الأحد، 30 نوفمبر 2025

حضور بدر وسابقة الفضل إعفاء من تهمة الخيانة

حضور بدر وسابقة الفضل  إعفاء من تهمة الخيانة

حاطب بن أبي بلتعة

أحمد هلال.. 

كاتب مصري وناشط حقوقي


في  ليلةٍ من ليالي المدينة الهادئة، حين عسعس  الليل وارخى سدوله وغفى الضوء على جدرانها وهدأت خطى العابرين، جاء الوحي يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سر  خفيّ يجري بعيداً في طرق الصحراء.

 خبرٌ لم تدركه عين  بشر ولم يخبر به صاحبه أحد، ولا لامسته ريح، لكنه وصل إلى قلب النبي الذي لا ينطق عن الهوى: امرأةٌ تحمل كتاباً إلى قريش، يفشى ما طوته السرية التي أحاط بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فتح مكة.


لم يكن هذا الإخبار حادثة عابرة، بل لحظة يجتمع فيها غيب السماء مع حكمة القيادة. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علياً بن أبي طالب، والزُّبير، والمِقداد، في مهمة دقيقة لا تعرف التأخير ولا الخطأ.


 أمضوا كالسهام يشقون ليل الصحراء حتى بلغوا روضة خاخ، فوجدوا المرأة كما وصفها الوحي.


أنكرت، وتلجلجت، ثم أخرجت الكتاب من ضفائر شعرها، كأنما كانت تخفي سراً يعجز الحجر عن حمله.

حُمل الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيه ما يدل على صاحبه: 

حاطب بن أبي بلتعة، ذلك المؤمن الصادق، البدريّ الذي شهد أعظم معارك الإسلام. 

استدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُبادر إلى الغضب، ولا إلى العقاب، ولا إلى الشكّ في جدارة الرجل بإيمانه. بل جلس أمامه، وأقبل على قلبه قبل فعله، وسأله السؤال الذي لا يطرحه إلا قائدٌ يعرف أن وراء كل سلوكٍ سبباً:

يا حاطب، ما حملك على هذا؟ ،ويا للروعة في القيادة النبوية


لم يكن حاطب خائناً، ولا جاسوساً، ولا ليست له قدمٌ في النفاق، لكنه رجل بلا عشيرة في مكة، يخشى على أهله في مدينةٍٍ تستعر فيها الأحقاد. 

قال معتذراً:


والله ما فعلته كفرا، ولا ارتداداً، ولكن كانت لي هناك أهلٌ ليس لهم مَن يحميهم، فأردت أن أصنع لهم يداً. ومن تتمة ما قاله: أعلم أن الله ناصرك!


هنا تجلّت عبقرية القيادة النبوية. لم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم، إلى الخطاب وحده، بل إلى النية، والسابقة، والدافع الإنساني. ومن هنا لا نأخذ الرجال من مواقف تعثرت فيها خطواتهم، بل الرجل يبقى رجلا ولو تعثر.


رأى رجلاً صدق مع الله في بدر، حيث تتقرر مصائر الأمم.

وما كان لصاحب بدر أن يُدان كمن خان عمدا ، أو باع سرّ الأمة لمن يبيتها سوءاً. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم، إلى عمر حين همّ بعقابه، وقال كلمته التي صارت نبراساً في فهم النفوس:

لقد صدقكم، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.


لم يكن هذا عفوا يضعف الدولة، بل عفو يرسّخ قوتها. عفو صادر عن ثباتٍ لا عن تردد، وعن بصيرة لا عن سذاجة، وعن ميزانٍ يزن القلوب والأحداث بعمق لا تملكه إلا قيادة ربّانية.


الدروس القيادية من هذا الموقف العظيم


1- القيادة لا تُصدر حكماً قبل أن تسمع الصوت العميق خلف الفعل، وهذا الفعل في علم السياسة خيانة، لكنها تتلاشى عندما يتم التعامل معها بذكاء وعمق وحكمة وهدوء


النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب بمجرد ظهور الفعل، بل سأل: “ما حملك؟


القادة الراشدون يبحثون عن الدافع قبل الحكم، وعن العذر قبل الإدانة.وكثيرا ما نخسر الرجال بمجرد الحكم على الظاهر من الأفعال دون التثبت والتحقق.


2- النوايا جزء من تقييم الأداء

في الدول الحديثة تقاس الأفعال بنتائجها فقط؛ أما في القيادة النبوية فالفعل يُقرأ مع دوافع صاحبه، لأن معرفة النية تكشف التهديد الحقيقي من الوهمي.وهذا عمق تتفرد به القيادة في الدولة الإسلامية.


3- السابقة الحسنة ليست صفحة تُطوى


رجلٌ شهد بدرًا لا يساوي من لا سابقة له.

وكانت وقفة بدر هي الفرقان في التاريخ وليس من شهد بدرا كمن غاب عنها والقائد الحكيم لا ينسى الأيام التي وقف فيها رجاله معه في لحظات المصير.


4- فرقٌ بين الخطأ الإنساني والخيانة العقدية


حاطب أخطأ، نعم، لكنه لم يخُن.

والقيادة التي تساوي بينهما تخسر رجالها وتشوّه عدلها.

وعلى القيادة في الحركة الإسلامية ان تراجع مواقف أفرادها وتعيد ما فقدته من جهود رجالها.


5- العفو قوة سياسية إذا جاء من موقع اقتدار


لم يعفُ النبي صلى الله عليه وسلم ضعفاً، بل عفا لأنه سيطر على الموقف، وأحبط العملية قبل وقوعها، وأدرك أن العقوبة هنا تفسد أكثر مما تصلح.


6- القائد العظيم يجمع بين العدل والرحمة


فالعدل يحفظ النظام، والرحمة تحفظ النفوس.

ولا تستقر دولةٌ تسود فيها واحدة دون الأخرى.وما بين الرحمة والعدل تكون قرارات القيادة الراشدة.


7- حماية أسرار الدولة واجب، لكن فهم ظروف الأفراد ضرورة


القيادة ليست نصوصاً جامدة، بل فهمٌ للواقع، وتقديرٌ للإنسان، وبناءٌ للثقة.


في قصة حاطب، كان النبي صلى الله عليه وسلم قائداً يرى ما لا يراه الآخرون:

يرى الإنسان خلف السلوك، والإخلاص خلف الزلّة، والسبق خلف العثرة.

فكان العفو هنا ليس تجاوزاً عن خيانة، بل اعترافاً بأن القلوب المؤمنة تهفو، لكنها لا تغدر، وأن الرجال الكبار قد يخطئون، لكنهم لا يبيعون دينهم.


ربما تكون قرارات القيادة الراشدة مثيرة للجدل أحيانا، لكنها ان ارتكزت على تلك الحكمة والعمق والرشد فإنها سياجا يحفظ النظام ويحمي الأفراد.


وهكذا بقي حاطب في جيش النبي، يقاتل يوم الفتح تحت راية من عفا عنه، ويعلم أن العفو الذي تلقاه لم ينقذه وحده، بل أرسى مبدأً ستقوم عليه حضارة:


أن العدل لا يكتمل إلا بالرحمة، وأن القيادة لا تعلو إلا بالإنصاف.

وكم في التاريخ من قصص وكم في الأحداث من عبر

ولعلنا نستعيد في قصص الصحابة العبرة والدرس ما نحفظ به دعوتنا وحركتنا ونستجمع قوتنا في تلاحمنا وتراحمنا

أحمد هلال حاطب بن أبي بلتعة


عَلِّقْ قلبَكَ بالله!

 نقطة نظام

عَلِّقْ قلبَكَ بالله!

أدهم شرقاوي




يُحكى أنّ ملكًا طلب من أشهرِ نجَّارٍ في مملكته أن يصنعَ له كرسيًا للمُلْكِ بدل كرسيه القديم، سُرَّ النجار بهذا الشرف العظيم وباشر من فوره، ولكن الملك كان متطلبًا جدًا فلم يعجبه هذا العرش الجديد، فأمر أن يُعدم النجار في الصباح!


طلب النجار أن يقضي ليلته الأخيرة في بيته، فوافق الملك…

لم يستطع النجار تلك الليلة أن ينام، كيف لا والصبح موعد رقبته مع السياف، ولكن زوجته قالت له: نم ككلّ ليلةٍ فالرب واحد والأبواب كثيرة!


وبالفعل نام النجار، وما استفاق إلا على صراخ الجنود وصوت الخيول في باحة منزله، فعرف أنّ الأجل قد حان، وعندما طُرق الباب، اتجه ليمضي إلى أجله، ولكن رئيس الجند قال له: لقد مات الملك، ونريدك أن تصنع له تابوتًا!


عندها همس النجار قائلًا: فعلًا، الربَّ واحد والأبواب كثيرة!


قد لا تكون هذه القصة حقيقية، ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أنّ الربّ واحد والأبواب كثيرة!


ما منّا من أحد إلا وصلت به الأمور مرة إلى طريق مسدودة، ظنَّ عندها أن لا خلاص وأنّ حياته صارت بلا طعم، ولا هدف وإن استمرت، ثمّ دارت الأيام فإذا السدود أُزيلت، والعوائق ذُللت، ما من سببٍ يُفسر هذا غير أنّ هناك رب لم يتركنا حين تركناه وطرقنا أبواب الناس!


ما منا من أحد إلا ورغب في أمر ما بشدة، وظنّ أنّ حياته هي هذا الشيء الذي يريده، ولعلّه سخط حين أراد الله أمرًا وأراد هو آخر، ثمّ دارت الأيام ليكتشف أنّ الخيرة حقًا كانت فيما اختاره الله لنا، هكذا نحن البشر لا ندرك إلا متأخرين أن الله أحيانًا يحرمنا ما نريد ليمنحنا ما نحتاج!


إنّ الله يدبر الأمور بطريقة لا ندرك أبعادها إلا بعد وقت، نحن قاصرو التفكير ننظر إلى الأمور من جانب واحد، جانبنا نحن! أمّا الله فيدبر الأمر كله!


خرج المسلمون لا يريدون إلا قافلة قريش، وكان هذا في نظرهم يومذاك أقصى ما يمكن أن يلحقوه بقريش من هزيمة، ولكنّهم علموا لاحقًا أنّه لولا نجاة القافلة لنجا أبو جهل وأمية بن خلف!


لو كان بيد أمّ موسى ما ألقته في اليمّ، ولكن من كان الأمر بيده أراد أن يقول لفرعون؛ قتلت آلاف الأطفال خوفًا من هذا، خذه إذًا وربه في بيتك رغمًا عن أنفك! من كان يظنّ صبيحة ذلك اليوم أنّ أمّ موسى لا تلقي ولدها في النهر، بل تدق مسمارًا في نعش فرعون!


لو كان الأمر بيد يعقوب ما ترك يوسف لحظة، أراده ابنًا في حجره، وأراده الله ملكًا على عرش مصر!


هذا التدبير المتقن، المذهل في الدقة والمواعيد نعرفه اليوم لأنّنا نعرف ما انتهت إليه تلك الحوادث والقصص، ولكنّنا في قصصنا نحن، في اختيارات الله لنا، لأنّنا لم نشهد الواقعة كلها، ولم ندرك الحكمة بكامل أبعادها، يأخذنا الشك لحظة لأنّنا بشر، ولكن لنتأدب مع الله، غابت الحكمة عنّا، فلا يغب عنّا أنّ الذي جمع قريشًا والمسلمين من غير ميعاد، وألقى موسى في بيت فرعون ليهلكه، وأخذ يوسف من أبيه ليجعله ملكًا وينجي به أهل مصر لم يغب يومًا عنا، إنه يدبّر أمورنا بذات الحكمة والرحمة، صفاته الأزلية الأبدية سبحانه، رب الخير لا يأتِ إلا بالخير، فعلقوا قلوبكم بالله!

قراءة في كتاب “استعمار مصر”

  قراءة في كتاب “استعمار مصر”

كتاب: استعمار مصر Colonising Egypt

تأليف: تيموثي ميتشل Timothy Mitchell

ترجمة:منير السباعي  .احمد حسان



قراءة في كتاب " استعمار مصر " من الدكتور حسام أبو البخاري



 قراءة في كتاب “استعمار مصر”
 يسري الخطيب 

يعود هذا الكتاب ليضع القارئ في قلب واحدة من أكثر مراحل التاريخ المصري تعقيدًا: اللحظة التي تحوّل فيها الاحتلال إلى مشروع لإعادة تشكيل المجتمع من جذوره، لا بالسلاح وحده، بل بالمعرفة والإدارة والاقتصاد والعمران.

استعمار مصر ليس سردًا سياسيًا تقليديًا، بل قراءة مفكّكة لآليات السيطرة الحديثة، وكيف تغيّرت صورة “الدولة” نفسها تحت ضغط الاستعمار الأوروبي.

تلخيص في عدة سطور

يرصد تيموثي ميتشل المسار الذي جعل من مصر مختبرًا للسلطة الحديثة؛ كيف جرى تنظيم الفلاحين، وإعادة هندسة المدن، والتحكم في التعليم والإدارة، وإحلال البيروقراطية محل العلاقات الاجتماعية القديمة. يقدّم الكتاب تفسيرًا لكيفية تغلغل الاستعمار في تفاصيل الحياة اليومية، محوِّلًا السكان والفضاء العام إلى “مشروع قابل للإدارة”، ومؤسّسًا لدولة مركزية تستمر آثارها حتى اليوم.

أهم فصول الكتاب ومضامينها

العرض والحضور: كيف شكّلت الحملات الأوروبية صورة “الشرق” باعتباره فضاءً يحتاج إلى إعادة تنظيم.

الجيش والقرية: إعادة تشكيل الريف المصري في أعقاب الاحتلال، وتحويل الفلاحين إلى قوة عمل قابلة للضبط.

المدرسة بوصفها مصنعًا للانضباط: دخول التعليم النظامي كأداة للسلطة، وولادة البيروقراطية الحديثة.

العمران والمدينة: دور التخطيط الحضري في فرض أنماط جديدة للحركة والرقابة.

الاقتصاد كأداة للهيمنة: من القطن إلى البنك، كيف جرى ضبط السوق وربط الاقتصاد المصري بالمركز الأوروبي.

التمثيل والمعرفة: نشوء خطاب استشراقي متماسك يجعل السيطرة تبدو “علمية” و“ضرورية”.

أهمية الكتاب

يُعد هذا العمل أحد أبرز الدراسات التي قدّمت منهجًا مختلفًا لفهم الاستعمار، بعيدًا عن المعركة العسكرية والسياسية، ومقتربًا من البنى العميقة: المدرسة، التخطيط، الإحصاء، البيروقراطية، وتغيّر مفهوم الدولة نفسها. وقد أصبح مرجعًا أساسيًا في دراسات ما بعد الاستعمار والعلوم السياسية والأنثروبولوجيا.

عن المؤلف

تيموثي ميتشل، أستاذ العلوم السياسية بجامعة كولومبيا، أحد أبرز المفكرين في تحليل الدولة الحديثة في الشرق الأوسط. جمع في أعماله بين التاريخ والاقتصاد والاجتماع، واشتهر بأسلوبه الذي يربط التفاصيل الصغيرة بالبنى الكبرى، ومن أهم كتبه: حكم الخبراء، اقتصاديات الحياة السياسية، الكربون الديمقراطي.

أهم مقولات الكتاب

“الاستعمار لم يكتفِ بالسيطرة على الأرض؛ بل أعاد اكتشافها كشيء يمكن قياسه وتحويله إلى مورد منضبط.”

“المدرسة الحديثة كانت أهم أسلحة الدولة المركزية، فقد صنعت مواطنًا يمكن إدارته قبل أن تصنع متعلمًا.”

“المدينة الحديثة لم تكن مجرد عمران جديد، بل شبكة خفية للرقابة والتنظيم.”

“السلطة الحديثة لا تحتاج إلى القوة الظاهرة دائمًا؛ يكفي أن تُعاد هندسة الحياة اليومية.”

كتب عربية وأجنبية مشابهة

تكوين العقل العربي – محمد عابد الجابري (في تحليل بنية الدولة والسلطة).

إدارة التوحش – عبد السلام فرج (في فهم آليات الضبط والهيمنة الحديثة من منظور سياسي).

الجسد الاستعماري – أنيبال كويخانو.

الاستشراق – إدوارد سعيد (الكتاب الأكثر قربًا في المنهج وتفكيك التصورات المعرفية).

الدولة المستحيلة – وائل حلاق (في تفكيك مفهوم الدولة الحديثة وامتدادها التاريخي).

اقتصاديات الإمبراطورية – نايال فيرغسون.

هذا الكتاب

يقدّم استعمار مصر قراءة فريدة للتاريخ، قراءة لا ترى الاستعمار معركة عسكرية فحسب، بل شبكة من الأفكار والإجراءات والمؤسسات التي أعادت ترتيب المجتمع ذاته.

إنه كتاب يفتح العيون على جذور الدولة الحديثة، ويكشف كيف ما زالت آثار تلك اللحظة الأولى تتحرك داخل حاضرنا. ومن يقرأه يدرك أن فهم الماضي ليس ترفًا، بل شرطٌ لفهم العالم الذي نعيش فيه.


******* 






المشاريع النووية الجديدة وإعادة تشكيل سياسات الطاقة في أفريقيا

المشاريع النووية الجديدة وإعادة تشكيل سياسات الطاقة في أفريقيا


أكاديمي أفرووسطي، وباحث في الشؤون الأفريقية الاقتصادية والاجتماعية.

سياسات الطاقة في أفريقيا.. قراءة في المسار النووي وصعود التجربتين الرواندية والسنغالية

في سياق تطور سياسات الطاقة في أفريقيا، يتضح أن التحول الجاري لا ينبع من أزمة انقطاع الكهرباء فحسب؛ بل من فجوة تتسع بين طموح دول تسعى إلى نمو صناعي مستقر، ومنظومات إنتاج هشة ترهقها ضغوط التحضر والتقلبات المناخية.

ومع تصاعد هذا الاختلال البنيوي، عاد الخيار النووي تدريجيا إلى المشهد، ليس بصفته بديلا مباشرا للوقود الأحفوري؛ ولكن كأحد الخيارات النادرة القادرة على توفير إمدادات مستقرة منخفضة الانبعاثات، في لحظة تعجز فيها الأدوات التقليدية وحدها عن دعم العقد المقبل من التنمية الأفريقية.

وقد ساعد صعود المفاعلات الصغيرة المعيارية (Small Modular Reactors -SMRs)، إلى جانب تنوع موردي التقنية بين الشرق والغرب، في فتح الباب أمام دول لم تكن قادرة سابقا على التفكير في البرامج النووية واسعة النطاق.

وفي هذا السياق، اكتسب إعلان رواندا والسنغال في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 عن انضمامهما إلى التعهد الدولي لمضاعفة القدرة النووية ثلاث مرات بحلول 2050 قيمة تتجاوز البعد البروتوكولي؛ فهو يشير إلى إعادة ترتيب أعمق داخل حسابات الطاقة في القارة.

وتبدو دلالة هذه اللحظة أكثر وضوحا حين نتذكر أن علاقة أفريقيا بالمجال النووي بدأت في وقت مبكر مع تشغيل الكونغو الديمقراطية أول مفاعل بحثي عام 1959، ثم تتابعت طبقات متعددة من المحاولات بين مصر، وجنوب أفريقيا، والجزائر، وليبيا، وغانا، ونيجيريا، والمغرب، وغيرها.

وعلى الرغم من هذا التاريخ الطويل، بقي معظم المسار النووي الأفريقي حبيس الطموح أو البحث العلمي، دون أن يتحول إلى قدرة إنتاجية واسعة باستثناء تجربتي مصر، وجنوب أفريقيا.

اليوم، ومع اتساع ضغوط الطلب الصناعي والسكاني، تبدو القارة أقرب من أي وقت مضى إلى إعادة صياغة موقع النووي داخل مزيج الطاقة، بوصفه جزءا من مشروع أوسع لإعادة بناء منظومات الإمداد لا مجرد خيار تقني منفصل.

وعليه، يسعى هذا المقال إلى قراءة المشهد النووي الأفريقي من خلال ثلاثة محاور رئيسة، وهي: الخريطة التاريخية للمسار النووي الأفريقي، ثم تحركات رواندا، والسنغال داخل خارطة النووي المدني، وأخيرا اختبار الجاهزية المؤسسية والإجرائية لإدارة المشاريع النووية.

سياسات الطاقة في أفريقيا: الخريطة التاريخية للمسار النووي

حين يتتبع المرء جذور المسار النووي في أفريقيا، يكتشف أنه لم يبدأ كمشروع طاقة بالمعنى الضيق؛ بل كجزء من رؤية واسعة الأفق لبناء الدول الحديثة واستعادة سيادتها العلمية في حقبة ما بعد الاستعمار.

هكذا جاءت مصر في منتصف الخمسينيات لتعلن عن أول برنامج نووي وطني في القارة (1954)، وتؤسس هيئة الطاقة الذرية (1955م)، في خطوة لم تكن تقنية فقط؛ بل سياسية بامتياز؛ حيث هدفت إلى إدخال الدولة في نادي المعرفة النووي.

ومع ذلك، فإن الكونغو الديمقراطية، التي كانت آنذاك تحت الإدارة البلجيكية، سبقت الجميع في تشغيل أول مفاعل فعلي على الأراضي الأفريقية عبر مشروع TRICO-I عام 1959، وهو ما شكل منذ البداية تباينا بين أسبقية الإعلان وأسبقية التشغيل، وكشف عن تداخل الطموح الوطني بالتحكم الاستعماري في التكنولوجيا.

وفي الستينيات والسبعينيات، بدأت ملامح الخريطة النووية تتسع تدريجيا، فقد دشنت جنوب أفريقيا مفاعل الأبحاث SAFARI-1 (1965)، الذي تحول لاحقا إلى أحد أهم مصادر النظائر الطبية في العالم، فيما واصلت الكونغو تعزيز قدراتها عبر مشروع TRICO-II (1972).

ويلاحَظ في هذه المرحلة، أن المفاعلات لم تبنَ لأغراض إنتاج الكهرباء؛ ولكن كانت مؤسسات بحثية جامعية تعطي الدول الناشئة فرصا للحاق بالعصر الذري، حتى إن لم تملك بعد القدرة المؤسسية أو المالية لبرامج أكبر.

غير أن التحول الأكبر جاء مع مشروع كوبرغ (1976-1984)، أول محطة كهرباء نووية في أفريقيا، والذي رسخ موقع جنوب أفريقيا بوصفها صاحبة التجربة الأكثر اكتمالا في القارة.

وقد تزامن هذا التطور المدني مع مسار آخر ظل طي الكتمان لفترة طويلة، وهو برنامج الأسلحة النووية الذي طورته بريتوريا خلال السبعينيات والثمانينيات، وانتهى بإنتاج ست قنابل قبل أن يفَكك ويُتخلى عنه مطلع التسعينيات. وبهذا، أصبحت جنوب أفريقيا الدولة الأفريقية الوحيدة التي امتلكت سلاحا نوويا ثم تخلت عنه.

ومع اتساع الاهتمام الإقليمي، دخلت دول شمال أفريقيا على الخط، فشغلت ليبيا مفاعل IRT-1 (1981)، وبدأت لاحقا محاولات تخصيب سرية انتهت بالتخلي عنها عام 2003.

وافتتحت الجزائر مفاعلي "نور" و"السلام" اللذين أثارا نقاشا دوليا حول إمكان استخدامهما في إنتاج البلوتونيوم قبل أن يثبت خضوعهما لضمانات الوكالة الدولية. أما مصر فاستكملت بنيتها البحثية عبر مفاعل ETRR-2 عام 1997؛ لتصبح صاحبة أكثر البنى التحتية تنوعا في العالم العربي.

ومع بداية العقدين الأخيرين، انفتحت الخريطة النووية على غرب أفريقيا، فقد دشنت غانا أول مفاعل لها عام 1994، ثم تبعتها نيجيريا عام 2004، والمغرب عام 2007؛ لتصبح المعرفة النووية موزعة جغرافيا بدلا من احتكارها من ثلاث أو أربع دول فقط.

ومع دخول القرن الـ21، تغير السياق جذريا، فقد بدأت سياسات الطاقة في أفريقيا تتعامل مع المشاريع النووية كأحد الخيارات القليلة القادرة على معالجة فجوة الكهرباء، وتوفير إمدادات مستقرة للصناعة، وتقليل الانبعاثات في ظل ضغط التحول الطاقي العالمي، وليس كرمز سيادي أو مشروع بحثي منفصل.

وهكذا، أعادت مصر إحياء مشروعها الكبير عبر محطة الضبعة التي تعد اليوم من أكبر المشاريع النووية في العالم العربي والأفريقي، فيما اتجهت دول مثل: نيجيريا، وغانا، ورواندا، وكينيا، وأوغندا، وناميبيا، إلى توقيع اتفاقيات تعاون تشمل التكنولوجيا التقليدية، والمفاعلات الصغيرة المعيارية؛ باعتبارها مسارا يخفف الأعباء المالية والتنظيمية للمحطات الضخمة.

ومن خلال هذا المسار الطويل، تتشكل الخريطة النووية الأفريقية بثلاث طبقات واضحة، وهي: طبقة أولى تضم مصر، وجنوب أفريقيا باعتبارهما التجربتين الأكثر اكتمالا؛ وطبقة ثانية تمثلها الدول ذات المفاعلات البحثية القديمة؛ وطبقة ثالثة وهي دول الموجة الجديدة التي تبحث عن موقع قدم داخل منظومة طاقة أكثر موثوقية.

وبين هذه الطبقات جميعا تكمن حقيقة أساسية، وهي: أن القارة لم تشهد يوما سباقا نوويا بالمعنى التقليدي؛ ولكن شهدت محاولات متقطعة تحكمها هشاشة التمويل، وعدم اكتمال الأطر التنظيمية، وتفاوت القدرات المؤسسية.

وهكذا، يصبح دخول رواندا، والسنغال إلى المشهد اليوم امتدادا طبيعيا لهذا التاريخ الطويل من الطموح والانقطاع، إلى لحظة جديدة في مسار لم يكتمل بعد؛ لكنه بات اليوم جزءا أصيلا من سياسات الطاقة في أفريقيا ورهاناتها المستقبلية.

رواندا والسنغال.. لماذا الآن؟ ولماذا النووي؟

حين أعلنت رواندا والسنغال في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 عن انضمامهما إلى المسار الدولي الهادف إلى مضاعفة الطاقة النووية ثلاث مرات بحلول 2050، بدا الحدث، للوهلة الأولى، كخطوة تقنية محدودة في سياق التحركات العالمية لمواجهة تحولات الطاقة.

غير أن إدراج هذا التطور داخل المشهد الأوسع لسياسات الطاقة في أفريقيا يتضح أنه ليس مجرد توقيع بروتوكولي؛ بل لحظة انعطاف تعكس تحولا واضحا في طريقة تفكير بعض الدول الأفريقية في مستقبل أمنها الاقتصادي وقدرتها الإنتاجية.

وتبدو أهمية هذا التحول أكثر وضوحا عندما ندرك أن الدولتين تمضيان، وإن كان بطرق مختلفة، نحو نموذج جديد يتجاوز إدارة العجز المزمن في الكهرباء إلى بناء بنية إنتاج مستقرة وقابلة للتوسع. وهذا ما يجعل السؤال "لماذا الآن؟ ولماذا النووي؟" مفتاحا ضروريا لفهم التحركين الرواندي والسنغالي معا.

فرواندا، الواقعة عند نقطة التقاء شرق أفريقيا ووسطها، التي اعتادت رسم سياساتها عبر منظور رؤية تنموية طويلة المدى، اختارت المفاعلات الصغيرة المعيارية لأسباب تتجاوز البعد التقني الصرف.

فمع محدودية شبكات النقل، وارتفاع تكاليف البنية التحتية التقليدية، تمنح هذه المفاعلات الدولة قدرة على نشر إنتاج مركزي ومرتبط بمناطق صناعية محددة، بما ينسجم مع إستراتيجيتها القائمة على بناء اقتصاد متنوع يقوم على الابتكار والخدمات ذات القيمة المضافة.

ولا يقتصر الأمر على الجوانب التقنية فحسب؛ بل يمتد إلى التفاعلات الجيوسياسية؛ إذ يعكس تنويع كيغالي شركاءها، بين الولايات المتحدة، وكندا، وروسيا، وألمانيا، رغبة واعية في تجنب الارتهان التكنولوجي، وبناء قدرة تفاوضية أعلى، وتحقيق توازن يسمح لها بالمضي في مسار نووي منضبط يخدم أولوياتها الصناعية.

ومع ذلك، فإن البيئة السياسية الداخلية في رواندا، رغم انضباطها وقدرتها التنفيذية العالية، تضيف بعدا آخر للنقاش. فالنموذج الإداري شديد المركزية، الذي يشجع على إنجاز المشاريع المعقدة بكفاءة، قد يحد في الوقت ذاته من الحوار العام حول قضايا حساسة، مثل: إدارة النفايات النووية، أو الرقابة المستقلة، أو مستويات الشفافية المطلوبة. وهكذا، فإن قوة الجهاز التنفيذي تعد ميزة عند البدء؛ لكنها قد تتحول إلى تحدّ مؤسسي إذا لم تستكمل بآليات رقابية متوازنة.

وعلى الطرف الآخر، تتحرك السنغال، الدولة الساحلية الواقعة عند بوابة غرب أفريقيا والمفتوحة على المحيط الأطلسي ومسارات التجارة الإقليمية، ضمن بيئة سياسية أكثر تعددية وأشد حساسية للتفاعلات الداخلية. فالدولة التي تمر منذ 2024 بمرحلة انتقالية معقدة، وتوازن بين مطالب الإصلاح الشعبي والحاجة إلى استقرار اقتصادي، ترى في البرنامج النووي جزءا من إستراتيجية أوسع لرفع موثوقية الشبكة وتقليل الاعتماد الأحادي على الغاز البحري، مع تعزيز قدرة البلاد على خدمة الموانئ والمناطق الصناعية النامية.

ولذا جاء إدراجها المشروع ضمن إطار تعاون منظم مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية للفترة 2024-2029؛ حيث تسعى دكار إلى تأسيس نووي منضبط يقوم على الحوكمة والرقابة وتوزيع المخاطر.

وعلى الرغم من وجود الطابع المؤسسي لهذه الخطوة، فإن المشهد السياسي في السنغال لا ينفصل عنها. فالتوتر المتكرر، وإن ظل خافتا، بين الرئيس باسيرو جوماي فاي، ورئيس الوزراء عثمان سونكو يعبر جزئيا عن اختلافات في تصور أولويات الدولة الاقتصادية، ومنها مستقبل ملفات الطاقة والتحول الصناعي.

صحيح أن البرنامج النووي ليس محور الخلاف؛ لكنه يقع ضمن حزمة خيارات إستراتيجية تستخدم اليوم لقياس قدرة الائتلاف الحاكم على إدارة مشاريع طويلة الأمد تتطلب وضوحا في الرؤية واتساقا في اتخاذ القرار، الأمر الذي يجعل سياسات الطاقة في أفريقيا عموما، والسنغال خصوصا، جزءا لا يتجزأ من معادلة داخلية لا تقل أهمية عن المعادلة التقنية نفسها.

وبين التجربتين، تتشكل لوحة واضحة لما يمكن تسميته بـ "الجيل الجديد من خيارات الطاقة في أفريقيا". فالبرنامج النووي، سواء في رواية رواندا أو السنغال، لا يقدَم بديلا عن برامج طاقة الشمس أو الرياح أو الغاز؛ بل يطرح كمكون إستراتيجي داخل مزيج أوسع، يهدف إلى تعزيز القدرة الإنتاجية، وتحسين جودة الإمدادات، وفتح مساحة جديدة للتفاوض الدولي حول التمويل والتكنولوجيا.

ومن خلال هذا المنظور، لا تظهر رواندا، والسنغال كحالتين استثنائيتين؛ بل كجزء من تحرك تدريجي في سياسات الطاقة في أفريقيا نحو خيارات أكثر استدامة ومرونة، وأشد ارتباطا بمستقبل الاقتصاد الصناعي والتدفقات الاستثمارية العابرة للحدود.

وفي النهاية، يمكننا أن نخلص إلى أن دلالة الخطوتين لا تكمن في حجمهما الفعلي بقدر ما تنبع من معناهما السياسي، وهو: انتقال هادئ، لكنه جوهري، من إدارة الأزمات إلى بناء خيارات طاقية مستقرة، ومن انتظار حلول خارجية إلى طرح تصور أفريقي يعيد تعريف دور الطاقة داخل المشروع التنموي برمته.

اختبار الجاهزية.. هل تستطيع أفريقيا إدارة المشروعات النووية؟

إذا كان تاريخ القارة الأفريقية يفسر التردد، وتجربتا رواندا والسنغال تبرران الطموح، فإن السؤال الجوهري اليوم هو: هل ستستطيع أفريقيا إدارة المشاريع النووية؟ هنا تدخل سياسات الطاقة في أفريقيا مرحلة امتحان حقيقي، يتجاوز التكنولوجيا إلى بنية الحَوكمة، وقدرة المؤسسات، واستقرار التمويل، واتساق القرار السياسي.

فالبرنامج النووي ليس مشروعَ بناء فقط؛ بل منظومة حوكمة دقيقة، تتمثل فيها هيئات رقابية مستقلة تستطيع إيقاف المشروع عند الحاجة، وقوانين تتماشى مع معايير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ونظم أمان فيزيائي وسيبراني، وقدرات بشرية محلية قادرة على تشغيل المفاعلات ومراقبتها، وليس مجرد استقدام فرق أجنبية تبقي الدولة رهينة لمورد واحد، فهذه عناصر تعاني القارة فيها من فجوات واضحة.

إن التمويل بدوره يشكل التحدي الأكبر؛ فمحطات القوى التقليدية تتطلب استثمارات تمتد لعقود، بينما تعاني موازنات كثير من الدول من ضيق شديد. صحيح أن المفاعلات الصغيرة المعيارية تقدَم اليوم بوصفها خيارا أقل تكلفة وأقرب إلى النموذج المتدرج؛ لكن الواقع العالمي يقول إنه لا يوجد مفاعل صغير معياري تجاري متكامل بعد، وأن نماذج التمويل ما زالت قيد التجريب.

لذا، لا بد من البحث عن صيغ مبتكرة، مثل: شراكات بين القطاعين العام والخاص، وضمانات سيادية محسوبة، وربما شبكات إقليمية مشتركة تخفف العبء عن كل دولة على حدة.

وعلى المستوى السياسي، تظل هشاشة المؤسسات، وتقلب التحالفات، وضعف النقاش العام حول الطاقة النووية، عناصر قد تجعل أي مشروع نووي مفتوحا أمام المخاطر، على غرار ما حدث في مشاريع بنى تحتية أخرى داخل القارة.

وهنا يبرز الفارق بين دول أفريقيا ومناطق أخرى كآسيا وأميركا اللاتينية؛ حيث ترتبط المشاريع النووية عادة ببيروقراطيات راسخة، ومؤسسات رقابية صلبة، وتجارب سابقة في التصنيع الثقيل.

وحسب تقديري الشخصي، أرى أن نجاح دول القارة في تجاوز هذا الامتحان سيكون مرتبطا بقدرتها على تحويل المشاريع النووية من اختبار تقني إلى مقياس نضج سياسي ومؤسسي.

فإذا ارتبطت البرامج النووية بإصلاح الحوكمة، وبناء الكفاءات، وتطوير منظومة تمويل شفافة، عندها يمكن أن تشكل إضافة حقيقية إلى سياسات الطاقة في أفريقيا. أما إذا استنسخت نماذج التبعية والارتهان التي شهدناها في قطاعات أخرى، فإن المشروع النووي قد يتحول إلى عبء مالي وسياسي يصعب تحمله.


الخلاصة

في ضوء هذا المسار المتشعب للمشروعات النووية في القارة الأفريقية، تبدو دول القارة اليوم أمام لحظة اختبار حقيقية تتجاوز حدود التقنية إلى تساؤلات دقيقة تتعلق بقدرتها على بناء منظومات طاقة مستقرة وذات رؤية طويلة المدى.

فالمسار التاريخي يوضح لماذا بقي المشروع النووي احتمالا مؤجلا، بينما تكشف تجربتا رواندا، والسنغال عن تحول هادئ نحو خيارات أكثر طموحا واستبصارا. أما التحديات المؤسسية والرقابية والتمويلية، فتضع هذا التحول في مواجهة واقعية مع متطلبات الإصلاح ومقتضيات الحوكمة.

وخلاصة هذا التحليل تدل على أن مستقبل البرنامج النووي في أفريقيا لن يقاس بحجم المشاريع قيد التنفيذ فحسب؛ بل بمدى قدرة الدول على تحويل هذه المشاريع إلى اختبار لنضجها المؤسسي واستقرار قرارها السياسي.

فإذا استطاعت الحكومات أن تربط بين أمن الطاقة والتنمية الصناعية ضمن منظومة شفافة وقابلة للمساءلة، فقد يصبح البرنامج النووي، بمختلف مساراته، أحد أعمدة الاستقرار الاقتصادي في القارة. أما إذا غلبت اعتبارات التسرع أو الارتهان الخارجي، فإن المشروع قد يعيد إنتاج أزمات قديمة بثوب جديد.

وفي الحالتين، يبقى ما نشهده اليوم مقدمة لمسار طويل، سيعيد تشكيل ملامح سياسات الطاقة في أفريقيا خلال العقود القادمة.

“يزيد بن أبي حبيب”.. ابن السودان الذي أدخل الفِقه إلى مصر

 “يزيد بن أبي حبيب”.. ابن السودان الذي أدخل الفِقه إلى مصر

التابعيُّ الذي رَوَى عنه البخاري ومسلم 162 حديثا نبويًّا

   يسري الخطيب   

التابعيّ الفقيه الحُجّة.. مفتي مصر

 وعالمها الأول

– عندما كانت مصر تشهد ميلاد الفجر الإسلامي على أرضها، بزغ نجم يزيد بن أبي حبيب الدنقلاوي؛ ابن السودان، وتابعيّ مصر الأول، ومفتيها الأكبر، وأستاذ أئمتها من بعده.

– فيه تجسَّدت مصرُ وهي تتفتّح على الإسلام، تتلمّس خطاها الأولى نحو الفقه والعلم والتدوين، وكان يزيد بن أبي حبيب مشعلها الأول، ولسانها في مسائل الحلال والحرام، وميزانها في الفتيا والقضاء.

– تخرَّج على يديه الإمام الليث بن سعد، فكان أستاذَ من صار إمامًا، وأصلَ مدرسةٍ أضاءت للأجيال طريق الفِقه والعقل والاجتهاد.

– جمعَ يزيد بين حكمة المؤرّخ ودقة الفقيه وروح المحدّث، يروي عن الصحابة، ويكتب عن الفتوح..

يعلّم الناس أحكام دينهم، ويقصّ عليهم ما كان من أمر بلادهم منذ الفتح إلى زمانه. لم يكن ابن عصره فحسب، بل كان جسرًا يصل بين جيل النبوّة وأجيال الفكر والفقه والتدوين.

– وهكذا خلدَ التاريخ اسمَ يزيد بن أبي حبيب؛ ذلك السودانيُّ الأصل، المصريُّ الدار، الإسلاميُّ الفكر والهوى، ليبقى شاهدًا على أن الأنساب تذوب حين يسطع نور العلم، وأن العظمة في الإسلام تُقاس بما تركه المرء من فكرٍ ونورٍ وهدايةٍ في الناس.

الإمام الفقيه، يزيد بن أبي حبيب، الذي رفعَ اللهُ ذِكره كما رفع عِلمه، فكان أول من أضاء مصباح الفقه في أرض الكنانة، ومنارةً لا تنطفئ على امتداد الزمان.

ابن دُنْقُلا السودانية

(وُلدَ يزيد بن أبي حبيب الدنقلاوي في خلافة معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) بمدينة الفسطاط سنة 53هـ / 673م، وأصله من (دنقلا) ببلاد السودان، وكان أبوه: سويد بن أبي حبيب من الرقيق المملوكين للنوبة، فوصل إلى ديار مصر ضمن تبادل النوبة والمسلمين للسلع، وكانت النوبة من الأمم كثيرة الغزو، فكثر رقيقهم واشتهروا بكثرة الرقيق لديهم، وكانت الهدنة بين النوبة والمسلمين تنص على أن يؤمن المسلمون طريق تجارة النوبة، وكذلك يفعل النوبة للمسلمين.)

– ذكر ثقات المؤرخين أن والده كان أسيرا في حملة “عبد الله بن سعد بن أبي السرح” على النوبة عام 13هـ، واعتنق الإسلام في مصر وتزوج، وكان له أبناء منهم يزيد.

– كان يزيد يفخر كثيرًا بانتمائه إلى دنقلا بالسودان، ويقول: (أبي من أهل دُنْقُلا”)

أستاذ الليث بن سعد

التابعي الفقيه يزيد بن أبي حبيب كان أستاذا للإمام الليث بن سعد، الإمام المجتهد، الذي كان في درجة الأئمة المجتهدين: الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وابن حنبل، وسفيان، وغيرهم، ونقلَ ابن حجر العسقلاني عن الشافعي، قوله: (الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به)، أي لم يدوّنوا مذهبه.

ولذا فترتيب الأستاذ يأتي قبل التلميذ، ويزيد قبل الليث، فهو أول فقيه ومؤرّخ في تاريخ مصر.

أول مَن أدخل الفقه إلى مصر

– قال الإمام الذهبي: “يزيد بن أبي حبيب، الإمام، الحُجّة، مفتي الديار المصرية، أبو رجاء الأزدي”.

– تلقَّى يزيد بن أبي حبيب العِلم على أيدي عدد من الصحابة، وعدد كبير من كبار أئمة التابعين بمصر، أمثال: عبد الله بن الحارث، خزيمة بن الحارث، وأبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني، وأبي الطفيل الليثي، وسعيد بن أبي هند، وعكرمة، وعطاء بن أبي رباح مولى ابن عباس، وعلي بن رباح، وعراك بن مالك، وعمرو بن شعيب، ونافع مولى ابن عمر، وأبي وهب الجيشاني، وإبراهيم بن عبد الله بن حنين، وأسلم أبي عمران التجيبي، والحارث بن يعقوب، وسويد بن قيس، وعبد الرحمن بن شماسة، وعيسى بن طلحة بن عبيد الله، ولهيعة بن عقبة والد عبد الله، ومحمد بن عمرو بن حلحلة، ومحمد بن عمرو بن عطاء، والهيثم بن شفي،

– قال أبو سعيد بن يونس: “كان مفتي أهل مصر في أيامه، وكان حليما، عاقلا، وكان أول من أظهر العِلم بمصر، والكلام في الحلال والحرام، ومسائل الفِقه، وكانوا قبل ذلك يتحدثون بالفتن والملاحم، والترغيب في الخير”.

– قال عنه الإمام الليث بن سعد: يزيد بن أبي حبيب سيدنا عالمنا.

– قال الكندي: يزيد أول من نشر العِلم بمصر في الحلال والحرام ومسائل الفقه، وكانوا قبل ذلك إنما يتحدثون في الفتن والترغيب، واختاره الخليفة الزاهد “عمر بن عبد العزيز” مسؤولا عن الفِقه، ومفتيا لمصر

– قال الصفدي: “يزيد بن أبي حبيب الفقيه وشيخ تلك الناحية (يقصد مصر)

– وفي خِطط المقريزي: (وممن اشتهر بالعلم فـي مصر يزيد بن أبي حبيب الدنقلاوي، وكان مفتيا لأهل مصر، وأبوه من “دنقلا”. وقد أخذ العلم عن بعض الصحابة المقيمين بمصر.)

– كانت البيعة إذا جاءت لخليفة؛ فأول من يبايع في مصر؛ يزيد بن حبيب، ثم الناس

– ويعدّ يزيد من أشهر الرواة وأكثرهم رواية، وتزخر برواياته كُتُب السّنّة، حيث نقلت عنه “الستة الصحاح” البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجة، والترمذي، وأبو داود، وروى 162 حديثا.

إمام المدرسة التاريخية بمصر

مع عِلم يزيد بن أبي حبيب بالفقه والحديث، إلا أنه كان إمام مدرسة مصر التاريخية، فقد كان عالما بالتاريخ وبالفتن والحروب وما يتعلق بفتح مصر وشؤونها وولاتها، وهو أحد الأركان الذين نقل عنهم الكندي كتابه “ولاة مصر وقضاتها”، وابن عبد الحكم في فتوح مصر والمغرب.

مسجد يزيد بن أبي حبيب

عثرت فرقة علمية من جامعة إفريقيا العالمية السودانية بمنطقة ناوة في شمال السودان، على مسجد أثري بمدينة دنقلا، مكتوب على جدرانه: “بسم الله، اللهم اغفر، محمد، يزيد، حبيب”مما يعني أن يزيد بن أبي حبيب ربما حضر إلى هذه المنطقة، أو شهد بناء هذا المسجد. وبما أن يزيد قد عاش في الفترة من “35 – 128هـ”، فإن حضوره إلى هذه المنطقة يكون في نهاية القرن الهجري الأول، أو مطلع القرن الثاني الهجري، ويكون هذا المسجد من أقدم المساجد في السودان، بل في إفريقيا قاطبة.

وفاته:

تُوفيَ يزيد بن أبي حبيب، سنة 128هـ/ 745م، وقد بلغ من العمر 75 عاما،

دُفِنَ في الفسطاط (القاهرة القديمة حاليًّا)، وهي العاصمة التي أنشأها عمرو بن العاص بعد الفتح الإسلامي لمصر.

– كان قبره معروفًا في المنطقة القديمة من الفسطاط، وكان يُزار في العصور الأولى تقديرًا لعلمه، وزهده، وشهرته الواسعة…

ولا يُعرَف الآن مكان قبره، بسبب تغيّر معالم المدينة القديمة عبر القرون

اللهم اغفر له، وارحمه، واجْزِهِ خيرا عن الإسلام والمسلمين.

________________

المصدر:

(موسوعة: شموسٌ خلفَ غيومِ التأريخ – يسري الخطيب)

– مصادر ومراجع الموسوعة:

1- (فتوح مصر والمغرب)

ابن عبد الحكم

2- (سير أعلام النبلاء)

الذهبي

3- (الوافي بالوفيات)

الصفدي

4- (الأعلام)

الزركلي

5- (موقع قصة الإسلام) د. راغب السرجاني

6- أبحاث جامعية سودانية

———————————-

يسري الخطيب