أين أوجيني؟
(1)
قال في وثيقة بدء الحفر: "نأذن نحن عبد الفتاح السيسي ببدء حفر قناة السويس الجديدة لتكون شريانًا إضافيا للخير لمصر ولشعبها العظيم وللعالم أجمع، حفظ اللهِ -هكذا أعربها- مصر..".
الرجل من لحظته الأولى تلبّسَتْه مصر الخديوية حتى بألفاظ التعظيم، وتلبس الحالة مستمر إلى الآن، بما في ذلك بذخ وسفه الاحتفال بها، لدرجة ركوب المحروسة التي استقلها الخديوي إسماعيل أثناء افتتاح القناة (1869)، كل هذا التلبس لم يراعِ الفارق الكبير بين قناة كاملة وتفريعة عنها.
(2)
الخديوي الحالي أمر بشق تلك التفريعة رغم ضآلة مردودها الاقتصادي، واستكتب الأسهم كسلفه وجمع المليارات، لا لشيء سوى إشعار البسطاء أنه قام بعمل قومي يخلد ذكراه، كأنه أنشأ السد كملهمه الراحل، أعلن عن قناة جديدة بجرأة غير معهودة على تجاوز الأوصاف الطبيعية، وقد فعل مبارك أطول منها دون زعم كونها قناة جديدة، أمر الخديوي الحالي بتقليص مدة الحفر لثلث المدة المقترحة ليظهر قوته وعزمه المصطنعين، ومستصحبا مع أمره -لصاحب الرتبة الأقدم منه- تلك الابتسامة "الآسرة"، دون الاكتراث بما سيصحب التقليص من رفع بميزانية الحفر وإنهاك للدولة، دخل في تحدٍ لا أدري مع مَن لأجل إنشاء مشروعه لا مشروع الوطن، وكان الأولى الاستثمار في المجتمع المنهك المطحون.
(3)
ما تم تداوله أن حفل الافتتاح وحده سيتكلف 30 مليون دولار أمريكي، وطمأنتنا الدولة الرشيدة بأن المبلغ سيكون من الرعاة لا من الخزانة، لكن ماذا عن المقابل المقدّم للرعاة؟ وماذا عن نفقاتها هي؟
أمر جناب الحاكم المعظم أدام الله ظله: بدعوة زعماء الدول والوجهاء، وصك آلاف العملات الذهبية -بما يمثل 15% من الذهب المخصص للعملات التذكارية- لتوزع على حضور الحفل، وعشرات مراكب الصيد توزع على بعض الأسر، واستخدام جنابه لمركب المحروسة، وحضور المواطنين من بر مصر للترحيب بالأجانب، واستدعاء القوات لتأمين الحفل ومعهم مئات الكلاب من أوروبا، وأُنشئت الطوابع التذكارية، وأعلنت بمصر إجازة رسمية، ورفعت الأعلام في كل البقاع، وأقيمت الاحتفالات.
رغم كل ما فعله من نفقات يبقى التساؤل عن أهم ضيوف الحفل.. أين فائقة الجمال إمبراطورة فرنسا؟ أين أوجيني؟
(4)
المشروع الحقيقي والاستثمار الفعلي بالقناة، تعميقها أو إنشاء مشروع لوجيستي بها، والاستثمار الحقيقي بالوطن ينصب على مداه الطويل لا الدعاية الخاطفة للنظم الحاكمة -ليتها كانت صادقة- يكفي المرء معرفة أن ذاك الذي يحكم قام بتقليص ميزانية الزراعة في بلد يحيا عليها وعلى ضفاف النيل بمقدار 60% عن الموازنة السابقة، الأمر الذي يدل على حجم العبث بهذا الوطن وعلى مواطن القوة به الخائرة أصلا.
الاستثمار الحقيقي بالدولة لا يقوم باستهلاك 150 كغم من الذهب لأجل صك عملات احتفالية، والتوسع في النفقات الأمنية والاحتفالية، كأن الأموال خاصة بالآمر بتوزيعها، في ظل بلد يعاني من فقر شديد وحالة اقتصادية بلغت أوجها، وكل تكاليف الاحتفال لا تشير إلى حاجة مصر للتقشف بل تشير لكونها دولة غنية للغاية؛ إذ أن هذه مصروفاتها الاحتفالية فكيف بالمتعلقة بالبحث العلمي والصحة؟ كأن الدعوة للتقشف وشد الأحزمة خاصة بالمقهورين اقتصاديا، دون من يسوس البلد، ويغدق على "أذرعه" وضيوفه.
(5)
تتبع تاريخ ذلك الشريان -الذي أضحى من أهم ما يميز ذلك البلد المسكين- يثير العجب، فعندما قررت فرنسا السعي لإنشاء القناة، غضبت إنجلترا وضغطت لعدم إنشائها، وبعد قرن تقريبا اتفقت الدولتان على محاربة مصر عقب التأميم!
كذلك الطرق المنافسة له، فأدناها تأثيرا طريق رأس الرجاء الصالح؛ لبعده الشديد وارتفاع تكاليف النقل عبر الإبحار منه، وهو طريق موجود فعليا، أما المشروع الذي ينافس القناة بحق طريق بحر الشمال، وهو الذي يربط بين قارتي آسيا وأوروبا والمحيطين الأطلسي والهادئ، إلا إن الصعوبات التي تعيقه سياسية أكثر منها تقنية، فمنها ما يتعلق بالدول المستفيدة منه وهي ليست على وفاق كبير، ومنها ما يتعلق بخط السكة الحديد الإيراني الذي يربط بين إيران وأذربيجان، كأحد المحطات المهمة في الطريق ككل، والصعوبات فيه متعلقة بالتضاريس الصعبة التي تعوق المشروع، ومنها ما يتعلق بالمناخ نظرا لمروره بالقطب المتجمد الشمالي، والأهم أن الطريق سيقوم بتغيير مناطق النفوذ في العالم وتحويل أماكن النقل البحري والبري، ومسارات الطاقة بين دول يتوجس الغرب منها كإيران وروسيا، كل ذلك مما يسهم في صعوبات تنفيذه.
الممرات المنافسة رغم عدم جديتها حتى الآن في إحداث صدع في قوة القناة، لا ينبغي أن يتم تجاهل خطرها المستقبلي لو نُفذ ممر بحر الشمال، الذي سيسمح لمنطقة بحر قزوين بأن تكون مركز التقاء للمرات الدولية، والانصراف لمشروع محور تنمية القناة هو الذي يحقق لمصر طفرة اقتصادية حقيقية، لا تلك الأحداث القائمة على الزيف والتدليس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق