«لعبة أمم» أم «أحجار على رقعة الشطرنج».. مرة أخرى..؟!
د.عبدالله مناع
الأمريكية لخدمة الكتابين والترويج لهما.. إلى أقصى مدى، فقد تضاعفت قيمتهما وأهميتهما لدى المثقفين بصفة عامة.. وإلى الحد الذي أصبح معه مَن لم يقرؤهما يعاني من شعور أشبه بـ (النقص) المعلوماتي أو الثقافي وسط دوامة الكلام عنهما في كل المجالس والمنتديات، وهو ما وسع من دائرة الاهتمام بالكتابين.. حتى لم تبق مكتبة لمثقف وأياً كان اهتمامه إلا وأصبح الكتابان يحتلان موقعهما فيها، كان الكتاب الأول: هو كتاب (لعبة الأمم).. لرجل المخابرات الأمريكي الأشهر (مايلز كوبلاند)، والذي تحدث فيه عن الصراع بين القوتين العظميين آنذاك (الاتحاد السوفييتي بشيوعيته، والولايات المتحدة الأمريكية برأسماليتها).. في محاولة كل منهما في قضم جزء أو أجزاء من مناطق نفوذ الآخر، وقد كان المعسكران.. يتقاسما آنذاك مناطق شاسعة من العالم بامتداد قاراته الست، وكان الكتاب الثاني: هو كتاب (أحجار على رقعة الشطرنج).. لكاتبه العسكري الأمريكي (وليام غاركار)، الذي كرسه لـ (الكشف) عن قوى الشر الإلحادية التي تحكم العالم (الاتحاد السوفييتي الشيوعي الملحد)، والأخرى التي تتظاهر بـ(الدين) والإيمان والدعوة إلى السلام وهي اليهودية العالمية أو (الصهيونية).. التي قال عنها المؤلف: (إن تظاهرهم التاريخي بالدعوة للسلام، لم ولن يخدع أحداً).. وهو يورد ما قاله الزعيم الأمريكي الأول جورج واشنطن ذات يوم (من المؤسف أن الدولة لم تطهر أراضيها من هؤلاء الحشرات، رغم علمها ومعرفتها بحقيقتهم. إن اليهود هم أعداء سعادة أمريكا ومفسدو هنائها)..!!
كان الهدف الضمني الأول لـ»الكتابين».. أن يقولا لـ»العالم» بأنه في قبضة القوى العظمى الأمريكية، إن لم يكن اليوم.. فإنه سيؤول إليها حتماً سواء بـ»التفاهم» والتعاون أو بغيرهما: بـ»الخير» وطرقه.. أو بـ»الشر» ووسائله!!
نعم كان الكتابان.. موجهين إلى العالم بأسره، ولكن كان في مقدمته - بطبيعة الحال - منطقتنا العربية: الهامة.. بمواقعها الدافئة والإستراتيجية بين القارات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأوروبا الغربية)، وبموجوداتها النفطية العظمى المكتشفة آنذاك والمحتملة مستقبلياً، والجاذبة لـ»الاستماع» والامتثال.. بـ»هشاشة» شرعيتها، وتواضع إمكاناتها المعرفية، ومحدودية قدراتها العسكرية!!
قبيل نهاية القرن العشرين.. جاءت المفاجأة الأولى لـ»العالم»، وليس لـ»الكتابين» أو كاتبيهما.. بسقوط القوى العظمى الشيوعية، وانفراط جمهورياتها الخمسة عشر.. بل وركضها للانضمام لـ(الاتحاد الأوروبي) وذراعه العسكري حلف الأطلسي أو (الناتو) تحت الراية الأمريكية ودعمها المنظور وغير المنظور، ليصدق (الكتابان) والكاتبان ثانية.. بهذه الأيلولة الأمريكية لهذا العدد من الجمهوريات السوفييتية، بينما غضبت كل من (تركيا) و(المغرب) لفشل مسعاهما في الانضمام إلى البيت الأوروبي، وسعدت (قبرص) بشرف الانضمام إليه وإلى أيلولته الأمريكية وحلفها الأطلسي (الناتو)، الذي ظل باقياً رغم انتفاء الحاجة إليه (ظاهرياً)، بعد سقوط (حلف وارسو) وغيابه عن الوجود تماماً..!! بينما كان له (دور) لم يتبينه المراقبون آنذاك.. وستأتي لحظته فيما بعد..؟!
***
بعد مرور خمسين عاماً على الكتابين.. لم يظهر كتاب أو كتابان.. آخران، باعتبار أن مشروع (القبضة الأمريكية) التي يقع العالم في يدها.. أو «الأيلولة» الأمريكية التي سيصير إليها العالم بـ «الخير» و»التفاهم» و»المصالح المتبادلة».. أو بـ»غيره»!! مايزال مستمراً.. نظراً لـ «الكونية» التي تتحلى به إستراتيجيته حتى وإن أنجز بنجاح حل المعضلة السوفييتية بـ»زوالها»، واليوغوسلافية.. بـ»تفكيكها»، والتشيكوسلافية.. بـ»تقسيمها»، فما يزال أمام المشروع - أو تلك الاستراتيجية الكونية - مناطق (عصيان) كثيرة على مستوى الكرة الأرضية، أبرزها (العصيان الكوري) في جنوب شرق آسيا.. و(العصيان الفنزويلي) في شمال شرق أمريكا الجنوبية.. وأخطرهم - من زاوية المصالح الأمريكية الضيقة في حماية إسرائيل من أي تهديد لها مهما بعد احتماله - (العصيان الإيراني) في غرب آسيا.. على مياه الخليج.
ولكن ظهر مقابل الكتابين (فصل) مجهول في إحدى تلك الإستراتيجيات الأمريكية الكثيرة لم يكن معروفاً من قبل.. كشف عنه باقتضاب شديد الخبير والسياسي الأمريكي (ديفيد باتريوس) في إجابته على الصحفي الأمريكي (ريك انكسون).. عندما سأله - في شهر فبراير من العام الماضي - عن هذا الذي يحدث في العالم العربي، بعد أن أزاحت رياح الربيع العربي (زين العابدين بن علي).. بـ(الفرار) من الرئاسة التونسية، و(محمد حسني مبارك).. بـ (التنحي) عنها في ذات الشهر، فأجاب بما يشبه اللغز: (هي ثمان سنوات.. وثمانية تقسيمات).. ولم يزد!؟
فإذا صدَّقنا «خبر» أو «معلومة» أو «نبوءة» (ديفيد باتريوس) وكما هي، فإن سؤالاً اضرارياً لابد وأن يفرض نفسه: ومتى بدأت.. أو تبدأ هذه السنوات الثمان، والتقسيمات الثمان؟
هل بدأت.. منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في شهر مارس عام 2003م؟ أم أنها ستبدأ من حين التصريح بها في فبراير الماضي..؟
على أن مجريات الأحداث في المنطقة.. توحي بأنها بدأت منذ سنة الاحتلال الأمريكي للعراق، عندما قدم جنوده لإزالة أسلحة الدمار الشامل (غير الموجودة أصلاً)، وإزاحة الديكتاتور العراقي صدام حسين عن حكمه، وإطلاق سراح سجناء الرأي، وإقامة دولة الديمقراطية والحرية والتعددية السياسية فإذا بهم ينتهون إلى «احتلال» العراق والاستيلاء على نفطه ونهب متاحفه، وإقامة سجون جديدة أشد وأنكى من سجون صدام.. ثم تقسيمه إلى ثلاث دول: «كردية» في الشمال، و»شيعية» في الوسط، و»سنية» في الجنوب، ثم أعقبها تقسيم (السودان) إلى دولتين: شمالية مسلمة في أغلبها.. تملك موقعاً ولا تملك نفطاً، ودولة جنوبية مسيحية في أغلبها.. تملك نفطاً ولا تملك مرفأ لتصديره، فهل سيتم تقسيم (سوريا) إلى دول ثلاث: دولة في «اللاذقية»، وأخرى في «حلب»، وثالثة في «دمشق».. حتى تكتمل تلك التقسيمات الثمان التي أخبر أو تنبأ بها (ديفيد باتريوس)..؟ لقد كان في النية الأمريكية على الدوام تقسيم (مصر) إلى ثلاث دول: «نوبية» في الجنوب، و»قبطية» في الوسط، و»إسلامية» في الشمال.. ولكن رياح ربيع الحرية التي هبت على مصر في الخامس والعشرين من يناير من العام الماضي.. أوقفت كل ذلك، وربما ألغته إلى أبد الآبدين!
***
على أي حال، وبعيداً عن كتابيْ (لعبة الأمم) و(أحجار على رقعة الشطرنج) القديمين، وخبر (باتريوس) أو نبوءته الحديثة.. فقد هبت رياح الربيع العربي.. وطنية خالصة من (تونس)، مع انتحار الشاب محمد بو عزيزي قهراً وكمداً في مسقط رأسه (سيدي بوزيد) في السابع عشر من ديسمبر (2010م).. فسقوط ثمارها في العاصمة التونسية في الرابع عشر من يناير في أعقاب فرار (ابن علي).. بعد تسعة أيام من تشييع جثمان شهيد الحرية العربي الأول (محمد بو عزيزي)، إلى مثواه الأخير في قريته، لتتلقفها (مصر) المنتظرة والهائجة منذ التعديلات الدستورية التي تولاها (ترزية) القوانين في (الحزب الوطني).. فإعادة انتخاب (مبارك) لسادس مرة!! وبدء التحضير لـ(توريث) رئاسته لابنه (جمال)، ليقوم شباب (التحرير) بخطبهم وهتافاتهم واعتصاماتهم «السلمية» حقيقة.. وفي سبعة عشر يوماً.. بما لم يقم به عتاولة الساسة المصريين طوال سنوات تململهم وضجرهم التي امتدت لخمسة عشر عاماً.. حتى تنحى الرئيس لنائبه!!
لقد تلاحقت كل تلك الأحداث الوطنية الخالصة في كل من تونس ومصر فيما لا يزيد كثيراً عن الشهر الواحد، وبصورة أقرب ما تكون في إيقاعها.. إلى إيقاع المفاجآت في أفلام «الفريد هيتشكوك» السينمائية المذهلة، فلم يعلم بـ(التحضير) لها، وحدوثها المفاجئ الصاعق أحد.. وفي مقدمتهم الدول الغربية الكبرى: بريطانيا وفرنسا وألمانيا.. بل وزعيمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي قال عنها «كوبلاند» و»كار».. بأن العالم في قبضتها، وأنه سيؤول إليها بـ»الخير» أو بـ»الشر»، أو أنه سيتم تقسيم بعض دوله لـ»ثمانية» أقسام في «ثمان» سنوات.. كما قالت نبوءة (باتريوس)، فكان لابد للولايات المتحدة - وقد جرى ما جرى في كل من (تونس) و(مصر) من وراء ظهرها، وخلف علمها - أن تتنبه إلى مستجدات أحداث الساعة.. فتواكبها، لا أن تنام قريرة العين على استراتيجياتها القديمة التي تولى شرحها وتقديمها للعالم كتابا (لعبة الأمم) و(أحجار على رقعة الشطرنج) أو حتى نبوءة (باتريوس)، ولذلك.. ما إن وصلت رياح الربيع العربي لـ (ليبيا) المهيأة لاستقبالها بعد أربعين عاماً من حكم عقيم فردي لم يصنع لنفسه (مكانة) ولم يلد (دولة) في موقع هو الأجمل، وفوق أرض هي (الأغنى)! إلا وكانت الولايات المتحدة حاضرة بتصريحاتها المتدرجة.. فـ»قلقها» المتزايد على المدنيين المسالمين، لتلحق بها أوروبا - ساركوزي وكاميرون - بـ(بكائها) عليهم، فتسابقها فضائيات بعض العواصم العربية والخليجية - خاصة -.. بـ»نواحها» واستنجادها، ليأتي حلف الأطلسي (الناتو).. فيفعل ما يشاء (!!) إنقاذاً لأرواح (المدنيين المسالمين)!! رغم السلاح الذي كان يلوِّح به بعضهم.. حيث أنجز (الحلف) خلال تلك الشهور الأربع مهماته على أفضل وجه.. وفي ختامها توزيع حصص أغلى نفط عربي وأجوده، على أولئك الذين حموا (المدنيين المسالمين) وأنجحوا الثورة.. أي على بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة..!! ليفاجأ بعض العرب بـ «وصول» رياح الربيع العربي إلى (سوريا).. بصورة لا تخلو من «الريبة» والشك!! اللتين تدعوان مراقبي أحداث عالمنا العربي.. الذي أمسى وكأنه يعيش الهزيع الأخير في ليل ضياعه، لأن يتساءلوا: أين كانت هذه الجموع من طلاب الحرية والديمقراطية في (دمشق)، يوم أن تم (تفصيل) الدستور السوري على مقاس الدكتور بشار الأسد ساعة رحيل والده بعد حكم بعثي قمعي تسلطي لأكثر من ثلاثين عاماً.. حتى يجري انتخابه على الطريقة الساداتية (9.8% موافقون)..؟
وأين كان «دهاقنة» البعث ولجانه (القُطرية) و(القومية).. يوم أن جرى إعادة انتخابه لـ «دورة» رئاسية ثانية وسط تهليل السوريين وأفراحهم..؟
أكانوا (جميعاً) خائفين على أرواحهم وأرزاقهم.. في الدورتين على طولهما؟
لكن ربما كان السؤال الأدق، والذي يزاحم ليطرح نفسه.. هو: ما الذي حدث.. حتى يجري ما جرى؟!
وبالتأكيد.. فإن الإجابة الموضوعية النزيهة لن تأتي من مركز حقوق الإنسان السوري.. الذي انشقت عنه الأرض فجأة في العاصمة (البريطانية) لندن.. لمتابعة أحداث الخريف.. (آسف) أقصد الربيع العربي في سوريا!!
ومعذرة..
إن ابتعدت عن محاولة قراءة ما يحدث في كواليس اجتماعات الجامعة العربية لمتابعة الأزمة السورية، وتركت نفسي لهذه التأملات السياسية.. البعيدة والقريبة معاً لتستفزني حتى أبثها أو أكتب عنها لأولئك الناجين من أبناء أمتنا.. من وباء الامتثال والانصياع إلى أعدائها، الذين يظهرون أمامنا بـ»أجمل» الثياب و»أحلى» الكلمات والابتسامات!!
dar.almarsaa@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق