسالة للزيات 4/440 ، و حياة الرافعي لمحمد سعيد العريان ، و مصطفى صادق الرافعي رائد الرمزية العربية المطلة على السوريالية للدكتور مصطفى الجوزو ، و مصطفى صادق الرافعي كاتبا عربيا و مفكرا إسلاميا للدكتور مصطفى الشكعة ، والجانب الاجتماعي في أدب المفكر الإسلامي مصطفى صادق الرافعي لعبد الستار السطوحي ، و من أدب الرافعي و معاركه للدكتور عباس بيومي عجلان ، و مصطفى صادق الرافعي والاتجاهات الإسلامية في أدبه للدكتور على عبد الحليم محمود ، و مدرسة البيان في النثر الحديث للدكتور حلمي القاعود ، و رسائل الرافعي التي جمعها أبو رية .
( [2] ) انظر : الرافعي الكاتب : 40 .
( [3] ) انظر : حياة الرافعي : 27 ، و الرافعي الكاتب 102 .
( [4] ) انظر : وحي القلم 3/28 .
( [5] ) حياة الرافعي : 32 .
( [6] ) حياة الرافعي : 30 .
( [7] ) انظر : حياة الرافعي 33 .
( [8] ) انظر : حياة الرافعي 32 .
( [9] ) انظر : حياة الرافعي : 226 .
( [10] ) انظر : وحي الرسالة 4/441 .
( [11] ) انظر : حياة الرافعي : 32 .
( [12] ) الرافعي الكاتب : 314 .
( [13] ) انظر جماع هذه الكتب في كتاب : من أدب الرافعي ومعاركه للدكتور بيومي ص : 18 .
( [14] ) الرافعي الكاتب : 318 . وفيه استعراض لجملة من قضايا الأدب الغربي التي تحدث عنها الرافعي .
( [15] ) انظر : تحت راية القرآن : 26 .
( [16] ) مقدمة ابن خلدون : 578 .
( [17] ) انظر في الحديث عن لغة المصنفين و مدى الاحتجاج بها : المعيار في التخطئة و التصويب : 135 ـ 154 .
( [18] ) الرافعي الكاتب : 468 .
( [19] ) الرافعي الكاتب : 351 .
( [20] ) حياة الرافعي : 76 .
( [21] ) وحي القلم 3/19 .
( [22] ) رسائل الرافعي : 67 .
( [23] ) رسائل الرافعي : 174 .
( [24] ) تحت راية القرآن : 58 .
( [25] ) مجلة الزهور ، العدد العاشر ـ فبراير 1913 نقلا عن الرافعي الكاتب : 312 .
( [26] ) تحت راية القرآن : 19 .
( [27] ) وحي القلم 1/17 .
( [28] ) رسائل الرافعي : 42 .
( [29] ) تحت راية القرآن 48 .
( [30] ) تحت راية القرآن : 39 .
( [31] ) نقله القاعود في كتابه : مدرسة البيان في النقد الحديث : 320 عن البدري في كتابه : مصطفى صادق الرافعي : 89 .
( [32] ) وحي القلم 3/182 .
( [33] ) حديث الأربعاء 3/122 ، وانظر : تحت راية القرآن 105 .
( [34] ) الرافعي الكاتب : 354 .
( [35] ) انظر : الرافعي الكاتب : 372 .
( [36] ) حياة الرافعي : 75 .
( [37] ) وحي الرسالة 1/440 .
( [38] ) حياة الرافعي : 226 .
( [39] ) انظر : أوراق الورد : 121 .
( [40] ) انظر : وحي القلم 1/141 .
( [41] ) انظر : وحي القلم 3/340 .
( [42] ) انظر : رسائل الرافعي 67 .
( [43] ) انظر : رسائل الرافعي : 136 .
( [44] ) انظر : رسائل الرافعي : 174 .
( [45] ) الخصائص 2/394 . و المُحْدَثون يسمون هذه الظاهرة كسر التراكيب ، انظر ك لسانيات اللغة الشعريـة : 96.
( [46] ) اللغة و بناء الشعر : 24 .
( [47] ) وحي القلم 3/181 .
( [48] ) حياة الرافعي : 226 .
( [49] ) وحي الرسالة 4/439 .
( [50] ) انظر : حياة الرافعي : 176 ، و رسائل الرافعي : 161 .
( [51] ) انظر : رسائل الرافعي : 77 .
( [52] ) الفنون الأدبية و أعلامها : 319 .
( [53] ) الرافعي الكاتب : 354 .
( [54] ) انظر : تحت راية القرآن 109 ، وقد نقل فيه الرافعي كلام طه .
( [55] ) حياة الرافعي : 227 .
( [56] ) رسائل الرافعي : 48 .
( [57] ) حياة الرافعي : 215 ، و انظر المقال في وحي القلم 3/5 .
( [58] ) انظر : رسائل الرافعي : 241 ، 244 .
( [59] ) رسائل الرافعي : 169 .
( [60] ) رسائل الرافعي : 178 .
( [61] ) رسائل الرافعي : 183 .
( [62] ) رسائل الرافعي : 226 .
( [63] ) رسائل الرافعي : 228 .
( [64] ) انظر في شرح هذا و تفصيله : مدرسة البيان في النثر الحديث 318ـ323 .
( [65] ) حياة الرافعي : 220ـ228 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق