أصغيت بانتباه إلى إذاعات كثيرة شاركت في الاحتفال بـ«يوم الأرض»، وهو يوم حزين يخرج فيه عرب فلسطين المحتلة ليحيوا ذكرى شهدائهم الذين قاوموا الاغتصاب اليهودي لترابهم الوطني، هذا الاغتصاب الذي تحول إلى اجتياح مسعور بعد هزيمة سنة 1967.
وشعرت بالسخط وأنا أسمع ما قيل من شعر ونثر، إذ كان المتحدثون يؤكدون عروبة فلسطين، لأن الكنعانيين هم أصحابها الأوائل، والكنعانيون والعدنانيون والقحطانيون جميعًا عرب، أما بنو إسرائيل فهم طارئون غرباء، وحاولت أن أتسمَّع معنى آخر يربطنا بأرضنا فلم أرجع بطائل!
ما تحدَّث أحد عن الله ورسوله، ما تحدَّث أحد عن عمر بن الخطاب وتسلُّمه الأرض من النصارى لا من اليهود، ما تحدَّث أحد عن أصلنا الديني وتاريخنا الإسلامي، ما تحدَّث أحد عن انتهاء الدور الروحي والحضاري لليهود وبزوغ رسالة أُخرى بعيدة عن الأثرة والحقد، ما تحدَّث أحد عن أن وظيفة الهيكل وبنائه مسكنًا للرب قد أُلغيت وأن الوظيفة الجديدة هي لمسجد يصيح في أرجاء العالمين: الله أكبر.. كان التنادي بالعودة إلى الأرض وحقِّ أبناء كنعان في وراثتها.
إن دوران المعركة على هذا النحو هدف استعماري انزلق إليه العرب في محنتهم النفسية والعسكرية، ولن ينالوا من ورائه خيرًا.
فبنو إسرائيل يديرون المعركة على أساس ديني بحت، ويستقدمون أتباع التوراة من المشرق والمغرب قائلين: تعالَوا إلى أرض الميعاد، تعالَوا إلى الأرض التي كتبها الله لأبيكم إبراهيم كما أكد العهد القديم.
مستوطنون باسم التوراة
في تقرير لـ«فرانس برس» نشرته صحيفة «الراية» القطرية في 2/ 5/ 1982م تحت عنوان «مستوطنون باسم التوراة»، التقى الكاتب بنفر من اليهود في المستعمرات التي أنشؤوها، وتحدث معهم ليستكشف سرائرهم وأسباب مجيئهم، ومدى حرصهم على البقاء مع المقاومة العربية المتصلة.
قال هارون الذي يقيم في مستعمرة أوفرا من خمس سنين: «إنني أمتلك ما لديَّ باسم التوراة! واعتراضات العرب لا وزن لها»، ويبلغ هارون من العمر 40 سنة، وهو يضع مسدسًا في حزامه، ويوالي حركة «جوش أمونيم» كتلة الإيمان الدينية المتطرفة، والواقع أن الاتجاه الذي يمثله هو الغالب على جمهور المستوطنين «الإسرائيليين».
وفي «كيريات أربع»، وهي مستعمرة بجوار مدينة الخليل، يؤكد شالوم (33 عامًا) ما ينتويه فيقول: «إن اهتمامي الرئيس منصب على عودة الشعب اليهودي للإقامة بأرضه.. وإذا كان العرب لا يرون أن نصوص التوراة ليست سببًا كافيًا لحق الملكية فليست هذه مشكلتي».
وتقول مريم لوينجز، وهي قرينة حاخام يهودي مشهور: «إن علينا أن نطيع أوامر الله الذي طلب منا العودة إلى الأرض المقدسة»، وهي تقيم مع أحد عشر ابنًا لها وسط مدينة الخليل العربية على أنقاض معبد قديم!
وختم الكاتب تقريره بهذه العبارات على لسان هارون: «لقد صاح وهو يطل من النافذة ويشير إلى مزارع الفاكهة: هذا البلد ملك لنا، عندما وصلنا هنا لم تكن توجد إلا تلال وحجارة! لقد خضَّرنا الصحراء، ولقد ساعدنا الله منذ ألفي عام ولن يمتنع عن ذلك فجأة، بل سوف يساعدنا على حل مشكلاتنا مع العرب»!
أرأيت أيها الأخ فلسفة القادمين الجدد، وأحاديثهم السرَّية والعلنية؟ الله ومواعيده لشعبه المختار! التوراة والحدود التي رسمتها! حق التملك للأرض باسم الدين اليهودي، وجهود البناء والتعمير، ليكن العرب أبناء كنعان أو قحطان فليعيشوا بعيدًا عنا.
وما يقوله رجل الشارع العادي هو ما يردده رئيس الوزراء المسؤول، فكيف بربِّ الأرض والسماء يصرخ القوم بانتمائهم، وننسلخ نحن من هذا الانتماء مؤثرين عليه انتماء عرق لا يقدِّم ولا يؤخِّر؟!
وعندما يتكلم السياسي اليهودي رافعًا بيمينه كتابه المقدس، فهل يسكته سياسي عربي يستحي من كتابه، ولا يذكره لا في محراب ولا في ميدان؟!
إن اليهود يعرفون كما نعرف أن فلسطين لم تكن خالية من سكانها يوم دخلوها فاتحين باسم التوراة، كان الكنعانيون يَحْيَون في هذه الربوع التي فاضت عليهم سمنًا وعسلاً، وكانوا أصحاب تفوّق مدني وعسكري أغراهم بالترف والعبث والجبروت، وكانوا مرهوبين يخشى الناس بطشهم، ويوْجَلون من التعرض لهم، فلما خرج موسى وقومه من مصر واحتوتهم سيناءُ قيل لهم: ادخلوا فلسطين فسيناء مَعْبَر إليها، ففزع اليهود من هذا التكليف وخشَوا مقاتلة أهلها يومئذ، وقالوا لموسى عليه السلام: (إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) (لمائدة: 22)، وهذا الرد يقطر جبنًا؛ فإن الكلاب والقطط تدخل بلدًا خرج منه أهله، أي شجاعة في هذا الموقف؟!
وحاول موسى عليه السلام وبعض الصالحين تشجيع بني إسرائيل على الهجوم فقالوا في إصرار: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (لمائدة: 24)، وعمَّت الأقدار على بني إسرائيل أرض سيناء، فظلوا يتيهون فيها أربعين سنة، هلكت خلالها الأجيال الجبانة، ونبت جيل أنظف، ولكن بعدما مات موسى عليه السلام، وقاد القوم يوشع الذي دخل فلسطين بعد قتال شديد مع جبابرتها الأولين.
ودخل اليهود فلسطين، وأقاموا لهم دولة مكثت قرابة قرنين.. فماذا فعلوا؟ أضحَوا شرًّا من سلفهم الذاهب، وملؤوا الأرجاء خبثًا وسفكًا وفتكًا، وقتلوا الأنبياء المختارين والأئمة الْمُقسطين، فحكم الله عليهم بالطرد والذل وتوارث الأقوياءُ نبذهم وتشريدهم.
وأشرق الإسلام في القدس
فلما دخل المسلمون بيت المقدس في الشروق الإسلامي الأول كانت العاصمة العتيقة في أيدي الرومان، وكان دخولها محرَّمًا على اليهود، وأقبل أمير المؤمنين عمر من جوف الصحراء يتألَّق جبينه بشعاع الوحي الخاتم وتمشي في خطاه معالم التوحيد الحق.
قال التاريخ: كان التواضع المذهل يكسو موكبه الساذج، وكان الرجل الذي قوَّض صرح الدولتين العظيمتين في العالم يتحرَّك مطرق الطَّرْف خاشعًا لله فوق رَحْل رَثٍّ وبين حاشية مستكينة، يقول بصوت رهيب: كُنَّا -نحن العرب- أذل الناس حتى أعزَّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلَّنا الله.
ولم يقل عمر رضي الله عنه: الويل للمغلوب.. بل أمَّن النصارى على كنيستهم، وقرر حرية العبادة، ثم شرع يرسي قواعد الدولة الجديدة على التقوى والعدالة والمرحمة.. شرف العروبة في هذه الدولة ذوبانها في إعلاء كلمة الله.
مهزلة الفصل بين العروبة والإسلام
حتى جاءت هذه الأيام النحسات، فإذا ناس من العرب ينسون عمر والإسلام والتاريخ كله، ويقولون: نحن أبناء كنعان! مسحورين بالاستعمار العالمي الذي أَلغى الدين وجعل مكانه الوطنية أو القومية! وبقي أن يقول العرب في جنوب الجزيرة: نحن أبناء عاد، وأن يقول العرب في شمال الجزيرة: ونحن أبناء ثمود!
وفي الوقت الذي يتعرَّى العرب فيه عن دينهم ويَحْيَون مكشوفي السوأة، يتسربل اليهود بعقيدتهم ويصرخون بحماس هائل: نحن أبناء التوراة وأولاد الأنبياء، نحن بنو إسرائيل!
ونمضي في مهزلة فصل العروبة عن النسب الإسلامي في الميدان الدولي والتربوي على سواء، فنلحظ بقدر من الدهشة أن مسؤولين في المؤتمر الإسلامي أحزنهم بطش اليهود بالعرب داخل «إسرائيل»، ففزعوا إلى بابا الفاتيكان يسأَلونه النجدة لإخوانهم! لقد سألوه باسم الإنسانية التي تجمع الكل، وما أحسبهم سألوه باسم «الوحي» الذي يشمل الأديان الثلاثة.
وجاء الجواب، قالت الصحف: خطب البابا في مائة ألف مصل احتشدوا في الكنيسة لتحية ذكرى دخول المسيح القدس، فقال: «إنه لا يسعنا إلا أن نفكر في أرض المسيح أرض فلسطين! حيث علَّم المسيح المحبة ومات كي تتصالح الإنسانية».
ثم أعرب عن أمله في مجيء اليوم الذي يوافق فيه شعبا هذه الأرض على وجود وحقيقة كل منهما، حتى يعيش الطرفان –يعني العرب واليهود– في سلام!
وقال كلاماً حمل كاتباً في صحيفة «الراية» القطرية أن يكتب في 5/ 4/ 1982م: «تمخض الجبل..»!
وأقول: إن الذي يرتقب غير هذا الوعظ من بابا روما مخطئ ولا يعرف حقيقة النصرانية، وقد وقع في هذا الخطأ عرب آخرون استنجدوا بمجلس الكنائس العالمي، وعادوا من محاولتهم بخُفَّي حُنَين.
إن النصرانية تؤيد قيام «إسرائيل»، وترى عودة اليهود إلى فلسطين معجزة للكتاب المقدَّس وآية تشهد بصدقه، وقد نبَّه وايزمان، أول رئيس لـ«إسرائيل» إلى ذلك فقال: «إن لورد بلفور وغيره من الوزراء الإنجليز كانوا يعبدون الله حين أصدروا إعلان الوطن القومي، وكانوا يمثلون الإيمان المسيحي»!
هل أقول: إن العرب لا يقرؤون، وإنهم يجهلون ذلك حقًّا؟ ما أظن!
الواقع أن العرب فتنهم الغزو الثقافي وحسبوا أن الوطنيات أو القوميات الحديثة تخلَّت عن عقائدها الأولى، فتزحزحوا عن قواعدهم، وفرَّطوا في دينهم على حين بقي خصومهم بمشاعر القرون الأولى، ولو حدث بالفعل أن غيرنا نسي دينه أو تناساه، فهل ذلك عذر للكفر والفسوق والعصيان؟
إن قضية فلسطين خاصة يستحيل تجريدها من طابعها الديني، والقول بأنه يجب طرد المستعمرين اليهود من بلادنا، كما يجب طرد المستعمرين البيض من جنوب أفريقيا، وأن كلا النظامين يقوم على نزعة عنصرية، هذا الكلام تغطية سخيفة لحقائق مرة.
إن العدوان اليهودي المدعوم بقوى الصليبية العالمية له غاية مرسومة معلومة هي: إبادة أُمة وإزالة دين، هي الإجهاز على الأُمة العربية التي حملت الإسلام أربعة عشر قرنًا، وتريد أن تظل عليه شكلاً إن تركته موضوعًا.
والذين يبعدون الإسلام عن معركة فلسطين يشاركون في تحقيق هذه الغاية؛ لأن فلسطين من غير الدفع الإسلامي زائلة، والعرب من بعدها زائلون، والمسلمون بعد زوال العرب منتهون، وهذه هي الخطة!
إن ذهابَ العرب بأنفسهم وشموخهم بجنسهم وحديثهم عن حضارة كنعان وقحطان وعدنان –إن كانت لهم حضارة– إن ذلك يطعن الأخوة الإسلامية طعنة نافذة، فإذا انضم إلى هذا الغرور نسيان لفضل الإسلام وبعث لنشاط عصري جديد يقود العروبة فيه الشيوعيون والنصارى والمسلمون، فذاك هو الارتداد الذي ينتهي بالعرب إلى مصارعهم، ويحوِّلهم أجمعين إلى لاجئين لا وطن ولا دين!
إن احتباس العرب في نطاق مآربهم الخاصة رذيلة منكورة، واهتمامهم بقضاياهم وحدها أنانية مرذولة.
في الحرب العالمية الأولى انضمَّت الثورة العربية الكبرى إلى الإنجليز وقاتلت الأتراك، وتسببت في هزيمتهم، فماذا جنى العرب؟ أعطى الإنجليز فلسطين وطنًا لليهود، وسقطت الخلافة التي رفضت أيام عبدالحميد بيع فلسطين بالقناطير المقنطرة من الذهب، ووقعت وحشة هائلة بين الترك والعرب انتهت بارتداد الحكم التركي عن الإسلام.
أما نتقي الله في ديننا ورسالتنا بعد هذه النتائج الرهيبة، ونستمسك بالإسلام الذي شرفنا الله به، ونجعل الولاء له بعد ما تبين شؤم ما عداه؟!
في حمّى اعتزاز العرب بقوميتهم وقع تزوير مثير في دراسة التاريخ، فسمِّي البطل الكردي المسلم صلاح الدين الأيوبي بحامي القومية العربية! والرجل الضخم لم يكن يعرف قومية لا عربية ولا كردية، كان مسلمًا فقط.
إن إبعاد العرب عن الإسلام خيانة وطنية، إلى جانب أنها ردَّة دينية، والذين يمضون في هذا الطريق يخدمون الصهيونية والصليبية والشيوعية؛ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63).
____________________
(*) كتاب «هموم داعية».