فوق السلطة 304
معادلة بوتين: النووي بالكنيسة والكنيسة بالكنيسة والبادئ أظلم
عادل إمام حيّ يعقِل.. ولماذا يشعر عمرو أديب بالحموضة؟
الدرة (( إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ، إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ )) الامام الشافعي
معادلة بوتين: النووي بالكنيسة والكنيسة بالكنيسة والبادئ أظلم
عادل إمام حيّ يعقِل.. ولماذا يشعر عمرو أديب بالحموضة؟
لكن مصادر مقربة من الفنان المصري أكدت أنه حي يرزق وقد اعتاد على الشائعات في منصات التواصل، التي أعلنت وفاته 5 مرات، كما أكدت المصادر ذاتها أن إمام لا يعاني من ألزهايمر كما يشاع.
وفي مصر أيضا أكد المذيع المصري عمرو أديب، الذي يعمل في قناة "إم بي سي مصر" (MBC) أنه يخشى "البهدلة" بعد الموت، داعيا متابعيه للترحم عليه فقط بعد موته، ومؤكدا في الوقت ذاته أنه يعلم جيدا ما سيقال عنه بعد وفاته، مبديا عدم مبالاته بما سيقال.
كما كشف المذيع المصري عن شعوره بالحموضة لارتداء لاعبي نادي الأهلي المصري قمصانا عليها شعار الخطوط الجوية القطرية بعد رعاية الأخيرة للنادي، مسيئا لنفسه بأنه "التافه الوحيد" في مصر الذي لم يتقبل التعاون بين النادي المصري والخطوط القطرية، ومؤكدا عدم حبه لقطر مقابل حبه لدولة الإمارات العربية المتحدة وحكامها وجيشها.
ليعلق مقدم "فوق السلطة" نزيه الأحدب على كلام عمرو أديب بأنه موظف ويجب عليه قول ذلك.
كما تناولت الحلقة المواضيع التالية:
ولد الشيخ أحمد محمد شاكر عام 1892 في القاهرة، وقد تعهده والده الشيخ محمد بتعلم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، وحين عين والده قاضيا في السودان اصطحبه معه، وهناك أخذ من العلم ما شاء الله له.
وبعد عودة والده إلى القاهرة درس الشيخ أحمد شاكر في الإسكندرية ثم التحق بالأزهر، وهو المكان الذي شكل الوعاء الذي غذى علوم الشاب، فاتصل بعلماء الدين وطلبة العلم الموجودين في القاهرة، وتردد على العلامة عبد الله بن إدريس السنوسي محدث المغرب، وقرأ عليه فأجازه برواية الكتب الستة، كما اتصل بالشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وشاكر العراقي وطاهر الجزائري ومحمد رشيد رضا وكثيرين غيرهم، وكلهم أجازوه بمروياتهم في السنة النبوية.
وبرز الشيخ أحمد شاكر في علوم السنة وانتهت إليه إمامة الحديث في مصر، ومع حيازته الشهادة العالمية للأزهر عمل في التدريس لفترة وجيزة لينتقل بعدها إلى سلك القضاء ويمضي فيه عمره حتى تبوأ منصب نائب رئيس المحكمة الشرعية العليا قبل تقاعده.
ورغم العمر المديد الذي أمضاه في سلك القضاء فإن الشيخ الأزهري لم يتوقف عن المطالعة والتصنيف، فترك أبحاثا وتحقيقات ومواقف أغنت المكتبة العربية بسبل إحياء التراث.
ويقول الشيخ أحمد شاكر عن أبحاثه وأهدافها "هذه الأبحاث ليست من أبحاث الفقهاء الجامدين المقلدين، ولا هي من أبحاث المترددين الذين يبدو لهم الحق ثم يخشون الجهر به، ولا هي من أبحاث المجردين الهدامين الذين لا يفهمون الإسلام ولا يريدون إلا تجريد الأمم الإسلامية من دينها والثبات عليه ونصره، ولا هي من أبحاث المجددين العصريين الذين تتبخر المعاني والنظريات في رؤوسهم ثم تمتلئ بها عقولهم فيطيرون بها فرحا ويظنون أن الإسلام هو ما يبدو بعقولهم ويوافق أهواءهم وأنه دين التسامح فيتسامحون في كل شيء من أصوله وفروعه وقواعده".
وتميز الشيخ أحمد شاكر بتواضعه أمام ما يراه حقيقة ولا يتردد في مراجعة الذات والرجوع عما بدا له خطأ في مواقفه السابقة، ويذكر أنه ووالده عارضا فتوى الشيخ محمد المراغي في إجازة الأخذ بالحساب الفلكي في إثبات أوائل الشهور العربية كبديل عن الرؤية الشخصية، لكن الشيخ أحمد شاكر أعاد التفحص في هذا الأمر ونشر كتيبا دعم فيه تلك الفتوى، وقال "كان والدي وكنت أنا وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه، ولكن أصرح الآن بأنه كان على صواب وأزيد عليه وجوب إثبات الأهلّة بالحساب في كل الوقت إلا لمن استعصى عليه العلم".
أما أهم المصنفات التي حققها وعلق عليها فهي تحقيق وشرح مسند الإمام أحمد بن حنبل، وكان مشروع العمر، إذ استهلك 35 عاما من العمل حتى بدأ بطباعته سنة 1946، وحقق مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري، كما شرح ألفية السيوطي في علم الحدث وغيرها، كما عني بكتب الأدب والتراث، ونشر مجموعة من المؤلفات الخاصة، منها "نظام الطلاق في الإسلام".
واعتمد العلامة المصري -الذي توفي عام 1958- طوال حياته العلمية على منهج الانحياز للحق والحقيقة.
وتناولت حلقة (2022/9/27) من برنامج "تأملات" مواضيع أخرى، منها الفرق بين العبيد والعباد، ووصية عمرو بن كلثوم التغلبي، وأصل كلمة القارورة، وغيرها من الفقرات.
قراءة في كتاب الإيمان والحياة
أسم الكاتب: يوسف عبد الله القرضاوي
وصف الكتاب
إن قضية الإيمان هي أمر يتعلق بوجود الإنسان ومصيره، بل هي أعظم قضية مصيرية بالنظر إلى الإنسان، إنها سعادة الأبد أو شقوته، إنها الجنة أبداً أو النار أبداً، وإن الذي يؤمن بالله والدار الآخرة لا يخاطر بدنياه الفانية ليربح آخرته الباقية... إنه بإيمانه يربح الحياتين معاً.
ولكن وفي عصرنا هذا، أصبح الناس يجرون وراء المنفعة لاهثين، حتى أن كثيراً منهم ليرون الحق فيما ينفعهم، لا فيما يطابق الواقع، أو ما تقوم البراهين على صحته، متجاهلين الإيمان ودوره في الحياة.
وهذا الكتاب يلقي الضوء على حقيقة الإيمان والحياة ليبين آثار الدين المباركة للدين في حياة الإنسان حيث بحث الدكتور القرضاوي هذه الحقيقة للدين في جانبه العقدي، الدين باعتباره إيماناً بالله وبرسالاته، وبالدار الآخرة وما فيها من حساب وجزاء وثواب وعقاب.
وسيبين بوضوح تلك الغربة الظالمة، التي زعمت أن الدين مخدر للشعوب، أو معوق للحياة، كما يزعم الماركسيون.
قراءة د. حسن فوزي
كتاب (الإيمان والحياة) من كتب الإمام الأولى، صدرت طبعته الأولى في 1967 تقريبا، وكانت بدايته مقالات، كانت تُنشر في مجلة نور الإسلام بعنوان (العقيدة والإسلام) في أواخر الخمسينيات. وهو كتاب يتحدث عن حقيقة الإيمان وأثره على الفرد والمجتمع، وعن ثمراته، ويؤكد أنه لا انفصام بين العلم والإيمان، وإنما يقود العلم إلى الإيمان، ويدعو الإيمان إلى العلم.
يقول فضيلة الشيخ: الإيمان هو واحة المسافر، ونجم الملاح، ودليل الحيران، وعدة المحارب، ورفيق الغريب، وأنيس المستوحش، ولجام القوي، وقوة الضعيف.
الإيمان هو مصنع البطولات، ومحقق المعجزات، ومفتاح المغاليق، ومنارة الهدى في كل طريق.
الإيمان هو الطريق الفذ لتحقيق كل ما نريد من أهداف، وما نصبو إليه من آمال.
إن كنا نريد الآخرة.. فطريقها هو الإيمان. وإن كنا نريد الدنيا.. فطريقها هو الإيمان. وإن كنا نريدهما معاً.. فطريقهما هو الإيمان.
جاء الكتاب في أربعة أبواب:
اهتم الباب الأول بتعريف الإيمان، الذي يراه فضيلة الشيخ أعظم «قضية مصيرية» بالنظر إلى الإنسان، فهي سعادة الأبد أو شقوته، وهي جنة أبداً أو نار أبداً.
فالإيمان ليس مجرد إعلان المرء بلسانه أنه مؤمن، فما أكثر المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم. وليس قيام الإنسان بأعمال وشعائر، فما أكثر الذين يتظاهرون بالصالحات، وأعمال الخير، وشعائر التعبد، وقلوبهم خراب من الخير والصلاح والإخلاص.
يقول الإمام القرضاوي: إن الإيمان في حقيقته عمل نفسي يبلغ أغوار النفس، ويحيط بجوانبها كلها من: إدراك، وإرادة، ووجدان. هو الإيمان القوي الدافق، الإيمان حين يبلغ مداه، ويشرق على القلوب سناه، ويخط في أعماق النفوس مجراه، لا الإيمان الضعيف المزعزع، الإيمان المخدر النائم، إنما نتحدث عن الإيمان الحي اليقظ.
فلا بد للإيمان من إدراك ذهني تنكشف به حقائق الوجود، وأن يبلغ هذا الإدراك حد الجزم الموقن، واليقين الجازم، الذي لا يزلزله شك ولا شبهة، مع إذعان قلبي، وانقياد إرادي، يتمثل في الخضوع والطاعة مع الرضا والتسليم، ثم تتبعه حرارة وجدانية قلبية، تبعث على العمل بمقتضيات العقيدة، والالتزام بالمبادئ.
ويتحدث فضيلة الإمام القرضاوي في الباب الثاني عن أثر الإيمان على الفرد، في تحقيق كرامة الإنسان وسعادته، وتحقيق أمنه النفسي وسكينته، وإشاعة روح المحبة والرضا في قلبه، ويورثه الثبات في الشدائد. فالفرد بغير دين ولا إيمان ريشة في مهب الريح.. لا تستقر على حال، ولا تعرف لها وجهة، ولا تسكن إلى قرار مكين. الفرد بغير دين ولا إيمان إنسان ليس له قيمة ولا جذور، إنسان قلق متبرم حائر، لا يعرف حقيقة نفسه ولا سر وجوده، لا يدري من ألبسه ثوب الحياة. ولماذا ألبسه إياه، ولماذا ينزعه عنه بعد حين؟! وهو بغير دين ولا إيمان: حيوان شره أو سبع فاتك، لا تستطيع الثقافة ولا القانون -وحدهما- أن يحدا من شراهته، أو يقلما أظفاره.
وفي الباب الثالث يتحدث الإمام القرضاوي عن أثر الإيمان في حياة المجتمع، وكيف يبني صرح الأخلاق الفاضلة، ويربي المجتمع على البذل والتضحية، ويحث أفراده على اكتساب القوة اللازمة في جميع مجالات الحياة، مع كمال المرحمة.
إن الإيمان يدفع المجتمع إلى الإنتاج والعمل، كما يدعو عقلاءه إلى الإصلاح بين أفراده. فالمجتمع بغير دين ولا إيمان مجتمع غابة. وإن لمعت فيه بوارق الحضارة. الحياة والبقاء فيه للأشد والأقوى، لا للأفضل ولا للأتقى مجتمع تعاسة وشقاء وإن زخر بأدوات الرفاهية وأسباب النعيم.. مجتمع تافه رخيص، لأن غايات أهله لا تتجاوز شهوات البطون والفروج. فهم: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} (محمد:12).
ويتحدث الباب الرابع عن التكامل بين العلم والإيمان. فالعلم المادي أعطى الإنسان أدوات كثيرة، ولكنه لم يعطه «قيمة» كبيرة أو «هدفا» رفيعاً يحيا له ويموت عليه.
ذلك أن هذه ليست وظيفة العلم وليست من اختصاصه. وإنما ذلك من اختصاص الدين. فعقيدة الإسلام عقيدة تتسع للروح والمادة، والحق والقوة، والدين والعلم، والدنيا والآخرة، إنها عقيدة التوحيد التي تغرس في النفس الكرامة والحرية، وتجعل الخضوع لغير الله كفراً وفسقاً وظلماً، وتأبى على الناس أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.
ويؤكد فضيلة الشيخ أن الذي يؤمن بالله والدار الآخرة لا يخاطر بدنياه الفانية ليربح آخرته الباقية فقط، بل يربح بذلك الحياتين معاً، ويفوز بالحسنيين في الدنيا والآخرة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.
ويرى أهمية غرس الإيمان في نفوس أبناء الإسلام قائلا: إن عدونا يجند أبناءه على أساس ديني، ويقذف بهم في قلب المعارك بأحلام دينية تدور حول مجد إسرائيل، وملك سليمان: ونبوءات التوراة فكيف ننكر نحن دور الإيمان، وننحِّي المؤمنين، بل نضطهدهم ونعذبهم! ونلقي بشعارات «النصر للثوار» و «الغلبة للجماهير» وأمتنا لا تعرف إلا أن «النصر للمؤمنين، والعاقبة للمتقين».
ويختتم فضيلة الشيخ كتابه قائلا: الإيمان الحق هو الذي يخط آثاره في الحياة كلها، ويصبغها بصبغته الربانية في الأفكار والمفاهيم، والعواطف والمشاعر، والأخلاق والعادات، والنظم والقوانين، وهو قوة الخلق، وخلق القوة، وروح الحياة وحياة الروح، وسر العالم وعالم الأسرار، وجمال الدنيا ودنيا الجمال، ونور الطريق طريق النور.
إن كنا نريد السعادة الشخصية، فلا سعادة بغير سكينة النفس، ولا سكينة بغير إيمان.
كتاب الإيمان والحياة: قراءة اونلاين
الشيخ الدكتور سلمان العودة
تاريخ النشر: الأربعاء, 03/02/2022
يأسرني في الشيخ حماسه، وهو ما أسميه «الحُرقة»، حتى عندما يُلقى السلام - وهو أمر رتيب - يبدأ بحماس غريب: أحييكم بتحية الإسلام، وتحية الإسلام السلام، وتحية أهل الجنة يوم يلقونه سلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فيبدأ الشيخ بهذه الروح، ويسكب من روحه وعاطفته وصدقه على الكلمات، ما يعطيها قبولًا وإشراقًا.
هذه الحرقة كيف يمكن الحصول عليها؟ قد تجد موسوعيين، ولكنهم مثل الموسوعات المركونة في المكتبات ليس فيها روح!
هذه الحماسة، وهذه الكاريزما في شخصيته، والجاذبية والتأثير الذي يُحدثه، والإبهار الذي يلاحظه من يشاهده وهو يتحدث أو يخطب.
ألم تصبك الرتابة والعادية وأنت تخطب فوق المنبر من عشرات السنين؟ لمَ لمْ تفقد الكلمات بريقها عندك، وقد تكررت في مناسبات شتى وظروف مختلفة؟!
هذه الروح، وهذه الحرقة، وهذا الحماس نحتاج أن نقتبسه؛ بحيث نجعل الجذوة تنتقل بالعدوى إلى الآخرين، وأظن هذا ما يقتبسه التلاميذ من الشيخ خلال القرب منه، إنه لا يتعاطى مع القضايا ببرود أو فتور أو آلية، وإنما بانفعال وحماس. ولا تكاد تحصل على هذه الروح من خلال الكتب، وإنما بالاختلاط والمجالسة والرؤية.
إنه التوفيق والإلهام في اختيار الكلام المناسب للمقام، في مؤتمرات ولقاءات واجتماعات للعامة أو للخاصة، أو لمحبين، أو لرسميين، أو لعلية القوم يتحدث بعفوية وبدون تحضير، فيقول: أفضل مما نزوِّر نحن ونرتب ونعدُّ!
أنا أحضِّر، ولا أحضر اجتماعًا أو برنامجًا أو غير ذلك بدون تحضير، وقد أُبالغ في الإعداد، ولا أجدني راضيًا عن أدائي.
أما الانسيابية في الفكر، والتسلسل اللطيف؛ فلدى الشيخ انسيابية في الفكرة؛ بحيث يبدو الكلام كما لو كان سردًا، ولكن إذا جاء أحد من بعده ليفرغ هذا الكلام، أو يضع له عناوين، يجد الكلام جاهزًا تمامًا للتفريغ، والعنونة، والعنصرة، والترقيم.
.......
- المصدر: «العلامة يوسف القرضاوي.. ريادة علمية وفكرية وعطاء دعوي وإصلاحي».
د. عصام العريان رحمه الله*
تاريخ النشر: الخميس, 03/17/2022
لقد عرفت الشيخ وعرفناه كجيل منذ أكثر من ثلاثين سنة، ولم يكن تأثيره فينا بسبب خُطَبه وكتبه فقط؛ بل اللقاء المباشر معه والمعايشة كان لهما أكبر الأثر في نفوس المجموعة التي تولت قيادة الشباب المسلم بالجامعات المصرية، والجاليات الإسلامية بالغرب، والتجمعات والجمعيات الإسلامية في مدن وقرى مصر؛ فللقدوة أثر كبير.
زارنا الشيخ القرضاوي في صيف عام 1974م في المعسكر الإسلامي الثاني للجماعة الإسلامية في جامعة القاهرة؛ ببذلته الإفرنجية، ويرتدي قميصًا بنصف كم وبنطالًا عاديًا، ولحية مهذبة، وروح مرحة، وشباب يتدفق (كان عمر الشيخ وقتها في الأربعينيات)، وألقى علينا محاضرة بمدرّج كلية الحقوق، حضرها آلاف الشباب من الجنسين، عنوانها «دور الشباب المسلم في خدمة الإسلام»، وتعلمنا منها أن واجبنا نحو الإسلام يتلخص في ثلاث كلمات.. حفظناها وحاولنا تطبيقها في حياتنا كلها، وهي: العلم بالإسلام، والعمل بالإسلام، والعمل للإسلام، أو الدعوة للإسلام.
كانت هذه المعسكرات تنعقد سنويًّا في إجازة الصيف، ويشارك فيها بضعة آلاف من الشباب المسلم، ذكورًا وإناثًا لمدة أسبوعين.. يقيم معظمهم إقامة دائمة في مبنى المدينة الجامعية، مقابل اشتراك مناسب، ويدرسون خلالها دراسات شرعية في القرآن وتجويده وتفسيره، والسنة وشروحها، والفقه وأصوله، والسيرة ودروسها، بخلاف محاضرات يومية صباحية ومسائية لكبار الدعاة والشيوخ وأساتذة الجامعات، وتخرّج في هذه المعسكرات آلاف تشبعوا بحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، والرغبة في العمل لدين الله على بصيرة، ووفق منهج سلمي إصلاحي متدرج.
لا أتذكر عدد المرات التي حاضر فيها الشيخ القرضاوي في هذه المعسكرات، ولكنه بالقطع تنقل بين عدد منها؛ لعل أهمها القاهرة والإسكندرية وأسيوط.
ومن خصائص الشيخ (حفظه الله) أنه يعد لمحاضراته بصورة علمية ومنهجية، ويتميز بأسلوب إلقاء قوي ومؤثر، ويحرص على تلخيص فكرته في كلمات محددة وواضحة؛ بحيث تعلق بذاكرة الشباب. ثم أمر آخر أنه يُرَكِّز على الجانب العملي والتطبيقي؛ وليس مجرد طرح فكرة نظرية.
كان لمعايشة القرضاوي مع الشباب أكبر أثر؛ لأنه أبعد من التأثير البعيد بالكلام والحديث والخطابة، إلى الحوار والإجابة على الأسئلة والاستفسارات.
جال الشيخ في معظم مدن وجامعات مصر حينما كانت حرية الحركة مسموحًا بها، وعندما كانت صحته وظروفه تسمح له بذلك.
......
* نائب برلماني سابق والأمين العام المساعد السابق لنقابة أطباء مصر
-المصدر:«الشيخ يوسف القرضاوي إمام الوسطية والتجديد.. كلمات في تكريمه وبحوث في جهوده الفقهية وإنجازاته الفكرية.. مهداه إليه بمناسبه بلوغه التسعين».
مدير مركز «محكمات» للبحوث والدراسات – اسطنبول
«الشريعة والحياة».. «الإيمان والحياة»؛ الأول: عنوانٌ لبرنامج بالجزيرة، ظَلَّ هو على مدى سنوات كثيرة ضيفَهُ الدائم، والثاني: اسمٌ لكتابٍ كُنْت ُولازلت أَعُدُّهُ من أهم المؤلفات التي أبدعها قلمُهُ السَّيَّال، إنّه الشيخ القرضاوي الذي شَغَلَتْهُ الحياةُ الإنسانية، واستغرقَتْ حياتَهُ كلَّها وجهدَهُ كلَّهُ قضيةٌ واحدةٌ ترجع إليها كل القضايا التي عالَجَها بلسانه أو تَنَاولها بِبَنانه، هذه القضية هي: كيف نَنْزِلُ بالإيمان وبالشريعة وبقيم الإسلام ومبادئه إلى الحياة؟ وكيف نَصُول ونجول بحقائق ديننا وأحكامه في كافّة الميادين الغاصّة بالمتناقضات والتحولات والصراعات الفكرية والحضارية؟ فهل تجذرت هذه الطبيعة في شخصيته العلمية لكونه عالِمًا نشأ في أحضان حركة إصلاحية؟ أم لأنّه اهتدى للمداخل العامّة والأصول الكلية التي يتميز بها ديننا والتي تؤهل الخطاب الشرعيّ للتفاعل الإيجابيّ مع الحياة الإنسانية؟ أم للسببين معًا؟
في شبابنا الباكر قرأنا «الإيمان والحياة» فَبَدَتْ لنا فيه ملامح شخصية القرضاوي، إنّه لا يتحدث عن الإيمان من برج التنظير الكلاميّ الشَّاهق، ولا يتناوله بمعزل عن الواقع الإنسانيّ الذي يموج ويضطرب على هذه الأرض، وإنّما ينزل بحقائقه العَلِيَّة إلى الحياة الإنسانية، ويتحدى به كل ما يموج فيها من تيارات واتجاهات ومذاهب ومشارب، حتى إنّك لتخرج من الكتاب بحصيلتين لا تستطيع أن تميز أيتهما كانت مقدمة للأخرى وأيتهما جاءت نتيجة على الأخرى،
الأولى: أنّ الإنسانية لا غنى لها عن الإيمان، حتى ولو على النحو البراجماتيّ،
والثانية: أنّ افتقار الحياة الإنسانية للإيمان وحاجتها له برهان على صدقه وعلى أنّه الحق الكبير؛ فتشعر بارتياح نفسيّ عميق، مصدره الانسجام التام بين حياة الناس والإسلام، وعدم الفصام بين النظرية والتطبيق، ولا بين القيمة وأثرها في واقع الحياة.
فلما توجهنا إلى ميدان الفقه العمليّ وقعنا على كتاب الزكاة، فتجسدت لنا الشخصية بشكل أوضح؛ فَلَئِنْ كانت حقائقُ الإيمان نظريةً ويحتاج ربطها بالواقع إلى جهد كبير، فإنّ أحكامَ الشريعة عمليةٌ حياتية متحركة؛ ففيم التحوصل داخل المطولات بمتونها وشروحها وحواشيها، فَلْنَنْزِلْ بهذه الأحكام إلى ميادين الحياة وآفاقها الرحبة؛ وكان كتاب الزكاة أنموذجا فذًّا لعلاج قضايا الواقع بأحكام الشريعة الغراء، وكان طبيعيا – والوضع هكذا – أن تجد في هذا الكتاب اجتهادات فذة تجمع بين الأصالة الفقهية وبين التجديد الاجتهادي، وهذا هو السهل الممتنع في العمل الفقهيّ، وهو شيء لا يتحصل عليه إلا من كان همُّه من العلم والفقه إصلاح الحياة الواقعية، وتلك خلة تصدق هذه الآية: (وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت: 35).
ولأنّ الحياة شُغْلُه الشاغل، ولأنّ خوضَ غمارِها بشريعة الله قضيتُهُ المركزية، وجدناه يضع كتبًا عدّة؛ يعالج فيها -بشجاعة فقهية مستبصرة- كثيرا من القضايا التي تشاجرت فيها الاتجاهات الفكرية والدعوية، وارتبك فيها الخطاب الشرعيّ، مثل كتاب «الحلال والحرام» وكتاب «فتاوى معاصرة» وكتاب «فقه اللهو والترويح» وكتاب «فقه الأقليات المسلمة» وكتاب «فقه الدولة في الإسلام» وغيرها من الكتب التي تؤكد هذه النزعة الإيجابية عنده، ولفرط اهتمامه بمعالجة المشكلات الحياتية المتجددة أنشأ «المجمع الأوربي للإفتاء والبحوث» لينزل إلى واقع الأقليات المسلمة وما يتفجر فيه من مشكلات.
يسوغ لي ولك ولغيرنا الاختلافُ في الرأي مع الشيخ القرضاوي، كما يحق لي ولك ولغيرنا التعبير باللسان أو البنان عن المخالفة في كثير من المسائل التي تعرض لها الشيخ باجتهادات جريئة؛ ذلك لأنّ هذه هي طبيعة العمل الفقهيّ، ولاسيما إذا كان صاحب الإنتاج الفقهيّ منغمسًا في حياة الناس، مشتغلًا بهموم الأمّة، متوجهًا إلى الحياة بزاده الفقهي وحصيلته العلمية؛ ليصلحها بالإسلام ويعالج مشكلاتها بالشريعة، لكنّك – ولو كنت في ذروة الخلاف معه – لا تملك إلا أن تحترمه وتعرف له قدره.
ذلك لأنّه إلى جانب -ما يتميز به من خصال وخلال تُصَنّفُه ضمن العظماء- نزل بالفقه إلى الميدان، وخاض به الغمار، وعالج به مشكلات الحياة، وهذا -لعمر الحق- عينُ ما تحتاجه الأمة الإسلامية في أيامنا هذه، ولعل برنامج “الشريعة والحياة” لم يكتسب زخمه الكبير وشهرته العريضة إلا لكونه لامَسَ حياةَ الناس عن قرب شديد، قُرْبٍ صنعه رجلٌ أبى إلا أن تكون الحياةُ ميدانَهُ الرحب، الذي يسبح في خضمه بعلمه الغزير وفهمه العميق، وهذا المسلك في الحقيقة يُكَلّفُ العالم كثيرا ويجهده كثيرا؛ إذْ ما أسهل أن يَعُبَّ المرءُ من معين العلم، ثم يَبُثُّهُ في الهواء الطلق والفضاء والرحب ليتبخر في جو السماء ويتبدد فيها بلا نفع حقيقيّ، أمّا أن ينزل بالعلم إلى الحياة ويعالج قضاياها ومستجداتها به فذلك عبء له كُلْفَتُه التي لا يعرفها بحق إلا من يحاول أن يعاني ما كان يعانيه الشيخ، رحمه الله رحمة واسعة.
بهذه الخصلة التي تميز بها القرضاويّ تُنَالُ الإمامةُ في الدين، فلا يُشترط لمن يوصف بالإمامة في الدين -من غير المرسلين- أن يصيب في كل ما يجتهد فيه، وما عرفنا عالِمًا مجتهدا تمَّ تقييمه في هذه الأمة بنسبة ما أصاب إلى ما أخطأ، وإنّما اكتسب الأئمة الكبار -الذين كثر بينهم الاختلاف في الاجتهاد- مكانَتَهم وإمامتهم بنزولهم للميدان، ومعالجتهم للحياة بما تعلموه؛ لذلك يجب ألا نتحرج من الاختلاف مع الأئمة والمجتهدين، وفي ذات الوقت لا يمنعنا هذا الاختلاف في الرأي من تقديرهم وإنزالهم منزلتَهم التي يستحقونها، هذا هو النَّفَسْ الإسلاميّ النقيّ، بل وهذا هو النّفس العلميّ المنهجي على وجه العموم.
وأخيرا أحب أن أبدد التشاؤم الذي يصيب كثيرا من الناس كلما قبض الله عالما ربَّانِيًّا، اعتمادا على حديث: (إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء) فهذا الحديث مَسَاقُهُ في أمارات الساعة عندما تخلو الأمة من الخير، والأمة ولله الحمد -برغم كل ما أصابها- بخير كبير، وستستقبل -برغم الواقع المرير- أيامًا تعلو فيها رايةُ الحق والعدل، بفضل الله أولا ثم بفضل آثار هؤلاء العلماء الربانيين.
حينما يفرح بعض العرب، يطلقون الرصاص في الهواء، ابتهاجا بمولد طفل، أو نجاح خرّيج، أو ختان طفل، وقد يطلقون الرصاص أيضا لكسر الملل.
في فلسطين، حيث لا يملك الشباب اليافع السلاح، يقاوم الاحتلال بإطلاق الألعاب النارية .. ومفرقعات الصوت، خصوصا حين تهاجم قطعان المستعمرين الأقصى المبارك، في موسم الاقتحامات المكثفة بين أيدي "الأعياد اليهودية" الممتدة مما يسمّى رأس السنة العبرية وصولا إلى "يوم الغفران".
المشهد لمن يراقب عن كثب يحمله إلى جو من الفانتازيا غير المفهومة، بين لعب العربي وجد الفلسطيني، وهو يصلُح مدخلا لحديثنا عن ظاهرة جديدة وصادمة في بلادنا العربية، حين عمدت بعض الأنظمة لعملية "جريئة" تستهدف إجراء تعديل جيني في العقل الجمعي العربي، عبر تحويل العدو الأزلي الصهيوني إلى "شريكٍ" وحليف، و"أخ" حميم علنيا، في المخيال العربي بعد عقود من خطاب علني وضعه في خانة "الآخر" المرفوض، نقول "علنيا" فيما كانت المياه تجري من تحت فراش الجماهير المخدوعة، عبر نسج علاقاتٍ حميمةٍ سرّية بين هذا العدو و"أحبابه" من رجالات النظام العربي الرسمي وزعاماته.
لن يصبح العدو حبيبا أو صديقا أو شريكا
عملية "التعديل أو العبث الجيني" ليست مأمونة النتائج، حتى في الحقل العلمي، فما بالك إذا استهدف هذا التعديل إعادة تشكيل العقل الجمعي العربي؟ على المدى القصير، أبرز نتائج هذه المحاولة، ثمّة صدمةٌ أصابت سواد الجمهور العربي، فهو الآن في مرحلة الانشداه و"فتح الفم" على مصراعيه، ويحاول أن يعيد ترتيب أولوياته، خصوصا وأن هذه العملية المعقدة ترافقت مع مفاعيل سلسلة أزمات وضغوط اقتصادية وصحية واجتماعية، مصحوبة بتغيّراتٍ جذريةٍ في المشهد الدولي، حرّكتها الحرب الروسية الأوكرانية، وذيول الجائحة التي لم يُغلق ملفها بعد. وفي المحصلة، يمكن القول إن العقل الجمعي العربي اليوم يعيش مرحلة إعادة تموضع، وتتضمّن في ما تتضمّنه وضع قائمة جديدة بأولوياته، وترسيم حدود جديدة تفصل بين ما هو عدو وصديق، بعد محاولات إعادة خلط المفاهيم والمصطلحات التي استقرّت في ذهنه عقودا خلت. وعلى المدى البعيد، أكاد أجزم أن محاولة التعديل أو العبث الجيني التي تعرّض لها العقل العربي لن يُكتب لها النجاح، ولن يصبح العدو حبيبا أو صديقا أو شريكا، والصخرة الكأداء التي تحول دون مرور هذا التعديل هي آيات القرآن الكريم التي صنّفت "بني إسرائيل" في خانة "المغضوب عليهم". ولهذا لا سبيل إلى ليّ عنق هذه الحقيقة إلا بإزالة كل ما يتعلق بالمغضوب عليهم من آيات القرآن الكريم، وهو أمرٌ محسومٌ ومحكومٌ بالفشل، حتى مع المحاولات المحمومة بملاحقة دور تحفيظ القرآن الكريم، و"تطوير" المناهج الدراسية بحذف كل ما يتعلق ببني إسرائيل والجهاد والمفاصلة بين الكفر والإيمان. ويكفي أن نتذكّر أن آية "المغضوب عليهم" تتكرّر في اليوم الواحد ملايين ملايين المرات في صلوات المؤمنين الذين يقرأون الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلوات الخمس اليومية.
هذا على الصعيد العربي العام، أما على الصعيد الفلسطيني فللأمر خصوصية معينة، لأكثر من سبب. أولا، يواجه الفلسطيني يوميا برؤية الجانب المتوحش المجرم من ذلك "الشريك" الحميم الذي تفتح له أبواب القصور الرئاسية في بلاد العرب، لذلك ليس لديه الوقت أصلا ليصدّق فكرة الشراكة (ما بالك بالمحبّة!) مع مجرم قاتل، يتمنطق مدنيوه قبل عسكرييه بسلاح مصوّب إلى صدور النساء والأطفال والشيوخ والشباب، ناهيك بعملية اقترافٍ منظمّةٍ معقدةٍ ومستمرّة من الجرائم تستهدف كل ما هو فلسطيني، شجرا أو حجرا أو ماءً أو هواءً. لهذا، أي محاولة لعملية تعديل جيني في العقل الجمعي الفلسطيني مثيرةٌ للسخرية، حتى مع وجود طبقة من وكلاء الاحتلال الذين يعينونه في إخضاع الشعب الثائر، عبر أبعد مما يُدعى التنسيق الأمني، فثمّة طبقة من أصحاب المصالح بات وجودها مرتبطا بشكل وثيق بديمومة وجود الاحتلال.
أي محاولة لعملية تعديل جيني في العقل الجمعي الفلسطيني مثيرةٌ للسخرية
ثانيا، لو نحّينا قليلا الجيل الذي تجاوز في عمره الثلاثينيات وما فوقها، ونظرنا إلى طبقة الشباب العشريني، سنجد، في العموم، أن هناك طبقة جديدة من أبناء الشعب الفلسطيني لا تحلم بأن تكون لا صانع محتوى رقمي، ولا مهندسا أو طبيبا، أو مطربا أو ممثلا مشهورا، ولا غيرها من المهن التي يحلُم بها جيل الشباب العربي. جيل يحلم بشيءٍ واحد فقط: الشهادة! وتلك علامة فارقة في حياة الشعب الفلسطيني، ومنعطفٌ تاريخيٌّ بكل المقاييس، خصوصا وأن هذه الطبقة تقوم اليوم بما يشبه الانتفاض والانقضاض والثورة على سلطة الاحتلال ومن يتعاون معها. لهذا ليست حكاية التعديل أو العبث الجيني في العقل الجمعي لهؤلاء على الطاولة أصلا، بل التعديل الحقيقي الذي أصاب سلوك هؤلاء هو إبداعهم في استيلاد وسائل مقاومة جديدة، ليست أولاها مفرقعات الألعاب، ولا آخرها استعمال السلاح بشكل مباشر.
اليوم، نعيش حقبة هذا العبث الجيني في العقل الجمعي العربي، وستكون له نتائج مفاجئة، عربيا في العموم، وفلسطينيا في الخصوص. وهنا لا بد من إزجاء "شكر" خاص للاحتلال الصهيوني لفلسطين، الذي قام من قبل بحراسة "الوطنية الفلسطينية" عبر إرهابه اللامحدود، ومنع بتعصّبه وتطرّفه المتوحش تنفيذ كل الحلول الاستسلامية التفريطية للقضية الفلسطينية، وها هو اليوم "ينجح" في إنتاج جيل فلسطيني شابٍّ يحلم بالشهادة، كما يحلم أي مراهق "عادي" بأن يصبح مطربا مشهورا، وهذا الجيل تحديدا هو ما سيصنع الفرق، خصوصا وأن المكان الأثير لتجمّعه هو صلاة الفجر، إن لم يتمكّن من إقامتها في الأقصى المبارك، ففي مساجد فلسطين المزروعة في طول البلاد وعرضها.
يتحامل بعض الليبرالليين والعلمانيين ودعاة النسوية على العلماء المسلمين وأصحاب اللحى الذين يتكلمون في أحكام الحيض والحجاب والطهارة والنفاس، ويتهمونهم أنهم يعيشون في الماضي السحيق.
ويشير «المستنير» أننا في عصر التكنولوجيا والثورة الرقمية والجينية وعلوم الفضاء، وأن هؤلاء المشايخ تحديداً يجب ان يختفوا من الحياة لأن كل إنسان اليوم قادر على أن يتفقه في دينه، ولا يحتاج إلى فقيه أو شيخ.
هذه إحدى الحجج التي ربما تسمعها من «علماني عايش الدور»، أخفى موهبته الضئيلة في مجال عمله خلف رطانة خطابية مستهلكة، أو «نسوي تقمص الدور»، أو ليبرالي قرأ ثلاثة كتب لمحمد شحرور وكتابين لصادق جلال العظم، ويتابع برنامجاً تلفزيونياً لإبراهيم عيسى!
وعندما تناقشه - مازحاً - أن الأمور لا تأخذ بهذه الحدية في الطرح، وأننا يمكن أن نصل إلى الفضاء وننتج القنبلة الكهرومغناطيسية وفي الوقت نفسه نراعي أمور مسح الخفين والطهارة والنفاس وأحكام الحيض والوضوء لكي نستطيع على الأقل أن نصلي في القمر أو المريخ إذا وصلنا هناك!
تجد صاحبنا نظر إليك نظرة مع ابتسامة مليئة بالحكمة، وقد اتخذ أسلوب الإنسان الناضج صاحب المنهجية العلمية، واسع الأفق، صاحب الخبرة الموسوعية الذي انتهى منذ وقت طويل من مناقشة التفاصيل الصغيرة، ولملم قناعاته الكبرى في حقيبة وأغلق إحكامها، ثم وجد نفسه مضطراً أحياناً لمناقشة عقول سطحية وغبية ورجعية مازالت متمسكة بالشكليات... ثم يقول لك:
- بسبب أمثالك نحن متخلفون!
تكمن المشكلة عزيزي القارئ في الاختزالية التي نعيشها والتي تعشقها الذهنية العربية، سواء العلمانية منها أو حتى دعاة «حموم الإنسان» بالبكيني! الذين يعتقدون أن اختفاء مشايخ الدين هو الحل من أجل أمة منتجة ومتقدمة تحجز كرسياً بين مجموعة العشرين أو حتى كرسياً دائماً في الأمم المتحدة.
إن تاريخنا واسع ومتعدد ومتنوع وفيه من الرحابة ما يجعل أبسط استقراء تاريخي يوضح لنا أنه في الوقت الذي كان المسلمون وعلماؤهم يناقشون معركة الجمل والمسح على الخفين ويتكلمون عن نواقض الوضوء ومسائل الحيض، والنمص والوصل والوشم وتفاصيل أخرى... كان أيضاً هناك مسلمون آخرون - وفي الوقت ذاته - يقدمون انجازات ضخمة وهائلة للبشرية، في الطب والفلك والكيمياء وعلم البصريات والجغرافيا والرحلات والاستكشافات، وأشياء كثيرة مذكورة في مئات الكتب التي كُتبت لتوضح فضل المسلمين على العالم كله وعلى أوروبا القرون الوسطى وغيرها.
يبقى الحل ليس في اختفاء مشايخ الدين، بل في أن يركز «السيد العلماني والليبرالي والنسوي» سواء كان أصلع الرأس أو بشعر كثيف، لكي يخترع لنا، ويكتشف ويجد علاج الأمراض، ويقاتل من أجل البشرية، وينقذنا من التخلف الذي نحن فيه... بدلاً من كونه متفرغاً للطعن في مشايخ أو فقهاء يقومون بما عليهم فعله، بينما «هو» في مكانٍ آخر. وهكذا يمكن أن تكون الشكليات «الحيض والطهارة» والأساسيات «الصارخ واكتشاف الفضاء» في مكان واحد.
وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.
Moh1alatwan@
كثرت على الساحة الفكرية الإسلامية الدعوة إلى (التعقل) و(التفكر)، و(مد الجسور مع الآخر) ذي المناهج العلمانية، و(الإفادة من القوى الوطنية الأخرى)، و(فهم طبيعة المتغيرات) رغبةً في التقدم المادي والارتقاء بمستوى الأمة خاصة والإنسانية عامة.
إذا زحفت للغور من بطن عالج *** فقولا لها ليس الطريق من هنالك
ويصف عصام البشير، نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الشيخ القرضاوي بأنه رائد الوسطية، وإمام في الاجتهاد والأصول، وفي الفقه والفكر والدعوة، وفي الأدب والشعر.
فمن خلال النهج الذي سلكه العلامة الراحل، استطاع ترسيخ مفهوم الوسطية والاعتدال وترسيخ معالمها وأصولها ومرتكزاتها، وقدم الإسلام -يضيف البشير في مداخلته بحلقة (2022/9/28) من برنامج "موازين"- باعتباره منهجا هاديا للزمان والمكان والإنسان، موصولا بالواقع، مشروحا بلغة العصر، منفتحا على الاجتهاد والتجديد، لا على الجمود والتقليد، منفتحا على الحضارات من دون ذوبان، ميسّرا في الفتوى ومبشرا في الدعوة.
وفي مقابلة حصرية أجريت معه قبل سنوات وبثتها حلقة برنامج "موازين"، يعرّف الشيخ القرضاوي الوسطية بأنها منهج في قراءة الإسلام ومصادره وتراثه وحضارته وتاريخه، ومنهج يقوم على التوازن والاعتدال، ومنهج وسط للأمة الوسط، ويتجنب الغلو والتطرف.
أما سالم الشيخي، عضو المجلس الأوروبي ووزير الأوقاف الليبي السابق، فيركز على موقف الشيخ القرضاوي من قضية فلسطين، بقوله إن قضية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي كانت حاضرة في حياة الراحل، في خطبه وكتبه ومؤتمراته، وكان صوته يصدع بالحق في هذه المسألة.
وكان العلامة القرضاوي يمثل المرجعية الفقهية لحركة لمقاومة الاحتلال في فلسطين بكل أصنافها، إذ تكلم عنها بشكل عميق سواء في كتبه المتقدمة أو في ما أظهره في كتابه "فقه الجهاد"، وفق قول الشيخي.
ويؤكد الشيخ القرضاوي -في المقابلة الحصرية التي سجلت قبل وفاته- على أن مقاومة الاحتلال تدخل في باب المقاومة المشروعة ويسميها العلماء جهاد الدفع، وهي فرض عين.
ويتحدث عصام تليمة، المدير السابق لمكتب الدكتور القرضاوي، عن الحملات الشرسة التي تعرض لها العلامة الراحل، بسبب مواقفه المناصرة للمظلومين والمعارضة للطغيان والجبروت والظلم قبل الربيع العربي وفي أثنائه وبعده.
وحسب تليمة، كان الدكتور الراحل الصوت الديني الذي دعم الثورات العربية منذ بداياتها الأولى، كما أنه وقف ضد الثورات المضادة، ولذلك حكم عليه بالإعدام في بلدين اثنين بتهمة باطلة جائرة. وبسبب مواقفه، كان التضييق عليه وعلى أبنائه والمحيطين.
وتناول الشيخ الراحل في المقابلة الحصرية جانبا من حياته الفكرية واجتهاداته الفقهية وبصمته الكبيرة التي تركها. ويؤكد في هذه المقابلة أنه استفاد من الشيخ محمد عبده ومن تلميذه رشيد رضا الذي يقول إنه يدين له أكثر مما يدين للآخرين. ويقول: " لا أرى التقليد لقديم ولا لحديث، ولا أقلد أهل الشرق ولا أهل الغرب"..
ويكشف العلامة الراحل -في المقابلة المسجلة- أنه بدخوله جماعة الإخوان المسلمين حدثت نقلة نوعية في حياته، إذ انتقل من التدين الفردي إلى التدين الجماعي الذي يعنى الذي يعنى بشأن الأمة توسعت، لكنه يؤكد أنه بعدما اتسع نشاطه أصبح الناس ينظرون إليه على أنه عالم الأمة وليس عالم الإخوان، ويقول إنه أحب أن يكرس هذا المعنى..
ومن جهته، يوضح الشيخي أن تأثر الشيخ القرضاوي بالإمام حامد الغزالي كان واضحا عبر الكتاب الأساسي للإمام الغزالي "إحياء علوم الدين"، كما تأثر بالروح الإصلاحية والتجديدية والإحيائية التي أراد الإمام أن يبثها في كل العلوم الإسلامية.
ويؤكد المدير السابق لمكتب الدكتور القرضاوي أن العلامة الراحل كتب عدة مؤلفات وطرح وجهات نظر مهمة، وعرض حقائق الإسلام الكبرى والمهمة، والتجديد الفقهي.
وعن مشروع ترشيد الصحوة الإسلامية، يقول تليمة إن الشيخ القرضاوي -بحكم أنه كان مجددا ومجتهدا وإماما- رأى بعض المظاهر التي تبتعد بالصحوة عن الرشد، فكتب كتبا في عدة قضايا، في ظاهرة التشدد والتكفير، وظاهرة الغلو في التكفير، وفي التشدد الفقهي.
ويذكر أن الشيخ القرضاوي والمؤسس والرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين كان قد توفي في 26 من الشهر الجاري في قطر عن عن 96 عاما.