السبت، 1 يناير 2011

خطأ شائع يفوق الجُرْمْ

خطأ شائع يفوق الجُرْمْ
الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية

يقول المثل العامى من قبيل التهوين : "خطأ شائع ولا صواب مجهول" !.. لكن هناك من الأخطاء الشائعة ما يفوق الجُرْمْ والإجْرا م حتى وإن كان بحسن نية ، لذلك وجب التنويه والتصويب ، خاصة إذا كان هذا الخطأ يمس الدين و أبجدية المعلوات العامة معاً .. ولولا شيوع هذا الخطـأ ، ليس بين عامة الناس فحسب وإنما بين بعض كبار العلماء والباحثين والدارسين ، لما فكرت فى تناوله. والموضوع إختصارا يتعلق بكيفية التعبير عن الرسالات التوحيدية الثلاث ، وكتبها ، وخطأ المساواة بينها ، فالخطأ هنا يفوق الجُرْمْ حقاً وشرعاً.

والرسالات التوحيدية هى بترتيب نزولها : اليهودية ، المسيحية ، والإسلام.

وأصلها : التوحيد بالله عز وجل.
فحينما حاد اليهود عن رسالة التوحيد وقتلوا الأنبياء بغير حق ، وعادوا إلى العجل والكفر والشرك بالله ، لعنهم الله سبحانه وتعالى..
وارسل عيسى بن مريم ، عليه السلام، الى خراف إسرائيل الضالة. وهو ما يؤكده عيسى بن مريم بوضوح قائلا : "وما أتيت إلا من أجل خراف بيت إسرائيل الضالة" (متى 15 : 24).. الأمر الذى يحدد ويحصر رسالة يسوع فى العودة بخراف اليهود الضالة الى رسالة التوحيد ، وليس لتنصير العالم..
بدليل أنه حينما تم اكتشاف قرّات جديدة اندلعت مشكلات بين الأتباع وفى الكنيسة نفسها حول تلك الأجناس الجديدة وهل هى مخلوقة من نفس الإله أم أن هناك آلهة أخرى قد خلقتها. وليس المجال هنا تناول هذه الجزئية.
 كما كانت الصلاة والسجود أيام المسيح حسبما يحددها بوضوح أيضا ، إذ يقول : "لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (متى 4 : 10). أى أنه يؤكد بصريح العبارة أنه ليس بإله ، ويفرق بينه وبين الرب. وهو ما يوضح فى نفس الوقت ان الصلاة والسجود ايام اليهود وايام السيد المسيح كانت لله وحده، لا شريك له ، صلاةً وسجوداً .. وحينما حاد النصارى عن التوحيد وكفروا ، وذلك بتأليه السيد المسيح فى مجمع نيقية سنة 325 ، ثم غالوا فى الشرك بالله باختلاق بدعة الثالوث ، لعنهم الله عز وجل وكشف الكفر الذى وقعوا فيه. فأرسل سيدنا محمد ، عليه الصلاة والسلام ، لإستتباب رسالة التوحيد فى العالمين. 

وإذا تناولنا الكتب السماوية لرأينا ان التوراة التى أنزلها الله ووارد ذكرها فى القرآن ، قد تم تحريفها وليست هى التى بين أيدى اليهود حاليا. والعهد القديم أو باقى الأسفار ظلت كتابتها وتعديلاتها وتبديلاتها ومختلف صياغاتها تمتد حتى القرن العاشر الميلادى. وكل ذلك منشور وهُرىّ بحثا ومعترف به فى كل مكان ولا جدال فيه. أى انه لا التوراة الحالية ولا الأسفار الخمسة الأولى التى كانت تنسب الى موسى عليه السلام ، والتى ثبت انه لم يكتبها ، فما من إنسان سيتحدث عن نفسه فى صيغة الماضى أو يصف أين تم دفنه وما إلى ذلك من تحاريف ظلت سارية طالمة التداول كان محدودا والسيطرة عليها من الحاخامات كانت سهلة. ونفس الوضع بالنسبة لباقى الأسفار. وبالتالى فإن الحديث اليوم عن التوراة يجب أن يقوم بالتفرقة الصارمة بين التوراه الوارد ذكرها فى القرآن الكريم ، وبين التوراة وباقى الأسفار التى كتبها وحرفها العديد من البشر لمدة تمتد لأكثر من عشرة قرون من التعديل والتبديل. وهو الثابت أيضا فى القرآن الكريم الذى كان سباقا فى هذا التحديد وهذا الكشف. لأن عملية كشف هذا التلاعب لم تتم بصورة قاطعة إلا منذ عصر التنوير وتتواصل حتى يومنا هذا ، بفضل تقدم العلوم اللغوية والتاريخية والأثرية.

والعهد الجديد أو الأناجيل الأربعة قد عرفت وعانت من نفس مصير التحريف والتغيير والتبديل كالتوراة.. ففى القرن الرابع الميلادى طلب البابا داماز ممن أصبح القديس جيروم أن يدمج الأناجيل، وكان عددها قد فاق الخمسين إنجيلا آنذاك. فأعاد القديس جيروم صياغة الأناجيل الأربعة وما معها ليجعلها بالصورة التى هى عليها حاليا، وتم حرق باقى النصوص أو إخفاء ما يطلق عليه الأناجيل المحجبة أو "الأبوكريفا". وتكفى مطالعة المقدمة التى كتبها جيروم هذا الى البابا لندرك حقيقة ما تم فعلا ، فمما يقوله فيها :

" تحثنى على أن اقوم بتحويل عمل قديم لأخرج منه بعمل جديد ، وتريد منى أن أكون حكماً على نُسخ كل تلك النصوص الإنجيلية المتناثرة فى العالم ، وأن أختار منها وأقرر ما هى تلك التى حادت أو تلك التى هى أقرب حقا من النص اليونانى. أنها مهمة ورعة ، لكنها مغامرة خطرة إذ سيتعيّن علىّ تغيير أسلوب العالم القديم وإعيده إلى الطفولة. وأن أقوم بالحكم على الآخرين يعنى فى نفس الوقت أنهم سيحكمون فيه على عملى. فَمَن من العلماء أو حتى من الجهلاء، حينما سيمسك بكتابى بين يديه ويلحظ التغيير الذى وقع فيه ، بالنسبة للنص الذى اعتاد قراءته ، لن يصيح بالشتائم ضدى ويتهمنى بأننى مزور ومدنس للمقدسات ، لأننى تجرأت وأضفت ، وغيّرت، وصححت فى هذه الكتب القديمة ؟

" وحيال مثل هذه الفضيحة ، هناك شيئان يخففان من روعى ، الأمر الأول : أنك أنت الذى أمرتنى بذلك ؛ والأمر الثانى : إن ما هو ضلال لا يمكن أن يكون حقاً. وهوما تقره أقذع الألسنة شراسة. وإذا كان علينا أن نضفى بعض المصداقية على مخطوطات الترجمة اللاتينية، ليقل لنا أعداؤنا إيها أصوب ، لأن هناك من الأناجيل بعدد الإختلافات بين نصوصها. ولماذا لا يروقهم أن اقوم بالتصويب إعتمادا على المصادر اليونانية لتصويب الأجزاء التى أساء فهمها المترجمون الجهلاء ، أو بدلوها بسوء نية ، أو حتى قام بعض الأدعياء بتعديلها.

" وإذا كان علينا دمج المخطوطات ، فما يمنع أن نرجع ببساطة إلى الأصول اليونانية ونبعد بذلك عن أخطاء الترجمات السيئة أو التعديلات غير الموفقة من جانب الذين تصوروا أنهم علماء ، أو الإضافات التى أدخلها الكتبة النعسانين ؟ "


وفيما يلى الصورة الفوتوغرافية لأول صفحة من الخطاب-المقدمة أو الإعتراف الذى يتصدر تلك الطبعة اللاتينية للأناجيل ، وهى بمكتبة فرانسوا ميتران بباريس :
 


وأكتفى بهذا القدر من خطاب القديس جيروم لنرى كيف أن المؤسسة الكنسية تعلم تماما بحال نصوصها المؤسف ، ورغمها لا تزال تحاول فرضها على العالم وخاصة على المسلمين فى كل مكان. وظلت المؤسسة الكنسية تفرضها على الأتباع ، حتى مجمع ترانت (1545-1563) فى دورته الرابعة بتاريخ 8 إبريل 1546 ، على انها "منزّلة من عند الله وإن الله وحده هو المؤلف الوحيد لها" !

وكانت تمنع الأتباع من قراءتها إلا فى حضور قس من القساوسة ليجيب على أية تساؤلات حول ما بها من متناقضات.. ومع تزايد الدراسات والأبحاث التى تكشف وتدين التلاعب فى هذه النصوص أعلن مجمع الفاتيكان الأول (1869-1870) ، فى دورته الثالثة بتاريخ 24 إبريل 1870: "ان من كتبها بشر تحت وحى من الروح القدس" .. وعندما استتبت الأبحاث الكاشفة بصورة قاطعة وبات من المحال تكذيبها أعلن مجمع الفاتيكان الثانى (1963-1965) فى دورته الثالثة بتاريخ 18 نوفمبر 1965: " أن هذه الأناجيل كتبها بشر ، وان بها الصالح والبالى (...) لكنها تمثل دروسا تعليمية من عند الله (...) وانه لكى نفهمها لا بد من أن نأخذ فى الإعتبار مختلف أنواع الكتابات الأدبية والسرد القصصى والتراث السائد آنذاك" .. أى أنها مجرد سرد قصصى ولا علاقة لها بالتنزيل من عند الله ، وهو ما كتبه لوقا فى بداية إنجيله ، حيث قال :
"إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة فى الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شئ من الأول بتدقيق ان اكتب على التوالى إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذى عُلِّمت به " (1-4).. أى انه يكتب قصة من القصص بناء على الكلام الذى احيط به علما ، لأنه سمعه كما يقول ولم يشاهده .. فهل هناك أية مصداقية لهذه الأناجيل أو هل هناك أكثر من كل هذه الإعترافات الرسمية من المؤسسة الكنسية برمتها بأن هذه الأناجيل ليست منزلة من عند الله ، وبتأكيد من أحد الحواريين فى بداية إنجيله موضحا أنه يكتب قصة من ضمن القصص ، فهل يجوز بعد ذلك كله أن يقول أى مسلم ، أيا كان مستواه العلمى ، أنها منزلة من عند الله أو ان يساويها بالقرآن الكريم فى قدسيتها ؟ حاشا لله !

لقد أوضح لنا القرآن الكريم مختلف أنواع التحريف والتبديل والتغيير وكتْم الحق وهم يعرفون ، ولا يسع المكان هنا لنقل ثلث القرآن الكريم الذى يتحدث عن الكفر والكفار والشرك بالله ، علما بأن كلمة "كفروا" وردت 194 مرة وكلمة "الكافرين" 93 مرة ، وتصريفات الجذر "كفر" وردت 385 مرة، لذلك فلا اذكر منها إلا بعض الآيات على سبيل المثال لا الحصر :
ويكشف الله العلىّ الكريم تلاعبهم فى النصوص قائلا :

* "فَوَيْلٌ للذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ" ( 79 البقرة ).
ويقول المولى عز وجل فى تحريفهم للنصوص : 
* "(...) وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (الآية) ، (75 البقرة)
* "فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ"، (59 البقرة).
وفى تلبيسهم الحق بالباطل يقول سبحانه وتعالى :
* "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (71 آل عمران).
وفى الشرك بالله يقول رب العالمين : 
* "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۚ " (الآية) ، (17 المائدة).
* " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" ( 73 المائدة).
* "وَلَا تَجْعَلُوا۟ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ ۖ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌۭ مُّبِينٌۭ" (51 الذاريات) .
وقد حذّرنا الله سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم من الإنسياق للذين فضح كفرهم برسالة التوحيد ، حذرنا فى ذلك الكتاب الذى لا ريب فيه ، فى ذلك الكتاب الحكيم الذى اُحْكِمَت آياته و أنزله سبحانه وتعالى ليخرج الناس من الظلمات الى النور ، ونحن نعلم يقينا إنه لكتاب عزيز ، و"إن كتاب الكفار لفى سجّين" (7 المطففين) ، فكيف يمكن مساواتهما ؟ كيف يمكن مساواة القرآن الكريم بكتابٍ إعترف أصحابه بأنه من نسج بشر ، ومحرّف ، وليس منزّل من عند الله ؟ !
كيف يمكن مساواته بكتاب حذرنا ربنا سبحانه وتعالى من كل ما فيه من أنواع التحريف والتزييف والتغيير وكتمان الحق لفرض الباطل ؟ بل لقد أثبت العديد من علمائهم ورجال دينهم كل ما سبق ان أثبته القرآن الكريم من تلاعب وكل ما أورده من إتهام فاضح .. ومعرفة هذا الكشف الباتر فى حدته و القاطع فى وضوحه هو الذى أبعد الأتباع فى الغرب عن دينهم وعن كنيستهم ، بعد أن عرفوا الحقيقة التى ظلت المؤسسة الكنسية تعتم عليها لمدة قرون دامية ..
لذلك لا يجب أبدا ولا يجوز ، لا شرعا ولا قانونا ، أن نتحدث عن المسيحية الحالية أو عن آناجيلها ونصوصها الكنسية على أنها منزّلة من عند الله ، كما لا يجب ولا يجوز مساواتها بالإسلام وبالقرآن الكريم ، وخاصة مساواة مثل هذه الأناجيل بكتابنا العزيز ، لأنه الكتاب الوحيد الذى يُطلق عليه حقا وبتحديد من الله عز وجل فى علاه :
"إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (80-77 الواقعة)
23 سبتمبر 2010 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق