أحمد بن راشد بن سعيّد
من سوء حظ المواطن الكوني أن الدعاية المرتبطة بمصالح الدول الكبرى والشركات الضخمة متعددة الجنسيات والأنظمة الدكتاتورية تهيمن على مستوى الكون.
ومن حسن حظ هذا المواطن أن ثورة الاتصال والمعلومات تمده بأسباب مقاومة هذا الهيمنة وإدمائها ورد أسلحتها إلى صدرها.
وغنيٌّ عن البيان أن سيطرة الدعاية تؤدي إلى إضعاف ملَكات التفكير النقدي والقدرة على المساءلة. وما لا يدركه كثير من الناس، بمن فيهم المجتمعات الديموقراطية، أنهم ليسوا في منأى عن تأثيرات الدعاية التي قد تكون خفية وغائبة عن الانتباه، بعكس ما يحدث في المجتمعات المغلقة التي تبدو الدعاية فيها مكشوفة ولافتة. تؤدي الطبيعة المستترة للدعاية إلى إيهام الجماهير بـأنه لا يجري التلاعب بهم، وأنهم يتعرضون لرسائل واقعية. في المجتمعات الليبرالية، تبث وسائط الإعلام (الميديا) وقائع الحملات الانتخابية وطقوسها وأغنياتها وبرامج المرشحين وفضائحهم والتلاسن بينهم، كما تبث الإعلانات والمناظرات واحتفالات الترشيح ومراسم التنصيب، وكلها مشاهد تعتمد على الإبهار، وتعزِّز قناعة الرأي العام بنجاعة العملية السياسية.
تتجلى سطوة الدعاية على هذه المجتمعات في التناغم بين سياسات النخبة الحاكمة وبين مواقف صحافة النخبة لا سيما إزاء السياسة الخارجية. في الولايات المتحدة مثلاً تُجمع الميديا السائدة على دعم إسرائيل في ممارساتها الوحشية ضد الفلسطينيين، كما تُظهر أميركا بوصفها صانعة سلام، تدعم حقوق الإنسان، وتسعى إلى جعل العالم أكثر أماناً.
تُمارَس الدعاية في أميركا، بحسب نوعم تشومسكي، من خلال «سيطرة على التفكير» (thought control) تهدف إلى تضليل الجماهير بـ «خدع ضرورية» (necessary illusions). وعندما تنكشف هذه الخدع، وتظهر الممارسات غير القانونية، يجري اللجوء إلى تكتيك دعائي آخر هو السيطرة على الضرر ((damage control، يتمثَّل في جلسات الاستماع، التي لا تسفر في الغالب عن تغييرات تُذكر.
اللغة محور هذه الدعاية، واستعاراتها تشكل الواقع السياسي.
إن مصطلحات مثل «الحرية» و «العدالة» و «الإرهاب» و «الشر»، تعدُّ أمثلة صارخة على استغلال اللغة من أجل هندسة القبول وتجميل العنف. كلنا بالطبع يريد الحرية والعدالة، وكلنا يمقت الشر والإرهاب، لكننا نادراً ما نضع دلالات هذه الاستعارات موضع تساؤل، وبوسع أيِّ سياسي يستخدم هذه اللغة تبرير أفعال شتى وهو آمن على مستقبله. يميل الناس عادةً إلى تأييد أعمال العنف التي يجري ارتكابها باسمهم إذا وُصفت بأنها دفاع عن «الحرية»، أو وُصِم ضحاياها «بالإرهاب»، أو جرى تأطيرها في شكل ثنائيات مثل «الخير والشر»، و«الحضارة والهمجية».
في هذه الحال، تنكمش إلى درجة العدم مساحات النقد، ويتشكل سياق يسمح فقط بنظرة عوراء للمشهد.
تناولت أدبيات الإعلام والاتصال باستفاضة أساليب الدعايات النازية والشيوعية وحتى الصهيونية، لكنها لم تتناول الدعاية الأميركية إلا قليلاً.
بعد أحداث 11/9،تبوأت الدعاية مكاناً علياً في قلب ما سُمّي «الحرب على الإرهاب».
تحتاج الإمبراطوريات إلى الدعاية لبسط سيطرتها على التفكير، وتحييد الناقدين. أبرز ملامح الدعاية الأميركية التي أعقبت 11/9 هي الزعم، كما تقول خبيرة الدعاية نانسي سنو في كتابها «حرب المعلومات»، أن الأميركيين شعب من الأخيار يخوضون معركة كونية ضد أشرار.
كان مهندس الدعاية النازية جوزيف غوبلز يقول: «لا حاجة إلى أن تكون الدعاية غنية بالمضمون الفكري»، ولذا يجب التركيز على العبارات الهلامية التي لا تستفز المساءلة، ولا تحمل معنى محدداً كالديموقراطية والسلام. وقد تبنَّت واشنطن هذا المفهوم في أعقاب 11/9، مُطلِقة على غزواتها العسكرية في أفغانستان والعراق ألفاظاً محبّبة، ونازعة الصفة الإنسانية عن ضحايا عدوانها، الأمر الذي أبقى معظم الأميركيين في خانة التسليم.
يكاد يخلو الخطاب الأميركي من نقد الذات، وعادة ما يَعدّ أي دعوة إلى مراجعة السياسات الرسمية بوصفها خضوعاً للابتزاز.
بعيد أحداث 11/9 تساءل النائب الأميركي هنري هايد: «كيف لهذه البلاد التي أنجبت هاليوود وطريق ماديسِن أن تولّد هذا الكراهية الكبيرة؟» مشيراً بالطبع إلى أهمية الدعاية.
اتبعت واشنطن أساليب التسويق التقليدية الهادفة إلى «بيع» أميركا للعالم، ومنها رصد ما يزيد على 500 مليون دولار لكسب القلوب والعقول في الشرق الأوسط، وإنشاء راديو سوا، وقناة الحرة.
تقول نانسي سنو إن شعوب العالم تدرك أن حقيقة أميركا تختلف عن خطابها، فهي في نظرهم دولة معتدية، ذات مذهب عسكري يؤمن بالحروب الاستباقية، وهي أكبر مصدر لتزويد الدكتاتوريات بالسلاح، كما أنها أكبر داعم لإسرائيل في سلوكها الوحشي ضد الفلسطينيين، ولذا ستظل قطاعات واسعة من العالم تحمل عواطف مناهضة لأميركا، ولن تجدي محاولات تجميل القبيح نفعاً.
ما يزيد طين الدعاية بِلّة، هو أن أسلوب التناول الإخباري لا يساعد على التمييز بين الحقائق والآراء، فتخصيص صفحات للرأي في الصحف يعطي القاريء شعوراً زائفا بالأمان في الصفحات الأخرى، ويوهمه أن الأخبار لا تتضمن تلويناً أو «تأطيراً». التحدي الذي يواجهه الجمهور هو انتزاع الرأي من بين سطور الأخبار.
وولتر لِبْمن قال في كتابه: «المجتمع الشبح» إن الجمهور لا دور له في توجيه المسائل المهمة للدولة؛ لأن النظام الإعلامي صنع مجموعة من الحقائق الزائفة المكوّنة من صور نمطية (stereotypes). من الممكن جداً التلاعب بأفكارنا، ليس لأننا بالضرورة أغبياء، ولكن لأننا جهلاء، ونفتقد آليات مقاومة الدعاية. أكثر خبراء الإعلام يؤكدون أن موضوعية الأخبار مسألة أكاديمية أكثر من كونها حقيقة، فالصحافة توظّف الكلمة والمساحة والصوت والصورة في تأطيرها للأخبار، وقد لا يجد القارىء سبيلاً للخروج من هذه المعضلة سوى الحصول على معلومات أكثر تنوعاً، وعدم الاعتماد على مصدر وحيد للتلقي. ليبمن أيضاً أشار إلى الرقابة بوصفها عاملاً يسمح بازدهار الدعاية.
الرقابة تنهي التدفق الحر للمعلومات، وتقلّل فرص حدوث المعارضة، والدعاية تحقن الصحافة بمعلومات مضللة أو خاطئة، لتصنع التأثير المطلوب في الجماهير.
تجلّت ملامح الدعاية الأميركية على نحو أكثر رعباً في مشهد ما بعد 11/9.
نانسي سنو رصدت أبرزها:
(1) اختيار القضية، وهي بالطبع الإرهاب، وكان من السهل حشد الأنصار لها، فهناك صور رموز أميركا المالية والعسكرية تتهاوى، وهناك آلاف القتلى والجرحى، ومن ثمّ فلا بد من رد؛
(2) بناء القضية، ويشمل ذلك توظيف حقائق أو أحداث محددة حتى يبدو هدف الدعائي أخلاقياً، وحتى تبدو موقف العدو وحشياً؛
(3) التبسيط، ويعني التركيز على الاختصار، واستخدام الشعارات المستندة إلى التماهي، مثل شعار: « إما أن تكون معنا أو مع الإرهابيين»؛
(4) التلاعب باللغة، كما يشير مصطلح «الحرب على الإرهاب»، فهو ليس أكثر من تعبير دعائي يشي بالتبرير وحتمية الصراع وطول أمده، ويوحي كذباً أن كل الخيارات السلمية قد استنفدت.
وعندما تنشب الحرب، يصبح من غير المحتمل أن يحدث حوار حول أسبابها حتى تضع أوزارها، ويفقد التناول الإخباري والتحليلي توازنه، منزلقاً إلى الدراما والهياج، ما يجعل أي صوت معارض تغريداً نشازاً، أو حتى ضرباً من الخيانة؛
(5) التفكير غير المنطقي، إذ جرى تأطير الهجمات بوصفها اعتداءً على الحرية، شنّته «طفيليات إرهابية». ولكي تنجح هذه الوصفة، فيجب أن تشتمل على عبارات مغرقة في التجريد، كالحضارة والعدالة وطريقة الحياة، وهي رموز مختزلة مطاطة، لكنها جذابة وحُبلى بالعواطف.
هذا الأسلوب يوفّر قاموساً ساذَجاً للصراع، فعندما يثور التساؤل: لماذا القتال؟ يأتي الجواب الأخلاقي فوراً: دفاعاً عن الحرية.
وهكذا يتحدد سقف النقاش بما يشل التفكير الفردي، ويدفع الناس للتصرف بوصفهم جماعة، وهي طريقة الخطاب التي تصنع فيها الدعاية سحرها.مايزال الخطاب الأميركي الرسمي حافلاً بالاستعارات الدعائية.
يبادر الساسة في واشنطن مثلاً إلى الإدانة اللفظية لبعض الجرائم والانتهاكات داعين إلى وقف «نزيف الدم»، والجلوس على «طاولة الحوار»، أو جلب «المتهمين» إلى العدالة، وكلها تعبيرات تدخل في إطار الحكمة القائلة: «فن قول لا شيء».
ستتعب وأنت تعد كم ردد مسؤولون أميركيون منذ 2011 وحتى الآن عبارة: «بشار الأسد فقد شرعيته، وأيامه باتت معدودة»!
•  @LoveLiberty
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق