الأحد، 29 يونيو 2025

هجرة العرب من الشرق الأوسط

هجرة العرب من الشرق الأوسط

وائل قنديل

ينتحر العرب الرسميون سياسيًاً إذا استسلموا لفكرة احتلاف الرؤى وتعارض الإرادات بين رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب، كما ينتحر المحلّلون السياسيون أخلاقيًاً ومعرفيًاً حين يناضلون من أجل ترويج أن ترامب يمكن أن يفرض على الكيان الصهيوني معادلاتٍ ترضي العرب، والفلسطينيين بالطبع. 

افتراض أن ترامب يمكن أن يكون صانع سلام، أو وسيطًاً بين ضدّين، هو بحد ذاته نوع الخداع، إذ قبل الحرب الثنائية على إيران وبعدها، تتراكم يوما بعد يوم شواهد الامتزاج الكامل بين أهداف واشنطن وغايات تل أبيب، لفرض السيطرة الإسرائيلية على المنطقة، والتصرّف في الشرق الأوسط بوصفه قطعة أرض خالية، مملوكة لنتنياهو، وقد حان الوقت لرسم خرائطها وتأطير حدودها. 

وكما قال دونالد ترامب، بعد فوزه برئاسة الولايات المتحدة، مرّة ثانية "لنجعل أميركا عظيمة مجدّدًا"، 'يردد نتنياهو العبارة ذاتها "لنجعل الشرق الأوسط عظيماً مرّة أخرى". 

وبالطبع، لن يكون هذا الشرق الأوسط العظيم كذلك إلا وفقًاً للتصوّر الصهيوني، الذي يتحرّك على الأرض بيقين كامل أنه لم يعد ثمة مشروع عربي في هذه المنطقة، ولم يتبق سوى مشروعين: الإيراني، الذي تلقّى ضربة أميركية هي الأعنف في تاريخه. والثاني هو المشروع الصهيوني المؤسّس على فكرة دينية يعتنقها ترامب بتعصّبٍ يفوق تعصّب اليمين الصهيوني لها.

ترامب الذي أعلن بغضب أنه لن يتسامح مع الذين يريدون محاكمة نتنياهو داخلياً، لأنه في نظره "بطل الحرب" لا يمكن أن يكون رجل سلام، حتى لو كان سلام القاذفات الخارقة للتحصينات، أو سلام التريليونات العربية، هو فقط محاربٌ من أجل إسرائيل فوق الجميع، هنا في الشرق الأوسط، كما أن أميركا فوق الجميع هناك في العالم كله. 

وفي الحالتين، ليس أمام العرب سوى تمويل هذين الحلمين، أو بالأحرى الحلم الواحد، إن أرادوا البقاء في المنطقة، تلك هي العقيدة الأميركية الخاصة بالشرق الأوسط، تتخذ شكلاً ناعماً وهادئاً مع الإدارات الديمقراطية، فيما تعبر عن نفسها بوقاحة مع مهووسين بالصهيونية الدينية، كما مع ترامب، وإدارات جمهورية سبقت. 

حتى هنري كيسنجر وزير خارجية أميركا في سبعينيات القرن الماضي ومخترع مشروع "السلام الصهيوني" لم يكن رجل سلام، كما روّجه رائد مسيرة التطبيع العربي أنور السادات، بل كان محارباً من أجل المشروع الصهيوني، بشهادة السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل، مارتن أنديك، الذي شغل منصب المبعوث الخاص للرئيس أوباما للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية من يوليو/ تموز 2013 إلى يونيو/ حزيران 2014. ... 

يكشف إنديك في حوار مع صحيفة جيروزاليم بوست عن كتابه الصادر 2021 "سيد اللعبة" إنه بعد أن فحص آلاف الوثائق والأوراق الخاصة بمسيرة عمل كيسنجر في الخارجية، اكتشف أن الأخير لم يكن داعية للسلام أو وسيطًا ساعيًا له، بل كان، قبل ذلك وبعده، صهيونيّاً مخلصاً لإسرائيل، قضيته الأساسية تثبيت أوضاع الشرق الأوسط، تحت الهيمنة الأميركية، وبما يحقق المصلحة الإسرائيلية. 

يقول إنديك "نظر كيسنجر إلى السلام بتشكك كبير، من واقع تجربته الخاصة وخبرته في دراسة التاريخ، حيث توصل إلى الاعتقاد أن السعي إلى تحقيق السلام يمكن أن يزعزع استقرار النظام في المنطقة، وهكذا بالنسبة له ، كان السلام مشكلة وليس حلاً". ويضيف إن استراتيجيته للمفاوضات كانت تقوم على مبدأ "الأرض مقابل الوقت"، وليست "الأرض مقابل السلام"، من أجل إنهاك العرب، في مفاوضاتٍ لا تؤدّي إلى شيء، سوى إتاحة الوقت لإسرائيل لتقليل عزلتها وزيادة قوتها.

كانت مهمة كيسنجر المقدّسة إخراج مصر، بشكل كامل ونهائي، من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي. وترامب هو النسخة الأميركية الصهيونية الوقحة من هنري كيسنجر، مع فارق وحيد، أن سبعينات القرن العشرين كانت لا تزال تحتفظ بملامح مشروع قومي عربي يتأسّس على قاعدة الكفاح من أجل التخلص من المشروع الصهيوني في المنطقة، 

أما عرب عشرينات القرن الحادي والعشرين فبلا مشروع، وكأنهم هاجروا من الشرق الأوسط، أو أنهم صاروا زيوتاً لتروس ماكينة المشروع الصهيوني، وهم في كامل سعادتهم!.

حميدتي: سنغزوكم.. لكن لا تقلقوا

حميدتي: سنغزوكم.. لكن لا تقلقوا

حمّور زيادة
كاتب وروائي سوداني

بعد مذبحة فضّ اعتصام السودانيين في الخرطوم أمام مباني قيادة الجيش، وأماكن أخرى، في 3 يونيو/ حزيران 2019، أصدر رئيس المجلس العسكري الحاكم وقتها، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قراراً بوقف التفاوض مع قوى الحرية والتغيير، وتشكيل حكومة لمدة انتقالية لتشرف على الانتخابات. 

لم يخضع الشارع، وواجه قرار الجيش بحكم الفترة الانتقالية رفضاً شعبياً أجبره على العودة الى التفاوض مع القوى السياسية المدنية.

ترى القوى المدنية أن عودتها إلى التفاوض كانت ضرورية، فإن في ذلك حقناً للدماء، لأن الحل الآخر غير قبول التفاوض يعني الدخول في مواجهة مفتوحة مع المجلس العسكري. 

كما تعرّضت القوى المدنية لضغوط قوية من وسطاء إقليميين ودوليين. 

لم يكن هذا مقنعاً لكثيرين، خصوصاً القوى الشبابية التي رأت العودة إلى التفاوض وقبول الشراكة مع الجيش لم يعودا مقبوليْن بعد غدر فض الاعتصام. لكن القوى السياسية مضت في طريقها، وخاضت تفاوضاً بدعم دولي.

في تلك الأيام، فوجئ نائب رئيس المجلس العسكري، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بحديثٍ عن دمج قواته في الجيش القومي.

لم يفهم قائد المليشيا هذا الأمر! فهو يقود مليشيا خاصة، لكنها مقننة عبر برلمان نظام عمر البشير/ الحركة الإسلامية، ولديها قانون خاص. 

حتى الرتب العسكرية التي حصل عليها، طلبها من الرئيس السابق قائلاً "نريد رتباً عسكرية مثل التي تمنحها للجنوبيين في شوالات"، مشيراً إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان.

ظلّ حميدتي دائم اللوم للقوى المدنية، ويقول إن أحداً قبلهم لم يقترح أمراً كهذا. ورفض قائد الجيش أيضاً هذه الدعوات. وهاجم مطلقيها، واتهمهم بالنوم في منازلهم آمنين، بينما تحرسهم قوات الدعم السريع! كان لافتاً أن يفخر قائد الجيش بأن مليشيا تحرس المواطنين، لا الجيش الذي يقوده!

كان حميدتي قبل الثورة السودانية قد أعلن بوضوح رؤيته نفسه والدولة. 

في 2014، انتقد رئيس حزب الأمة الصادق المهدي (آخر رئيس وزراء منتخب قبل انقلاب البشير) وضع قوات الدعم السريع، وجرائمها في دارفور التي ترتكبها باسم النظام الحاكم وبتنسيق مع الجيش. 

اعتقل المهدي مباشرة عقب هذا التصريح. 

ووقف حميدتي متفاخراً يقول لجنوده "نحن من نتحكّم في هذا البلد. نقول اعتقلوا الصادق المهدي. يعتقلوا الصادق المهدي. نقول أطلقوا سراحه. يطلقون سراحه". ثم قال كلمته التي اشتهرت لاحقاً "يوم ما الحكومة تسوي جيش تجي تكلّمنا". 

ولأنه ظنّ أن سيده القديم سيبقى إلى الأبد، صرح في يناير/ كانون الثاني 2018 "ترشيح البشير فوق راس أي زول". أي غصباً عن أي معترض. 

وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، اكتشف حميدتي أنه راهن على جوادٍ لن يعدو طويلاً. 

ومثل ما يفعل الجيش السوداني منذ الاستقلال، انقلاب، ثورة شعبية ينحني لها الجيش ويقيل قائدة الدكتاتور، ثم ينقلب مرّة أخرى على السلطة المدنية الجديدة، سارع حميدتي بالتخلي عن رئيسه و"انحاز" مع الجيش للثورة بعزل عمر البشير. 

كان هذا أقصى ما أراد الجيش والدعم السريع تحقيقه، لكن مطالب الناس كانت أكثر من ذلك.

في جلسات التفاوض التي طرحت فيها مسألة "تعدّد الجيوش"، قال حميدتي إنه سيذهب بقواته إلى الصحراء ويتمرّد. 

بعدها سيدعوه السياسيون إلى الخرطوم لتوقيع اتفاق سلام معه يمنحه سلطاتٍ أكبر! 

تحدّثت مع شهودٍ ممن سمعوا ما قال. ولا واحد منهم أحسّ أن الرجل يمزح. بل كان جادّاً. هذه هي الطريقة التي يفهمها للحكم. أثِر مشكلةً، اصمد فترة، تفاوض، احصل على السلطة التي تريد.

من المحزن طبعاً أن هذه ليست طريقة اكتشفها هو. إنما هي طريقة يعرفها الملايين من السودانيين منذ عام 1955.

لم تتغيّر أفكار حميدتي، ولا رؤيته نفسه دائمة الشعور بالظلم، فالرجل يحسب نفسه مهمّشاً، وأنه مظلوم، وغير مرغوب فيه. ويردّ ذلك كله إلى أسباب وأفكار عنصرية، فحتى في الاجتماع الذي عقده رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، لحل الخلافات بين قائد الجيش وقائد المليشيا، والذي اتهم فيه حميدتي البرهان بأنه من دبّر محاولة اغتيال حمدوك بتفجير سيارة عند مرور موكبه، لم يفهم حميدتي لماذا لم ينحز إليه المدنيون، إنما طالبوه والبرهان بالتعقّل وتقدير عواقب الصراع بينهما. 

غادر حميدتي الاجتماع غاضباً، وكان تفسيره الوحيد لما حدث انحياز المدنيين لخصمه لأسباب عنصرية. بعد أسابيع، كان يشارك مع البرهان في انقلاب عسكري باسم "تصحيح المسار"! واعتقل عبد الله حمدوك وكل من حضروا ذلك الاجتماع.

وحتى خطابه أخيراً، يظهر فيه حميدتي مع بعض جنوده وهو يشكو الظلم والافتراء، ثم يبشّر مواطني ولاية شمال السودان بأنه سيغزوهم قريباً، ولكن لصوصاً سيكونون مع قواته لذلك عليهم آلا يقلقوا!

في تقديري، هذه أسوأ رسالة طمأنينة بُعثت منذ ابتدعت البشرية الرسائل.

30 يونيو: صعوبة الهضم.. وفزاعة الإخوان الدائمة

 30 يونيو: صعوبة الهضم.. وفزاعة الإخوان الدائمة

قطب العربي

12 عاما مرت على حشد 30 يونيو (حزيران) المناهض لأول تجربة ديمقراطية في مصر بعد 60 عاما من الحكم العسكري، والذي انتهى بالانقلاب على أول رئيس مدني.

12 عاما حاولت خلالها السلطة الجديدة تسويق وتسويغ هذا التمرد باعتباره ثورة شعبية لكن الفشل يلاحقها عاما بعد عام، مع انفضاض المزيد ممن شاركوا في ذاك الحشد، بل ولعنهم له ولكل ما ومن أقنعهم به.

في الذكرى الـ12 كانت هناك ترتيبات لاحتفالات ضخمة أفسدتها أو عطلتها الحرب الإسرائيلية الإيرانية، ومنها حفل افتتاح المتحف المصري الجديد، ثم جاءت حادثة مقتل 19 فتاة من إحدى قرى المنوفية في حادث سيارة قبل يومين لتفرض حالة حزن وطني عام لا تصح معه أية احتفالات.

12 عاما من الوعود الكاذبة صعبة الهضم؛ بدأت من استمارة تمرد نفسها، والتي انطلقت من بعض القضايا المعيشية والاجتماعية والأمنية (مطالب ووعود أصبحت محل تندر خلال السنوات الماضية مع مقارنتها بما وصلت إليه الأحوال الآن)، ثم الوعود المتتالية من رأس النظام للمصريين بالصبر معه 6 أشهر، ثم سنة ثم سنتين ليروا مصر "قد الدنيا"، لينتهي كل ذلك بصرخات منه شخصيا أن مصر "شبه دولة"، وأنها "فقيرة قوي"، ثم الإعلان عن جمهورية جديدة تتفوق على جمهورية الضباط الأولى (1952-2011) في مظاهر العسكرة لكل نواحي الحياة، جمهورية أكثر اهتماما بالحجر على حساب البشر، ما أوقعها في شرك ديون خارجية ثقيلة تكبل أعناق الجيل الحالي والأجيال المقبلة.

الفزاعة الجاهزة دوما لتخويف حلف 30 يونيو هي فزاعة الإخوان التي يسهب النظام في استخدامها، رغم ادعاءاته المتكررة بالقضاء عليهم قضاء مبرما، بين قتل وحبس وتشريد وفصل ومطاردة في الداخل والخارج، فحين تعجز كل محاولات لملمة حلف 30 يونيو، يستدعي النظام فزاعة الإخوان لتذكير هذا الحلف بعداوته لهم، ويحذره من انتقام واسع ينتظره حال عودتهم


مع التآكل المتواصل لحلف 30 يونيو، وانفضاض قوى رئيسية منه، وانتقالها إلى مربع المعارضة، يبذل النظام جهودا كبيرة لوقف هذا النزيف قبل أن ينفض عنه الجميع، فتارة يدعو لحوار وطني بين شركاء 30 يونيو، وتارة يشكل لجنة للعفو الرئاسي من رموز هذا المعسكر وبهدف إطلاق سراح بعض النشطاء المعتقلين منه، وتارة يشكل تنسيقية لشباب أحزاب هذا المعسكر كبديل لشباب يناير، وتارة يشكل أحزابا للتعبير عن هذا المعسكر، وحينما تفشل يشكل غيرها، وتارة يجمع مرشحي الأحزاب في قائمة واحدة خشية حدوث منافسة بينها "تقلب بغم"، لكن كل تلك المحاولات لم تفلح لأنها ببساطة لم تكن جادة، ولم يكن النظام حريصا على مشاركة أي قوى مدنية معه في الحكم، هو يريدهم فقط مجرد داعمين له بلا مقابل سوى الرضاء ببقائهم في المشهد العام بلا فعالية، يريدهم مجموعة من "الهتيفة" يستحضرهم عند اللزوم ويصرفهم متى شاء، وهو ما انتبه إليه بعضهم فعلا فلم تعد تنطلي عليه تلك الحيل.

الفزاعة الجاهزة دوما لتخويف حلف 30 يونيو هي فزاعة الإخوان التي يسهب النظام في استخدامها، رغم ادعاءاته المتكررة بالقضاء عليهم قضاء مبرما، بين قتل وحبس وتشريد وفصل ومطاردة في الداخل والخارج، فحين تعجز كل محاولات لملمة حلف 30 يونيو، يستدعي النظام فزاعة الإخوان لتذكير هذا الحلف بعداوته لهم، ويحذره من انتقام واسع ينتظره حال عودتهم، وفي الوقت نفسه يذكر هذا الحلف بفضله عليه، إذ أنقذه من هذا التهديد الذي صنعه بنفسه، وأقنعه به.

حملة إعلامية كبرى تنشغل بها حاليا وبتوجيهات عليا المؤسسات الإعلامية الكبرى والصغرى؛ موضوعها الأساسي الإخوان، وخطورتهم على مصر، وتذكير بسنة حكمهم اليتيمة، واستدعاء الأكاذيب التي تم تشويههم بها، والتي كشفت الأيام كيف تم اختلاقها وإلصاقها بهم، مثل بيع قناة السويس والأهرامات وبرج القاهرة، والقبول بتهجير فلسطينيي غزة إلى سيناء، والتسبب في رفع أسعار الدولار والسلع الأساسية مثل الخبز وأنابيب الغاز والبنزين، حملة تنشر الفزع بين المصريين من احتمالات عودة الإخوان، وكأن الإخوان يقفون على أبواب الاتحادية!!

نحن إذن أمام تصورات متضاربة للسلطة تجاه الإخوان، فهي تدعي انتهاءهم بفضل ضرباتها الأمنية الحازمة، وهي تبرز مجددا قوتهم وخطورتهم، والحال كذلك فإما أن تقر السلطة ومن شايعها مقولة انتهاء الإخوان وبالتالي تتوقف عن استحضار فزاعتهم لتخويف البعض منهم، وإما أن تقر فعلا ببقائهم وفاعليتهم، وبالتالي تبحث عن تسوية معهم تنهي حالة الخوف، وعدم الاستقرار، وتسهم في إنهاء الانقسام المجتمعي، كما تسهم في تحقيق التنمية والازدهار للوطن والشعب.

انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 ورغم مرور 12 عاما على وقوعه فإنه لم يقدم مشروعا مفيدا للشعب، ولا يزال يواجه مقاومة تخفت حينا وترتفع حينا، وتكسب أنصارا جددا، في الوقت الذي يخسر النظام تدريجيا أجزاء من داعميه، ولن تنتهي هذه الحالة إلا بحوار وطني حقيقي، يستهدف التوافق على خارطة طريق لاستعادة الحكم المدني، وتحديد دور الجيش في الحياة العامة


أما قوى المعارضة الوطنية في الداخل والخارج فعليها أيضا أن تحسم تقييمها لجماعة الإخوان وحلفائها من بقية التيار الإسلامي، وهل هذه المعارضة الوطنية مقتنعة بروايات النظام، أم لديها تقديراتها الخاصة؟ وهل هي بعد هذه التقديرات ترى نفسها أقرب للنظام الحاكم، فتقبل ما يمليه عليها ثمنا لحمايتها كما يدعي؟ أم أن من مصلحتها ومصلحة الوطن وضع نهاية لتلك العشرية السوداء، والعمل الجاد لاستعادة الحكم المدني الديمقراطي الذي يستوعب الجميع تحت مظلة دستور يكتبه المصريون بكل حرية واستقلال؟

أما الإخوان فإن عليهم كجماعة الارتفاع إلى مستوى التحدي، وذلك عبر تجاوز خلافاتهم التنظيمية غير ذات المعنى، واستعادة لحمتهم، وتقديم مبادرات من ناحيتهم لتغيير المشهد السياسي المتكلس، كما أن على الجمهور الواسع المحسوب عليهم أن يعي تحديات المرحلة، وأن يمد الجسور مع غيره من القوى الوطنية، وأن يتجاوز خطوط الثلاثين من حزيران/ يونيو 2013، فكثير ممن شاركوا وحشدوا لتلك الفتنة تبرأوا منها، وندموا على مشاركتهم فيها، وهو ما ينبغي أن يقابل بتقدير واحترام وليس بالتبكيت والسخرية والشماتة، لأن الأخطاء لم تكن قاصرة على طرف دون طرف، فالجميع أخطأ وإن بدرجات متفاوتة، وعلى الجميع تصحيح أخطائه قبل أن يطالب غيره بذلك.

في معظم تجارب الانقلابات عالميا لا تستمر المقاومة للانقلاب فترات طويلة، حيث يتمكن النظام الجديد من تحقيق إنجازات تدفع الناس للتعامل مع النظام الجديد، حتى لو ظل البعض محتفظا بمعارضته له، وهو ما حدث من قبل مع انقلاب 23 تموز/ يوليو 1952 الذي تبنى مشروعا اجتماعيا واقتصاديا لصالح أغلبية الشعب (التأميم- الإصلاح الزراعي- مجانية التعليم- التوظيف) لكن انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 ورغم مرور 12 عاما على وقوعه فإنه لم يقدم مشروعا مفيدا للشعب، ولا يزال يواجه مقاومة تخفت حينا وترتفع حينا، وتكسب أنصارا جددا، في الوقت الذي يخسر النظام تدريجيا أجزاء من داعميه، ولن تنتهي هذه الحالة إلا بحوار وطني حقيقي، يستهدف التوافق على خارطة طريق لاستعادة الحكم المدني، وتحديد دور الجيش في الحياة العامة.

x.com/kotbelaraby


حوار الخاص مع الدكتور صباح الموسوي

حوار الخاص مع الدكتور صباح الموسوي


صباح الموسوي لـ«الأمة»: الداخل الإيراني يغلي.. والثورة ليست بعيدة

 في ظل تصاعد التوترات الإقليمية، وتزايد الغموض حول مستقبل الداخل الإيراني، والتشابكات المتسارعة في ملفات المنطقة، تبرز الحاجة إلى قراءة عميقة ومتزنة للمشهد الإيراني، من الداخل والخارج.

وفي هذا السياق، كان لنا هذا الحوار الخاص مع الدكتور صباح الموسوي، رئيس المؤسسة الأحوازية للثقافة والإعلام، وأحد أبرز الباحثين المتخصصين في الشأن الإيراني، حيث قدّم رؤية تحليلية وواقعية حول ما يدور في إيران من أزمات داخلية، وحسابات إقليمية، وصراع محتدم على النفوذ.

س: كيف تصف المشهد السياسي في الداخل الإيراني اليوم؟
ج: المشهد الإيراني يبدو مرتبكًا، وهناك تضارب بين تصريحات السياسيين والعسكريين.

س: في رأيك، هل ما زال النظام الديني يسيطر على القرار، أم أن الحرس الثوري أصبح اللاعب الأقوى؟
ج: بعد الإعلان عن تفويض المرشد الأعلى للنظام أغلب صلاحياته لقيادة الحرس الثوري، يبدو أن خامنئي فقد السيطرة على زمام الأمور، ولم يعد صاحب القرار في إدارة هذا الصراع.

س: إلى أي مدى تؤثر الأزمات الاقتصادية في الداخل الإيراني على شعبية النظام؟
ج: منذ زمن، وإيران تعيش أزمات اقتصادية واجتماعية عديدة، وشهدت خلال السنوات العشر الماضية عدة انتفاضات شعبية عارمة استطاعت السلطات الأمنية إيقافها باستخدام القمع المفرط. والنظام الحاكم يفقد الشعبية ويواجه معارضة كبيرة.

س: هل ترى أن هناك حالة غليان شعبي حقيقية قد تؤدي إلى تحوّل سياسي أو ثورة داخلية؟
ج: كما سبق وقلنا، الشارع الإيراني سبق أن قام بعدة انتفاضات عارمة، وهو ناقم على النظام، وإذا استمر الصراع ستزداد نقمة الشارع على النظام بسبب الخسائر في الأرواح وتدمير البلد، والتغيير السياسي محتمل جدًا.

س: كيف تقرأ توجهات إيران في المنطقة، خاصة في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن؟
ج: إيران تفقد نفوذها تدريجيًا، وأنصارها في المنطقة بدأوا ييأسون منها، حيث باتوا يدركون أن النظام الإيراني غير قادر على مواجهة التغيرات الحاصلة في اللعبة السياسية في المنطقة. وأغلب أنصار إيران بدأوا يفكرون في مصالحهم بعيدًا عن مصالحها.

س: هل تعتقد أن الاتفاق النووي – لو عاد – يمكن أن يخفف من سياسة طهران التوسعية؟
ج: نعم، إيران لو عادت إلى طاولة المفاوضات ستكون منكسرة وغير قادرة على فرض شروطها، وهذا ما يجعلها منشغلة بشأنها الداخلي أكثر من انشغالها بقضايا أخرى.

س: كيف ترى مستقبل العلاقات الإيرانية – الخليجية في ظل ما يبدو من محاولات تهدئة مؤخرًا؟
ج: جميع دول الخليج العربي أدانت الهجوم الإسرائيلي على إيران، وهذه الدول دائمًا ما أظهرت رغبتها في إقامة علاقات طبيعية مع طهران، وتطالب بإقامة السلام في المنطقة. لكن الطرف الإيراني هو الذي كان لا يريد ذلك، وكان يعمل باستمرار على تهديد دول الخليج. وأعتقد أن دول المنطقة لا تستطيع التعايش مع النظام الإيراني إلا إذا غيّر منهجه السياسي وتخلى عن مشروع تصدير الثورة.

س: كيف تقرأ تطورات الصراع الإيراني – الإسرائيلي في ظل الضربات المتبادلة، والتوتر غير المسبوق في المنطقة؟
ج: الأحداث غير ثابتة على منوال واحد، وقد تحدث مفاجآت تغير مجرى الصراع.

س: هل تعتقد أن ما يجري الآن هو مجرد تصعيد محدود، أم أننا أمام بداية حرب شاملة في المنطقة؟
ج: لا أحد يمكنه التنبؤ بمجريات الصراع، ففي أي لحظة قد تتغير الموازين وتحدث تحولات جديدة تفاجئ كل المراقبين والمحللين السياسيين.

س: كيف تقيّمون الموقف الرسمي الإيراني؟ وهل هناك وحدة في القرار داخل طهران حاليًا أم انقسامات داخل النظام؟
ج: لا يبدو أن هناك انقسامات داخل النظام، لكن هناك اختلاف في التصريحات بين العسكر والسياسيين، وهذا أظنه متفقًا عليه؛ فالعسكر يوجهون خطابهم إلى الداخل الإيراني لشحذ المعنويات، أما السياسيون فيحاولون إرسال رسائل إلى الخارج.

س: كيف تفسرون الحضور الأمريكي العسكري المباشر إلى جانب إسرائيل في هذا التصعيد؟
ج: لم تعلن الولايات المتحدة الأمريكية رسميًا تدخلها العسكري في الصراع، ولكن لو تدخلت فهذا أمر غير مفاجئ وطبيعي، فإسرائيل ثكنة أمريكية، ولن تسمح أمريكا بسقوط ثكنتها.

س: ما دلالات الدعم الروسي – الصيني لإيران؟ وهل نحن أمام إعادة تشكيل لمحاور النفوذ عالميًا؟
ج: مجرد موقف سياسي عادي، ليس له أثر على أرض الواقع، ولن تقوم هذه الدول باتخاذ أي إجراء عسكري لدعم إيران، لأن ذلك فيه مخاطرة كبيرة قد تؤدي إلى قيام حرب عالمية، وهذا أمر لا تريده الصين أو روسيا أو حتى باكستان التي لديها أزمة مع الهند الحليفة لإسرائيل.

س: برأيكم، هل ترغب واشنطن فعلًا في إشعال المنطقة، أم تحاول منع انفجار أكبر عبر الحضور العسكري؟
ج: أمريكا من مصلحتها أن يكون هناك سلام في المنطقة. فهدفها أولًا، حماية مستقبل إسرائيل وضمان تفوقها العسكري والأمني، وثانيًا، ضمان مصالحها الاقتصادية والسياسية في المنطقة.

س: ما احتمالية أن تُقدم إيران على إغلاق مضيق هرمز؟ وما التداعيات الكارثية المتوقعة على الاقتصاد العالمي؟
ج: إيران لن تُقدم على هذه الخطوة، لأنها المتضرر الأكبر، ولأنها ستُلحق الضرر بأصدقائها مثل الصين، وهم لن يقبلوا بتضرر مصالحهم. وإيران لن تقدم على هذه الخطوة إلا إذا بلغت خط النهاية ويئست من بقائها كدولة موحدة، أو إذا يئس النظام من بقائه في السلطة.

س: كيف يمكن أن ترد أمريكا وحلفاؤها في حال أقدمت طهران على هذه الخطوة؟
ج: ربما يتم اللجوء إلى الخيار العسكري لاحتلال الساحل الإيراني ومن ثم إسقاط النظام.

س: هل يستخدم النظام الإيراني “هرمز” كورقة ضغط أم كورقة انتحار؟
ج: مجرد تهديد للضغط على المجتمع الدولي، ودفعه للضغط على إسرائيل من أجل وقف الصراع.

س: ما الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر في تهدئة المشهد أو التأثير على أطراف النزاع؟
ج: مصر دولة إقليمية كبرى، ويمكن لها أن تلعب دورًا في وقف الصراع، لكونها تمتلك علاقات مع الطرفين المتصارعين، بالإضافة إلى علاقاتها القوية مع أمريكا، وهذا يجعلها مهيأة للعب دور مهم ومؤثر في هذه المسألة.

س: هل تتوقعون أن تبقى دول الخليج على الحياد، أم أنها ستُجرّ إلى دائرة المواجهة قريبًا؟
ج: دول الخليج لن تكون طرفًا في الصراع، وقد أعلن مجلس التعاون الخليجي ذلك بوضوح، وطالب بإنهاء الصراع والعودة إلى طاولة المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.

س: في حال سقط النظام، ما البديل المطروح؟ وهل المعارضة في الخارج مستعدة فعلًا لمرحلة ما بعد الجمهورية الإسلامية؟
ج: لا شك أن المعارضة الإيرانية، وإن كانت منقسمة بين تيارات عديدة، إلا أن للكثير منها قواعد شعبية وعلاقات دولية، وهي مهيأة لاستلام الحكم وإدارة المرحلة الانتقالية التي يفترض أنها ستؤسس لإيران جديدة، مختلفة عما كانت عليه منذ أكثر من سبعين عامًا.

س: في ظل التصعيد العسكري، ما مستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟ هل لا يزال قائمًا، أم انتهى فعليًا؟
ج: المشروع الإيراني فقد الكثير من العلماء والخبراء الذين كانوا يديرونه بسبب الاغتيالات التي نفذتها إسرائيل، وقد تم إضعاف هذا المشروع بشكل كبير، وما زالت المنشآت النووية تتعرض للقصف.

س: هل تعتقدون أن إيران تسعى فعليًا لامتلاك سلاح نووي؟ أم أنها تستخدم الملف فقط كورقة تفاوض؟
ج: نعم، إيران تسعى لامتلاك القنبلة النووية، وقد صرفت عشرات المليارات من الدولارات من أجل تحقيق ذلك، ولكن الآن يبدو أن هذا الحلم قد تبخر، أو على أقل تقدير، توقف.

س: ما موقف إسرائيل من هذا التطور؟ وهل يمكن أن تلجأ لعمل استباقي ضد المنشآت النووية الإيرانية؟
ج: إسرائيل لديها ضوء أخضر ودعم أمريكي وغربي، وتسعى إلى تحقيق تفوقها العسكري، وتعمل على تنفيذ ما تسعى إليه. وما ارتكبته في غزة من جرائم إنسانية دون رادع، قد يشجعها على تكرار هذه الجرائم في كل مكان.

س: في رأيكم، إلى أي مدى يُغيّر امتلاك إيران لسلاح نووي موازين القوى في الشرق الأوسط؟
ج: لن يُكتب لها النجاح في امتلاك السلاح النووي، ولو امتلكته فستكون أكثر توحشًا وإجرامًا مما هي عليه الآن. إيران تستهدف الدول العربية والمسلمين من أهل السنة أولًا وأخيرًا.

س: برأيكم، ما السيناريو الأقرب في الأشهر القادمة؟ هل تتجه المنطقة إلى تسوية، أم انفجار إقليمي أوسع؟
ج: ليس من مصلحة إيران استمرار هذا الصراع، فهي الخاسر الأكبر فيه، كما أن الدول الصديقة لإيران متضررة من استمراره. ولذلك، فإن الأرجح أن سيناريو وقف الصراع والعودة إلى المفاوضات هو الذي سينجح.

س: لو وجّهتم رسالة واحدة لصانعي القرار في العالم العربي الآن، ماذا تقولون؟
ج: نقول لهم: لقد حان الوقت لوضع مشروع جامع موحد يضمن سيادة أقطارنا، ومصالح شعوبنا، ويحميها من الأعداء المتربصين بنا.

30 يونيو بعد 12 عاما: انقلاب على الثورة وتكريس لحكم الفرد

 30 يونيو بعد 12 عاما: انقلاب على الثورة وتكريس لحكم الفرد

أسامة رشدي

  

تمر اليوم اثنا عشر عاما على ما سُمّي بـ"ثورة 30 يونيو"، الحدث الذي تمّ تسويقه باعتباره "تصحيحا للمسار"، بينما شكّل في حقيقته محطة فارقة في مسار الثورة المضادة، أعادت مصر إلى أحضان الاستبداد، وحكم الفرد، وعسكرة الدولة، وسحقت كل مكتسبات ثورة 25 يناير التي كانت أول محاولة حقيقية لبناء دولة مدنية ديمقراطية.

ثورة 25 يناير خرج فيها الشعب المصري موحّدا للمطالبة بالحرية والعدالة والكرامة، وأسقط رأس النظام، وفتح الباب أمام حلم دولة القانون. أما 30 يونيو، فلم تكن سوى غطاء شعبي مفتعل بالأكاذيب للتمهيد لانقلاب عسكري تم ترتيبه وتنفيذه في 3 يوليو 2013، أعاد قبضة الحكم إلى العسكر، وأغلق باب التحول الديمقراطي، وفتح جحيم القمع والانهيار والانكشاف الوطني.

وبعد 12 عاما.. على الانقلاب أين وصلت مصر؟

كل هذا أدى لانكماش الدور المصري في فلسطين والسودان وليبيا وأفريقيا، وبات نظام السيسي تابعا لقوى إقليمية مقابل المال والمساعدات، مما انتهى لتراجع صورة مصر عالميا في المؤشرات الحقوقية، والحوكمة، والتنمية


- الدولة تُدار بمنطق الفرد الواحد؛ فتم احتكار القرار، وتفكيك مؤسسات الدولة لصالح جهاز واحد يخضع لرئيس غير خاضع للمحاسبة، بعد تدمير الحياة السياسية والحزبية، وتحويل البرلمان إلى ديكور سلطوي، يجري هندسة انتخاباته بمعرفة الأمن الوطني والمخابرات، بعد تعديل الدستور لضمان البقاء الأبدي في الحكم.

- جرت عسكرة السياسة والاقتصاد والإدارة بعد هيمنة الجيش على كل مناحي الحياة: من المدارس والجامعات، إلى الاقتصاد والطرقات والأسواق، في ظل تغوّل الأجهزة الأمنية وتحكّمها في الإعلام، والقضاء، والتوظيف، وتوزيع الثروات.

-حكم الفرد أدى لانهيار اقتصادي كارثي؛ فقد تجاوز الدين الخارجي 160 مليار دولار، في ظل اقتصاد غير منتج، وميزانية تئن من مخصصات خدمة الدين التي تزيد عن أكثر من ثلثي الموازنة المصرية، وليس لتنمية حقيقية أو حماية اجتماعية.

- اتجه العسكر للمشاريع العقيمة التي أهدرت تريليونات من الجنيهات دون عائد على حياة الناس (العاصمة الإدارية، القطار الكهربائي، الأبراج العملاقة).

وكان من نتائج النكبة الاقتصادية انهيار التعليم والصحة والمظلة الاجتماعية: التعليم بات خدمة مدفوعة الثمن، وجرى تفريغ المدارس والجامعات من الكفاءة والمجانية، وتم خصخصة المستشفيات وبيعها للقطاع الخاص، مما حوّل العلاج إلى رفاهية لا يقدر عليها غالبية المصريين؛ فبات أكثر من ثلثي الشعب المصري تحت خط الفقر، بحسب تقديرات محلية ودولية، في ظل تفكك شبكة الحماية الاجتماعية، وتراجع الدعم الغذائي والصحي والسكني لصالح سياسات الجباية والإفقار بعد فرض الضرائب والرسوم في كل الخدمات: التعليم، الكهرباء، المياه، المحروقات، المرور، العلاج، النقل، المواصلات، والارتفاع الجنوني في أسعار الطاقة والوقود والمياه والمواصلات، دون حد أدنى من الدعم أو الحماية؛ فسُحقت الطبقة المتوسطة، وتم تجريف الفقراء، وتوسيع فجوة اللامساواة بشكل غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث.

كل ذلك أدى إلى التفريط في السيادة الوطنية والأصول؛ فبيعت جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيتين رغم الحكم القضائي النهائي بمصريتهما، في مخالفة واضحة للدستور. وتنازل السيسي بشكل منفرد عن حقوق مصر القانونية والتاريخية في مياه النيل بتوقيع اتفاق إعلان المبادئ (2015) الذي شرعن سد النهضة، ومهّد لأزمة مائية كبرى تهدد أمن البلاد ومستقبلها الغذائي.

وكلما حلّت أقساط الديون يبيع النظام أراضي مصر الاستراتيجية مثل رأس الحكمة ورأس بناس لعواصم إقليمية؛ بعقود غامضة تثير التساؤل حول مستقبل الأرض والقرار الوطني.

لم يكن الانقلاب لينجح في تحقيق كل هذه الكوارث إلا بعد تجريف حقوق الإنسان التي تعززت بعد ثورة يناير، فملأ السجون بآلاف المعتقلين السياسيين، بينهم نساء وأطفال وشيوخ، وتفشت جريمة الإخفاء القسري والتعذيب، والقتل خارج القضاء، وانهيار ضوابط المحاكمات العادلة، وتحويل السجون لمقابر بشرية بمنع الزيارات لسنوات عن المئات من السياسيين المنتخبين، وكان من بينهم الرئيس الشهيد محمد مرسي -رحمه الله- والإهمال الطبي المتعمد في السجون. وجرى إغلاق المجال العام تماما، واحتكار الصوت والصورة والرواية الرسمية بعد سيطرته على وسائل الإعلام وتأميمها.

وكل هذا أدى لانكماش الدور المصري في فلسطين والسودان وليبيا وأفريقيا، وبات نظام السيسي تابعا لقوى إقليمية مقابل المال والمساعدات، مما انتهى لتراجع صورة مصر عالميا في المؤشرات الحقوقية، والحوكمة، والتنمية.

ما جرى بعد 30 يونيو خلال الـ12 عاما الأخيرة هو اغتيال بطيء للوطن، اغتيال لاقتصاده، لسيادته، لعدالته، لوعيه، ولحلمه. ومَن لا يرى هذه النتيجة، أو يتجاهلها، فهو شريك إما بالجهل، أو بالتواطؤ، أو بالمصلحة


ما جرى بعد 30 يونيو خلال الـ12 عاما الأخيرة هو اغتيال بطيء للوطن، اغتيال لاقتصاده، لسيادته، لعدالته، لوعيه، ولحلمه. ومَن لا يرى هذه النتيجة، أو يتجاهلها، فهو شريك إما بالجهل، أو بالتواطؤ، أو بالمصلحة. ولا خلاص إلا بالعودة إلى مسار يناير؛ فالطريق إلى إنقاذ مصر يبدأ بالاعتراف بأن ما جرى في 30 حزيران/ يونيو وما تلاه انقلاب كامل على الثورة والمستقبل، وأن العودة إلى مسار يناير ليست رفاهية، بل ضرورة وطنية وتاريخية:

• دولة مدنية ديمقراطية.

• عدالة اجتماعية حقيقية.

• سيادة القانون.

• حكم شعبي لا عسكري.

• اقتصاد منتج لا ممول.

• كرامة للمواطن لا قمع له.

• وطن مستقل القرار لا مرتهن الإرادة.

ولا ثورة إلا ثورة 25 يناير.. وكل ما بعدها كان مجرد انتقام ممنهج من هذا الحلم النبيل.